روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الثلاثاء، 24 مايو 2022

مجلد 10.تاريخ الطبري

 

مجلد 10.تاريخ الطبري شعبان سنة ثلاث وأربعين،

 فكانوا فِي جهازهم وعدتهم.
وقيل: فِي هَذِهِ السنة سار بسر بن أبي أرطاة العامري إِلَى الْمَدِينَة ومكة واليمن، وقتل من قتله فِي مسيره ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَذَلِكَ قول الْوَاقِدِيّ، وَقَدْ ذكرت من خالفه فِي وقت مسيره هَذَا السير.
وزعم الْوَاقِدِيّ أن دَاوُد بن حيان حدثه، عن عطاء بن أبي مَرْوَان، قَالَ: أقام بسر بن أبي أرطأة بِالْمَدِينَةِ شهرا يستعرض الناس، ليس أحد ممن يقال هَذَا أعان عَلَى عُثْمَانَ إلا قتله.
وَقَالَ عطاء بن أبي مَرْوَان: أَخْبَرَنِي حنظلة بن علي الأسلمي، قال:
وجد قوما من بنى كعب وغلمانهم على بئر لهم فالقاهم في البئر

ذكر قدوم زياد على معاويه
وفي هَذِهِ السنة قدم زياد- فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن سُلَيْمَان بن أَرْقَمَ، قدم عَلَى مُعَاوِيَة من فارس، فصالحه عَلَى مال يحمله إِلَيْهِ.
وَكَانَ سبب قدومه بعد امتناعه بقلعة من قلاع فارس، مَا حَدَّثَنِي عمر قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عن مسلمة بن محارب، قَالَ: كَانَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة يلي مَا كَانَ لزياد بِالْبَصْرَةِ، فبلغ مُعَاوِيَة أن لزياد أموالا عِنْدَ عبد الرَّحْمَن، وخاف زياد عَلَى أشياء كَانَتْ فِي يد عبد الرَّحْمَن لزياد، فكتب إِلَيْهِ يأمره بإحرازها، وبعث مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ لينظر فِي أموال زياد، فقدم الْمُغِيرَة، فأخذ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ أساء إلي أبوك لقد أحسن زياد وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ: إني لم أصب فِي يد عبد الرَّحْمَن شَيْئًا يحل لي أخذه فكتب مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغِيرَة أن عذبه قَالَ: وَقَالَ بعض المشيخة:
إنه عذب عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة إذ كتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة، وأراد أن يعذر ويبلغ مُعَاوِيَة ذَلِكَ، فَقَالَ: احتفظ بِمَا أمرك بِهِ عمك، فألقى عَلَى وجهه حريرة ونضحها بالماء، فكانت تلتزق بوجهه، فغشي عَلَيْهِ، ففعل ذَلِكَ

(5/176)


ثلاث مرات، ثُمَّ خلاه، وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ: إني عذبته، فلم أصب عنده شَيْئًا، فحفظ لزياد يده عنده.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ ثَقِيفٍ، قَالُوا: دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهِ.
إِنَّمَا مَوْضِعُ سِرِّ الْمَرْءِ إِنْ ... بَاحَ بِالسِّرِّ أَخُوهُ لَمُنْتَصِحْ
فَإِذَا بُحْتَ بِسِرٍّ فَإِلَى ... نَاصِحٍ يَسْتُرْهُ أَوْ لا تَبُحْ
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تَسْتَوْدِعْنِي تَسْتَوْدِعْ نَاصِحًا شَفِيقًا وَرِعًا وَثِيقًا، فَمَا ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ زِيَادًا وَاعْتِصَامَهُ بِأَرْضِ فَارِسٍ، وَامْتِنَاعَهُ بِهَا، فَلَمْ أَنَمْ لَيْلَتِي، فَأَرَادَ الْمُغِيرَةُ أَنْ يُطَأْطِئَ مِنْ زِيَادٍ، فَقَالَ: مَا زِيَادٌ هُنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ معاويه: بئس الوطء الْعَجْزَ، دَاهِيَةُ الْعَرَبِ مَعَهُ الأَمْوَالُ، مُتَحَصِّنٌ بِقِلاعِ فَارِسَ، يُدْبِرُ وَيُرَبِّصُ الْحِيَلَ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يُبَايِعَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَعَادَ عَلَيَّ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ.
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَتَأْذَنُ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي اتيانه؟ قال: نعم، فاته وتلطف لَهُ، فَأَتَى الْمُغِيرَةُ زِيَادًا، فَقَالَ زِيَادٌ حِينَ بَلَغَهُ قُدُومُ الْمُغِيرَةَ: مَا قَدِمَ إِلا لأَمْرٍ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَهْوٍ لَهُ مُسْتَقْبِلٌ الشَّمْسَ، فَقَالَ زِيَادٌ:
أَفْلَحَ رَائِدٌ! فَقَالَ: إِلَيْكَ يَنْتَهِي الْخَبَرُ أَبَا الْمُغِيرَةِ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَخَفَّهُ الْوَجَلُ حَتَّى بَعَثَنِي إِلَيْكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَحَدًا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى هَذَا الأَمْرِ غَيْرَ الْحَسَنِ، وَقَدْ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغنى عنك معاويه، قَالَ:
أَشِرْ عَلَيَّ، وَارْمِ الْغَرَضَ الأَقْصَى، وَدَعْ عَنْكَ الْفُضُولَ، فَإِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: فِي مَحْضِ الرَّأْيِ بَشَاعَةٌ، وَلا خَيْرَ فِي الْمَذِيقِ، أَرَى أَنْ تَصِلَ حَبْلَكَ بِحَبْلِهِ، وَتَشْخَصَ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَى وَيَقْضِي اللَّهُ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ، قال:

(5/177)


أَقَامَ زِيَادٌ فِي الْقَلْعَةِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فكتب اليه معاويه: علام تهلك نفسك؟
إِلَيَّ فَأَعْلِمْنِي عِلْمَ مَا صَارَ إِلَيْكَ مِمَّا اجْتَبَيْتَ مِنَ الأَمْوَالِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ يَدَيْكَ، وَمَا بَقِيَ عِنْدَكَ، وَأَنْتَ آمِنٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ الْمُقَامَ عِنْدَنَا أَقَمْتَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَرْجِعَ الى ما منك رَجَعْتَ فَخَرَجَ زِيَادٌ مِنْ فَارِسَ، وَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَنَّ زِيَادًا قَدْ أَجْمَعَ عَلَى إِتْيَانِ مُعَاوِيَةَ، فَشَخَصَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَبْلَ شُخُوصِ زِيَادٍ مِنْ فَارِسَ، وَأَخَذَ زِيَادٌ مِنْ اصطخر الى ارجان، فاتى ماه بهزاذان، ثُمَّ أَخَذَ طَرِيقَ حُلْوَانَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدَائِنَ، فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِقُدُومِ زِيَادٍ، ثُمَّ قَدِمَ زِيَادٌ الشَّامَ، وَقَدِمَ الْمُغِيرَةُ بَعْدَ شَهْرٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا مُغِيرَةُ، زِيَادٌ أَبْعَدُ مِنْكَ بِمَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَخَرَجْتَ قَبْلَهُ وَسَبَقَكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الأَرِيبَ إِذَا كَلَّمَ الأَرِيبَ أَفْحَمَهُ، قَالَ: خُذْ حِذْرَكَ، واطو عنى سرك، فقال: ان زيادا قدم يَرْجُو الزِّيَادَةَ، وَقَدِمْتُ أَتَخَوَّفُ النُّقْصَانَ، فَكَانَ سَيْرُنَا عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ زِيَادًا عَمَّا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ فَارِسَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا حَمَلَ مِنْهَا إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا أَنْفَقَ مِنْهَا فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى النَّفَقَةِ، فَصَدَّقَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى مَا أَنْفَقَ، وَمَا بَقِيَ عِنْدَهُ، وَقَبَضَهُ مِنْهُ، وَقَالَ: قَدْ كُنْتَ أَمِينَ خُلَفَائِنَا.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مِخْنَفٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَصْبَهَانِيُّ وَسَلَمَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِمْ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ وَهُوَ بِفَارِسَ يَسْأَلَهُ الْقُدُومَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ زِيَادٌ مِنْ فَارِسَ مَعَ الْمِنْجَابِ بْنِ رَاشِدٍ الضَّبِّيِّ وَحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيِّ، وَسَرَّحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى فَارِسَ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ تَلْقَى زِيَادًا فِي طَرِيقِكَ فَتَأْخُذُهُ فَسَارَ ابْنُ خَازِمٍ إِلَى فَارِسَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقِيَهُ بِسُوقِ الأَهْوَازِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقِيَهُ بِأَرَّجَانَ، فَأَخَذَ ابْنُ خَازِمٍ بِعِنَانِ زِيَادٍ، فَقَالَ: انْزِلْ يَا زِيَادُ، فصاح به المنجاب بن راشد: تنح يا بن سَوْدَاءَ، وَإِلا عَلَّقْتُ يَدَكَ بِالْعِنَانِ قَالَ: وَيُقَالُ: انْتَهَى إِلَيْهِمُ ابْنُ خَازِمٍ وَزِيَادٌ

(5/178)


جَالِسٌ، فَأَغْلَظَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ، فَشَتَمَ الْمِنْجَابُ بْنُ خَازِمٍ، فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ:
مَا تُرِيدُ يا بن خَازِمٍ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَجِيءَ إِلَى الْبَصْرَةِ، قَالَ: فَإِنِّي آتِيهَا، فَانْصَرَفَ ابْنُ خَازِمٍ اسْتِحْيَاءً مِنْ زِيَادٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْتَقَى زِيَادٌ وَابْنُ خَازِمٍ بِأَرَّجَانَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ، فَقَالَ زِيَادٌ لابْنِ خَازِمٍ قَدْ أَتَانِي أَمَانُ مُعَاوِيَةَ، فَأَنَا أُرِيدُهُ، وَهَذَا كِتَابُهُ إِلَيَّ.
قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلا سَبِيلَ عَلَيْكَ، فمضى ابن خازم إِلَى سابور، ومضى زياد إِلَى ماه بهزاذان، وقدم عَلَى مُعَاوِيَة، فسأله عن أموال فارس، فَقَالَ: دفعتها يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أرزاق وأعطيات وحمالات، وبقيت بقية أودعتها قوما، فمكث بِذَلِكَ يردده، وكتب زياد كتبا إِلَى قوم مِنْهُمْ شعبة بن القلعم: قَدْ علمتم مَا لي عندكم من الأمانة، فتدبروا كتاب اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ» الآية، فاحتفظوا بِمَا قبلكم وسمى فِي الكتب بالمبلغ الَّذِي اقربه لمعاوية، ودس الكتب مع رسوله، وأمره أن يعرض لبعض من يبلغ ذَلِكَ مُعَاوِيَة، فتعرض رسوله حَتَّى انتشر ذَلِكَ، وأخذ فأتي بِهِ مُعَاوِيَة، فَقَالَ مُعَاوِيَة لزياد:
لَئِنْ لم تكن مكرت بي إن هَذِهِ الكتب من حاجتي فقرأها، فإذا هي بمثل مَا أقر بِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَة: أخاف أن تكون قَدْ مكرت بي، فصالحني عَلَى مَا شئت، فصالحه عَلَى شَيْء مما ذكره إنه عنده، فحمله، وَقَالَ زياد:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ كَانَ لي مال قبل الولاية، فوددت أن ذَلِكَ المال بقي، وذهب مَا أخذت من الولاية ثُمَّ سأل زياد مُعَاوِيَة أن يأذن لَهُ فِي نزول الْكُوفَة فأذن لَهُ، فشخص إِلَى الْكُوفَةِ، فكان الْمُغِيرَة يكرمه ويعظمه، فكتب مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغِيرَة: خذ زيادا وسُلَيْمَان بن صرد وحجر بن عدي وشبث بن ربعي وابن الكواء وعمرو بن الحمق بالصلاة فِي الجماعة، فكانوا يحضرون مَعَهُ فِي الصَّلاة.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن سُلَيْمَان بن أَرْقَمَ، قَالَ:
بلغني أن زيادا قدم الْكُوفَة، فحضرت الصَّلاة، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: تقدم

(5/179)


فصل، فَقَالَ: لا أفعل، أنت أحق مني بالصلاة فِي سلطانك قَالَ:
ودخل عَلَيْهِ زياد وعند الْمُغِيرَة أم أيوب بنت عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط، فأجلسها بين يديه، وقال: لا تسترى من أَبِي الْمُغِيرَةِ، فلما مات الْمُغِيرَة تزوجها زياد وَهِيَ حدثة، فكان زياد يأمر بفيل كَانَ عنده، فيوقف، فتنظر إِلَيْهِ أم أيوب، فسمي باب الفيل.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عنبسة بن أَبِي سُفْيَانَ، كذلك حَدَّثَنِي أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عِيسَى، عن أبي معشر

(5/180)


ثُمَّ دخلت

سنة ثلاث وأربعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذَلِكَ غزوة بسر بن أبي أرطاة الروم ومشتاه بأرضهم حَتَّى بلغ القسطنطينية- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- وَقَدْ أنكر ذاك قوم من أهل الأخبار، فَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ لبسر بأرض الروم مشتى قط.
وفيها مات عَمْرو بن الْعَاصِ بمصر يوم الفطر، وقبل كَانَ عمل عَلَيْهَا لعمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أربع سنين، ولعثمان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين إلا شهرا.
وفيها ولى مُعَاوِيَة، عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن الْعَاصِ مصر بعد موت أَبِيهِ، فوليها لَهُ- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- نحوا من سنتين وفيها مات مُحَمَّد بن مسلمة فِي صفر بِالْمَدِينَةِ، وصلى عَلَيْهِ مَرْوَان بن الحكم.

خبر قتل المستورد بن علفه الخارجي
وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي، فِيمَا زعم هِشَام بن مُحَمَّدٍ وَقَدْ زعم بعضهم أنه قتل فِي سنة اثنتين وأربعين.
ذكر الخبر عن مقتله:
قَدْ ذكرنا مَا كَانَ من اجتماع بقايا الخوارج الَّذِينَ كَانُوا ارتثوا يوم النهر، ومن كَانَ مِنْهُمُ انحاز إِلَى الري وغيرهم إِلَى النفر الثلاثة الَّذِينَ سميت قبل، الَّذِينَ أحدهم المستورد بن علفة، وذكرنا بيعتهم المستورد، واجتماعهم عَلَى الخروج فِي غرة هلال شعبان من سنة ثلاث وأربعين.
فذكر هِشَام، عن أبي مخنف، أن جَعْفَر بن حُذَيْفَة الطَّائِيّ حدثه عن المحل بن خليفة، أن قبيصة بن الدمون أتى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ- وَكَانَ عَلَى شرطته- فَقَالَ: إن شمر بن جعونة الكلابي جاءني فخبرني أن الخوارج قَدِ اجتمعوا فِي منزل حيان بن ظبيان السلمي، وَقَدِ اتعدوا أن يخرجوا إليك

(5/181)


فِي غرة شعبان، فَقَالَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ لقبيصة بن الدمون- وَهُوَ حليف لثقيف، وزعموا أن أصله كَانَ من حضرموت من الصدف: سر بالشرطة حَتَّى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني بِهِ، وهم لا يرون إلا أنه أَمِير تِلَكَ الخوارج فسار قبيصة فِي الشرطة وفي كثير مِنَ النَّاسِ، فلم يشعر حيان بن ظبيان إلا والرجال مَعَهُ فِي داره نصف النهار، وإذا مَعَهُ معاذ بن جوين ونحو من عشرين رجلا من أَصْحَابهما، وثارت امرأته، أم ولد لَهُ، فأخذت سيوفا كَانَتْ لَهُمْ، فألقتها تحت الفراش، وفزع بعض القوم إِلَى سيوفهم فلم يجدوها، فاستسلموا، فانطلق بهم الى المغيره ابن شُعْبَةَ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَة: مَا حملكم عَلَى مَا أردتم من شق عصا الْمُسْلِمِينَ؟
فَقَالُوا: مَا أردنا من ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ: بلى، قَدْ بلغني ذَلِكَ عنكم، ثُمَّ قَدْ صدق ذَلِكَ عندي جماعتكم، قَالُوا لَهُ: أما اجتماعنا في هذا المنزل فان حيان ابن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده فِي منزله فنقرأ القرآن عَلَيْهِ.
فَقَالَ: اذهبوا بهم إِلَى السجن، فلم يزالوا فِيهِ نحوا من سنة، وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا، وخرج صاحبهم المستورد بن علفة فنزل دارا بالحيرة إِلَى جنب قصر العدسيين من كلب، فبعث إِلَى إخوانه، وكانوا يختلفون إِلَيْهِ ويتجهزون، فلما كثر اختلاف أَصْحَابه إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ صاحبهم المستورد بن علفة التيمي:
تحولوا بنا عن هَذَا المكان، فإني لا آمن أن يُطَّلَعَ عَلَيْكُمْ فإنهم فِي ذَلِكَ يقول بعضهم لبعض: نأتي مكان كذا وكذا، ويقول بعضهم: نأتي مكان كذا وكذا، إذ أشرف عَلَيْهِم حجار بن أبجر من دار كَانَ هُوَ فِيهَا وطائفة من أهله، فإذا هم بفارسين قَدْ أقبلا حَتَّى دخلا تِلَكَ الدار الَّتِي فِيهَا القوم، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بأسرع من أن جَاءَ آخران فدخلا، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ إلا قليل حَتَّى جَاءَ آخر فدخل، ثُمَّ آخر فدخل، وَكَانَ ذَلِكَ يعنيه، وَكَانَ خروجهم قَدِ اقترب، فَقَالَ حجار لصاحبة الدار الَّتِي كَانَ فِيهَا نازلا وَهِيَ ترضع صبيا لها: ويحك! مَا هَذِهِ الخيل الَّتِي أراها تدخل هَذِهِ الدار؟ قالت: والله

(5/182)


مَا أدري مَا هم! إلا أن الرجال يختلفون إِلَى هَذِهِ الدار رجالا وفرسانا لا ينقطعون، وَلَقَدْ أنكرنا ذَلِكَ منذ أيام، وَلا ندري من هم! فركب حجار فرسه، وخرج مَعَهُ غلام لَهُ، فأقبل حَتَّى انتهى إِلَى باب دارهم، فإذا عَلَيْهِ رجل مِنْهُمْ، فكلما أتى إنسان مِنْهُمْ إِلَى الباب دخل إِلَى صاحبه فأعلمه، فأذن لَهُ، فإن جاءه رجل من معروفيهم دخل ولم يستأذن، فلما انتهى إِلَيْهِ حجار لم يعرفه الرجل، فَقَالَ: من أنت رحمك اللَّه؟ وما تريد؟ قَالَ:
أردت لقاء صاحبي، قَالَ لَهُ: وما اسمك؟ قَالَ لَهُ: حجار بن أبجر، قَالَ:
فكما أنت حَتَّى أوذنهم بك ثُمَّ أخرج إليك فَقَالَ لَهُ حجار: ادخل راشدا! فدخل الرجل، واتبعه حجار مسرعا، فانتهى إِلَى باب صفة عظيمة هم فِيهَا، وَقَدْ دخل إِلَيْهِم الرجل فَقَالَ: هَذَا رجل يستأذن عَلَيْك أنكرته فقلت لَهُ: من أنت؟ فَقَالَ: أنا حجار بن أبجر، فسمعهم يتفزعون ويقولون:
حجار بن أبجر! وَاللَّهِ مَا جَاءَ حجار بن أبجر بخير فلما سمع القول مِنْهُمْ أراد أن ينصرف ويكتفي بِذَلِكَ من الاسترابة بأمرهم، ثُمَّ أبت نفسه أن ينصرف حَتَّى يعاينهم، فتقدم حَتَّى قام بين سجفي باب الصفة وَقَالَ: السلام عَلَيْكُمْ، فنظر فإذا هُوَ بجماعة كثيرة، وإذا سلاح ظاهر ودروع، فَقَالَ حجار:
اللَّهُمَّ اجمعهم عَلَى خير، من أنتم عافاكم اللَّه؟ فعرفه عَلِيّ بن ابى شمر ابن الحصين، من تيم الرباب- وَكَانَ أحد الثمانية الَّذِينَ انهزموا من الخوارج يوم النهر، وَكَانَ من فرسان العرب ونساكهم وخيارهم- فَقَالَ لَهُ: يا حجار ابن أبجر، إن كنت إنما جَاءَ بك التماس الخبر فقد وجدته، وإن كنت إنما جَاءَ بك أمر غير ذَلِكَ فادخل، وأخبرنا مَا أتى بك، فَقَالَ: لا حاجة لي فِي الدخول، فانصرف، فَقَالَ بعضهم لبعض: أدركوا هَذَا فاحبسوه، فإنه مؤذن بكم، فخرجت مِنْهُمْ جماعة فِي إثره- وَذَلِكَ عِنْدَ تطفيل الشمس للإياب- فانتهوا إِلَيْهِ وَقَدْ ركب فرسه، فَقَالُوا لَهُ: أَخْبِرْنَا خبرك، وما جَاءَ بك؟ قَالَ: لم آت لشيء يروعكم وَلا يهولكم، فَقَالُوا لَهُ: انتظر حَتَّى ندنو مِنْكَ ونكلمك، أو تدنو منا، أَخْبِرْنَا فنعلمك أمرنا، ونذكر حاجتنا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا أنا بدان مِنْكُمْ، وَلا أريد أن يدنو مني مِنْكُمْ أحد، فَقَالَ لَهُ

(5/183)


عَلِيّ بن أبي شمر بن الحصين: أفمؤمننا أنت من الإذن بنا هَذِهِ الليلة وأنت محسن، فإن لنا قرابة وحقا؟ قَالَ: نعم، أنتم آمنون من قبلي هَذِهِ الليلة وليالي الدهر كلها، ثُمَّ انطلق حَتَّى دخل الْكُوفَة وأدخل أهله مَعَهُ وَقَالَ الآخرون بعضهم لبعض: إنا لا نأمن أن يؤذن بنا هَذَا، فأخرجوا بنا من هَذَا الموضع ساعتنا هَذِهِ، قَالَ: فصلوا المغرب، ثُمَّ خرجوا من الحيرة متفرقين، فَقَالَ لَهُمْ صاحبهم: الحقوا بي فِي دار سليم بن محدوج العبدي من بني سلمة، فخرج من الحيرة، فمضى حَتَّى أتى عبد القيس، فأتى بني سلمة، فبعث إِلَى سليم بن محدوج- وَكَانَ لَهُ صهرا- فأتاه، فأدخله وأَصْحَابا لَهُ خمسة أو ستة، ورجع حجار بن أبجر إِلَى رحله، فأخذوا ينتظرون مِنْهُ أن يبلغهم مِنْهُ ذكر لَهُمْ عِنْدَ السلطان أو الناس، فما ذكرهم عِنْدَ أحد مِنْهُمْ، وَلا بلغهم عنه فِي ذَلِكَ شَيْء يكرهونه فبلغ الخبر الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ أن الخوارج خارجة عَلَيْهِ فِي أيامه تِلَكَ، وأنهم قَدِ اجتمعوا عَلَى رجل مِنْهُمْ، فقام الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فِي الناس، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد علمتم أَيُّهَا النَّاسُ أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وإني وَاللَّهِ لقد خشيت أن يكون ذَلِكَ أدب سوء لسفهائكم، فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم اللَّه لقد خشيت الا أجد بدا من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل، فكفوا أَيُّهَا النَّاسُ سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وَقَدْ ذكر لي أن رجالا مِنْكُمْ يريدون أن يظهروا فِي المصر بالشقاق والخلاف، وايم اللَّه لا يخرجون فِي حي من أحياء العرب فِي هَذَا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم، فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هَذَا المقام إرادة الحجة والإعذار.
فقام إِلَيْهِ معقل بن قيس الرياحي فَقَالَ: أيها الأمير، هل سمي لك أحد من هَؤُلاءِ القوم؟ فإن كَانُوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كَانُوا منا كفيناكهم، وإن كَانُوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل

(5/184)


مصرنا، فأتتك كل قبيلة بسفهائها، فَقَالَ: مَا سمي لي أحد مِنْهُمْ، ولكن قَدْ قيل لي: إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فَقَالَ لَهُ معقل: أصلحك اللَّه! فإني أسير فِي قومي، وأكفيك مَا هم فِيهِ، فليكفك كل امرئ من الرؤساء قومه فنزل الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، وبعث إِلَى رؤساء الناس فدعاهم، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إنه قَدْ كَانَ من الأمر مَا قَدْ علمتم، وَقَدْ قلت مَا قَدْ سمعتم، فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه، والا فو الذى لا اله الا غيره لا تحولن عما كنتم تعرفون إِلَى مَا تنكرون، وعما تحبون إِلَى مَا تكرهون، فلا يلم لائم إلا نفسه، وَقَدْ أعذر من أنذر فخرجت الرؤساء إِلَى عشائرهم، فناشدوهم اللَّه والإسلام إلا دلوهم عَلَى من يرون أنه يريد أن يهيج فتنة، أو يفارق جماعة، وجاء صعصعة بن صُوحَانَ فقام فِي عبد القيس.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الأسود بن قيس العبدي، عن مرة بن النُّعْمَانِ، قَالَ: قام فينا صعصعة بن صُوحَانَ وَقَدْ وَاللَّهِ جاءه من الخبر بمنزل التيمي وأَصْحَابه فِي دار سليم بن محدوج، ولكنه كره عَلَى فراقه إياهم وبغضه لرأيهم، أن يؤخذوا فِي عشيرته، وكره مساءة أهل بيت من قومه، فَقَالَ: قولا حسنا، ونحن يَوْمَئِذٍ كثير أشرافنا، حسن عددنا، قَالَ:
فقام فينا بعد مَا صلى العصر، فَقَالَ: يَا معشر عباد اللَّه، إن اللَّه- وله الحمد كثيرا- لما قسم الفضل بين الْمُسْلِمِينَ خصكم مِنْهُ بأحسن القسم، فأجبتم إِلَى دين اللَّه الَّذِي اختاره اللَّه لنفسه، وارتضاه لملائكته ورسله، ثُمَّ أقمتم عَلَيْهِ حتى قبض الله رسوله ص، ثُمَّ اختلف الناس بعده فثبتت طائفة، وارتدت طائفة، وأدهنت طائفة، وتربصت طائفة، فلزمتم دين اللَّه إيمانا بِهِ وبرسوله، وقاتلتم المرتدين حَتَّى قام الدين، وأهلك اللَّه الظالمين، فلم يزل اللَّه يزيدكم بِذَلِكَ خيرا فِي كل شَيْء، وعلى كل حال، حَتَّى اختلفت الأمة بينها، فَقَالَتْ طائفة: نريد طَلْحَة وَالزُّبَيْر وعائشة، وقالت طائفه:

(5/185)


نريد أهل المغرب، وقالت طائفة: نريد عَبْد اللَّهِ بن وهب الراسبي، راسب الأزد، وقلتم أنتم: لا نريد إلا أهل البيت الَّذِينَ ابتدأنا اللَّه من قبلهم بالكرامة، تسديدا من اللَّه لكم وتوفيقا، فلم تزالوا عَلَى الحق لازمين لَهُ، آخذين بِهِ، حَتَّى أهلك اللَّه بكم وبمن كَانَ عَلَى مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر- وسكت عن ذكر أهل الشام، لأن السلطان كَانَ حينئذ سلطانهم- وَلا قوم أعدى لِلَّهِ ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة الْمُسْلِمِينَ من هَذِهِ المارقة الخاطئة، الَّذِينَ فارقوا إمامنا، واستحلوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر، فإياكم ان تووهم فِي دوركم، أو تكتموا عَلَيْهِم، فإنه ليس ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة مِنْكُمْ، وَقَدْ وَاللَّهِ ذكر لي أن بعضهم فِي جانب من الحي، وأنا باحث عن ذَلِكَ وسائل، فإن كَانَ حكي لي ذَلِكَ حقا تقربت إِلَى اللَّهِ تعالى بدمائهم، فإن دماءهم حلال ثُمَّ قَالَ: يَا معشر عبد القيس، إن ولاتنا هَؤُلاءِ هم أعرف شَيْء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لَهُمْ عَلَيْكُمْ سبيلا، فإنهم أسرع شَيْء إليكم وإلى أمثالكم ثُمَّ تنحى فجلس، فكل قومه قَالَ: لعنهم اللَّه! وَقَالَ: برئ اللَّه مِنْهُمْ، فلا وَاللَّهِ فلا نؤويهم، ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عَلَيْهِم، غير سليم بن محدوج، فإنه لم يقل شَيْئًا، فرجع إِلَى قومه كئيبا واجما، يكره أن يخرج أَصْحَابه من منزله فيلوموه، وَقَدْ كَانَتْ بينهم مصاهرة، وَكَانَ لَهُمْ ثقة، ويكره أن يطلبوا فِي داره فيهلكوا ويهلك وجاء فدخل رحله، وأقبل أَصْحَاب المستورد يأتونه، فليس مِنْهُمْ رجل إلا يخبره بِمَا قام بِهِ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فِي الناس وبما جاءهم رؤساؤهم، وقاموا فِيهِمْ، وَقَالُوا لَهُ:
اخرج بنا، فو الله مَا نأمن أن نؤخذ فِي عشائرنا قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: أما ترون رأس عبد القيس قام فِيهِمْ كما قامت رؤساء العشائر فِي عشائرهم؟ قالوا:

(5/186)


بلى وَاللَّهِ نرى قَالَ: فإن صاحب منزلي لم يذكر لي شَيْئًا، قَالُوا: نرى وَاللَّهِ انه استحياء منك، فدعاه فأتاه، فقال: يا بن محدوج، إنه قَدْ بلغني أن رؤساء العشائر قاموا اليهم، وتقدموا إِلَيْهِم فِيَّ وفي أَصْحَابي، فهل قام فيكم أحد يذكر لكم شَيْئًا من ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: نعم، قَدْ قام فينا صعصعة ابن صوحان، فتقدم إلينا في الا نؤوي أحدا من طلبتهم، وَقَالُوا أقاويل كثيرة كرهت أن أذكرها لكم فتحسبوا أنه ثقل علي شَيْء من أمركم، فَقَالَ لَهُ المستورد: قَدْ أكرمت المثوى، وأحسنت الفعل، ونحن إِنْ شَاءَ اللَّهُ مرتحلون عنك، ثُمَّ قَالَ: أما وَاللَّهِ لو أرادوك فِي رحلي مَا وصلوا إليك وَلا إِلَى أحد من أَصْحَابك حَتَّى أموت دونكم، قَالَ: أعاذك اللَّه من ذَلِكَ! وبلغ الَّذِينَ فِي محبس الْمُغِيرَة مَا أجمع عَلَيْهِ أهل المصر من الرأي فِي نفي من كَانَ بينهم من الخوارج وأخذهم، فَقَالَ معاذ بن جوين بن حصين فِي ذَلِكَ:
أَلا أيها الشارون قَدْ حان لامرئ ... شرى نفسه لِلَّهِ أن يترحلا
أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرئ مِنْكُمْ يصاد ليقتلا
فشدوا على القوم العداه فإنما ... أقامتكمُ للذبح رأيا مضللا
أَلا فاقصدوا يَا قوم للغاية الَّتِي ... إذا ذكرت كَانَتْ أبر وأعدلا
فيا ليتني فيكم عَلَى ظهر سابح ... شديد القصيرى دارعا غير أعزلا
ويا ليتني فيكم أعادي عدوكم ... فيسقيَني كأس المنية أولا
يعز علي أن تخافوا وتطردوا ... ولما أجردْ فِي المحلين منصلا
ولما يفرقْ جمعهم كل ماجد ... إذا قلت قَدْ ولى وأدبر أقبلا
مشيحا بنصل السيف فِي حمس الوغى ... يرى الصبر فِي بعض المواطن أمثلا
وعز علي أن تضاموا وتنقصوا ... وأصبح ذا بث أسيرا مكبلا

(5/187)


ولو أنني فيكم وَقَدْ قصدوا لكم ... أثرت إذًا بين الفريقين قسطلا
فيا رُبّ جمع قَدْ فللتُ وغارة ... شهدتُ وقرن قَدْ تركت مجدلا
فبعث المستورد إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ لَهُمُ: اخرجوا من هَذِهِ القبيلة لا يصب امرأ مسلما فِي سببنا بغير علم معرة وَكَانَ فِيهِمْ بعض من يرى رأيهم، فاتعدوا سورا، فخرجوا إِلَيْهَا متقطعين من أربعة وخمسة وعشرة، فتتاموا بها ثلاثمائة رجل، ثُمَّ ساروا إِلَى الصراة، فباتوا بِهَا ليله.
ثم إن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ أخبر خبرهم، فدعا رؤساء الناس، فَقَالَ:
إن هَؤُلاءِ الأشقياء قَدْ أخرجهم الحين وسوء الرأي، فمن ترون أبعث إِلَيْهِم؟
قَالَ: فقام إِلَيْهِ عدي بن حاتم، فَقَالَ: كلنا لَهُمْ عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إِلَيْهِم.
فقام معقل بن قيس، فَقَالَ: إنك لا تبعث إِلَيْهِم أحدا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعا مطيعا، ولهم مفارقا، ولهلاكهم محبا، وَلا أَرَى أصلحك اللَّه أن تبعث إِلَيْهِم أحدا مِنَ النَّاسِ أعدى لَهُمْ وَلا أشد عَلَيْهِم مني، فابعثني إِلَيْهِم فإني أكفيكهم بإذن اللَّه، فَقَالَ اخرج عَلَى اسم اللَّه، فجهز مَعَهُ ثلاثة آلاف رجل.
وَقَالَ الْمُغِيرَة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة علي، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كَانَ من رءوس أَصْحَابه، فإذا بعثت بشيعته الَّذِينَ كَانُوا يعرفون فاجتمعوا جميعا، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالا لدماء هَذِهِ المارقة، وأجرأ عَلَيْهِم من غيرهم، وَقَدْ قاتلوا قبل هَذِهِ المرة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الأسود بن قيس، عن مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ، قَالَ: كنت أنا فيمن ندب مَعَهُ يومئذ، قال: لقد كان صعصعة ابن صُوحَانَ قام بعد معقل بن قيس وَقَالَ: ابعثني إِلَيْهِم أيها الأمير،

(5/188)


فأنا وَاللَّهِ لدمائهم مستحل، وبحملها مستقل، فَقَالَ: اجلس، فإنما أنت خطيب، فكان أحفظه ذَلِكَ، وإنما قَالَ ذَلِكَ لأنه بلغه أنه يعيب عُثْمَان بن عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ويكثر ذكر علي ويفضله، وَقَدْ كَانَ دعاه، فَقَالَ:
إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عُثْمَان عِنْدَ أحد مِنَ النَّاسِ، وإياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شَيْئًا من فضل علي علانية، فإنك لست بذاكر من فضل علي شَيْئًا أجهله، بل أنا أعلم بِذَلِكَ، ولكن هَذَا السلطان قَدْ ظهر، وَقَدْ أخذنا بإظهار عيبه لِلنَّاسِ، فنحن ندع كثيرا مما أمرنا بِهِ، ونذكر الشيء الَّذِي لا نجد مِنْهُ بدا، ندفع بِهِ هَؤُلاءِ القوم عن أنفسنا تقية، فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أَصْحَابك وفي منازلكم سرا، وأما علانية فِي المسجد فإن هَذَا لا يحتمله الخليفة لنا، ولا يعذرنا به، فكان يقول لَهُ:
نعم أفعل، ثُمَّ يبلغه أنه قَدْ عاد إِلَى مَا نهاه عنه، فلما قام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ:
ابعثني إِلَيْهِم، وجد الْمُغِيرَة قَدْ حقد عَلَيْهِ خلافه إِيَّاهُ، فَقَالَ: اجلس فإنما أنت خطيب، فأحفظه، فَقَالَ لَهُ: أوما أنا إلا خطيب فقط! أجل وَاللَّهِ، إني للخطيب الصليب الرئيس، أما وَاللَّهِ لو شهدتني تحت راية عبد القيس يوم الجمل حَيْثُ اختلفت القنا، فشئون تفرى، وهامة تختلى، لعلمت أني أنا الليث الهزبر، فَقَالَ: حسبك الآن، لعمري لقد أوتيت لسانا فصيحا، ولم يلبث قبيصة بن الدمون أن أخرج الجيش مع معقل، وهم ثلاثة آلاف نقاوة الشيعة وفرسانهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، عن سَالم بن رَبِيعَة، قَالَ: إني جالس عِنْدَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ حين أتاه معقل بن قيس يسلم عَلَيْهِ ويودعه، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: يَا معقل بن قيس، إني قَدْ بعثت معك فرسان أهل المصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسر إِلَى هَذِهِ العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إِلَى التوبة، وإلى الدخول فِي الجماعة، فإن فعلوا فاقبل مِنْهُمْ، واكفف عَنْهُمْ، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بِاللَّهِ عليهم

(5/189)


فَقَالَ معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم اللَّه مَا أَرَى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل مِنْهُمُ الباطل، هل بلغك- أصلحك اللَّه- أين منزل القوم؟ قَالَ: نعم، كتب إلي سماك بن عبيد العبسي- وَكَانَ عاملا لَهُ عَلَى المدائن- يخبرني أَنَّهُمُ ارتحلوا من الصراة، فأقبلوا حَتَّى نزلوا بهرسير، وأنهم أرادوا أن يعبروا إِلَى الْمَدِينَة العتيقة الَّتِي بِهَا منازل كسرى وأبيض المدائن، فمنعهم سماك أن يجوزوا، فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين، فاخرج إِلَيْهِم، وانكمش فِي آثارهم حَتَّى تلحقهم، وَلا تدعهم والإقامة فِي بلد ينتهي إِلَيْهِم فِيهِ أكثر من الساعة الَّتِي تدعوهم فِيهَا، فإن قبلوا وإلا فناهضهم، فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا أفسدوا كل من خالطهم.
فخرج من يومه فبات بسورا، فأمر الْمُغِيرَة مولاه ورادا، فخرج إِلَى النَّاسِ فِي مسجد الجماعة، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إن معقل بن قيس قَدْ سار إِلَى هَذِهِ المارقة، وَقَدْ بات الليلة بسورا، فلا يتخلفن عنه أحد من أَصْحَابه.
أَلا وأن الأمير يخرج عَلَى كل رجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، ويعزم عَلَيْهِم أن يبيتوا بالكوفة، أَلا وأيما رجل من هَذَا البعث وجدناه بعد يومنا بالكوفة فقد أحل بنفسه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: كنت فيمن خرج مع المستورد بن علفة، وكنت أحدث رجل فِيهِمْ قَالَ: فخرجنا حَتَّى أتينا الصراة، فأقمنا بِهَا حَتَّى تتامت جماعتنا، ثُمَّ خرجنا حَتَّى انتهينا إِلَى بهرسير، فدخلناها ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي، وَكَانَ فِي الْمَدِينَة العتيقة، فلما ذهبنا لنعبر الجسر إِلَيْهِم قاتلنا عَلَيْهِ، ثُمَّ قطعه علينا، فأقمنا ببهرسير قَالَ: فدعاني المستورد بن علفه، فقال: اتكتب يا بن أخي؟ قلت: نعم، فدعا لي برق ودواة، وَقَالَ: اكتب: من عَبْد اللَّهِ

(5/190)


المستورد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى سماك بن عبيد، أَمَّا بَعْدُ، فقد نقمنا عَلَى قومنا الجور فِي الأحكام، وتعطيل الحدود، والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إِلَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيه ص، وولاية أبي بكر وعمر رضوان اللَّه عليهما، والبراءة من عُثْمَان وعلي، لإحداثهما فِي الدين، وتركهما حكم الكتاب، فإن تقبل فقد أدركت رشدك، والا تقبل فقد بالغنا فِي الإعذار إليك، وَقَدْ آذناك بحرب، فنبذنا إليك عَلَى سواء، إن اللَّه لا يحب الخائنين قَالَ: فَقَالَ المستورد: انطلق إِلَى سماك بهذا الكتاب فادفعه إِلَيْهِ، واحفظ مَا يقول لك، والقَني قَالَ: وكنت فتى حدثا حين أدركت، لم أجرب الأمور، وَلا علم لي بكثير منها، فقلت: أصلحك اللَّه! لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فِيهَا مَا عصيتك، ولكن تأمن علي سماكا أن يتعلق بي، فيحبسني عنك، فإذا أنا قَدْ فاتني ما اترجاه من الجهاد! فتبسم وقال: يا بن أخي، إنما أنت رسول، والرسول لا يعرض لَهُ، ولو خشيت ذَلِكَ عَلَيْك لم أبعثك، وما أنت عَلَى نفسك بأشفق مني عَلَيْك قَالَ: فخرجت حَتَّى عبرت إِلَيْهِم فِي معبر، فأتيت سماك بن عبيد، وإذا الناس حوله كثير قَالَ: فلما أقبلت نحوهم أبدوني أبصارهم، فلما دنوت مِنْهُمُ ابتدرني نحو من عشرة، وظننت وَاللَّهِ أن القوم يريدون أخذي، وأن الأمر عندهم ليس كما ذكر لي صاحبي، فانتضيت سيفي، وقلت: كلا، والذي نفسي بيده، لا تصلون إلي حَتَّى أعذر إِلَى اللَّهِ فيكم، قَالُوا لي: يَا عَبْد اللَّهِ، من أنت؟ قلت:
أنا رسول أَمِير الْمُؤْمِنِينَ المستورد بن علفة،، قَالُوا: فلم انتضيت سيفك؟
قلت: لابتداركم إلي، فخفت أن توثقوني وتغدروا بي قَالُوا: فأنت آمن، وإنما أتيناك لنقوم إِلَى جنبك، ونمسك بقائم سيفك، وننظر مَا جئت له، وما تسال، قال: فقلت لهم: لست آمنا حَتَّى تردوني إِلَى أَصْحَابي؟ قَالُوا:
بلى، فشِمْتُ سيفي، ثُمَّ أتيت حَتَّى قمت عَلَى راس سماك بن عبيد واصحابه

(5/191)


قد ائتشبوا بي، فمنهم ممسك بقائم سيفي، ومنهم ممسك بعضدي، فدفعت إِلَيْهِ كتاب صاحبي، فلما قرأه رفع رأسه إلي، فَقَالَ: مَا كَانَ المستورد عندي خليقا لما كنت أَرَى من إخباته وتواضعه أن يخرج عَلَى الْمُسْلِمِينَ بسيفه، يعرض عَلَيَّ المستورد البراءة من علي وعثمان، ويدعوني إِلَى ولايته! فبئس وَاللَّهِ الشيخ أنا إذا! قَالَ: ثُمَّ نظر إلي فَقَالَ: يَا بني، اذهب إِلَى صاحبك فقل لَهُ: اتق اللَّه وارجع عن رأيك، وادخل فِي جماعة الْمُسْلِمِينَ، فإن أردت أن أكتب لك فِي طلب الأمان إِلَى الْمُغِيرَة فعلت، فإنك ستجده سريعا إِلَى الإصلاح، محبا للعافية: قَالَ: قلت لَهُ، وإن لي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ بصيرة، هيهات! إنما طلبنا بهذا الأمر الَّذِي أخافنا فيكم فِي عاجل الدُّنْيَا الأمن عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة، فَقَالَ لي: بؤسا لك! كيف أرحمك! ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه:
إِنَّهُمْ خلوا بهذا ثُمَّ جعلوا يقرءون عَلَيْهِ القرآن ويتخضعون ويتباكون، فظن بهذا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء من الحق، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وَاللَّهِ مَا رأيت قوما كَانُوا أظهر ضلالة، وَلا أبين شؤما، من هَؤُلاءِ الَّذِينَ ترون! قلت: يَا هَذَا إنني لم آتك لأشاتمك وَلا أسمع حديثك وحديث أَصْحَابك، حَدّثني، أنت تجيبني إِلَى مَا فِي هَذَا الكتاب أم لا تفعل فارجع إِلَى صاحبي؟ فنظر إلي ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: أَلا تعجبون إِلَى هَذَا الصبي! وَاللَّهِ إني لأراني أكبر من أَبِيهِ، وَهُوَ يقول لي: أتجيبني إِلَى مَا فِي هَذَا الكتاب! انطلق يَا بني إِلَى صاحبك، إنما تندم لو قَدِ اكتنفتكم الخيل، وأشرعت فِي صدوركم الرماح، هُنَاكَ تمنى لو كنت فِي بيت أمك! قَالَ: فانصرفت من عنده فعبرت إِلَى أَصْحَابي، فلما دنوت من صاحبي قَالَ: مَا رد عَلَيْك؟
قلت: مَا رد خيرا، قلت لَهُ: كذا وَقَالَ لي: كذا، فقصصت عَلَيْهِ القصة، قَالَ: فَقَالَ المستورد: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»

(5/192)


قَالَ: فلبثنا بمكاننا ذاك يومين أو ثلاثة ايام، ثم استبان لنا مسير معقل ابن قيس إلينا قَالَ: فجمعنا المستورد، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن هذا الخرق معقل بن قيس قَدْ وجه إليكم وَهُوَ من السبئيه المفترين الكاذبين، وَهُوَ لِلَّهِ ولكم عدو، فأشيروا علي برأيكم قَالَ: فَقَالَ لَهُ بعضنا: وَاللَّهِ مَا خرجنا نريد إلا اللَّه، وجهاد من عادى اللَّه، وَقَدْ جاءونا فأين نذهب عَنْهُمْ! بل نقيم حَتَّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم وَهُوَ خير الحاكمين وقالت طائفة أخرى: بل نعتزل ونتنحى، ندعو الناس ونحتج عَلَيْهِم بالدعاء.
فَقَالَ: يَا معشر الْمُسْلِمِينَ، إني وَاللَّهِ مَا خرجت ألتمس الدُّنْيَا وَلا ذكرها وَلا فخرها وَلا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وأضعاف مَا يتنافس فِيهِ منها بقبال نعلي! وما خرجت إلا التماس الشهادة، وأن يهديني اللَّه إِلَى الكرامة بهوان بعض أهل الضلالة، وإني قَدْ نظرت فِيمَا استشرتكم فِيهِ فرأيت الا اقيم لهم حتى يقدموا على وهم جامون متوافرون، ولكن رأيت أن أسير حَتَّى أمعن، فإنهم إذا بلغهم ذَلِكَ خرجوا فِي طلبنا، فتقطعوا وتبددوا، فعلى تِلَكَ الحال ينبغي لنا قتالهم، فاخرجوا بنا عَلَى اسم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: فخرجنا فمضينا عَلَى شاطئ دجلة حَتَّى انتهينا إِلَى جرجرايا، فعبرنا دجلة، فمضينا كما نحن فِي أرض جوخى حَتَّى بلغنا المذار، فأقمنا فِيهَا، وبلغ عَبْد اللَّهِ بن عَامِر مكاننا الَّذِي كنا فِيهِ، فسأل عن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، كيف صنع فِي الجيش الَّذِي بعث إِلَى الخوارج؟ وكم عدتهم؟
فأخبر بعدتهم، وقيل لَهُ: إن الْمُغِيرَة نظر إِلَى رجل شريف رئيس قَدْ كَانَ قاتل الخوارج مع على ع، وَكَانَ من أَصْحَابه، فبعثه وبعث مَعَهُ شيعة علي لعداوتهم لَهُمْ، فَقَالَ: أصاب الرأي، فبعث إِلَى شريك بن الأعور الحارثي- وَكَانَ يرى راى على ع- فَقَالَ لَهُ: اخرج إِلَى هَذِهِ المارقة فانتخب ثلاثة آلاف رجل مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أتبعهم حتى تخرجهم

(5/193)


من أرض الْبَصْرَة أو تقتلهم وَقَالَ لَهُ بينه وبينه: اخرج إِلَى أعداء اللَّه بمن يستحل قتالهم من أهل الْبَصْرَة، فظن شريك به انما يعنى شيعه على ع، ولكنه يكره أن يسميهم، فانتخب الناس، وألح عَلَى فرسان رَبِيعَة الَّذِينَ كَانَ رأيهم فِي الشيعة، وَكَانَ تجيبه العظماء مِنْهُمْ ثُمَّ إنه خرج فِيهِمْ مقبلا إِلَى المستورد بن علفة بالمذار.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث، قَالَ: كنت فِي الَّذِينَ خرجوا مع معقل بن قيس، فأقبلت مَعَهُ، فو الله مَا فارقته ساعة من نهار منذ خرجت، فكان أول منزل نزلناه سورا.
قَالَ: فمكثنا يَوْمًا حَتَّى اجتمع إِلَيْهِ جل أَصْحَابه، ثُمَّ خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا، فبعثنا طليعة، فارتحلنا فنزلنا كوثى، فأقمنا بِهَا يَوْمًا حَتَّى لحق بنا من تخلف، ثُمَّ أدلج بنا من كوثى، وَقَدْ مضى من الليل هزيع، فأقبلنا حَتَّى دنونا من المدائن، فاستقبلنا الناس فأخبرونا أَنَّهُمْ قَدِ ارتحلوا، فشق علينا وَاللَّهِ ذَلِكَ، وأيقنا بالعناء وطول الطلب.
قَالَ: وجاء معقل بن قيس حَتَّى نزل باب مدينة بهرسير، ولم يدخلها، فخرج إِلَيْهِ سماك بن عبيد، فسلم عَلَيْهِ، وأمر غلمانه ومواليه فأتوه بالجزر والشعير وألقت، فجاءوه من ذَلِكَ بكل مَا كفاه وكفى الجند الَّذِينَ كَانُوا معه.
ثُمَّ إن معقل بن قيس بعد أن أقام بالمدائن ثلاثا جمع أَصْحَابه فَقَالَ:
إن هَؤُلاءِ المارقة الضلال إنما خرجوا فذهبوا عَلَى وجوههم إرادة أن تتعجلوا فِي آثارهم، فتقطعوا وتبددوا، وَلا تلحقوا بهم إلا وَقَدْ تعبتم ونصبتم، وأنه ليس شَيْء يدخل عَلَيْكُمْ من ذَلِكَ إلا وَقَدْ يدخل عَلَيْهِم مثله، فخرج بنا من المدائن، فقدم بين يديه ابو الرواغ الشاكري في ثلاثمائة فارس، فاتبع آثارهم، فخرج معقل فِي أثره، فاخذ ابو الرواع يسأل عَنْهُمْ، ويركب الوجه الَّذِي أخذوا فِيهِ، حَتَّى عبروا جرجرايا فِي آثارهم، ثُمَّ سلك الوجه

(5/194)


الَّذِي أخذوا فِيهِ، فاتبعهم، فلم يزل ذَلِكَ دأبه حَتَّى لحقهم بالمذار مقيمين، فلما دنا مِنْهُمُ استشار أَصْحَابه فِي لقائهم وقتالهم قبل قدوم معقل عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ بعضهم: أقدم بنا عَلَيْهِم فلنقاتلهم، وَقَالَ بعضهم: وَاللَّهِ مَا نرى أن تعجل إِلَى قتالهم حَتَّى يأتينا أميرنا، ونلقاهم بجماعتنا.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي تليد بن زَيْد بن راشد الفائشي أن أباه كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: فَقَالَ لنا أَبُو الرواغ: إن معقل بن قيس حين سرحني أمامه أمرني أن أتبع آثارهم، فإذا لحقتهم لم أعجل إِلَى قتالهم حَتَّى يأتيني.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ جميع أَصْحَابه: فالرأي الآن بيّن، تنح بنا فلنكن قريبا مِنْهُمْ حَتَّى يقدم علينا صاحبنا، فتنحينا- وَذَلِكَ عِنْدَ المساء- قَالَ: فبتنا ليلتنا كلها متحارسين حَتَّى أصبحنا، فارتفع الضحى، وخرجوا علينا، قَالَ:
فخرجنا إِلَيْهِم وعدتهم ثلاثمائة ونحن ثلاثمائة، فلما اقتربوا شدوا علينا، فلا وَاللَّهِ مَا ثبت لَهُمْ منا إنسان، قَالَ: فانهزمنا ساعة، ثُمَّ إن أبا الرواغ صاح بنا وَقَالَ: يَا فرسان السوء، قبحكم اللَّه سائر الْيَوْم! الكرة الكرة! قَالَ:
فحمل وحملنا مَعَهُ، حَتَّى إذا دنونا من القوم كر بنا، فانصرفنا وكروا علينا، وكشفونا طويلا، ونحن عَلَى خيل معلمة جياد، ولم يصب منا أحد، وَقَدْ كَانَتْ جراحات يسيرة، فَقَالَ لنا أَبُو الرواغ: ثكلتكم أمهاتكم! انصرفوا بنا فلنكر قريبا مِنْهُمْ، لا نزايلهم حَتَّى يقدم علينا أميرنا، فما أقبح بنا أن نرجع إِلَى الجيش، وَقَدِ انهزمنا من عدونا ولم نصبر لَهُمْ حَتَّى يشتد القتال وتكر القتلى قَالَ: فَقَالَ رجل منا يجيبه: إن اللَّه لا يستحيي من الحق، قَدْ وَاللَّهِ هزمونا، قَالَ أَبُو الرواغ: لا أكثر اللَّه فينا ضربك! إنا مَا لم ندع المعركة فلم نهزم، وإنا متى عطفنا عَلَيْهِم وكنا قريبا مِنْهُمْ فنحن عَلَى حال حسنة حَتَّى يقدم علينا الجيش، ولم نرجع عن وجهنا، إنه وَاللَّهِ لو كَانَ يقال: انهزم أَبُو حمران حمير بن بجير الهمداني، مَا باليت، أنما

(5/195)


يقال: انهزم أَبُو الرواغ، فقفوا قريبا، فإن أتوكم فعجزتم عن قتالهم فانحازوا، فإن حملوا عَلَيْكُمْ فعجزتم عن قتالهم فتأخروا وانحازوا إِلَى حامية، فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عَلَيْهِم، وكونوا قريبا مِنْهُمْ، فإن الجيش آتيكم إِلَى ساعة قَالَ: فأخذت الخوارج كلما حملت عَلَيْهِم انحازوا وهم كَانُوا حامية، وإذا أخذوا فِي الكرة عَلَيْهِم فتفرق جماعتهم قرب أَبُو الرواغ وأَصْحَابه عَلَى خيلهم فِي آثارهم، فلما رأوا أَنَّهُمْ لا يفارقونهم، وَقَدْ طاردوهم هكذا من ارتفاع الضحى إِلَى الأولى فلما حضرت صلاة الظهر نزل المستورد للصلاة، واعتزل أَبُو الرواغ وأَصْحَابه عَلَى رأس ميل مِنْهُمْ أو ميلين، ونزل أَصْحَابه فصلوا الظهر، وأقاموا رجلين ربيئة، وأقاموا مكانهم حَتَّى صلوا العصر ثُمَّ إن فتى جاءهم بكتاب معقل بن قيس الى ابن الرواغ، وكان اهل القرى وعابر والسبيل يمرون عَلَيْهِم ويرونهم يقتتلون، فمن مضى مِنْهُمْ عَلَى الطريق نحو الوجه الَّذِي يأتي من قبله معقل استقبل معقلا فأخبره بالتقاء أَصْحَابه والخوارج، فيقول: كيف رأيتموهم يصنعون؟
فيقولون: رأينا الحرورية تطرد أَصْحَابك، فيقول: أما رأيتم أَصْحَابي يعطفون عَلَيْهِم ويقاتلونهم؟ فيقولون: بلى، يعطفون عَلَيْهِم وينهزمون: فَقَالَ: إن كَانَ ظني بأبي الرواغ صادقا لا يقدم عَلَيْكُمْ منهزما أبدا ثُمَّ وقف عَلَيْهِم، فدعا محرز بن شهاب بن بجير بن سُفْيَان بن خَالِد بن منقر التميمي فَقَالَ لَهُ: تخلف فِي ضعفة الناس، ثُمَّ سر بهم عَلَى مهل، حَتَّى تقدم بهم علي، ثُمَّ ناد فِي أهل القوة: ليتعجل كل ذي قوة معي، اعجلوا إِلَى إخوانكم، فإنهم قَدْ لاقوا عدوهم، وإني لأرجو أن يهلكهم اللَّه قبل أن تصلوا إِلَيْهِم.
قَالَ: فاستجمع من أهل القوة والشجاعة وأهل الخيل الجياد نحو من سبعمائة، وسار فأسرع، فلما دنا من أبي الرواغ قَالَ أَبُو الرواغ: هَذِهِ

(5/196)


غبرة الخيل، تقدموا بنا إِلَى عدونا حَتَّى يقدم علينا الجند، ونحن مِنْهُمْ قريب، فلا يرون اننا تنحينا عنهم ولاهبناهم قَالَ: فاستقدم أَبُو الرواغ حَتَّى وقف مقابل المستورد وأَصْحَابه، وغشيهم معقل فِي أَصْحَابه، فلما دنا مِنْهُمْ غربت الشمس، فنزل فصلى بأَصْحَابه، ونزل أَبُو الرواغ فصلى بأَصْحَابه فِي جانب آخر، وصلى الخوارج أَيْضًا ثُمَّ إن معقل بن قيس أقبل بأَصْحَابه حَتَّى إذا دنا من أبي الرواغ دعاه فأتاه، فَقَالَ لَهُ: أحسنت أبا الرواغ! هكذا الظن بك، الصبر والمحافظة فَقَالَ: أصلحك اللَّه! إن لَهُمْ شدات منكرات، فلا تكن أنت تليها بنفسك، ولكن قدم بين يديك من يقاتلهم، وكن أنت من وراء الناس ردءا لَهُمْ، فَقَالَ: نعم ما رايت! فو الله مَا كَانَ إلا ريثما قالها حَتَّى شدوا عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، فلما غشوه انجفل عنه عامة أَصْحَابه، وثبت ونزل، وَقَالَ: الأرض الأرض يَا أهل الإِسْلام! ونزل مَعَهُ أَبُو الرواغ الشاكري وناس كثير من الفرسان وأهل الحفاظ نحو مائتي رجل، فلما غشيهم المستورد وأَصْحَابه استقبلوهم بالرماح والسيوف، وانجفلت خيل معقل عنه ساعة، ثُمَّ ناداهم مسكين بن عَامِر بن أنيف بن شريح بن عَمْرو بن عدس- وَكَانَ يَوْمَئِذٍ من أشجع الناس وأشدهم بأسا- فَقَالَ:
يَا أهل الإِسْلام، أين الفرار، وَقَدْ نزل أميركم! ألا تستحيون! أن الفرار مخزاة وعار ولؤم، ثُمَّ كر راجعا، ورجعت مَعَهُ خيل عظيمة، فشدوا عَلَيْهِم ومعقل بن قيس يضاربهم تحت رايته مع ناس نزلوا مَعَهُ من أهل الصبر، فضربوهم حَتَّى اضطروهم إِلَى البيوت، ثُمَّ لم يلبثوا إلا قليلا حَتَّى جاءهم محرز بن شهاب فيمن تخلف مِنَ النَّاسِ، فلما أتوهم أنزلهم ثُمَّ صف لَهُمْ، وجعل ميمنة وميسرة، فجعل أبا الرواغ عَلَى ميمنته ومحرز بن بجير بن سُفْيَان عَلَى ميسرته ومسكين بن عَامِر عَلَى الخيل، ثُمَّ قَالَ لهم:
لا تبرحوا مصافكم حَتَّى تصبحوا، فإذا أصبحتم ثرنا إِلَيْهِم فناجزناهم، فوقف الناس مواقفهم عَلَى مصافهم.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن

(5/197)


عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: لما انتهى إلينا معقل بن قيس قَالَ لنا المستورد: لا تدعوا معقلا حَتَّى يعبي لكم الخيل والرجل، شدوا عَلَيْهِم شدة صادقة، لعل اللَّه يصرعه فِيهَا قَالَ: فشددنا عَلَيْهِم شدة صادقة، فانكشفوا فانفضوا ثُمَّ انجفلوا ووثب معقل عن فرسه حين رَأَى إدبار أَصْحَابه عنه، فرفع رايته، ونزل مَعَهُ ناس من أَصْحَابه، فقاتلوا طويلا، فصبروا لنا، ثُمَّ إِنَّهُمْ تداعوا علينا، فعطفوا علينا من كل جانب، فانحزنا حَتَّى جعلنا البيوت فِي ظهورنا، وَقَدْ قاتلناهم طويلا، وكانت بيننا جراحة وقتل يسير قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أن عمير بن أبي أشاءة الأَزْدِيّ قتل يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ فيمن نزل مع معقل بن قيس، وَكَانَ رئيسا.
قَالَ: وكنت أنا فيمن نزل معه، فو الله مَا أنسى قول عمير بن أبي أشاءة ونحن نقتتل وَهُوَ يضاربهم بسيفه قدما:
قَدْ علمت أني إذا مَا أقشعوا ... عني والتاث اللئام الوضع
أحوس عِنْدَ الروع ندب أروع.
وقاتل قتالا شديدا مَا رأيت أحدا قاتل مثله، فجرح رجالا كثيرا، وقتل وما أدري أنه قتل، مَا عدا واحدا وَقَدْ علمت أنه اعتنقه، فخر عَلَى صدره فذبحه، فما حز رأسه حَتَّى حمل عَلَيْهِ رجل مِنْهُمْ فطعنه بالرمح فِي ثغرة نحره، فخر عن صدره، وانجدل ميتا، وشددنا عَلَيْهِم، وحزناهم إِلَى القرية، ثُمَّ انصرفنا إِلَى معركتنا، فأتيته وأنا أرجو أن يكون بِهِ رمق، فإذا هُوَ قَدْ فاظ، فرجعت إِلَى أَصْحَابي فوقفت فِيهِمْ قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ

(5/198)


الغنوي، قَالَ: إنا لمتواقفون أول الليل إذ أتانا رجل كنا بعثناه أول الليل، وَكَانَ بعض من يمر الطريق قَدْ أَخْبَرَنَا أن جيشا قَدْ أقبل إلينا مِنَ الْبَصْرَةِ، فلم نكترث، وقلنا لرجل من أهل الأرض وجعلنا لَهُ جعلا: اذهب فاعلم هل أتانا من قبل الْبَصْرَة جيش؟ فَجَاءَ ونحن مواقفو أهل الْكُوفَة، وَقَالَ لنا: نعم، قَدْ جاءكم شريك بن الأعور، وَقَدِ استقبلت طائفة عَلَى رأس فرسخ عِنْدَ الأولى، وَلا أَرَى القوم إلا نازلين بكم الليلة، او مصبحيكم غدوه فأسقط فِي أيدينا.
وَقَالَ المستورد لأَصْحَابه: ماذا ترون؟
قلنا: نرى مَا رأيت، قَالَ: فإني لا أَرَى أن أقيم لهؤلاء جميعا، ولكن نرجع إِلَى الوجه الَّذِي جئنا مِنْهُ، فإن أهل الْبَصْرَة لا يتبعونا إِلَى أرض الْكُوفَة، وَلا يتبعنا حينئذ إلا أهل مصرنا، فقلنا لَهُ: ولم ذاك؟ فَقَالَ:
قتال أهل مصر واحد أهون علينا من قتال أهل المصرين، قَالُوا: سر بنا حَيْثُ أحببت، قَالَ: فانزلوا عن ظهور دوابكم فأريحوا ساعة، وأقضموها، ثُمَّ انظروا مَا آمركم بِهِ، قَالَ: فنزلنا عنها، فأقضمناها، قَالَ: وبيننا وبينهم حينئذ ساعة قَدِ ارتفعوا عن القرية مخافة أن نبيتهم، قَالَ: فلما أرحناها وأقضمناها أمرنا فاستوينا عَلَى متونها، ثُمَّ قَالَ: ادخلوا القرية، ثُمَّ اخرجوا من ورائها، وانطلقوا معكم بعلج يأخذ بكم من ورائها، ثُمَّ يعود بكم حَتَّى يردكم إِلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلتم، ودعوا هَؤُلاءِ مكانهم، فإنهم لم يشعروا بكم عامة الليل، أو حَتَّى تصبحوا قَالَ: فدخلنا القرية وأخذنا علجا، ثُمَّ خرجنا بِهِ أمامنا، فقلنا: خذ بنا من وراء هَذَا الصف حَتَّى نعود إِلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلنا ففعل ذَلِكَ، فَجَاءَ بنا حَتَّى أقامنا عَلَى الطريق الَّذِي مِنْهُ أقبلنا، فلزمناه راجعين، ثُمَّ أقبلنا حَتَّى نزلنا جرجرايا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الحارث، قَالَ: إني أول من فطن لذهابهم، قَالَ: فقلت: أصلحك

(5/199)


اللَّه! لقد رابني أمر هَذَا العدو منذ ساعة طويلة، إِنَّهُمْ كَانُوا مواقفين نرى سوادهم، ثُمَّ لقد خفي علي ذَلِكَ السواد منذ ساعة، وإني لخائف أن يكونوا زالوا من مكانهم ليكيدوا الناس، فَقَالَ: وما تخاف أن يكون من كيدهم؟
قلت: أخاف أن يبيتوا الناس، قَالَ، وَاللَّهِ مَا آمن ذَلِكَ، قَالَ: فقلت لَهُ: فاستعد لذلك، قَالَ: كما أنت حَتَّى أنظر يَا عتاب، انطلق فيمن أحببت حَتَّى تدنو من القرية فتنظر هل ترى منهم أحدا او تسمع لهم ركزا! وسل أهل القرية عَنْهُمْ.
فخرج فِي خمس الغزاة يركض حَتَّى نظر القرية فأخذ لا يرى أحدا يكلمه، وصاح بأهل القرية، فخرج إِلَيْهِ مِنْهُمْ ناس، فسألهم عَنْهُمْ، فَقَالُوا:
خرجوا فلا ندري كيف ذهبوا! فرجع إِلَيْهِ عتاب فأخبره الخبر، فَقَالَ معقل:
لا آمن البيات، فأين مضر؟ فجاءت مضر فقال: قفوا هاهنا، وَقَالَ:
أين رَبِيعَة؟ فجعل رَبِيعَة فِي وجه وتميما فِي وجه وهمدان فِي وجه، وبقية أهل اليمن فِي وجه آخر، وَكَانَ كل ربع من هَؤُلاءِ فِي وجه وظهره مما يلي ظهر الربع الآخر، وجال فِيهِمْ معقل حَتَّى لم يدع ربعا إلا وقف عَلَيْهِ، وقال: ايها الناس، لو أتوكم فبدءوا بغيركم فقاتلوهم فلا تبرحوا أنتم مكانكم أبدا حَتَّى يأتيكم أمري، وليغن كل رجل مِنْكُمُ الوجه الَّذِي هُوَ فِيهِ، حَتَّى نصبح فنرى رأينا فمكثوا متحارسين يخافون بياتهم حَتَّى أصبحوا، فلما أصبحوا نزلوا فصلوا، وأتوا فأخبروا أن القوم قَدْ رجعوا فِي الطريق الَّذِي أقبلوا مِنْهُ عودهم عَلَى بدئهم، وجاء شريك بن الأعور فِي جيش من أهل الْبَصْرَة حَتَّى نزلوا بمعقل بن قيس فلقيه، فتساءلا ساعة، ثُمَّ إن معقلا قَالَ لشريك: أنا متبع آثارهم حَتَّى ألحقهم لعل اللَّه أن يهلكهم، فإني لا آمن إن قصرت فِي طلبهم أن يكثروا فقام شريك فجمع رجالا من وجوه أَصْحَابه، فِيهِمْ خَالِد بن مَعْدَانَ الطَّائِيّ وبيهس بن صهيب الجرمي، فَقَالَ لَهُمْ: يَا هَؤُلاءِ، هل لكم فِي خير؟ هل لكم فِي أن تسيروا مع إخواننا من أهل الْكُوفَة فِي طلب هَذَا العدو الَّذِي هُوَ عدو لنا ولهم حَتَّى يستأصلهم

(5/200)


اللَّه ثُمَّ نرجع؟ فَقَالَ خَالِد بن مَعْدَانَ وبيهس الجرمي: لا وَاللَّهِ، لا نفعل، إنما أقبلنا نحوهم لننفيهم عن أرضنا، ونمنعهم من دخولها، فان كفانا الله مئونتهم فإنا منصرفون إِلَى مصرنا، وفي أهل الْكُوفَة من يمنعون بلادهم من هَؤُلاءِ الأكلب، فَقَالَ لَهُمْ: ويحكم! أطيعوني فِيهِمْ، فإنهم قوم سوء، لكم فِي قتالهم أجر وحظوة عِنْدَ السلطان، فقال له بيهس الجرمي:
نحن وَاللَّهِ إذا كما قَالَ أخو بني كنانة:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بنيها فلم ترقع بِذَلِكَ مرقعا
أما بلغك أن الأكراد قَدْ كفروا بجبال فارس! قَالَ: قَدْ بلغني، قَالَ:
فتأمرنا أن ننطلق معك نحمي بلاد أهل الْكُوفَة، ونقاتل عدوهم، ونترك بلادنا، فَقَالَ لَهُ: وما الأكراد! إنما يكفيهم طائفة مِنْكُمْ، فَقَالَ لَهُ: وهذا العدو الَّذِي تندبنا إِلَيْهِ إنما يكفيه طائفة من أهل الْكُوفَة، إِنَّهُمْ لعمري لو اضطروا إِلَى نصرتنا لكان علينا نصرتهم، ولكنهم لم يحتاجوا إلينا بعد، وفي بلادنا فتق مثل الفتق الَّذِي فِي بلادهم، فليغنوا مَا قبلهم، وعلينا أن نغني مَا قبلنا، ولعمري لو أنا أطعناك فِي اتباعهم فاتبعتهم كنت قَدِ اجترأت عَلَى أميرك، وفعلت مَا كَانَ ينبغي لك أن تطلع فِيهِ رأيه، مَا كَانَ ليحتملها لك فلما رَأَى ذَلِكَ قَالَ لأَصْحَابه: سيروا فارتحلوا، وجاء حَتَّى لقي معقلا- وكانا متحابين عَلَى رأي الشيعة متوادين عَلَيْهِ- فَقَالَ: أما وَاللَّهِ لقد جهدت بمن معي أن يتبعوني حَتَّى أسير معكم إِلَى عدوكم فغلبوني، فَقَالَ لَهُ معقل:
جزاك اللَّه من أخ خيرا! إنا لم نحتج إِلَى ذَلِكَ، أما وَاللَّهِ إني أرجو أن لو قَدْ جهدوا لا يفلت مِنْهُمْ مخبر.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن ابى امامه عبيد الله

(5/201)


ابن جُنَادَة، عن شريك بن الأعور، قَالَ: حَدَّثَنَا بهذا الحديث شريك ابن الأعور قَالَ: فلما قَالَ: وَاللَّهِ إني لأرجو أن لو جهدوا لا يفلت مِنْهُمْ مخبر، كرهتها وَاللَّهِ لَهُ، وأشفقت عَلَيْهِ، وحسبت أن يكون شبه كلام البغي، قَالَ: وايم اللَّه مَا كَانَ من أهل البغي.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث الأَزْدِيّ، قَالَ: لما أتانا أن المستورد بن علفة وأَصْحَابه قَدْ رجعوا عن طريقهم سررنا بِذَلِكَ، وقلنا: نتبعهم ونستقبلهم بالمدائن، وإن دنوا من الْكُوفَة كَانَ أهلك لَهُمْ، ودعا معقل بن قيس أبا الرواغ فَقَالَ لَهُ:
اتبعه فِي أَصْحَابك الَّذِينَ كَانُوا معك حَتَّى تحبسه علي حَتَّى ألحقك، فَقَالَ لَهُ: زدني مِنْهُمْ فإنه أقوى لي عَلَيْهِم إن هم أرادوا مناجزتي قبل قدومك، فإنا كنا قَدْ لقينا مِنْهُمْ برحا، فزاده ثلاثمائة، فاتبعهم في سمائه، وأقبلوا سراعا حَتَّى نزلوا جرجرايا، وأقبل أَبُو الرواغ فِي إثرهم مسرعا حَتَّى لحقهم بجرجرايا، وَقَدْ نزلوا، فنزل بهم عِنْدَ طلوع الشمس، فلما نظروا إذا هم بأبي الرواغ فِي المقدمة، فَقَالَ بعضهم لبعض: إن قتالكم هَؤُلاءِ أهون من قتال من يأتي بعدهم.
قَالَ: فخرجوا إلينا، فأخذوا يخرجون لنا العشرة فرسان مِنْهُمْ والعشرين فارسا، فنخرج لَهُمْ مثلهم، فتطارد الخيلان ساعة ينتصف بعضنا من بعض، فلما رأوا ذَلِكَ اجتمعوا فشدوا علينا شدة واحدة صدقوا فِيهَا الحملة.
قَالَ: فصرفونا حَتَّى تركنا لَهُمُ العرصة ثُمَّ إن أبا الرواغ نادى فِيهِمْ، فَقَالَ: يَا فرسان السوء، يَا حماة السوء، بئس مَا قاتلتم القوم! إليّ إليّ!

(5/202)


فعالج نحوا من مائة فارس، فعطف عَلَيْهِم، وَهُوَ يقول:
إن الفتى كل الفتى من لم يهل ... إذا الجبان حاد عن وقع الأسل.
قَدْ علمت أني إذا البأس نزل ... أروع يوم الهيج مقدام بطل
ثُمَّ عطف عَلَيْهِم فقاتلهم طويلا، ثُمَّ عطف أَصْحَابه من كل جانب، فصدقوهم القتال حَتَّى ردوهم إِلَى مكانهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فلما رَأَى ذَلِكَ المستورد وأَصْحَابه ظنوا أن معقلا إن جاءهم على تفئه ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دون قتله لَهُمْ شَيْء، فمضى هُوَ وأَصْحَابه حَتَّى قطعوا دجلة، ووقعوا فِي أرض بهرسير، وقطع أَبُو الرواغ فِي آثارهم فاتبعهم، وجاء معقل بن قيس فاتبع إثر أبي الرواغ، فقطع فِي أثره دجلة، ومضى المستورد نحو الْمَدِينَة العتيقة، وبلغ ذَلِكَ سماك بن عبيد، فخرج حَتَّى عبر إِلَيْهَا، ثُمَّ خرج بأَصْحَابه وبأهل المدائن، فصف عَلَى بابها، وأجلس رجالا رماة عَلَى السور، فبلغهم ذَلِكَ، فانصرفوا حَتَّى نزلوا ساباط، وأقبل أَبُو الرواغ فِي طلب القوم حَتَّى مر بسماك ابن عبيد بالمدائن، فخبره بوجههم الَّذِي أخذوا فِيهِ، فاتبعهم حَتَّى نزل بهم ساباط.
قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: لما نزل بنا أَبُو الرواغ دعا المستورد أَصْحَابه، فَقَالَ:
إن هَؤُلاءِ الَّذِينَ نزلوا بكم مع أبي الرواغ هم حر أَصْحَاب معقل، وَلا وَاللَّهِ مَا قدم إليكم إلا حماته وفرسانه، والله لو اعلم انى إذا بادرت أَصْحَابه هَؤُلاءِ إِلَيْهِ أدركته قبل أن يفارقوه بساعة لبادرتهم إِلَيْهِ، فليخرج مِنْكُمْ خارج فيسأل عن معقل أين هُوَ؟ وأين بلغ؟ قَالَ: فخرجت أنا فاستقبلت علوجا أقبلوا من المدائن، فقلت لَهُمْ: مَا بلغكم عن معقل بن قيس؟ قَالُوا: جَاءَ فيج لسماك بن عبيد من قبله كَانَ سرحه ليستقبل معقلا فينظر أين انتهى؟
وأين يريد أن ينزل؟ فجاءه فَقَالَ: تركته نزل ديلمايا- وَهِيَ قرية من قرى

(5/203)


إستان بهرسير إِلَى جانب دجلة، كَانَتْ لقدامة بن العجلان الأزدي- قال: لَهُ:: كم بيننا وبينهم من هَذَا المكان؟ قَالُوا: ثلاثة فراسخ، أو نحو ذَلِكَ.
قَالَ: فرجعت إِلَى صاحبي فأخبرته الخبر، فَقَالَ لأَصْحَابه: اركبوا، فركبوا، فأقبل حَتَّى انتهى بهم إِلَى جسر ساباط- وَهُوَ جسر نهر الملك، وَهُوَ من جانبه الَّذِي يلي الْكُوفَة- وأبو الرواغ وأَصْحَابه مما يلي المدائن، قَالَ:
فجئنا حَتَّى وقفنا عَلَى الجسر، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لنا: لتنزل طائفة مِنْكُمْ: قَالَ:
فنزل منا نحو من خمسين رجلا، فَقَالَ: اقطعوا هَذَا الجسر، فنزلنا فقطعناه، قَالَ:
فلما رأونا وقوفا عَلَى الخيل ظنوا أنا نريد أن نعبر إِلَيْهِم، قَالَ: فصفوا لنا، وتعبوا، واشتغلوا بِذَلِكَ عنا فِي قطعنا الجسر ثُمَّ إنا أخذنا من أهل ساباط دليلا فقلنا لَهُ: احضر بين أيدينا حَتَّى ننتهي إِلَى ديلمايا، فخرج بين أيدينا يسعى، وخرجنا تلمع بنا خيلنا، فكان الخبب والوجيف، فما كَانَ إلا ساعة حَتَّى أطللنا عَلَى معقل وأَصْحَابه وهم يتحملون، فما هو الا أن بصر بنا وَقَدْ تفرق أَصْحَابه عنه، ومقدمته ليست عنده، وأَصْحَابه قَدِ استقدم طائفة مِنْهُمْ، وطائفة تزحل، وهم غارون لا يشعرون فلما رآنا نصب رايته، ونزل ونادى: يَا عباد اللَّه، الأرض الأرض! فنزل مَعَهُ نحو من مائتي رجل، قَالَ: فأخذنا نحمل عَلَيْهِم فيستقبلونا بأطراف الرماح جثاة عَلَى الركب فلا نقدر عَلَيْهِم فَقَالَ لنا: المستورد: دعوا هَؤُلاءِ إذا نزلوا وشدوا عَلَى خيلهم حَتَّى تحولوا بينها وبينهم، فإنكم إن أصبتم خيلهم فإنهم لكم عن ساعة جزر، قَالَ: فشددنا عَلَى خيلهم، فحلنا بينهم وبينها، وقطعنا أعنتها، وَقَدْ كَانُوا قرنوها، فذهبت فِي كل جانب، قَالَ:
ثُمَّ ملنا عَلَى الناس المتزحلين والمتقدمين، فحملنا عَلَيْهِم حَتَّى فرقنا

(5/204)


بينهم، ثُمَّ أقبلنا إِلَى معقل بن قيس وأَصْحَابه جثاة عَلَى الركب عَلَى حالهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، فحملنا عَلَيْهِم، فلم يتحلحلوا، ثُمَّ حملنا عَلَيْهِم أخرى، ففعلوا مثلها، فَقَالَ لنا المستورد: نازلوهم، لينزل إِلَيْهِم نصفكم، فنزل نصفنا، وبقي نصفنا مَعَهُ عَلَى الخيل، وكنت فِي أَصْحَاب الخيل.
قَالَ: فلما نزل إِلَيْهِم رجالتنا قاتلتهم، وأخذنا نحمل عَلَيْهِم بالخيل، وطمعنا وَاللَّهِ فيهم قال: فو الله إنا لنقاتلهم ونحن نرى أن قَدْ علوناهم إذ طلعت علينا مقدمة أَصْحَاب أبي الرواغ، وهم حر أَصْحَابه وفرسانهم، فلما دنوا منا حملوا علينا، فعند ذَلِكَ نزلنا بأجمعنا فقاتلناهم حَتَّى أصيب صاحبنا وصاحبهم قَالَ: فما علمته نجا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أحد غيري قَالَ: وإني أحدثهم رجلا فِيمَا أَرَى.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، قَالَ: وَحَدَّثَنَا بهذا الحديث مرتين من الزمن، مرة فِي إمارة مصعب ابن الزُّبَيْرِ بباجميرا، ومرة ونحن مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث بدير الجماجم قَالَ: فقتل وَاللَّهِ يَوْمَئِذٍ بدير الجماجم يوم الهزيمة، وإنه لمقبل عَلَيْهِم يضاربهم بسيفه وأنا أراه، قَالَ: فقلت لَهُ بدير الجماجم:
إنك قَدْ حدثتني بهذا الحديث بباجميرا مع مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، فلم أسألك كيف نجوت من بين أَصْحَابك؟ قَالَ: أحدثك، وَاللَّهِ إن صاحبنا لما أصيب قتل أَصْحَابه إلا خمسة نفر أو ستة، قَالَ: فشددنا عَلَى جماعة من أَصْحَابه نحو من عشرين رجلا، فانكشفوا.
قَالَ: وانتهيت إِلَى فرس واقف عَلَيْهِ سرجه ولجامه، وما أدري مَا قصة صاحبه أقتل أم نزل عنه صاحبه يقاتل وتركه! قَالَ: فأقبلت حَتَّى أخذت بلجامه، وأضع رجلي فِي الركاب وأستوي عَلَيْهِ قَالَ: وشد وَاللَّهِ أَصْحَابه علي، فانتهوا إلي، وغمزت فِي جنب الفرس، فإذا هُوَ وَاللَّهِ أجود مَا سخر، وركض مِنْهُمْ ناس فِي أثري فلم يعلقوا بي، فأقبلت

(5/205)


أركض الفرس، وَذَلِكَ عِنْدَ المساء، فلما علمت أني قَدْ فتهم وأمنت، أخذت أسير عَلَيْهِ خببا وتقريبا ثُمَّ إني سرت عَلَيْهِ بِذَلِكَ من سيره، ولقيت علجا فقلت لَهُ: اسع بين يدي حَتَّى تخرجني الطريق الأعظم، طريق الْكُوفَة، ففعل، فو الله مَا كَانَتْ إلا ساعة حَتَّى انتهيت إِلَى كوثى، فجئت حَتَّى انتهيت إِلَى مكان من النهر واسع عريض، فأقحمت الفرس فِيهِ، فعبرته، ثُمَّ أقبلت عَلَيْهِ حَتَّى آتى دير كعب، فنزلت فعقلت فرسي وأرحته وهومت تهويمة، ثُمَّ انى هببت سريعا، فخلت فِي ظهر الفرس، ثُمَّ سرت فِي قطع من الليل فاتخذت بقية الليل جملا، فصليت الغداة بالمزاحمية عَلَى رأس فرسخين من قبين، ثُمَّ أقبلت حَتَّى أدخل الْكُوفَة حين متع الضحى، فآتى من ساعتي شريك بن نملة المحاربي، فأخبرته خبري وخبر أَصْحَابه، وسألته أن يلقى الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ فيأخذ لي مِنْهُ أمانا، فَقَالَ لي: قَدْ أصبت الأمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ جئت ببشارة، وَاللَّهِ لقد بت الليلة وإن أمر الناس ليهمني قَالَ: فخرج شريك بن نملة المحاربي حَتَّى أتى الْمُغِيرَة مسرعا فاستأذن عَلَيْهِ، فأذن لَهُ، فَقَالَ: إن عندي بشرى، ولي حاجة، فاقض حاجتي حَتَّى أبشرك ببشارتي، فَقَالَ لَهُ: قضيت حاجتك، فهات بشراك، قَالَ: تؤمن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، فإنه كَانَ مع القوم، قَالَ: قَدْ آمنته، وَاللَّهِ لوددت أنك أتيتني بهم كلهم فآمنتهم قَالَ: فأبشر، فإن القوم كلهم قَدْ قتلوا، كَانَ صاحبي مع القوم، ولم ينج مِنْهُمْ فِيمَا حَدَّثَنِي غيره قَالَ:
فما فعل معقل بن قيس؟ قَالَ: أصلحك اللَّه! ليس لَهُ بأَصْحَابنا علم قَالَ: فما فرغ من منطقه حَتَّى قدم عَلَيْهِ أَبُو الرواغ ومسكين بن عَامِر بن أنيف مبشرين بالفتح، فأخبروا أن معقل بن قيس والمستورد بن علفة مشى كل واحد منهما إِلَى صاحبه، بيد المستورد الرمح وبيد معقل السيف، فالتقيا، فأشرع المستورد الرمح فِي صدر معقل حَتَّى خرج السنان من

(5/206)


ظهره، فضربه معقل بالسيف عَلَى رأسه حَتَّى خالط السيف أم الدماغ، فخرا ميتين.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما رأينا المستورد بن علفة وَقَدْ نزلنا بِهِ ساباط أقبل إِلَى الجسر فقطعه، كنا نظن أنه يريد أن يعبر إلينا قَالَ: فارتفعنا عن مظلم ساباط إِلَى الصحراء الَّتِي بين المدائن وساباط فتعبأنا وتهيأنا، فطال علينا أن نراهم يخرجون إلينا.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو الرواغ: إن لهؤلاء لشأنا، أَلا رجل يعلم لنا علم هَؤُلاءِ؟
فقلت: أنا ووهيب بن أبي أشاءة الأَزْدِيّ: نحن نعلم لك علم ذَلِكَ، ونأتيك بخبرهم، فقربنا عَلَى فرسينا إِلَى الجسر فوجدناه مقطوعا، فظننا القوم لم يقطعوه إلا هيبة لنا ورعبا منا، فرجعنا نركض سراعا حَتَّى انتهينا إِلَى صاحبنا، فأخبرناه بِمَا رأينا، فَقَالَ: مَا ظنكم؟ قَالَ: فقلنا: لم يقطعوا الجسر إلا لهيبتنا ولما أدخل اللَّه فِي قلوبهم من الرعب منا.
قَالَ: لعمري مَا خرج القوم وهم يريدون الفرار، ولكن القوم قَدْ كادوكم، أتسمعون! وَاللَّهِ مَا أراهم إلا قَالُوا: إن معقلا لم يبعث إليكم أبا الرواغ إلا فِي حر أَصْحَابه، فإن استطعتم فاتركوا هَؤُلاءِ بمكانهم هذا، ووجدوا في السير نحو معقل وأَصْحَابه، فإنكم تجدونهم غارين آمنين إن تأتوهم، فقطعوا الجسر لكيما يشغلوكم بِهِ عن لحاقكم إياهم حَتَّى يأتوا أميركم على غره، النجاء النجاء فِي الطلب! قَالَ: فوقع فِي أنفسنا أن الَّذِي قَالَ لنا كما قَالَ قَالَ:
فصحنا باهل القرية، قال: فجاءوا سراعا: فقلنا لَهُمْ: عجلوا عقد الجسر، واستحثثناهم فما لبثوا أن فرغوا مِنْهُ، ثُمَّ عبرنا عَلَيْهِ، فاتبعناهم سراعا مَا نلوي عَلَى شَيْء، فلزمنا آثارهم، فو الله ما زلنا نسأل عنهم، فيقال: هم الآن أمامكم، لحقتموهم، مَا أقربكم منهم، فو الله مَا زلنا فِي طلبهم حرصا عَلَى لحاقهم حَتَّى كَانَ أول من استقبلنا مِنَ النَّاسِ فلهم وهم منهزمون لا يلوي أحد عَلَى أحد فاستقبلهم أَبُو الرواغ، ثُمَّ صاح بِالنَّاسِ: إلي إلي، فأقبل الناس إِلَيْهِ، فلاذوا بِهِ، فَقَالَ: ويلكم! مَا وراءكم؟ فَقَالُوا: لا ندري، لم يرعنا إلا والقوم معنا فِي عسكرنا ونحن متفرقون، فشدوا علينا،

(5/207)


ففرقوا بيننا، قَالَ: فما فعل الأمير؟ فقائل يقول: نزل وَهُوَ يقاتل، وقائل يقول: مَا نراه إلا قتل، فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، ارجعوا معي، فإن ندرك أميرنا حيا نقاتل مَعَهُ، وإن نجده قَدْ هلك قاتلناهم، فنحن فرسان أهل المصر المنتخبون لهذا العدو، فلا يفسدن فيكم رأي أميركم بالمصر، وَلا رأي أهل المصر، وايم اللَّه لا ينبغي لكم إن عاينتموه وَقَدْ قتلوا معقلا أن تفارقوهم حتى تبيروهم أو تباروا، سيروا عَلَى بركة اللَّه فساروا وسرنا، فأخذ لا يستقبل أحدا مِنَ النَّاسِ إلا صاح بِهِ ورده، ونادى وجوه أَصْحَابه وَقَالَ:
اضربوا وجوه الناس وردوهم قَالَ: فأقبلنا نرد الناس حَتَّى انتهينا إِلَى العسكر، فإذا نحن براية معقل بن قيس منصوبة، فإذا مَعَهُ مائتا رجل أو أكثر فرسان الناس ووجوههم ليس فِيهِمْ إلا راجل، وإذا هم يقتتلون أشد قتال سمع الناس بِهِ، فلما طلعنا عَلَيْهِم إذا نحن بالخوارج قَدْ كادوا يعلون أَصْحَابنا، وإذا أَصْحَابنا عَلَى ذَلِكَ صابرون يجالدونهم، فلما رأونا كروا ثُمَّ شدوا عَلَى الخوارج، فارتفعت الخوارج عَنْهُمْ غير بعيد، وانتهينا إِلَيْهِم، فنظر أَبُو الرواغ إِلَى معقل فإذا هو مستقدم يذمر أَصْحَابه ويحرضهم، فَقَالَ لَهُ: أحي أنت فداك عمي وخالي! قَالَ: نعم، فشد القوم، فنادى أَبُو الرواغ أَصْحَابه: أَلا ترون أميركم حيا،! شدوا عَلَى القوم، قَالَ: فحمل وحملنا عَلَى القوم بأجمعنا، قَالَ: فصدمنا خيلهم صدمة منكرة، وشد عَلَيْهِم معقل وأَصْحَابه، فنزل المستورد، وصاح بأَصْحَابه: يَا معشر الشراة، الأرض الأرض، فإنها وَاللَّهِ الجنة! والذي لا إله غيره لمن قتل صادق النية فِي جهاد هَؤُلاءِ الظلمة وجلاحهم، فتنازلوا من عِنْدَ آخرهم، فنزلنا من عِنْدَ آخرنا، ثُمَّ مضينا إِلَيْهِ منصلتين بالسيوف، فاضطربنا بِهَا طويلا من النهار كأشد قتال اقتتله الناس قط، غير أن المستورد نادى معقلا

(5/208)


فَقَالَ: يَا معقل، ابرز لي، فخرج إِلَيْهِ معقل، فقلنا لَهُ: ننشدك أن تخرج إِلَى هَذَا الكلب الَّذِي قَدْ آيسه اللَّه من نفسه! قَالَ: لا وَاللَّهِ لا يدعوني رجل إِلَى مبارزة أبدا فأكون أنا الناكل، فمشى إِلَيْهِ بالسيف، وخرج الآخر إِلَيْهِ بالرمح، فناديناه أن ألقه برمح مثل رمحه، فأبى، وأقبل عَلَيْهِ المستورد فطعنه حَتَّى خرج سنان الرمح من ظهره، وضربه معقل بالسيف حَتَّى خالط سيفه أم الدماغ، فوقع ميتا، وقتل معقل، وَقَالَ لنا حين برز إِلَيْهِ:
إن هلكت فأميركم عَمْرو بن محرز بن شهاب السعدي ثُمَّ المنقري: قَالَ:
فلما هلك معقل أخذ الراية عَمْرو بن محرز، وَقَالَ عَمْرو: إن قتلت فعَلَيْكُمْ أَبُو الرواغ، فإن قتل أَبُو الرواغ فأميركم مسكين بن عَامِر بن أنيف، وإنه يَوْمَئِذٍ لفتى حدث، ثُمَّ شد برايته، وأمر الناس أن يشدوا عَلَيْهِم، فما لبثوهم ان قتلوهم
. ذكر ولايه عبد الله بن خازم خراسان
ومما كَانَ فِي هَذِهِ السنة تولية عَبْد اللَّهِ بن عَامِر عَبْد اللَّهِ بن خازم بن ظبيان خُرَاسَان وانصراف قيس بن الهيثم عنه، وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ- فِيمَا ذكر أَبُو مخنف عن مقاتل بن حيان- أن ابن عَامِر استبطأ قيس بن الهيثم بالخراج، فأراد أن يعزله، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: ولني خُرَاسَان فأكفيكها وأكفيك قيس بن الهيثم فكتب لَهُ عهده أو هم بِذَلِكَ، فبلغ قيسا أن ابن عَامِر وجد عَلَيْهِ لاستخفافه بِهِ، وإمساكه عن الهدية، وأنه قَدْ ولى ابن خازم، فخاف ابن خازم أن يشاغبه ويحاسبه، فترك خُرَاسَان، وأقبل فازداد عَلَيْهِ ابن عَامِر غضبا، وَقَالَ: ضيعت الثغر! فضربه وحبسه، وبعث رجلا من بني يشكر عَلَى خُرَاسَان.
قَالَ أَبُو مخنف: بعث ابن عَامِر أسلم بن زرعه الكلابى حين عزل قيس

(5/209)


ابن الهيثم، قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الثقفي، عن أشياخه، أن ابن عَامِر استعمل قيس بن الهيثم عَلَى خُرَاسَان أيام مُعَاوِيَة، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: إنك وجهت إِلَى خُرَاسَان رجلا ضعيفا، وإني أخاف إن لقي حربا أن ينهزم بِالنَّاسِ، فتهلك خُرَاسَان، وتفتضح أخوالك.
قَالَ ابن عَامِر: فما الرأي؟ قَالَ: تكتب لي عهدا: إن هُوَ انصرف عن عدوك قمت مقامه فكتب لَهُ، فجاشت جماعه من طخارستان، فشاور قيس ابن الهيثم فأشار عَلَيْهِ ابن خازم أن ينصرف حَتَّى يجتمع إِلَيْهِ أطرافه، فانصرف، فلما سار من مكانه مرحلة أو مرحلتين أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر المصرين والشام فغضب القيسية وَقَالُوا: خدع قيسا وابن عَامِر، فأكثروا فِي ذَلِكَ حَتَّى شكوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فبعث إِلَيْهِ فقدم، فاعتذر مما قيل فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: قم فاعتذر إِلَى النَّاسِ غدا، فرجع ابن خازم إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: إني قَدْ أمرت بالخطبة، ولست بصاحب كلام، فاجلسوا حول الْمِنْبَر، فإذا تكلمت فصدقوني، فقام من الغد، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنما يتكلف الخطبة إمام لا يجد منها بدا، أو أحمق يهمر من رأسه لا يبالي مَا خرج مِنْهُ، ولست بواحد منهما، وَقَدْ علم من عرفني أني بصير بالفرص، وثاب عَلَيْهَا، وقاف عِنْدَ المهالك، أنفذ بالسرية، وأقسم بالسوية، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ من كَانَ يعرف ذَلِكَ مني لما صدقني! قَالَ أَصْحَابه حول الْمِنْبَر: صدقت، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنك ممن نشدت فقل بِمَا تعلم، قَالَ: صدقت.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا شيخ من بني تميم يقال لَهُ معمر، عن بعض أهل العلم أن قيس بن الهيثم قدم عَلَى ابن عَامِر من خُرَاسَان مراغما لابن خازم، قَالَ: فضربه ابن عَامِر مائة وحلقه وحبسه، قَالَ: فطلبت اليه أمه، فاخرجه

(5/210)


وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة- فِيمَا قيل- مَرْوَان بن الحكم، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ عَلَى مكة خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام، وعلى الْكُوفَة الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ، وعلى قضائها شريح، وعلى الْبَصْرَة وفارس وسجستان وخراسان عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وعلى قضائها عمير بن يثربي

(5/211)


ثُمَّ دخلت

سنة أربع وأربعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ دخول الْمُسْلِمِينَ مع عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد بلاد الروم ومشتاهم بِهَا، وغزو بسر بن أبي أرطاة البحر.

عزل عبد الله بن عامر عن البصره
وفي هَذِهِ السنة عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عَامِر عن الْبَصْرَة.
ذكر الخبر عن سبب عزله:
كَانَ سبب ذَلِكَ أن ابن عَامِر كَانَ رجلا لينا كريما، لا يأخذ عَلَى أيدي السفهاء، ففسدت الْبَصْرَة بسبب ذَلِكَ أيام عمله بِهَا لمعاوية فَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: شَكَا ابْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَسَادَ النَّاسِ وَظُهُورَ الْخَبَثِ، فَقَالَ: جَرِّدْ فِيهِمُ السَّيْفَ، فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُصْلِحَهُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: كَانَ ابن عَامِر لينا سهلا، سهل الولاية، لا يعاقب فِي سلطانه، وَلا يقطع لصا، فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
أنا أتألف الناس، فكيف أنظر الى رجل قد قطعت أباه وأخاه! حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ، قَالَ:
وَفَدَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، وَاسْمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: أَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا سُفَهَاؤُهَا، وَعَامِلُهَا ضَعِيفٌ، فَبَلَغَ ابْنَ عَامِرٍ قول ابن الكواء، فاستعمل طفيل

(5/212)


ابن عَوْفٍ الْيَشْكُرِيَّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَكَانَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الْكَوَّاءِ مُتَبَاعِدًا، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: إِنَّ ابْنَ دَجَاجَةَ لَقَلِيلُ الْعِلْمِ فِيَّ، أَظُنُّ أَنَّ وِلايَةَ طُفَيْلٍ خُرَاسَانَ تَسُوءُنِي! لَوَدَدْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الأَرْضِ يَشْكُرِيٌّ إِلا عَادَانِي، وَأَنَّهُ وَلاهُمْ فَعَزَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ عَامِرٍ، وَبَعَثَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيَّ قَالَ:
وَقَالَ الْقَحْذَمِيُّ: قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَدَاوَةً لابْنِ الْكَوَّاءِ؟ قَالُوا:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْخٍ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ مَا قَالَ.
وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ ثَقِيفٍ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَصْبَهَانِيِّ، أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ أَوْفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَفْدًا، فَوَافَقُوا عِنْدَهُ وَفْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَفِيهِمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ الْيَشْكُرِيُّ، فَسَأَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَنِ الْعِرَاقِ وَعَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ خَاصَّةً، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ أَكَلَهُمْ سُفَهَاؤُهُمْ، وَضَعُفَ عَنْهُمْ سُلْطَانُهُمْ، وَعَجَزَ ابْنُ عَامِرٍ وَضَعَّفَهُ.
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: تَكَلَّمُ عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهُمْ حُضُورٌ! فَلَمَّا انْصَرَفَ الْوَفْدُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَلَّغُوا ابْنَ عَامِرٍ ذَلِكَ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَيُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَشَدُّ عَدَاوَةً لابْنِ الْكَوَّاءِ! فَقِيلَ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْخٍ الْيَشْكُرِيُّ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ، وَبَلَغَ ابْنَ الْكَوَّاءِ ذَلِكَ فَقَالَ مَا قَالَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: لَمَّا ضَعُفَ ابْنُ عَامِرٍ عَنْ عَمَلِهِ، وَانْتَشَرَ الأَمْرُ بِالْبَصْرَةِ عَلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَسْتَزِيرُهُ، قَالَ عُمَرُ: فَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَأَنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ قَيْسَ ابن الْهَيْثَمِ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَرَدَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي سَائِلُكَ ثَلاثًا، فَقُلْ: هُنَّ لَكَ قَالَ: هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ أُمِّ حَكِيمٍ، قَالَ:
تَرُدَّ عَلَيَّ عَمَلِي وَلا تَغْضَبْ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: وَتَهَبُ لِي مَالَكَ بِعَرَفَةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ قَالَ: وَتَهَبُ لِي دُورَكَ بِمَكَّةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ:
وَصَلَتْكَ رَحِمٌ! قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي سَائِلُكَ ثَلاثًا فَقُلْ: هُنَّ لَكَ، قَالَ: هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ هِنْدٍ، قَالَ: تَرُدَّ عَلَيَّ مَالِي

(5/213)


بِعَرَفَةَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: وَلا تُحَاسِبْ لِي عَامِلا، وَلا تَتَّبِعْ لِي أَثَرًا.
قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: وَتُنْكِحَنِي ابْنَتَكَ هِنْدًا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ بَيْنَ أَنْ أَتَتَبَّعَ أَثَرَكَ وَأُحَاسِبَكَ بِمَا صَارَ إِلَيْكَ، وَأَرُدَّكَ إِلَى عَمَلِكَ، وَبَيْنَ أَنْ أُسَوِّغَكَ مَا أَصَبْتَ، وَتَعْتَزِلَ، فَاخْتَارَ أَنْ يسوغه ذلك ويعتزل

استلحاق معاويه نسب زياد ابن سميه بابيه
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ نَسَبَ زِيَادِ بن سُمَيَّةَ بِأَبِيهِ أَبِي سُفْيَانَ فِيمَا قِيلَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ مَعَ زِيَادٍ لَمَّا وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لِزِيَادٍ: إِنَّ لابْنِ عَامِرٍ عِنْدِي يَدًا، فَإِنْ أَذِنْتَ لِي أَتَيْتُهُ، قَالَ: عَلَى أَنْ تُحَدِّثَنِي مَا يَجْرِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، قَالَ:
نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: هِيهٍ هِيهٍ! وَابْنُ سُمَيَّةَ يُقَبِّحُ آثَارِي، وَيُعَرِّضُ بِعُمَّالِي! لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آتِيَ بِقَسَامَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَحْلِفُونَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَرَ سُمَيَّةَ، قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ سَأَلَهُ زِيَادٌ، فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَهُ، فَلَمْ يَدَعْهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ، فَأَخْبَرَ ذَلِكَ زِيَادٌ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِحَاجِبِهِ:
إِذَا جَاءَ ابْنُ عَامِرٍ فَاضْرِبْ وَجْهَ دَابَّتِهِ عَنْ أَقْصَى الأَبْوَابِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ، فَأَتَى ابْنُ عَامِرٍ يَزِيدَ، فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ ذَكَرْتَ زِيَادًا؟ قَالَ:
نَعَمْ، فَرَكِبَ مَعَهُ يَزِيدُ حَتَّى أَدْخَلَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ قَامَ فَدَخَلَ، فَقَالَ يَزِيدُ لابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَكَمْ عَسَى أَنْ تَقْعُدَ فِي الْبَيْتِ عَنْ مَجْلِسِهِ! فَلَمَّا أَطَالا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ وَفِي يَدِهِ قَضِيبٌ يَضْرِبُ بِهِ الأَبْوَابَ، ويتمثل:

(5/214)


لَنَا سِيَاقٌ وَلَكُمْ سِيَاقُ ... قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكُمُ الرفاق
ثم قعد فقال: يا بن عَامِرٍ، أَنْتَ الْقَائِلُ فِي زِيَادٍ مَا قُلْتَ! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنِّي كُنْتُ أَعَزُّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّ الإِسْلامَ لَمْ يَزِدْنِي إِلا عِزًّا، وَأَنِّي لَمْ أَتَكَثَّرْ بِزِيَادٍ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَمْ أَتَعَزَّزْ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَكِنْ عَرَفْتُ حَقًّا لَهُ فَوَضَعْتُهُ مَوْضِعَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَرْجِعُ إِلَى مَا يُحِبُّ زِيَادٌ، قَالَ:
إِذًا نَرْجِعُ إِلَى مَا تُحِبُّ، فَخَرَجَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَتَرَضَّاهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ بَشِيرٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ زِيَادًا لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ، قَالَ: قَدْ جئتكم في امر ما طلبته الا إليكم، قَالُوا: ادْعُنَا إِلَى مَا شِئْتَ، قَالَ: تُلْحِقُونَ نَسَبِي بِمُعَاوِيَةَ، قَالُوا: أَمَّا بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَلا، فَأَتَى الْبَصْرَةَ، فَشَهِدَ لَهُ رَجُلٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ.
وَفِيهَا عَمِلَ مَرْوَانُ الْمَقْصُورَةَ، وَعَمِلَهَا- أَيْضًا فِيمَا ذُكِرَ- مُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ.
وَكَانَتِ الْعُمَّالُ فِي الأَمْصَارِ فِيهَا الْعُمَّالُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّهُمْ كَانُوا الْعُمَّالَ فِي سَنَةَ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ
ثُمَّ دَخَلَتْ

سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ
(ذِكْرُ الأَحْدَاثِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ مُعَاوِيَةَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيَّ فِيهَا عَلَى الْبَصْرَةِ.
فَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: عزل معاوية ابْنَ عَامِرٍ وَوَلَّى الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيَّ الْبَصْرَةَ فِي أَوَّلِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِالْبَصْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ عبد عَمْرٍو، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ عَزَلَ ابْنَ عَامِرٍ لِيُوَلِّيَ زِيَادًا، فَوَلَّى الْحَارِثَ كَالْفَرَسِ الْمُحَلَّلِ، فَوَلَّى الْحَارِثُ شُرْطَتَهُ عَبْدَ اللَّهِ بن عمرو بن غَيْلانَ الثَّقَفِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَوَلاهَا زِيَادًا.

ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ وِلايَةِ زِيَادٍ الْبَصْرَةَ
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ زِيَادًا لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ ظَنَّ الْمُغِيرَةُ أَنَّهُ قَدِمَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَقَامَ زِيَادٌ فِي دَارِ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيَّ أَبَا هُنَيْدَةَ، وَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ لِي عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ يُرِيدُ الْمُغِيرَةَ، وَكَانَ زَاجِرًا، فَرَأَى غُرَابًا يَنْعِقُ، فَرَجَعَ إِلَى زِيَادٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُغِيرَةِ، هَذَا الْغُرَابُ يُرَحِّلُكَ عَنِ الْكُوفَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمُغِيرَةِ، وَقَدِمَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ عَلَى زِيَادٍ مِنْ يَوْمِهِ: أَنْ سِرْ إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ فَحَدَّثَنِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ:
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ- يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى-

(5/215)


عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ الْجَدَلِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا زِيَادٌ- الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ- مِنْ عِنْدِ مُعَاوِيَةَ، فَنَزَلَ دَارَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ يَنْتَظِرُ أَمْرَ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ: فَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ- وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْكُوفَةِ- أَنَّ زِيَادًا يَنْتَظِرُ أَنْ تَجِيءَ إِمَارَتُهُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَدَعَا قَطَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ فَقَالَ: هَلْ فِيكَ مِنْ خَيْرٍ؟
تَكْفِينِي الْكُوفَةَ حَتَّى آتِيكَ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَا، فَدَعَا عُتَيْبَةَ بْنَ النَّهَّاسِ الْعِجْلِيَّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ فَقَبِلَ، فَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ سَأَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ، وَأَنْ يَقْطَعَ لَهُ مَنَازِلَ بِقَرْقِيسِيَا بَيْنَ ظَهْرَيْ قَيْسٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ خَافَ بَائِقَتَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتَرْجِعَنَّ إِلَى عَمَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إِلا تُهْمَةً، فَرَدَّهُ إِلَى عَمَلِهِ، فَطَرَقْنَا لَيْلا، وَإِنِّي لَفَوْقَ الْقَصْرِ أَحْرُسُهُ، فَلَمَّا قَرَعَ الْبَابَ أَنْكَرْنَاهُ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ نُدْلِيَ عَلَيْهِ حَجَرًا تَسَمَّى لَنَا، فَنَزَلْتُ إِلَيْهِ فَرَحَّبْتُ لَهُ وَسَلَّمْتُ، فَتَمَثَّلَ:
بِمِثْلِي فَافْزَعِي يَا أُمَّ عَمْرٍو ... إِذَا مَا هَاجَنِي السَّفَرَ النُّعُورُ
اذْهَبْ إِلَى ابْنِ سُمَيَّةَ فَرَحِّلْهُ حَتَّى لا يُصْبِحَ إِلا مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ فَخَرَجْنَا فَأَتَيْنَا زِيَادًا، فاخرجناه حتى طرحناه من وَرَاءَ الْجِسْرِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ.
فَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ وَالْهُذَلِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَعْمَلَ زِيَادًا عَلَى الْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، ثُمَّ جَمَعَ لَهُ الْهِنْدَ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ- أَوْ غُرَّةِ جُمَادَى الأُولَى- سَنَةَ خَمْسٍ، وَالْفِسْقُ بِالْبَصْرَةِ ظَاهِرٌ، فَاشٍ، فَخَطَبَ خُطْبَةً بَتْرَاءَ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ فِيهَا، وَقِيلَ: بَلْ حَمِدَ الله فقال:

(5/217)


الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِفْضَالِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ نِعَمِهِ، اللَّهُمَّ كَمَا رَزَقْتَنَا نِعَمًا، فَأَلْهِمْنَا شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِكَ عَلَيْنَا.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ الْجَهْلاءَ، وَالضَّلالَةَ الْعَمْيَاءَ، وَالْفُجْرَ الْمُوقِدَ لآهِلِهِ النَّارَ، الْبَاقِي عَلَيْهِمْ سَعِيرَهَا، مَا يَأْتِي سُفَهَاؤُكُمْ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حُلَمَاؤُكُمْ، مِنَ الأُمُورِ الْعِظَامِ، يَنْبُتُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَلا يُتَحَاشَى مِنْهَا الْكَبِيرُ، كَأَنْ لَمْ تَسْمَعُوا بِآيِ اللَّهِ، وَلَمْ تَقْرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَمْ تَسْمَعُوا مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الْكَرِيمِ لأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَالْعَذَابِ الأَلِيمِ لأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، فِي الزَّمَنِ السَّرْمَدِ الَّذِي لا يَزُولُ أَتَكُونُونَ كَمَنْ طَرَفَتْ عَيْنَهُ الدُّنْيَا، وَسَدَّتْ مَسَامِعَهُ الشَّهْوَاتُ، وَاخْتَارَ الْفَانِيَةَ عَلَى الْبَاقِيَةِ، وَلا تَذْكُرُونَ أَنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ فِي الإِسْلامِ الْحَدَثَ الَّذِي لَمْ تُسْبَقُوا بِهِ، مِنْ تَرْكِكُمْ هَذِهِ الْمَوَاخِيرَ الْمَنْصُوبَةَ، وَالضَّعِيفَةَ الْمَسْلُوبَةَ، فِي النَّهَارِ الْمُبْصِرِ، وَالْعَدَدُ غَيْرُ قَلِيلٍ! أَلَمْ تَكُنْ مِنْكُمْ نُهَاةٌ تَمْنَعُ الْغُوَاةَ عَنْ دُلَجِ اللَّيْلِ وَغَارَةِ النَّهَارِ! قَرَّبْتُمُ الْقَرَابَةَ، وَبَاعَدْتُمُ الدِّينَ، تَعْتَذِرُونَ بِغَيْرِ الْعُذْرِ، وَتُغَطُّونَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ، كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ يَذُبُّ عَنْ سَفِيهِهِ، صَنِيعُ مَنْ لا يَخَافُ عِقَابًا،

(5/218)


وَلا يَرْجُو مَعَادًا مَا أَنْتُمْ بِالْحُلَمَاءِ، وَلَقَدِ اتَّبَعْتُمُ السُّفَهَاءَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ مَا تَرَوْنَ مِنْ قِيَامِكُمْ دُونَهُمْ، حَتَّى انْتَهَكُوا حُرُمَ الإِسْلامِ، ثُمَّ أَطْرَقُوا
وَرَاءَكُمْ كُنُوسًا فِي مَكَانِسِ الرَّيْبِ ... حَرُمَ عَلَيَّ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ
حَتَّى أُسَوِّيَهَا بِالأَرْضِ هَدْمًا وَإِحْرَاقًا ... إِنِّي رَأَيْتُ آخِرَ هَذَا الأَمْرِ لا يَصْلُحُ
إلا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهُ، لين في غير ضعف، وشدة في غير جَبْرِيَّةٍ وَعُنْفٍ وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ لآخُذَنَّ الْوَلِيَّ بِالْوَلِيِّ، وَالْمُقِيمَ بِالظَّاعِنِ، وَالْمُقْبِلَ بِالْمُدْبِرِ، وَالصَّحِيحَ مِنْكُمْ بِالسَّقِيمِ، حَتَّى يَلْقَى الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ فَيَقُولُ: انْجُ سَعْدٌ فَقَدْ هَلَكَ سَعِيدٌ، أَوْ تَسْتَقِيمَ لِي قَنَاتُكُمْ إِنَّ كِذْبَةَ الْمِنْبَرِ تَبْقَى مَشْهُورَةً، فَإِذَا تَعَلَّقْتُمْ عَلَيَّ بِكِذْبَةٍ فَقَدْ حَلَّتْ لَكُمْ معصيتي، وإذا سمعتموها منى فاغتمزوها في واعلموا ان عندي أمثالها مَنْ بَيَّتَ مِنْكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَهَبَ لَهُ إِيَّايَ وَدُلَجِ اللَّيْلِ، فَإِنِّي لا أُوتَى بِمُدْلِجٍ إِلا سَفَكْتُ دَمَهُ، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَأْتِي الْخَبَرُ الْكُوفَةِ وَيَرْجِعُ الى وإياي ودعوى

(5/219)


الجاهلية، فانى لا أجد أَحَدًا دَعَا بِهَا إِلا قَطَعْتُ لِسَانَهُ وَقَدْ أَحْدَثْتُمْ أَحْدَاثًا لَمْ تَكُنْ، وَقَدْ أَحْدَثْنَا لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقُوبَةً، فَمَنْ غَرَّقَ قَوْمًا غَرَّقْتُهُ، وَمَنْ حَرَّقَ عَلَى قَوْمٍ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَقَبَ بَيْتًا نَقَبْتُ عَنْ قَلْبِهِ، وَمَنْ نَبَشَ قَبْرًا دَفَنْتُهُ فِيهِ حَيًّا، فَكُفُّوا عَنِّي أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ أَكْفُفْ يَدِي وَأَذَايَ، لا يَظْهَرُ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ خِلافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّتُكُمْ إِلا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ.
وَقَدْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَقْوَامٍ إِحَنٌ، فَجَعَلْتُ ذَلِكَ دُبُرَ أُذُنِي وَتَحْتَ قَدَمِي، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُحْسِنًا فَلْيَزْدَدْ إِحْسَانًا، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا فَلْيَنْزَعْ عَنْ إِسَاءَتِهِ إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدَكُمْ قَدْ قَتَلَهُ السُّلُّ مِنْ بُغْضِي لَمْ أَكْشِفْ لَهُ قِنَاعًا، وَلَمْ أَهْتِكْ لَهُ سِتْرًا، حَتَّى يُبْدِيَ لِي صَفْحَتَهُ، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ أُنَاظِرْهُ، فَاسْتَأْنِفُوا أُمُورَكُمْ، وَأَعِينُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَرُبَّ مُبْتَئِسٍ بِقُدُومِنَا سَيُسَرُّ، وَمَسْرُورٍ بِقُدُومِنَا سَيُبْتَئَسُ.
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا أَصْبَحْنَا لَكُمْ سَاسَةً، وَعَنْكُمْ ذَادَةً، نَسُوسُكُمْ بِسُلْطَانِ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَانَا، وَنَذُودُ عَنْكُمْ بِفَيْءِ اللَّهِ الَّذِي خَوَّلَنَا، فَلَنَا عَلَيْكُمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِيمَا أَحْبَبْنَا، وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَدْلُ فِيمَا ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بِمُنَاصَحَتِكُمْ وَاعْلَمُوا أَنِّي مَهْمَا قَصَرْتُ عَنْهُ فَإِنِّي لا أُقَصِّرُ عَنْ ثَلاثٍ:
لَسْتُ مُحْتَجِبًا عَنْ طَالِبِ حَاجَةٍ مِنْكُمْ وَلَوْ أَتَانِي طَارِقًا بِلَيْلٍ، وَلا حَابِسًا رِزْقًا وَلا عَطَاءً عَنْ إِبَّانِهِ، وَلا مُجَمِّرًا لَكُمْ بَعَثًا فَادْعُوا اللَّهَ بِالصَّلاحِ لأَئِمَّتِكُمْ، فَإِنَّهُمْ سَاسَتُكُمُ الْمُؤَدِّبُونَ لَكُمْ، وَكَهْفُكُمُ الَّذِي إِلَيْهِ تَأْوُونَ، وَمَتَى تَصْلُحُوا يَصْلُحُوا وَلا تُشْرِبُوا قُلُوبَكُمْ بُغْضَهُمْ، فَيَشْتَدَّ لِذَلِكَ غَيْظُكُمْ، وَيَطُولَ

(5/220)


لَهُ حُزْنُكُمْ، وَلا تُدْرِكُوا حَاجَتَكُمْ، مَعَ أَنَّهُ لَوِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ كَانَ شَرًّا لَكُمْ.
أَسْأَلُ الله ان يعين كلا على كل، وإذا رَأَيْتُمُونِي أُنْفِذُ فِيكُمُ الأَمْرَ فَأَنْفِذُوهُ عَلَى إِذْلالِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ لِي فِيكُمْ لَصَرْعَى كَثِيرَةً، فَلْيَحْذَرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَرْعَايَ.
قَالَ: فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَهْتَمِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنَّكَ قَدْ أُوتِيتَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، ذَاكَ نَبِيُّ الله داود ع.
قَالَ الأَحْنَفُ: قَدْ قُلْتَ فَأَحْسَنْتَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، وَالثَّنَاءُ بَعْدَ الْبَلاءِ، وَالْحَمْدُ بَعْدَ الْعَطَاءِ، وَإِنَّا لَنْ نُثْنِيَ حَتَّى نُبْتَلَى، فَقَالَ زِيَادٌ: صَدَقْتَ.
فَقَامَ أَبُو بِلالٍ مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةَ يَهْمِسُ وَهُوَ يَقُولُ: أَنْبَأَ اللَّهُ بِغَيْرِ مَا قُلْتَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» ، فَأَوْعَدَنَا اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا وَاعَدْتَ يَا زِيَادُ، فَقَالَ زِيَادٌ: إِنَّا لا نَجِدُ إِلَى مَا تُرِيدُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ سَبِيلا حَتَّى نَخُوضَ إِلَيْهَا الدِّمَاءَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ مُتَكَلِّمًا قَطُّ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ إِلا أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْكُتَ خَوْفًا أَنْ يُسِيءَ إِلا زِيَادًا، فَإِنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَكْثَرَ كَانَ أَجْوَدَ كَلامًا.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ زِيَادٌ

(5/221)


عَلَى شُرْطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حِصْنٍ، فَأَمْهَلَ النَّاسَ حَتَّى بَلَغَ الْخَبَرُ الْكُوفَةَ، وَعَادَ إِلَيْهِ وُصُولُ الْخَبَرِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ حَتَّى يَكُونَ آخِرَ مَنْ يُصَلِّي ثُمَّ يُصَلِّي، يَأْمُرُ رَجُلا فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَمِثْلَهَا، يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ، فَإِذَا فَرَغَ أَمْهَلَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ إِنْسَانًا يَبْلُغُ الْخُرَيْبَةَ، ثُمَّ يَأْمُرُ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ بِالْخُرُوجِ، فَيَخْرُجُ وَلا يَرَى إِنْسَانًا إِلا قَتَلَهُ قَالَ: فَأَخَذَ لَيْلَةً أَعْرَابِيًّا، فَأَتَى بِهِ زِيَادًا فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ النِّدَاءَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَدِمْتُ بِحَلُوبَةٍ لِي، وَغَشِيَنِي اللَّيْلُ، فَاضْطَرَرْتُهَا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَقَمْتُ لأُصْبِحَ، وَلا عِلْمَ لِي بِمَا كَانَ مِنَ الأَمِيرِ قَالَ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا، وَلَكِنْ فِي قَتْلِكَ صَلاحُ هَذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَكَانَ زِيَادٌ أَوَّلَ مَنْ شَدَّ أَمْرَ السُّلْطَانِ، وَأَكَّدَ الْمُلْكَ لِمُعَاوِيَةَ، وَأَلْزَمَ النَّاسَ الطَّاعَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعُقُوبَةِ، وَجَرَّدَ السَّيْفَ، وَأَخَذَ بِالظِّنَّةِ، وَعَاقَبَ عَلَى الشُّبْهَةِ، وَخَافَهُ النَّاسُ فِي سُلْطَانِهِ خَوْفًا شَدِيدًا، حَتَّى أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى كَانَ الشَّيْءُ يَسْقُطُ مِنَ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ فَلا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَهُ، وَتَبِيتُ الْمَرْأَةُ فَلا تُغْلِقُ عَلَيْهَا بَابَهَا، وَسَاسَ النَّاسَ سِيَاسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَهَابَهُ النَّاسُ هَيْبَةً لَمْ يَهَابُوهَا أَحَدًا قَبْلَهُ، وَأَدَرَّ الْعَطَاءَ، وَبَنَى مَدِينَةَ الرِّزْقِ.
قَالَ: وَسَمِعَ زِيَادٌ جَرَسًا مِنْ دَارِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ:
مُحْتَرِسٌ قَالَ: فَلْيَكُفَّ عَنْ هَذَا، أَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَهَبَ لَهُ، مَا أَصَابَ مِنْ إِصْطَخَرَ.
قَالَ: وَجَعَلَ زِيَادٌ الشُّرَطَ أَرْبَعَةَ آلافٍ، عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِصْنٍ، أَحَدُ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ صَاحِبُ مَقْبُرَةِ ابْنِ حِصْنٍ، وَالْجَعْدُ بْنُ قيس النميرى

(5/222)


صَاحِبُ طَاقِ الْجَعْدِ، وَكَانَا جَمِيعًا عَلَى شُرَطِهِ، فَبَيْنَا زِيَادٌ يَوْمًا يَسِيرُ وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَسِيرَانِ بِحَرْبَتَيْنِ، تَنَازَعَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ زِيَادٌ: يَا جَعْدُ، أَلْقِ الْحَرْبَةَ، فَأَلْقَاهَا، وَثَبَتَ ابْنُ حِصْنٍ عَلَى شُرَطِهِ حَتَّى مَاتَ زِيَادٌ.
وَقِيلَ: انه ولى الجعد امر الفساق، وكان يتبعهم، وَقِيلَ لِزِيَادٍ: إِنَّ السُّبُلَ مَخُوفَةٌ، فَقَالَ: لا أُعَانِي شَيْئًا سِوَى الْمِصْرِ حَتَّى أَغْلِبَ عَلَى الْمِصْرِ وَأُصْلِحَهُ، فَإِنْ غَلَبَنِي الْمِصْرُ فَغَيْرُهُ أَشَدُّ غَلَبَةً، فَلَمَّا ضَبَطَ الْمِصْرَ تَكَلَّفَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَأَحْكَمَهُ وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ ضَاعَ حَبْلٌ بَيْنِي وَبَيْنَ خُرَاسَانَ عَلِمْتُ مَنْ أَخَذَهُ.
وَكَتَبَ خمسمائة مِنْ مَشْيَخَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي صَحَابَتِهِ، فَرَزَقَهُمْ ما بين الثلثمائه الى الخمسمائة، فَقَالَ فِيهِ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ:
أَلا مِنْ مُبْلِغٍ عَنِّي زِيَادًا ... فَنِعْمَ أَخُو الْخَلِيفَةِ وَالأَمِيرُ!
فَأَنْتَ إِمَامُ مَعْدَلَةٍ وَقَصْدٍ ... وَحَزْمٍ حِينَ تَحْضُرُكَ الأُمُورُ
أَخُوكَ خَلِيفَةُ اللَّهِ ابْنُ حَرْبٍ ... وَأَنْتَ وَزِيرُهُ، نِعْمَ الْوَزِيرُ!
تُصِيبُ عَلَى الْهَوَى مِنْهُ وَتَأْتِي ... مُحِبَّكَ مَا يَجُنُّ لَنَا الضَّمِيرُ
بِأَمْرِ اللَّهِ مَنْصُورٌ مُعَانٌ ... إِذَا جَارَ الرَّعِيَّةُ لا تَجُورُ
يُدِرُّ عَلَى يَدَيْكَ لِمَا أَرَادُوا ... مِنَ الدُّنْيَا لَهُمْ حَلَبٌ غَزِيرُ
وَتَقْسِمُ بِالسَّوَاءِ فَلا غَنِيٌّ ... لِضَيْمٍ يَشْتَكِيكَ وَلا فَقِيرُ
وَكُنْتَ حَيَا وَجِئْتَ عَلَى زَمَانٍ ... خَبِيثٍ، ظَاهِرٌ فِيهِ شُرُورُ
تَقَاسَمَتِ الرِّجَالُ بِهِ هَوَاهَا ... فَمَا تُخْفِي ضغائنها الصدور

(5/223)


وَخَافَ الْحَاضِرُونَ وَكُلُّ بَادٍ ... يُقِيمُ عَلَى الْمَخَافَةِ أَوْ يَسِيرُ
فَلَمَّا قَامَ سَيْفُ اللَّهِ فِيهِمْ ... زِيَادٌ قَامَ أَبْلَجُ مُسْتَنِيرُ
قَوِيٌّ لا مِنَ الْحَدَثَانِ غِرٌّ ... وَلا جَزَعٌ وَلا فَانٍ كَبِيرُ
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: اسْتَعَانَ زِيَادٌ بِعِدَّةٍ مِنْ اصحاب النبي ص، مِنْهُمْ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْخُزَاعِيُّ وَلاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ وَلاهُ خُرَاسَانَ، وسمره ابن جُنْدُبٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، فَاسْتَعْفَاهُ عِمْرَانُ فَأَعْفَاهُ وَاسْتَقْضَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ فَضَالَةَ اللَّيْثِيَّ، ثُمَّ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ فَضَالَةَ، ثُمَّ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى الْحَرَشِيَّ، وَكَانَتْ أُخْتُهُ لُبَابَةُ عِنْدَ زِيَادٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ زِيَادًا أَوَّلُ مَنْ سِيرَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحِرَابِ، وَمُشِيَ بين يديه بالعمد، واتخذ الحرس رابطه خمسمائة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ شَيْبَانَ صَاحِبَ مَقْبُرَةِ شَيْبَانَ، مِنْ بَنِي سَعْدٍ، فَكَانُوا لا يَبْرَحُونَ الْمَسْجِدِ حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: جَعَلَ زِيَادٌ خُرَاسَانَ أَرْبَاعًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَرْوَ أَمِيرَ بْنَ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيَّ، وَعَلَى أَبْرَشَهْرَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، وَعَلَى مَرْوَ الرَّوْذِ وَالْفَارِيَابِ وَالطَّالْقَانِ قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذ غيس وَقَادِسَ وَبُوشَنْجَ نَافِعَ بْنَ خَالِدٍ الطَّاحِيَّ.
حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا مسلمة بْنُ مُحَارِبٍ وَابْنُ أَبِي عَمْرٍو، شَيْخٌ مِنَ الأَزْدِ، أَنَّ زِيَادًا عَتَبَ عَلَى نَافِعِ بْنِ خَالِدٍ الطَّاحِيَّ، فَحَبَسَهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا بِمِائَةِ الف، وقال بعضهم: ثمانمائه أَلْفٍ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعَثَ بِخُوَانٍ بَازَهْر قَوَائِمُهُ مِنْهُ، فَأَخَذَ نَافِعٌ قَائِمَةً، وجعل مكانها قَائِمَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَبَعَثَ بِالْخُوَانِ إِلَى زِيَادٍ مَعَ غُلامٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ زَيْدٌ، كَانَ قَيِّمَهُ عَلَى أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَسَعَى زَيْدٌ بِنَافِعٍ، وقال لزياد:

(5/224)


إِنَّهُ قَدْ خَانَكَ، وَأَخَذَ قَائِمَةً مِنْ قَوَائِمِ الْخُوَانِ، وَجَعَلَ مَكَانَهَا قَائِمَةً مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ وُجُوهِ الأَزْدِ إِلَى زِيَادٍ، فِيهِمْ سَيْفُ بْنُ وَهْبٍ الْمَعْوَلِيُّ، وَكَانَ شَرِيفًا، وَلَهُ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
اعْمِدْ بِسَيْفٍ لِلسَّمَاحَةِ وَالنَّدَى ... وَاعْمِدْ بِصَبْرَةَ لِلْفِعَالِ الأَعْظَمِ
قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَى زِيَادٍ وَهُوَ يَسْتَاكُ، فَتَمَثَّلَ زِيَادٌ حِينَ رَآهُمْ:
اذْكُرْ بِنَا مَوْقِفَ أَفْرَاسِنَا ... بِالْحِنْوِ إِذْ أَنْتَ إِلَيْنَا فَقِيرْ
قَالَ: وَأَمَّا الأَزْدُ فَيَقُولُونَ: بَلْ تَمَثَّلَ سَيْفُ بْنُ وَهْبٍ أَبُو طَلْحَةَ الْمَعْوَلِيُّ بِهَذَا الْبَيْتِ حِينَ دَخَلَ عَلَى زِيَادٍ، فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَيَّامَ أَجَارَهُ صَبْرَةُ، فَدَعَا زِيَادٌ بِالْكِتَابِ فَمَحَاهُ بِسِوَاكِهِ وَأَخْرَجَ نَافِعًا.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي، عن مسلمة، أن زيادا عزل نافع بن خَالِد الطاحي وخليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي وأمير بن أحمر اليشكري، فاستعمل الحكم بن عَمْرو بن مجدع بن حذيم بن الْحَارِث بن نعيلة بن مليك- ونعيلة أخو غفار بن مليك- ولكنهم قليل، فصاروا إِلَى غفار.
قَالَ مسلمة: أمر زياد حاجبه فَقَالَ: ادع لي الحكم- وهو يريد الحكم ابن أبي العاص الثقفي- فخرج الحاجب فرأى الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ فأدخله، فَقَالَ: زياد: رجل لَهُ شرف وله صحبة مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، فعقد لَهُ عَلَى خُرَاسَان، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا أردتك، ولكن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أرادك.
حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الثقفي ومُحَمَّد بن الفضل، عَنْ أَبِيهِ، أن زيادا لما ولي العراق استعمل الحكم بن

(5/225)


عَمْرو الْغِفَارِيّ عَلَى خُرَاسَان، وجعل مَعَهُ رجالا عَلَى كور، وأمرهم بطاعته، فكانوا عَلَى جباية الخراج، وهم أسلم بن زرعة، وخليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، ونافع بن خَالِد الطاحي، وربيعة بن عسل اليربوعي، وأمير بن أحمر اليشكري، وحاتم بن النُّعْمَانِ الباهلي، فمات الحكم بن عَمْرو، وَكَانَ قَدْ غزا طخارستان، فغنم غنائم كثيرة، واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم، وَكَانَ كتب إِلَى زياد: أني قَدْ رضيته لِلَّهِ وللمسلمين ولك، فَقَالَ زياد: اللَّهُمَّ إني لا أرضاه لدينك وَلا لِلْمُسْلِمِينَ وَلا لي وكتب زياد إِلَى خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي بولاية خُرَاسَان، ثُمَّ بعث الربيع بن زياد الحارثي إِلَى خُرَاسَان فِي خمسين ألفا، مِنَ الْبَصْرَةِ خمسة وعشرين ألفا، ومن الْكُوفَة خمسة وعشرين ألفا، عَلَى أهل الْبَصْرَة الربيع، وعلى أهل الْكُوفَة عَبْد اللَّهِ ابن أبي عقيل، وعلى الجماعة الربيع بن زياد.
وقيل: حج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَة، وكانت الولاة والعمال عَلَى الأمصار فِي هَذِهِ السنة من تقدم ذكره قبل، المغيره ابن شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَة، وشريح عَلَى القضاء بِهَا، وزياد عَلَى الْبَصْرَة، والعمال من قَدْ سميت قبل.
وفي هَذِهِ السنة كَانَ مشتى عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد بأرض الروم

(5/226)


ثُمَّ دخلت

سنة ست وأربعين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذلك مشتى مالك بن عبد اللَّهِ بأرض الروم، وقيل:
بل كَانَ ذَلِكَ عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد، وقيل بل كان مالك بن هبيرة السكوني.

خبر انصراف عبد الرحمن بن خالد الى حمص وهلاكه
وفيها انصرف عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد من بلاد الروم إِلَى حمص، فدس ابن أثال النصراني إِلَيْهِ شربة مسمومة- فِيمَا قيل- فشربها فقتلته.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه:
وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثنى على، عن مسلمه ابن محارب، أن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد كَانَ قَدْ عظم شأنه بِالشَّامِ، ومال إِلَيْهِ أهلها، لما كَانَ عندهم من آثار أَبِيهِ خَالِد بن الْوَلِيد، ولغنائه عن الْمُسْلِمِينَ فِي أرض الروم وبأسه، حَتَّى خافه مُعَاوِيَة، وخشي عَلَى نفسه مِنْهُ، لميل الناس إِلَيْهِ، فأمر ابن أثال أن يحتال فِي قتله، وضمن لَهُ إن هُوَ فعل ذَلِكَ أن يضع عنه خراجه مَا عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرَّحْمَن بن خَالِد حمص منصرفا من بلاد الروم دس إِلَيْهِ ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها فمات بحمص، فوفى لَهُ مُعَاوِيَة بِمَا ضمن لَهُ، وولاه خراج حمص، ووضع عنه خراجه.
قَالَ: وقدم خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِد بن الْوَلِيد الْمَدِينَة، فجلس يَوْمًا إِلَى عروة بن الزُّبَيْرِ، فسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عروة: من أنت؟ قَالَ:
انا خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِد بن الْوَلِيد، فَقَالَ لَهُ عروة: مَا فعل ابن أثال؟ فقام خَالِد من عنده، وشخص متوجها إِلَى حمص، ثُمَّ رصد بِهَا

(5/227)


ابن أثال، فرآه يَوْمًا راكبا، فاعترض لَهُ خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فضربه بالسيف، فقتله، فرفع إِلَى مُعَاوِيَةَ، فحبسه أياما، وأغرمه ديته، ولم يقده مِنْهُ ورجع خَالِد إِلَى الْمَدِينَة، فلما رجع إِلَيْهَا أتى عروة فسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عروة: مَا فعل ابن أثال؟ فَقَالَ: قَدْ كفيتك ابن أثال، ولكن مَا فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة وَقَالَ خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ حين ضرب ابن أثال:
أنا ابن سيف اللَّه فاعرفوني ... لم يبق الا حسبي وديني
وصارم صل به يميني
. ذكر خروج سهم والخطيم
وفيها خرج الخطيم وسهم بن غالب الهجيمي، فحكما، وَكَانَ من أمرهما مَا حَدَّثَنِي بِهِ عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: لما ولي زياد خافه سهم ابن غالب الهجيمي والخطيم- وَهُوَ يَزِيد بن مالك الباهلي- فأما سهم فخرج إِلَى الأهواز فأحدث وحكم، ثُمَّ رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد، وطلبه حَتَّى أخذه وقتله وصلبه عَلَى بابه وأما الخطيم فإن زيادا سيره إِلَى البحرين، ثُمَّ أذن لَهُ فقدم، فَقَالَ له: الزم مصرك، وقال لمسلم ابن عَمْرو: اضمنه، فأبى وَقَالَ: إن بات عن بيته أعلمتك ثُمَّ أتاه مسلم فَقَالَ: لم يبت الخطيم الليلة فِي بيته، فأمر بِهِ فقتل، وألقي فِي باهلة.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ العمال والولاة فِيهَا العمال والولاة فِي السنة التي قبلها

(5/228)


ثُمَّ دخلت

سنة سبع وأربعين
(ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) ففيها كَانَ مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم، ومشتى أبي عبد الرحمن القينى بأنطاكية.

ذكر عزل عبد الله بن عمرو عن مصر وولايه ابن حديج
وفيها عزل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ مصر، ووليها معاويه ابن حديج، وسار- فِيمَا ذكر الْوَاقِدِيّ- فِي المغرب، وَكَانَ عثمانيا.
قَالَ: ومر بِهِ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَقَدْ جَاءَ من الإسكندرية، فَقَالَ لَهُ:
يَا مُعَاوِيَة، قَدْ لعمري أخذت من مُعَاوِيَة جزاءك، قتلت مُحَمَّد بن أبي بكر لأن تلي مصر، فقد وليتها قَالَ: مَا قتلت مُحَمَّد بن أبي بكر إلا بِمَا صنع بعثمان، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فلو كنت إنما تطلب بدم عُثْمَان لم تشرك مُعَاوِيَة فِيمَا صنع حَيْثُ صنع عَمْرو بن الْعَاصِ بالأشعري مَا صنع، فوثبت أول الناس فبايعته
. ذكر غزو الغور
وَقَالَ بعض أهل السير: وفي هَذِهِ السنة وجه زياد الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ إِلَى خُرَاسَان أميرا، فغزا جبال الغور وفراونده، فقهرهم بالسيف عنوة ففتحها، وأصاب فِيهَا مغانم كثيرة وسبايا، وسأذكر من خالف هَذَا القول بعد إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
وذكر قائل هَذَا القول أن الحكم بن عَمْرو قفل من غزوته هذه،

(5/229)


فمات بمرو.
واختلفوا فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أقام الحج فِي هَذِهِ السنة عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ غيره: بل الَّذِي حج فِي هَذِهِ السنة عنبسة بن أَبِي سُفْيَانَ.
وكانت الولاة والعمال عَلَى الأمصار الَّذِينَ ذكرت أَنَّهُمْ كَانُوا العمال والولاة فِي السنة الَّتِي قبلها

(5/230)


ثُمَّ دخلت

سنة ثمان وأربعين
(ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) وَكَانَ فِيهَا مشتى أبي عبد الرَّحْمَن القيني أنطاكية، وصائفة عَبْد اللَّهِ ابن قيس الفزاري وغزوة مالك بن هبيرة السكوني البحر، وغزوة عقبة بن عَامِر الجهني بأهل مصر البحر، وبأهل الْمَدِينَة، وعلى أهل الْمَدِينَة المنذر بن الزهير، وعلى جميعهم خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِد بن الْوَلِيد.
وَقَالَ بعضهم: فِيهَا وجه زياد غالب بن فضالة الليثى عَلَى خُرَاسَان، وكانت لَهُ صحبة مِنْ رَسُولِ الله ص.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم فِي قول عامة أهل السير، وَهُوَ يتوقع العزل لموجدة كَانَتْ من مُعَاوِيَة عَلَيْهِ، وارتجاعه مِنْهُ فدك، وَقَدْ كَانَ وهبها لَهُ.
وكانت ولاة الأمصار وعمالها فِي هَذِهِ السنة الَّذِينَ كَانُوا فِي السنة الَّتِي قبلها

(5/231)


ثُمَّ دخلت

سنة تسع وأربعين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فكان فِيهَا مشتى مالك بن هبيرة السكوني بأرض الروم.
وفيها كَانَتْ غزوة فضالة بن عبيد جربة، وشتا بجربة، وفتحت عَلَى يديه، وأصاب فِيهَا سبيا كثيرا.
وفيها كَانَتْ صائفة عَبْد اللَّهِ بن كرز البجلي.
وفيها كَانَتْ غزوة يَزِيد بن شجرة الرهاوي فِي البحر، فشتا بأهل الشام.
وفيها كَانَتْ غزوة عقبة بن نافع البحر، فشتا بأهل مصر.
وفيها كَانَتْ غزوة يَزِيد بن مُعَاوِيَة الروم حَتَّى بلغ قسطنطينية، وَمَعَهُ ابن عَبَّاس وابن عمر وابن الزُّبَيْر وأبو أيوب الأَنْصَارِيّ.
وفيها عزل مُعَاوِيَة مَرْوَان بن الحكم عن الْمَدِينَة فِي شهر ربيع الأول.
وأمر فِيهَا سَعِيد بن الْعَاصِ عَلَى الْمَدِينَة فِي شهر ربيع الآخر، وقيل فِي شهر ربيع الأول.
وكانت ولاية مَرْوَان كلها بِالْمَدِينَةِ لمعاوية ثمان سنين وشهرين.
وَكَانَ عَلَى قضاء الْمَدِينَة لمروان- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- حين عزل عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، فلما ولي سَعِيد بن الْعَاصِ عزله عن القضاء، واستقضى أبا سلمة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف.
وقيل: فِي هَذِهِ السنة وقع الطاعون بالكوفة، فهرب الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ من الطاعون، فلما ارتفع الطاعون قيل لَهُ: لو رجعت إِلَى الْكُوفَةِ! فقدمها فطعن فمات، وَقَدْ قيل: مات الْمُغِيرَة سنة خمسين، وضم مُعَاوِيَة الْكُوفَة إِلَى زياد، فكان أول من جمع لَهُ الكوفه والبصره

(5/232)


وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن الْعَاصِ وكانت الولاة والعمال فِي هَذِهِ السنة الَّذِينَ كَانُوا فِي السنة الَّتِي قبلها، إلا عامل الْكُوفَة فإن فِي تاريخ هلاك الْمُغِيرَة اختلافا، فَقَالَ: بعض أهل السير: كَانَ هلاكه فِي سنة تسع وأربعين، وَقَالَ بعضهم: فِي سنه خمسين

(5/233)


ثُمَّ دخلت

سنة خمسين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَتْ غزوة بسر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف الأَزْدِيّ أرض الروم.
وقيل: كَانَتْ فِيهَا غزوة فضالة بن عبيد الأنصاري البحر.

ذكر وفاه المغيره بن شعبه وولايه زياد الكوفه
وفيها- فِي قول الْوَاقِدِيّ والمدائني- كَانَتْ وفاة الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبي مُوسَى الثقفي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ رجلا طوالا، مصاب العين، أصيب باليرموك، توفي فِي شعبان سنة خمسين وَهُوَ ابن سبعين سنة.
وأما عوانة فإنه قَالَ- فِيمَا حدثت عن هشام بن محمد، عنه:
هلك الْمُغِيرَة سنة إحدى وخمسين.
وَقَالَ بعضهم: بل هلك سنة تسع وأربعين.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ زياد عَلَى الْبَصْرَة وأعمالها إِلَى سنة خمسين، فمات الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ بالكوفة وَهُوَ أميرها، فكتب مُعَاوِيَة إِلَى زياد بعهده عَلَى الْكُوفَة والبصرة، فكان أول من جمع لَهُ الْكُوفَة والبصرة، فاستخلف عَلَى الْبَصْرَة سمرة بن جندب، وشخص إِلَى الْكُوفَةِ، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بِالْبَصْرَةِ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عن مسلمة بن محارب، قَالَ: لما مات الْمُغِيرَة جمعت العراق لزياد، فأتى الْكُوفَة فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن هَذَا الأمر أتاني وأنا بِالْبَصْرَةِ، فأردت أن أشخص

(5/234)


إليكم فِي ألفين من شرطة الْبَصْرَة، ثُمَّ ذكرت أنكم أهل حق، وأن حقكم طالما دفع الباطل، فأتيتكم فِي أهل بيتي، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي رفع مني مَا وضع الناس، وحفظ مني مَا ضيعوا حَتَّى فرغ من الخطبة، فحُصِبَ عَلَى الْمِنْبَر، فجلس حَتَّى أمسكوا، ثُمَّ دعا قوما من خاصته، وأمرهم، فأخذوا أبواب المسجد، ثُمَّ قَالَ: ليأخذ كل رجل مِنْكُمْ جليسه، وَلا يقولن:
لا أدري من جليسي؟ ثُمَّ أمر بكرسي فوضع لَهُ عَلَى باب المسجد، فدعاهم أربعة أربعة يحلفون بِاللَّهِ مَا منا من حصبك، فمن حلف خلاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حَتَّى صار إِلَى ثَلاثِينَ، ويقال: بل كَانُوا ثمانين، فقطع ايديهم على المكان.
قال الشعبى: فو الله مَا تعلقنا عَلَيْهِ بكذبة، وما وعدنا خيرا وَلا شرا إلا أنفذه.
حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ رَجُلٍ قَتَلَهُ زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ أَوْفَى بْنُ حِصْنٍ، بَلَغَهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَطَلَبَهُ فَهَرَبَ، فَعَرَضَ النَّاسَ زِيَادٌ، فَمَرَّ بِهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا:
أَوْفَى بْنُ حِصْنٍ الطَّائِيُّ، فَقَالَ زِيَادٌ: أَتَتْكَ بِحَائِنٍ رِجْلاهُ، فَقَالَ أَوْفَى:
إِنَّ زِيَادًا أَبَا الْمُغِيرَةِ لا ... يعجل وَالنَّاسُ فِيهِمُ عَجَلَهْ
خِفْتُكَ وَاللَّهِ فَاعْلَمَنْ حَلَفِي ... خَوْفَ الْحَفَافِيثِ صَوْلَةَ الأَصَلَهْ
فَجِئْتُ إِذْ ضَاقَتِ الْبِلادُ فَلَمْ ... يَكُنْ عَلَيْهَا لِخَائِفٍ وَأَلَهْ
قَالَ: مَا رَأْيُكَ فِي عُثْمَانَ؟ قَالَ خَتَنُ رَسُولِ الله ص عَلَى ابْنَتَيْهِ، وَلَمْ أُنْكِرْهُ، وَلِي مَحْصُولُ رَأْيٍ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي مُعَاوِيَةَ؟ قَالَ:

(5/235)


جَوَادٌ حَلِيمٌ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ بِالْبَصْرَةِ: وَاللَّهِ لآخُذَنَّ الْبَرِيءَ بِالسَّقِيمِ، وَالْمُقْبِلَ بِالْمُدْبِرِ، قَالَ: قَدْ قُلْتُ ذَاكَ، قال:
خبطتها عَشْوَاءُ، قَالَ زِيَادٌ: لَيْسَ النَّفَّاخُ بِشَرِّ الزُّمْرَةِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ:
خَيَّبَ اللَّهُ سَعْيَ أَوْفَى بْنِ حِصْنٍ ... حِينَ أَضْحَى فَرُّوجَةَ الرَّقَّاءِ
قَادَهُ الْحَيْنُ وَالشَّقَاءُ إِلَى لَيْثِ ... عَرِينٍ وَحَيَّةٍ صَمَّاءِ
قَالَ: وَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ أَتَاهُ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَالَ:
إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ شِيعَةِ أَبِي تُرَابٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ: مَا يَدْعُوكَ إِلَى رَفْعِ مَا لا تَيَقَّنُهُ وَلا تَدْرِي مَا عاقبته! فقال زياد:
كلا كما لَمْ يُصِبْ، أَنْتَ حَيْثُ تُكَلِّمُنِي فِي هَذَا عَلانِيَةً وَعَمْرٌو حِينَ يَرُدُّكَ عَنْ كَلامِكَ، قُومَا إِلَى عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ فَقُولا لَهُ: مَا هَذِهِ الزَّرَافَاتُ الَّتِي تَجْتَمِعُ عِنْدَكَ! مَنْ أَرَادَكَ أَوْ أَرَدْتَ كَلامَهُ فَفِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي رَفَعَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنْغَلُ الْمِصْرَيْنِ، يَزِيدُ بْنُ رُوَيْمٍ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحُرَيْثِ: مَا كَانَ قَطُّ أَقْبَلَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، فَقَالَ زِيَادٌ لِيَزِيدَ بْنِ رُوَيْمٍ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَشَطْتَ بِدَمِهِ، وَأَمَّا عَمْرٌو فَقَدْ حَقَنَ دَمَهُ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ مُخَّ سَاقِهِ قَدْ سَالَ مِنْ بُغْضِي مَا هِجْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ عَلَيَّ.
وَاتَّخَذَ زِيَادٌ الْمَقْصُورَةَ حِينَ حَصَبَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ.
وَوَلَّى زِيَادٌ حِينَ شَخَصَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ فَحَدَّثَنِي عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن إدريس، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد ابن سليم قَالَ: سألت أنس بن سيرين: هل كَانَ سمرة قتل أحدا؟ قَالَ:

(5/236)


وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب! استخلفه زياد عَلَى الْبَصْرَة، وأتى الْكُوفَة، فَجَاءَ وَقَدْ قتل ثمانية آلاف مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ: هل تخاف أن تكون قَدْ قتلت أحدا بريئا؟ قَالَ: لو قتلت إِلَيْهِم مثلهم مَا خشيت- أو كما قَالَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ أَشْعَثَ الْحَدَّانِيِّ، عَنْ أَبِي سَوَّارٍ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: قَتَلَ سَمُرَةُ مِنْ قَوْمِي فِي غَدَاةٍ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلا قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَوْفٍ، قَالَ: أَقْبَلَ سَمُرَةُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ دُورِ بَنِي أَسَدٍ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ أَزِقَّتِهِمْ، فَفَجَأَ أَوَائِلَ الْخَيْلِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَأَوْجَرَهُ الْحَرْبَةَ قَالَ: ثُمَّ مَضَتِ الْخَيْلُ، فَأَتَى عَلَيْهِ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَهُوَ مُتَشَحِّطٌ فِي دَمِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: أَصَابَتْهُ أَوَائِلُ خَيْلِ الأَمِيرِ، قَالَ: إِذَا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا

خروج قريب وزحاف
حدثني عمر قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: خَرَجَ قَرِيبٌ وَزحاف، وَزِيَادٌ بِالْكُوفَةِ، وَسَمُرَةُ بالبصرة، فخرجا ليلا، فنزلا بَنِي يَشْكُرَ، وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَأَتَوْا بَنِي ضُبَيْعَةَ وَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، فَمَرُّوا بِشَيْخٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ حكاك، فَقَالَ حِينَ رَآهُمْ: مَرْحَبًا بِأَبِي الشَّعْثَاءِ! فَرَآهُ ابْنُ حُصَيْنٍ فَقَتَلُوهُ، وَتَفَرَّقُوا فِي مَسَاجِدِ الأَزْدِ، وَأَتَتْ فرقه

(5/237)


مِنْهُمْ رَحْبَةَ بَنِي عَلِيٍّ، وَفِرْقَةُ مَسْجِدَ المعادل، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ سَيْفُ بْنُ وَهْبٍ فِي أَصْحَابٍ لَهُ، فَقَتَلَ مَنْ أَتَاهُ، وَخَرَجَ عَلَى قَرِيبٍ وَزِحَافٍ شَبَابٌ مِنْ بَنِي عَلِيٍّ وَشَبَابٌ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ قَالَ قَرِيبٌ:
هَلْ فِي الْقَوْمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَوْسٍ الطَّاحِيُّ؟ وَكَانَ يُنَاضِلُهُ، قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ:
فَهَلُمَّ إِلَى الْبَرَّازِ، فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَ بِرَأْسِهِ، وَأَقْبَلَ زِيَادٌ مِنَ الْكُوفَةِ فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ طَاحِيَةَ، لَوْلا أَنَّكُمْ أَصَبْتُمْ فِي الْقَوْمِ لَنَفَيْتُكُمْ إِلَى السِّجْنِ قَالَ: وَكَانَ قَرِيبٌ مِنْ إِيَادٍ، وَزحاف مِنْ طَيِّئٍ، وَكَانَا ابْنَيْ خَالَةٍ، وَكَانَا أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ أَهْلِ النَّهْرِ.
قَالَ غَسَّانُ: سَمِعْتُ سَعِيدًا يَقُولُ: إِنَّ أَبَا بِلالٍ قَالَ: قَرِيبٌ لا قَرَّبَهُ اللَّهُ، وَايْمُ اللَّهِ لأَنْ أَقَعُ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ- يَعْنِي الاسْتِعْرَاضَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير، قَالَ: حدثنى وهب، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي أن زيادا اشتد فِي أمر الحرورية بعد قريب وزحاف، فقتلهم وأمر سمرة بِذَلِكَ، وَكَانَ يستخلفه عَلَى الْبَصْرَة إذا خرج إِلَى الْكُوفَةِ، فقتل سمرة مِنْهُمْ بشرا كثيرا.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عبيدة، قَالَ: قَالَ زياد يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمِنْبَر:
يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لتكفني هَؤُلاءِ أو لأبدأن بكم، وَاللَّهِ لَئِنْ أفلت مِنْهُمْ رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهما، قَالَ: فثار الناس بهم فقتلوهم
. ذكر اراده معاويه نقل المنبر من المدينة
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وفي هَذِهِ السنة امر معاويه بمنبر رسول الله ص، أن يحمل إِلَى الشام، فحرك، فكسفت الشمس حَتَّى رئيت النجوم بادية يَوْمَئِذٍ، فأعظم الناس ذَلِكَ، فَقَالَ: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قَدْ أرض، فنظرت إِلَيْهِ ثُمَّ كساه يومئذ

(5/238)


وذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ، أنه حدثه بِذَلِكَ خَالِد بن الْقَاسِم، عن شعيب بن عَمْرو الأموي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال:
قَالَ مُعَاوِيَة: إني رأيت أن منبر رَسُول الله ص وعصاه لا يتركان بِالْمَدِينَةِ، وهم قتلة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصا وَهِيَ عِنْدَ سعد القرظ، فجاءه أَبُو هُرَيْرَةَ وجابر بن عَبْدِ اللَّهِ، فقالا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نذكرك اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن تفعل هَذَا، فإن هَذَا لا يصلح، تخرج منبر رسول الله ص من موضع وضعه، وتخرج عصاه إِلَى الشام، فانقل المسجد، فأقصر وزاد فِيهِ ست درجات، فهو اليوم ثماني درجات، واعتذر إِلَى النَّاسِ مما صنع.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ:
كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ هَمَّ بِالْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا، وَأَنْ تُحَوِّلَهُ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ حَرَّكَهُ فَكَسَفَتِ الشمس، [وقال رسول الله ص: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ،] فَتَخَرَّجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُقَطِّعُ الْحُقُوقِ بَيْنَهُمْ بِالْمَدِينَةِ! فَأَقْصَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ ذَلِكَ، وَكَفَّ عَنْ أَنْ يَذْكُرَهُ فَلَمَّا كَانَ الْوَلِيدُ وَحَجَّ هَمَّ بِذَلِكَ وَقَالَ: خَبِّرَانِي عَنْهُ، وَمَا أَرَانِي إِلا سَأَفْعَلُ: فَأَرْسَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ إِلَى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: كَلِّمْ صَاحِبَكَ يَتَّقِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلا يَتَعَرَّضْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِسَخَطِهِ، فَكَلَّمَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَقْصَرَ وَكَفَّ عَنْ ذِكْرِهِ، فَلَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخْبَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا كَانَ الْوَلِيدُ هَمَّ بِهِ وَإِرْسَالِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إِلَيْهِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلا عَنِ الْوَلِيدِ، هَذَا مُكَابَرَةٌ، وَمَا لَنَا وَلِهَذَا! أَخَذْنَا الدُّنْيَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا، وَنُرِيدُ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى عَلَمٍ مِنْ أَعْلامِ الإِسْلامِ يُوفَدُ

(5/239)


إِلَيْهِ، فَنَحْمِلُهُ إِلَى مَا قَبِلْنَا! هَذَا مَا لا يَصْلُحُ.
وَفِيهَا عُزِلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَنْ مِصْرَ وَوُلِّيَ مَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ مِصْرَ وَأَفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ بَعَثَ قَبْلَ أَنْ يُوَلَّى مَسْلَمَةُ مِصْرَ وَأَفْرِيقِيَّةَ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ الْفِهْرِيَّ إِلَى أَفْرِيقِيَّةِ، فَافْتَتَحَهَا، وَاخْتَطَّ قَيْرَوَانَهَا، وَكَانَ مَوْضِعَهُ غَيْضَةٌ- فِيمَا زَعَمَ محمد بن عمر- لا ترام مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَابِّ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلا خَرَجَ هَارِبًا، حَتَّى أَنَّ السِّبَاعَ كَانَتْ تَحْمِلُ أَوْلادَهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، قال: نادى عقبه بن نافع:
انا نازلونا فاظعنوا عزينا.
فخرجن من جحرتهن هَوَارِبَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي المفضل بن فضالة، عن زَيْد بن أَبِي حَبِيبٍ، عن رجل من جند مصر، قَالَ: قدمنا مع عقبة بن نافع، وَهُوَ أول الناس اختطها وأقطعها لِلنَّاسِ مساكن ودورا، وبنى مسجدها فأقمنا مَعَهُ حَتَّى عزل، وَهُوَ خير وال وخير أَمِير.
ثُمَّ عزل مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة- أعني سنة خمسين- مُعَاوِيَة بن حديج عن مصر، وعقبة بن نافع عن أفريقية، وولى مسلمة بن مخلد ومصر والمغرب كله، فهو أول من جمع لَهُ المغرب كله ومصر وبرقة وأفريقية وطرابلس، فولى مسلمة بن مخلد مولى لَهُ يقال لَهُ: ابو المهاجر إفريقية، وعزل عقبه ابن نافع، وكشفه عن أشياء، فلم يزل واليا عَلَى مصر والمغرب، وأبو المهاجر عَلَى أفريقية من قبله حَتَّى هلك مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ.
وفي هَذِهِ السنة مات أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيّ، وَقَدْ قيل: كَانَتْ وفاة أبي مُوسَى سنة اثنتين وخمسين.
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ بعضهم: حج بهم مُعَاوِيَة، وَقَالَ بعضهم: بل حج بهم ابنه يَزِيد، وَكَانَ الوالي فِي هَذِهِ السنة

(5/240)


عَلَى الْمَدِينَة سَعِيد بن الْعَاصِ، وعلى الْبَصْرَة والكوفه والمشرق سجستان وفارس والسند والهند زياد
. ذكر هرب الفرزدق من زياد
وفي هَذِهِ السنة طلب زياد الفرزدق، واستعدت عَلَيْهِ بنو نهشل وفقيم، فهرب مِنْهُ إِلَى سَعِيد بن الْعَاصِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ والي الْمَدِينَة من قبل مُعَاوِيَة- مستجيرا بِهِ، فأجاره.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عبيدة وأبو الْحَسَن المدائني وغيرهما، أن الفرزدق لما هجا بني نهشل وبني فقيم لم يزد أَبُو زَيْد فِي إسناد خبره عَلَى مَا ذكرت، وأما مُحَمَّد بن علي فإنه حَدَّثَنِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سعد، عن أبي عبيدة، قَالَ: حَدَّثَنِي أعين بن لبطة بن الفرزدق، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما هاجيت الأشهب بن رميلة والبعيث فسقطا، استعدت علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أَبِي سُفْيَانَ وزعم غيره أن يَزِيد بن مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل استعدى أَيْضًا عَلَيْهِ فَقَالَ أعين: فلم يعرفه زياد حَتَّى قيل لَهُ: الغلام الأعرابي الَّذِي أنهب ورقه وألقى ثيابه، فعرفه.
قَالَ أَبُو عبيدة: أَخْبَرَنِي أعين بن لبطة، قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بعثني أبي غالب فِي عير لَهُ وجلب ابيعه وامتار له واشترى لأهله كسا، فقدمت البصره، فبعث الجلب، فأخذت ثمنه فجعلته فِي ثوبي أزاوله، إذ عرض لي رجل أراه كأنه شيطان، فَقَالَ: لشد مَا تستوثق منها! فقلت: وما يمنعني! قَالَ: أما لو كَانَ مكانك رجل أعرفه مَا صبر عَلَيْهَا، فقلت: ومن هُوَ؟ قَالَ: غالب بن صعصعة، قَالَ: فدعوت أهل المربد

(5/241)


فقلت: دونكموها- ونثرتها عَلَيْهِم- فَقَالَ لي قائل: الق رداءك يا بن غالب، فألقيته وَقَالَ آخر: ألق قميصك، فألقيته، وقال آخر: الق عمامتك فألقيتها حَتَّى بقيت فِي إزار، فَقَالُوا: ألق إزارك، فقلت: لن ألقيه وأمشي مجردا، إني لست بمجنون فبلغ الخبر زيادا، فأرسل خيلا إِلَى المربد ليأتوه بي، فَجَاءَ رجل من بني الهجيم عَلَى فرس، قَالَ: أتيت فالنجاء! وأردفني خلفه، وركض حَتَّى تغيب، وجاءت الخيل وَقَدْ سبقت، فأخذ زياد عمين لي: ذهيلا والزحاف ابني صعصعة- وكانا فِي الديوان عَلَى ألفين ألفين، وكانا مَعَهُ- فحبسهما فأرسلت إليهما: إن شئتما أتيتكما، فبعثا إلي: لا تقربنا، إنه زياد! وما عسى أن يصنع بنا، ولم نذنب ذنبا! فمكثا أياما ثُمَّ كلم زياد فيهما، فَقَالُوا: شيخان سامعان مطيعان، ليس لهما ذنب مما صنع غلام أعرابي من أهل البادية، فخلي عنهما، فقالا لي: أَخْبَرَنَا بجميع مَا أمرك أبوك من ميرة أو كسوة، فخبرتهما بِهِ أجمع، فاشترياه وانطلقت حَتَّى لحقت بغالب، وحملت ذَلِكَ معي أجمع، فأتيته وَقَدْ بلغه خبري، فسألني: كيف صنعت؟ فأخبرته بِمَا كَانَ، قَالَ: وإنك لتحسن مثل هَذَا! ومسح رأسي ولم يكن يَوْمَئِذٍ يقول الشعر، وإنما قَالَ الشعر بعد ذَلِكَ، فكانت فِي نفس زياد عَلَيْهِ.
ثُمَّ وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة، من بني رَبِيعَة بن كعب ابن سَعْد والجون بن قَتَادَة العبشمي والحتات بن يَزِيدَ أَبُو منازل، أحد بني حوي بن سُفْيَان بن مجاشع إِلَى مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ، فأعطى كل رجل مِنْهُمْ مائة ألف، وأعطى الحتات سبعين ألفا، فلما كَانُوا فِي الطريق سأل بعضهم بعضا، فأخبروه بجوائزهم، فكان الحتات أخذ سبعين ألفا، فرجع إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: مَا ردك يَا أَبَا منازل؟ قَالَ: فضحتني فِي بني تميم،

(5/242)


أما حسبي بصحيح! أوَلست ذا سن! أوَلست مطاعا فِي عشيرتي! فَقَالَ مُعَاوِيَة: بلى، قَالَ: فما بالك خسست بي دون القوم! فَقَالَ: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إِلَى دينك ورأيك فِي عُثْمَان بن عَفَّانَ- وَكَانَ عثمانيا- فَقَالَ: وأنا فاشتر مني ديني، فأمر لَهُ بتمام جائزة القوم.
وطعن فِي جائزته، فحبسها مُعَاوِيَة، فَقَالَ الفرزدق فِي ذَلِكَ:
أبوك وعمي يَا معاوي أورثا ... تراثا فيحتاز التراث أقاربه
فما بال ميراث الحتات أخذته ... وميراث حرب جامد لك ذائبه!
فلو كَانَ هَذَا الأمر فِي جاهلية ... علمت من المرء القليل حلائبه
ولو كَانَ فِي دين سوى ذا شنئتم ... لنا حقنا أو غص بالماء شاربه
ولو كَانَ إذ كنا وفي الكف بسطة ... لصمم عضب فيك ماض مضاربه
- وأنشد مُحَمَّد بن علي وفي الكف مبسط-
وَقَدْ رمت شَيْئًا يَا معاوي دونه ... خياطف علود صعاب مراتبه
وما كنت أعطى النصف مِنْ غَيْرِ قدرة ... سواك، ولو مالت علي كتائبه
ألست أعز الناس قوما وأسرة ... وأمنعهم جارا إذا ضيم جانبه
وما ولدت بعد النَّبِيّ وآله ... كمثلي حصان فِي الرجال يقاربه
أبي غالب والمرء ناجية الَّذِي ... إِلَى صعصع ينمي، فمن ذا يناسبه!
وبيتي إِلَى جنب الثريا فناؤه ... ومن دونه البدر المضيء كواكبه
أنا ابن الجبال الصم فِي عدد الحصى ... وعرق الثرى عرقي، فمن ذا يحاسبه!

(5/243)


أنا ابن الَّذِي أحيا الوئيد وضامن ... عَلَى الدهر إذ عزت لدهر مكاسبه
وكم من أب لي يَا معاوي لم يزل ... أغر يباري الريح مَا ازور جانبه
نمته فروع المالكين ولم يكن ... أبوك الَّذِي من عبد شمس يقاربه
تراه كنصل السيف يهتز للندى ... كريما يلاقي المجد مَا طر شاربه
طويل نجاد السيف مذ كَانَ لَمْ يَكُنْ ... قصي وعبد الشمس ممن يخاطبه
فرد ثَلاثِينَ ألفا عَلَى أهله، وكانت أَيْضًا قَدْ أغضبت زيادا عَلَيْهِ.
قَالَ: فلما استعدت عَلَيْهِ نهشل وفقيم ازداد عَلَيْهِ غضبا، فطلبه فهرب، فأتى عِيسَى بن خصيلة بن معتب بن نصر بن خَالِد البهزي، ثُمَّ أحد بني سليم، والحجاج بن علاط بن خَالِد السلمي.
قَالَ ابن سعد: قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الفضل بن موسى ابن خصيلة، قَالَ: لما طرد زياد الفرزدق جَاءَ الى عمى عيسى بن خصيله ليلا فَقَالَ: يَا أَبَا خصيلة، إن هَذَا الرجل قَدْ أخافني، وإن صديقي وجميع من كنت أرجو قَدْ لفظوني، وإني قَدْ أتيتك لتغيبني عندك، قَالَ: مرحبا بك! فكان عنده ثلاث ليال، ثُمَّ قَالَ: إنه قَدْ بدا لي أن ألحق بِالشَّامِ، فَقَالَ:
مَا أحببت، أن أقمت معي ففي الرحب والسعة، وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بِهَا قَالَ: فركب بعد ليل، وبعث عِيسَى مَعَهُ حَتَّى جاوز البيوت، فأصبح وَقَدْ جاوز مسيرة ثلاث ليال، فَقَالَ الفرزدق فِي ذَلِكَ:
حباني بِهَا البهزي حملان من أبى ... مِنَ النَّاسِ والجاني تخاف جرائمه
ومن كَانَ يَا عِيسَى يونب ضيفه ... فضيفك محبور هني مطاعمه
وَقَالَ تعلم أنها أرحبية ... وأن لها الليل الَّذِي أنت جاشمه
فأصبحت والملقى ورائي وحنبل ... وما صدرت حَتَّى علا النجم عاتمه

(5/244)


تزاور عن أهل الحفير كأنها ... ظليم تباري جنح ليل نعائمه
رأت بين عينيها دوية وانجلى ... لها الصبح عن صعل أسيل مخاطمه
كأن شراعا فِيهِ مجرى زمامها ... بدجلة إلا خطمه وملاغمه
إذا أنت جاوزت الغريين فاسلمي ... وأعرض من فلج ورائي مخارمه
وَقَالَ أَيْضًا:
تداركني أسباب عِيسَى من الردى ... ومن يك مولاه فليس بواحد
وَهِيَ قصيدة طويلة.
قَالَ: وبلغ زيادا أنه قَدْ شخص، فأرسل عَلِيّ بن زهدم، أحد بني نولة بن فقيم فِي طلبه.
قَالَ أعين: فطلبه فِي بيت نصرانية يقال لها ابنة مرار، من بني قيس ابن ثعلبه تنزل قصيمه كاظمه، قال: فسلته من كسر بيتها، فلم يقدر عَلَيْهِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الفرزدق:
أتيت ابنة المرار أهبلت تبتغي ... وما يبتغى تحت السوية أمثالي
ولكن بغائي لو أردت لقاءنا ... فضاء الصحاري لا ابتغاء بأدغال
وقيل: إنها رَبِيعَة بنت المرار بن سلامة العجلي أم أبي النجم الراجز.
قَالَ أَبُو عبيدة: قَالَ مسمع بن عَبْد الْمَلِكِ: فأتى الروحاء، فنزل فِي بكر بن وائل، فأمن، فَقَالَ يمدحهم:
وَقَدْ مثلت أين المسير فلم تجد ... لفورتها كالحي بكر بن وائل
أعف وأوفى ذمة يعقدونها ... إذا وازنت شم الذرا بالكواهل

(5/245)


وهي قصيده طويله ومدحهم بقصائد اخر غيرها.
قَالَ: فكان الفرزدق إذا نزل زياد الْبَصْرَة نزل الْكُوفَة، وإذا نزل زياد الْكُوفَة نزل الفرزدق الْبَصْرَة، وَكَانَ زياد ينزل الْبَصْرَة ستة أشهر والكوفة ستة أشهر، فبلغ زيادا اما صنع الفرزدق، فكتب إِلَى عامله عَلَى الْكُوفَة عبد الرحمن ابن عبيد: إنما الفرزدق فحل الوحوش يرعى القفار، فإذا ورد عَلَيْهِ الناس ذعر ففارقهم إِلَى أرض أخرى فرتع، فاطلبه حَتَّى تظفر بِهِ قَالَ الفرزدق:
فطلبت أشد طلب، حَتَّى جعل من كَانَ يؤويني يخرجني من عنده، فضاقت علي الأرض، فبينا أنا ملفف رأسي فِي كسائي عَلَى ظهر الطريق، إذ مر بي الَّذِي جَاءَ فِي طلبي، فلما كَانَ الليل أتيت بعض أخوالي من بني ضبة وعندهم عرس- ولم أكن طعمت قبل ذَلِكَ طعاما، فقلت: آتيهم فأصيب من الطعام- قَالَ: فبينا أنا قاعد إذ نظرت إِلَى هادي فرس وصدر رمح قَدْ جاوز باب الدار داخلا إلينا، فقاموا إِلَى حائط قصب فرفعوه، فخرجت مِنْهُ، وألقوا الحائط فعاد مكانه، ثُمَّ قَالُوا: مَا رأيناه، وبحثوا ساعة ثُمَّ خرجوا، فلما أصبحنا جاءوني فَقَالُوا: أخرج إِلَى الحجاز عن جوار زياد لا يظفر بك، فلو ظفر بك البارحة أهلكتنا، وجمعوا ثمن راحلتين، وكلموا لي مقاعسا احد بنى تيم الله ابن ثعلبة- وَكَانَ دليلا يسافر للتجار- قَالَ: فخرجنا إِلَى بانقيا حَتَّى انتهينا إِلَى بعض القصور الَّتِي تنزل، فلم يفتح لنا الباب، فألقينا رحالنا إِلَى جنب الحائط والليلة مقمرة، فقلت: يَا مقاعس، أرأيت إن بعث زياد بعد مَا نصبح إِلَى العتيق رجالا، أيقدرون علينا؟ قَالَ: نعم، يرصدوننا- ولم يكونوا جاوزوا العتيق وَهُوَ خندق كَانَ للعجم- قَالَ: فقلت: مَا تقول العرب؟ قَالَ:
يقولون: أمهله يَوْمًا وليلة ثُمَّ خذه فارتحل، فَقَالَ إني أخاف السباع، فقلت: السباع أهون من زياد، فارتحلنا لا نرى شَيْئًا إلا خلفناه، ولزمنا شخص لا يفارقنا، فقلت: يَا مقاعس، أترى هَذَا الشخص! لم نمرر

(5/246)


بشيء إلا جاوزناه غيره، فإنه يسايرنا منذ الليلة قَالَ: هَذَا السبع، قَالَ:
فكأنه فهم كلامنا، فتقدم حَتَّى ربض عَلَى متن الطريق، فلما رأينا ذَلِكَ نزلنا فشددنا أيدي ناقتينا بثنايين وأخذت قوسي وَقَالَ مقاعس:
يَا ثعلب، أتدري ممن فررنا إليك؟ من زياد، فأحصب بذنبه حَتَّى غشينا غباره وغشي ناقتينا، قَالَ: فقلت: أرميه، فَقَالَ: لا تهجه، فإنه إذا أصبح ذهب، قَالَ: فجعل يرعد ويبرق ويزئر، ومقاعس يتوعده حَتَّى انشق الصبح، فلما رآه ولى، وأنشأ الفرزدق يقول:
مَا كنت أحسبني جبانا بعد مَا ... لاقيت ليلة جانب الأنهار
ليثا كأن عَلَى يديه رحالة ... شثن البراثن مؤجد الأظفار
لما سمعت لَهُ زمازم أجهشت ... نفسي إلي وقلت أين فراري!
وربطت جروتها وقلت لها اصبري ... وشددت فِي ضيق المقام إزاري
فلأنت أهون من زياد جانبا ... إذهب إليك مخرم الأسفار
قَالَ ابن سعد: قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي أعين بن لبطة، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عن شبث بن ربعي الرياحي، قَالَ: فأنشدت زيادا هَذِهِ الأبيات فكأنه رق لَهُ، وَقَالَ: لو أتاني لآمنته وأعطيته، فبلغ ذَلِكَ الفرزدق، فَقَالَ:
تذكر هَذَا القلب من شوقه ذكرا ... تذكر شوقا ليس ناسيه عصرا
تذكر ظمياء الَّتِي ليس ناسيا ... وإن كَانَ أدنى عهدها حججا عشرا
وما مغزل بالغور غور تهامة ... ترعى أراكا فِي منابته نضرا
من الادم حواء المدامع ترعوى ... الى رشاء طفل تخال بِهِ فترا

(5/247)


أصابت بوادي الولولان حبالة ... فما استمسكت حَتَّى حسبن بِهَا نفرا
بأحسن من ظمياء يوم تعرضت ... وَلا مزنة راحت غمامتها قصرا
وكم دونها من عاطف فِي صريمة ... وأعداء قوم ينذرون دمي نذرا!
إذا أوعدوني عِنْدَ ظمياء ساءها ... وعيدي وقالت لا تقولوا لَهُ هجرا
دعاني زياد للعطاء ولم أكن ... لآتيه مَا ساق ذو حسب وفرا
وعند زياد لو يريد عطاءهم ... رجال كثير قَدْ يري بهم فقرا
قعود لدى الأبواب طلاب حاجة ... غوان من الحاجات أو حاجة بكرا
فلما خشيت أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا
نميت إِلَى حرف أضر بنيها ... سرى الليل واستعراضها البلد القفرا
تنفس فِي بهو من الجوف واسع ... إذا مد حيزوما شراسيفها الضفرا
تراها إذا صام النهار كأنما ... تسامي فنيقا أو تخالسه خطرا
تخوض إذا صاح الصدى بعد هجعة ... من الليل ملتجا غياطله خضرا
فإن أعرضت زوراء أو شمرت بِهَا ... فلاة ترى منها مخارمها غبرا
تعادين عن صهب الحصى وكأنما ... طحن بِهِ من كل رضراضة جمرا
وكم من عدو كاشح قَدْ تجاوزت ... مخافته حتى تكون لها جسرا
يوم بِهَا الموماة من لا يرى لَهُ ... إِلَى ابن أبي سُفْيَان جاها وَلا عذرا
وَلا تعجلاني صاحبي فربما ... سبقت بورد الماء غادية كدرا
وحضنين من ظلماء ليل سريته ... بأغيد قَدْ كَانَ النعاس لَهُ سكرا
رماه الكرى فِي الرأس حَتَّى كأنه ... أميم جلاميد تركن بِهِ وقرا
من السير والإدلاج تحسب أنما ... سقاه الكرى فِي كل منزلة خمرا
جررنا وفديناه حَتَّى كأنما ... يرى بهوادي الصبح قنبلة شقرا

(5/248)


قال: فمضينا وقد منا الْمَدِينَة وسعيد بن الْعَاصِ بن أُمَيَّة عَلَيْهَا، فكان فِي جنازة، فتبعته فوجدته قاعدا والميت يدفن حَتَّى قمت بين يديه، فقلت:
هَذَا مقام العائذ من رجل لم يصب دما وَلا مالا! فَقَالَ: قَدْ أجرت إن لم تكن أصبت دما وَلا مالا، وَقَالَ: من أنت؟ قلت: أنا همام بن غالب بن صعصعة، وَقَدْ أثنيت عَلَى الأمير، فإن رَأَى أن يأذن لي فأسمعه فليفعل، قَالَ: هات، فأنشدته:
وكوم تنعم الأضياف عينا ... وتصبح فِي مباركها ثقالا
حَتَّى أتيت إِلَى آخرها، قَالَ: فَقَالَ مَرْوَان:
قعودا ينظرون إِلَى سَعِيد.
قلت: وَاللَّهِ إنك لقائم يَا أَبَا عَبْد الْمَلِكِ.
قَالَ: وَقَالَ كعب بن جعيل: هَذِهِ وَاللَّهِ الرؤيا الَّتِي رأيت البارحة، قَالَ سَعِيد: وما رأيت؟ قَالَ: رأيت كأني أمشي فِي سكة من سكك المدينة، فإذا انا بابن قتره فِي جحر، فكأنه أراد أن يتناولني، فاتقيته، قَالَ: فقام الحطيئة فشق مَا بين رجلين حَتَّى تجاوز إلي، فَقَالَ: قل مَا شئت فقد أدركت من مضى، وَلا يدركك من بقي وَقَالَ لسعيد: هَذَا وَاللَّهِ الشعر، لا يعلل بِهِ منذ الْيَوْم قَالَ: فلم نزل بِالْمَدِينَةِ مرة وبمكة مرة وَقَالَ الفرزدق فِي ذَلِكَ:
أَلا من مبلغ عني زيادا ... مغلغلة يخب بِهَا البريد
بأني قَدْ فررت إِلَى سَعِيد ... وَلا يسطاع مَا يحمي سَعِيد
فررت اليه من ليث هزبر ... تفادى عن فريسته الأسود
فإن شئت انتسبت إِلَى النصارى ... وان شئت انتسبت الى اليهود

(5/249)


وإن شئت انتسبت إِلَى فقيم ... وناسبني وناسبت القرود
ويروى:
وناسبنى وناسبت اليهود. ... وأبغضهم إلي بنو فقيم
ولكن سوف آتي مَا تريد
وَقَالَ أَيْضًا:
أتاني وعيد من زياد فلم أنم ... وسيل اللوى دوني فهضب التهائم
فبت كأني مشعر خيبرية ... سرت فِي عظامي او سمام الاراقم
زياد بن حرب لن أظنك تاركي ... وذا الضغن قَدْ خشمته غير ظالم
قَالَ: وأنشدنيه عَمْرو:
وبالضغن قَدْ خشمتني غير ظالم. ... وَقَدْ كافحت مني العراق قصيدة
رجوم مع الماضي رءوس المخارم ... خفيفة أفواه الرواة ثقيلة
عَلَى قرنها نزالة بالمواسم
وَهِيَ طويلة فلم نزل بين مكة والمدينة حَتَّى هلك زياد.
وفي هَذِهِ السنة كَانَتْ وفاة الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ بمرو منصرفه من غزوة أهل جبل الأشل
. ذكر الخبر عن غزوة الحكم بن عمرو جبل الأشل وسبب هلاكه
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَاتِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُبْحٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو بِخُرَاسَانَ، فَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَمْرٍو: أَنَّ أَهْلَ جَبَلِ الأَشَلِّ سِلاحُهُمُ

(5/250)


اللُّبُودُ، وَآنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ فَغَزَاهُمْ حَتَّى تَوَسَّطُوا، فَأَخَذُوا بِالشِّعَابِ وَالطُّرُقِ، فَأَحْدَقُوا بِهِ، فَعَيَّ بِالأَمْرِ، فَوَلَّى الْمُهَلَّبَ الْحَرْبَ، فَلَمْ يَزَلِ الْمُهَلَّبُ يَحْتَالُ حَتَّى أَخَذَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ بَيْنَ أَنْ أَقْتُلَكَ، وَبَيْنَ أَنْ تُخْرِجَنَا مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ، فَقَالَ لَهُ: أَوْقِدِ النَّارَ حِيَالَ الطَّرِيقِ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَمُرْ بِالأَثْقَالِ فَلْتُوَجَّهْ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّكُمْ قَدْ دَخَلْتُمُ الطَّرِيقَ لِتَسْلُكُوهُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَجْمِعُونَ لَكُمْ، وَيَعِرُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الطُّرُقِ، فَبَادِرْهُمْ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لا يُدْرِكُونَكَ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَنَجَا وَغَنِمُوا غَنِيمَةً عَظِيمَةً.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما قفل الحكم بن عَمْرو من غزوة جبل الأشل ولي المهلب ساقته، فسلكوا فِي شعاب ضيقة، فعارضه الترك فأخذوا عَلَيْهِم بالطرق، فوجدوا فِي بعض تِلَكَ الشعاب رجلا يتغنى من وراء حائط ببيتين:
تعز بصبر لا وجدك لا ترى ... سنام الحمى أخرى الليالي الغوابر
كأن فؤادي من تذكري الحمى ... وأهل الحمى يهفو بِهِ ريش طائر
فأتى بِهِ الحكم، فسأله عن أمره، فَقَالَ: غايرت ابن عم لي، فخرجت ترفعني أرض وتخفضني أخرى، حَتَّى هبطت هَذِهِ البلاد فحمله الحكم إِلَى زياد بِالْعِرَاقِ.
قَالَ: وتخلص الحكم من وجهه حَتَّى أتى هراة، ثُمَّ رجع إِلَى مرو.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَاتِمُ بْنُ قَبِيصَةَ، قَالَ: حدثنا غالب ابن سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُبْحٍ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَكَ لأَقْطَعَنَّ مِنْكَ طَابَقًا سُحْتًا، وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادًا كَتَبَ إِلَيْهِ لِمَا وَرَدَ بِالْخَبَرِ عَلَيْهِ بِمَا غَنِمَ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَصْطَفِيَ لَهُ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَالرَّوَائِعَ فَلا تُحَرِّكَنَّ شَيْئًا حَتَّى تُخْرِجَ ذَلِكَ

(5/251)


فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَكَمُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ كِتَابَكَ وَرَدَ، تَذْكُرُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَصْطَفِيَ لَهُ كُلَّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَالرَّوَائِعَ، وَلا تُحَرِّكَنَّ شَيْئًا، فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لو كانت السماوات وَالأَرْضُ رِتْقًا عَلَى عَبْدٍ اتَّقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ مَخْرَجاً.
وَقَالَ لِلنَّاسِ: اغْدُوا عَلَى غَنَائِمِكُمْ، فَغَدَا النَّاسُ، وَقَدْ عَزَلَ الْخُمُسَ، فَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ تِلْكَ الْغَنَائِمَ، قَالَ: فَقَالَ الْحَكَمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَاقْبِضْنِي، فَمَاتَ بِخُرَاسَانَ بِمَرْوَ.
قَالَ عُمَرُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: لَمَّا حَضَرَتِ الْحَكَمَ الْوَفَاةُ بِمَرْوَ، اسْتَخْلَفَ أَنَسَ بْنَ أَبِي أُنَاسٍ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ

(5/252)


ثُمَّ دخلت

سنة إحدى وخمسين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أبي أرطاة الصائفة، ومقتل حجر بن عدى واصحابه.

ذكر مقتل حجر بن عدي وأَصْحَابه
ذكر سبب مقتله:
قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، عن المجالد بن سعيد، والصقعب ابن زهير، وفضيل بن خديج، والحسين بن عُقْبَةَ المرادي، قَالَ: كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاجَتْمَعَ حديثهم فِيمَا سقت من حديث حجر ابن عدي الكندي وأَصْحَابه: أن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ لما ولي الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ الْكُوفَة فِي جمادى سنة إحدى وأربعين دعاه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فإن لذي الحلم قبل الْيَوْم مَا تقرع العصا، وَقَدْ قَالَ المتلمس:
لذي الحلم قبل الْيَوْم مَا تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
وَقَدْ يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وَقَدْ أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادا عَلَى بصرك بِمَا يرضيني ويسعد سلطاني، ويصلح بِهِ رعيتي، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تتحم عن شتم علي وذمه، والترحم عَلَى عُثْمَانَ والاستغفار لَهُ، والعيب عَلَى أَصْحَاب علي، والإقصاء لَهُمْ، وترك الاستماع مِنْهُمْ، وبإطراء شيعة عُثْمَان رضوان اللَّه عَلَيْهِ، والإدناء لهم،

(5/253)


والاسماع مِنْهُمْ فَقَالَ الْمُغِيرَة: قَدْ جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي دفع وَلا رفع وَلا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم قَالَ:
بل نحمد إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ الصقعب بن زهير: سمعت الشَّعْبِيّ يقول: مَا ولينا وال بعده مثله، وإن كَانَ لاحقا بصالح من كَانَ قبله من العمال.
وأقام الْمُغِيرَة عَلَى الْكُوفَة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهرا، وَهُوَ من أحسن شَيْء سيرة، وأشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فِيهِ والعيب لقتلة عُثْمَان، واللعن لَهُمْ، والدعاء لِعُثْمَانَ بالرحمة والاستغفار لَهُ، والتزكية لأَصْحَابه، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذَلِكَ قَالَ: بل إياكم فذمم اللَّه ولعن! ثُمَّ قام فَقَالَ:
إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» ، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم فيقول الْمُغِيرَة: يَا حجر، لقد رمي بسهمك، إذ كنت أنا الوالي عَلَيْك، يَا حجر ويحك! اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضبة السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك كثيرا ثُمَّ يكف عنه ويصفح.
فلم يزل حَتَّى كَانَ فِي آخر إمارته قام المغيرة فَقَالَ فِي علي وعثمان كما كَانَ يقول، وكانت مقالته: اللَّهُمَّ ارحم عُثْمَان بن عَفَّانَ وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنه نبيك ص، وجمع كلمتنا، وحقن دماءنا، وقتل مظلوما، اللَّهُمَّ فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه! ويدعو عَلَى قتلته فقام حجر بن عدي فنعر نعرة بالْمُغِيرَة سمعها كل من كَانَ فِي المسجد وخارجا مِنْهُ، وَقَالَ: إنك لا تدري بمن تولع من هرمك! أيها الإنسان، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنك قَدْ حبستها عنا، وليس ذَلِكَ لك، ولم يكن يطمع فِي ذَلِكَ من كَانَ قبلك، وَقَدْ أصبحت مولعا بذم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وتقريظ المجرمين قَالَ:
فقام مَعَهُ أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق وَاللَّهِ حجر وبر، مر لنا

(5/254)


بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنا لا ننتفع بقولك هَذَا، وَلا يجدي علينا شَيْئًا، وأكثروا فِي مثل هَذَا القول ونحوه فنزل الْمُغِيرَة، فدخل واستأذن عَلَيْهِ قومه، فأذن لَهُمْ، فَقَالُوا: علام تترك هَذَا الرجل يقول هَذِهِ المقالة، ويجترئ عَلَيْك فِي سلطانك هَذِهِ الجرأة! إنك تجمع عَلَى نفسك بهذا خصلتين: أما أولهما فتهوين سلطانك، وأما الأخرى فإن ذَلِكَ إن بلغ مُعَاوِيَة كان اسخط له عليه- وَكَانَ أشدهم لَهُ قولا فِي أمر حجر والتعظيم عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ أبي عقيل الثقفي- فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَة: إني قَدْ قتلته، إنه سيأتي أَمِير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع بِهِ شبيها بِمَا ترونه يصنع بي، فيأخذه عِنْدَ أول وهلة فيقتله شر قتلة، إنه قَدِ اقترب أجلي، وضعف عملي، وَلا أحب أن أبتدئ أهل هَذَا المصر بقتل خيارهم، وسفك دمائهم، فيسعدوا بِذَلِكَ وأشقى، ويعز فِي الدُّنْيَا مُعَاوِيَة، ويذل يوم الْقِيَامَة الْمُغِيرَة، ولكني قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم، وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم، حَتَّى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكروننى لو قَدْ جربوا العمال بعدي قَالَ أَبُو مخنف: سمعت عُثْمَان بن عُقْبَةَ الكندي، يقول: سمعت شيخا للحي يذكر هَذَا الحديث يقول: قد والله جربناهم فوجدناه خيرهم، احمدهم للبرىء، وأغفرهم للمسيء، وأقبلهم للعذر.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: فولي الْمُغِيرَة الْكُوفَة سنة إحدى وأربعين فِي جمادى، وهلك سنة إحدى وخمسين، فجمعت الْكُوفَة والبصرة لزياد بن أَبِي سُفْيَانَ، فأقبل زياد حَتَّى دخل القصر بالكوفة، ثُمَّ صعد المنبر فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ جربنا وجربنا، وسسنا وساسنا السائسون، فوجدنا هَذَا الأمر لا يصلح آخره إلا بِمَا صلح أوله، بالطاعة اللينة المشبه سرها بعلانيتها، وغيب أهلها بشاهدهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لين فِي غير ضعف، وشدة فِي غير عنف، وإني وَاللَّهِ لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته عَلَى أذلاله، وليس من كذبة

(5/255)


الشاهد عَلَيْهَا من اللَّه والناس أكبر من كذبة إمام عَلَى الْمِنْبَر ثُمَّ ذكر عُثْمَان وأَصْحَابه فقرظهم، وذكر قتلته ولعنهم فقام حجر ففعل مثل الَّذِي كَانَ يفعل بالْمُغِيرَة، وَقَدْ كَانَ زياد قَدْ رجع إِلَى الْبَصْرَة وولي الْكُوفَة عَمْرو بن الحريث، ورجع إِلَى الْبَصْرَة فبلغه أن حجرا يجتمع إِلَيْهِ شيعة علي، ويظهرون لعن مُعَاوِيَة والبراءة مِنْهُ، وأنهم حصبوا عَمْرو بن الحريث، فشخص إِلَى الْكُوفَةِ حَتَّى دخلها، فأتى القصر فدخله، ثُمَّ خرج فصعد الْمِنْبَر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر، قَدْ فرق شعره، وحجر جالس فِي المسجد حوله أَصْحَابه أكثر مَا كَانُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن غب البغي والغي وخيم، إن هَؤُلاءِ جموا فأشروا، وأمنوني فاجترءوا علي، وايم اللَّه لَئِنْ لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، وَقَالَ: مَا أنا بشيء إن لم أمنع باحة الْكُوفَة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده! ويل أمك يَا حجر! سقط العشاء بك عَلَى سرحان، ثُمَّ قَالَ:
أبلغ نصيحة أن راعي إبلها ... سقط العشاء بِهِ عَلَى سرحان
وأما غير عوانة، فإنه قَالَ فِي سبب أمر حجر مَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَسَنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: خَطَبَ زِيَادٌ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلاةَ، فَقَالَ لَهُ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ: الصَّلاةَ! فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلاةَ! فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ، فَلَمَّا خَشِيَ حُجْرٌ فَوْتَ الصَّلاةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى كَفٍّ مِنَ الْحَصَا، وَثَارَ إِلَى الصَّلاةِ وَثَارَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زِيَادٌ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِهِ، وَكَثَّرَ عَلَيْهِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ شُدَّهْ فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ احْمِلْهُ إِلَيَّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ قَوْمُ حُجْرٍ أَنْ يَمْنَعُوهَ، فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، فشد

(5/256)


فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! أَمَا وَاللَّهِ لا أُقِيلُكَ وَلا أَسْتَقِيلُكَ، أَخْرِجُوهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَأُخْرِجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ حُجْرٌ لِلَّذِينَ يَلُونَ أَمْرَهُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالُوا: صَلِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفَّفَ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا بِي غير الذى انا عليه لا حببت أَنْ تَكُونَا أَطْوَلَ مِمَّا كَانَتَا، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى مِنَ الصَّلاةِ خَيْرٌ فَمَا فِي هَاتَيْنِ خَيْرٌ، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ: لا تُطْلِقُوا عَنِّي حَدِيدًا، وَلا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، فَإِنِّي أُلاقِي مُعَاوِيَةَ غَدًا عَلَى الْجَادَّةِ ثُمَّ قَدِمَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
قَالَ مخلد: قَالَ هِشَام: كَانَ مُحَمَّد إذا سئل عن الشهيد يغسل، حدثهم حديث حجر.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فلقيت عَائِشَة أم الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَة- قَالَ مخلد: أظنه بمكة- فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَة، أين كَانَ حلمك عن حجر! فَقَالَ لها: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، لم يحضرني رشيد! قَالَ ابن سيرين: فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت ويقول:
يومي مِنْكَ يَا حجر يوم طويل! قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بن نعيم النمري، عن حُسَيْن بن عَبْدِ اللَّهِ الهمداني، قَالَ: كنت فِي شرط زياد، فَقَالَ زياد:
لينطلق بعضكم إِلَى حجر فليدعه، قَالَ: فَقَالَ لي أمير الشرطه- وهو شداد ابن الهيثم الهلالي: اذهب إِلَيْهِ فادعه، قَالَ: فأتيته، فقلت: أجب الأمير، فَقَالَ أَصْحَابه: لا يأتيه وَلا كرامة! قَالَ: فرجعت إِلَيْهِ فأخبرته، فأمر صاحب الشرطة أن يبعث معي رجالا، قَالَ: فبعث نفرا، قَالَ: فأتيناه فقلنا: أجب الأمير، قَالَ: فسبونا وشتمونا، فرجعنا إِلَيْهِ فأخبرناه الخبر، قَالَ: فوثب زياد بأشراف أهل الْكُوفَة، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أتشجون بيد وتأسون بأخرى! أبدانكم معي وأهواؤكم مع حجر! هَذَا الهجهاجة الأحمق المذبوب

(5/257)


أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر! هَذَا وَاللَّهِ من دحسكم وغشكم! وَاللَّهِ لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم! فوثبوا إِلَى زياد، فَقَالُوا: معاذ اللَّه سُبْحَانَهُ ان يكون لنا فيما هاهنا رأي إلا طاعتك وطاعة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وكل مَا ظننا أن فِيهِ رضاك، وما يستبين بِهِ طاعتنا وخلافنا لحجر فمرنا بِهِ، قَالَ: فليقم كل امرئ مِنْكُمْ إِلَى هَذِهِ الجماعة حول حجر فليدع كل رجل مِنْكُمْ أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حَتَّى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ففعلوا ذَلِكَ، فأقاموا جل من كَانَ مع حجر بن عدي، فلما رَأَى زياد أن جل من كَانَ مع حجر أقيم عنه، قَالَ لشداد بن الهيثم الهلالي- ويقال: هيثم بن شداد أَمِير شرطته-: انطلق إِلَى حجر، فإن تبعك فأتني بِهِ، وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق، ثُمَّ يشدوا بِهَا عَلَيْهِم حَتَّى يأتوني بِهِ ويضربوا من حال دونه فأتاه الهلالي فَقَالَ: أجب الأمير، قَالَ: فَقَالَ أَصْحَاب حجر: لا وَلا نعمة عين! لا نجيبه فَقَالَ لأَصْحَابه: شدوا عَلَى عمد السوق، فاشتدوا إِلَيْهَا، فأقبلوا بِهَا قَدِ انتزعوها، فَقَالَ عمير بن يَزِيدَ الكندي من بنى هند- وهو ابو العمر:
إنه ليس معك رجل مَعَهُ سيف غيري، وما يغني عنك! قَالَ: فما ترى؟
قَالَ: قم من هَذَا المكان فالحق بأهلك يمنعك قومك فقام زياد ينظر إِلَيْهِم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر، فغشوا بالعمد، فضرب رجل من الحمراء- يقال له بكر ابن عبيد- رأس عَمْرو بن الحمق بعمود فوقع، وأتاه أَبُو سُفْيَان بن عويمر والعجلان بن رَبِيعَة- وهما رجلان من الأزد- فحملاه، فأتيا بِهِ دار رجل من الأزد- يقال لَهُ عُبَيْد اللَّهِ بن مالك- فخبأه بِهَا، فلم يزل بِهَا متواريا حَتَّى خرج منها.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، قَالَ: لما انصرفنا من غزوة باجميرا قبل مقتل مصعب بعام، فإذا انا باحمرى يسايرنى- وو الله مَا رأيته من ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي ضرب فِيهِ عَمْرو بن الحمق، وما كنت أَرَى لو رأيته أن أعرفه- فلما رأيته ظننت

(5/258)


أنه هُوَ هُوَ، وذاك حين نظرنا إِلَى أبيات الْكُوفَة، فكرهت أن أسأله: أنت الضارب عَمْرو بن الحمق؟ فيكابرني، فقلت لَهُ: مَا رأيتك من الْيَوْم الَّذِي ضربت فِيهِ رأس عَمْرو بن الحمق بالعمود فِي المسجد إِلَى يومي هَذَا، وَلَقَدْ عرفتك الآن حين رأيتك، فَقَالَ لي: لا تعدم بصرك، مَا أثبت نظرك! كَانَ ذَلِكَ أمر الشَّيْطَان، أما إنه قَدْ بلغني أنه كَانَ امرأ صالحا، وَلَقَدْ ندمت عَلَى تِلَكَ الضربة، فأستغفر اللَّه فقلت له: الا ترى وَاللَّهِ لا أفترق أنا وأنت حَتَّى أضربك عَلَى رأسك مثل الضربة الَّتِي ضربتها عَمْرو بن الحمق أو أموت أو تموت! فناشدني اللَّه وسألني اللَّه، فأبيت عَلَيْهِ، ودعوت غلاما لي يدعى رشيدا من سبي أصبهان مَعَهُ قناة لَهُ صلبة، فأخذتها مِنْهُ، ثُمَّ أحمل عَلَيْهِ بِهَا، فنزل عن دابته، وألحقه حين استوت قدماه بالأرض، فأصفع بِهَا هامته، فخر لوجهه، ومضيت وتركته، فبرأ بعد، فلقيته مرتين من الدهر، كل ذَلِكَ يقول: اللَّه بيني وبينك! وأقول: اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بينك وبين عَمْرو بن الحمق! ثُمَّ رجع إِلَى أول الحديث قَالَ: فلما ضرب عمرا تِلَكَ الضربة وحمله ذانك الرجلان، انحاز أَصْحَاب حجر إِلَى أبواب كندة، ويضرب رجل من جذام كَانَ فِي الشرطة رجلا يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ بعمود، فضربه ضربة فصرعه، فَقَالَ وَهُوَ يرتجز:
قَدْ علمت يوم الهياج خلتي ... أني إذا مَا فِئتي تولت
وكثرت عداتها أو قلت ... أنيَ قتال غداة بلت
وضربت يد عائذ بن حملة التميمي وكسرت نابه، فَقَالَ:
إن تكسروا نابي وعظم ساعدي ... فإن فيّ سورة المناجد
وبعض شغب البطل المبالد.
وينتزع عمودا من بعض الشرطة، فقاتل بِهِ وحمى حجرا وأَصْحَابه، حَتَّى خرجوا من تلقاء أبواب كندة، وبغلة حجر موقوفة، فأتى بِهَا أَبُو العمرطة إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اركب لا أب لغيرك! فو الله مَا أراك إلا قَدْ قتلت نفسك،

(5/259)


وقتلتنا معك، فوضع حجر رجله فِي الركاب، فلم يستطع أن ينهض، فحمله أَبُو العمرطة عَلَى بغلته، ووثب أَبُو العمرطة عَلَى فرسه، فما هُوَ إلا أن استوى عَلَيْهِ حَتَّى انتهى إِلَيْهِ يَزِيد بن طريف المسلي- وَكَانَ يغمز- فضرب أبا العمرطة بالعمود عَلَى فخذه، ويخترط أَبُو العمرطة سيفه، فضرب بِهِ رأس يَزِيد بن طريف، فخر لوجهه ثُمَّ إنه برأ بعد، فله يقول عَبْد اللَّهِ بن همام السلولي:
الؤم ابن لؤم مَا عدا بك حاسرا ... إِلَى بطل ذي جراه وشكيم!
معاود ضرب الدار عين بسيفه ... عَلَى الهام عِنْدَ الروع غير لئيم
إِلَى فارس الغارين يوم تلاقيا ... بصفين قرم خير نجل قروم
حسبت ابن برصاء الحتار قتاله ... قتالك زَيْدا يوم دار حكيم
وَكَانَ ذَلِكَ السيف أول سيف ضرب بِهِ فِي الْكُوفَة فِي الاختلاف بين الناس ومضى حجر وأبو العمرطة حَتَّى انتهيا إِلَى دار حجر، واجتمع إِلَى حجر ناس كثير من أَصْحَابه، وخرج قيس بن فهدان الكندي عَلَى حمار لَهُ يسير فِي مجالس كندة، يقول:
يَا قوم حجر دافعوا وصاولوا ... وعن أخيكم ساعة فقاتلوا
لا يلفيا مِنْكُمْ لحجر خاذل ... أليس فيكم رامح ونابل
وفارس مستلئم وراجل ... وضارب بالسيف لا يزايل!
فلم يأته من كندة كثير أحد وَقَالَ زياد وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر: ليقم همدان وتميم وهوازن وأبناء أعصر ومذحج وأسد وغطفان فليأتوا جبانة كندة، فليمضوا من ثمَّ إِلَى حجر فليأتوني بِهِ ثُمَّ إنه كره أن يسير طائفة من مضر مع طائفة من أهل اليمن فيقع بينهم شغب واختلاف، وتفسد مَا بينهم الحمية، فَقَالَ: لتقم تميم وهوازن وأبناء أعصر وأسد وغطفان، ولتمض

(5/260)


مذحج وهمدان إِلَى جبانة كندة، ثُمَّ لينهضوا إِلَى حجر فليأتوني بِهِ، وليسر سائر أهل اليمن حَتَّى ينزلوا جبانة الصائديين فليمضوا إِلَى صاحبهم، فليأتوني بِهِ فخرجت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة وقضاعة، فنزلوا جبانة الصائديين، ولم تخرج حضرموت مع أهل اليمن لمكانهم من كندة، وَذَلِكَ أن دعوة حضرموت مع كندة، فكرهوا الخروج فِي طلب حجر.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيد بن مخنف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مخنف، قَالَ: إني لمع أهل اليمن فِي جبانة الصائديين إذ اجتمع رءوس أهل اليمن يتشاورون فِي أمر حجر، فَقَالَ لَهُمْ عبد الرَّحْمَن بن مخنف: أنا مشير عَلَيْكُمْ برأي إن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة والإثم، أَرَى لكم أن تلبثوا قليلا فإن سرعان شباب همدان ومذحج يكفونكم مَا تكرهون أن تلوا من مساءة قومكم فِي صاحبكم قَالَ: فأجمع رأيهم عَلَى ذلك، قال: فو الله مَا كَانَ إلا كلا وَلا حَتَّى أتينا، فقيل لنا: إن مذحج وهمدان قَدْ دخلوا فأخذوا كل من وجدوا من بني جبلة قَالَ: فمر أهل اليمن فِي نواحي دور كنده معذره، فبلغ ذَلِكَ زيادا، فأثنى عَلَى مذحج وهمدان وذم سائر أهل اليمن وإن حجرا لما انتهى إِلَى داره فنظر إِلَى قلة من مَعَهُ من قومه، وبلغه أن مذحج وهمدان نزلوا جبانة كندة وسائر أهل اليمن جبانة الصائديين قال لأصحابه: انصرفوا فو الله ما لكم طاقة بمن قَدِ اجتمع عَلَيْكُمْ من قومكم، وما أحب أن أعرضكم للهلاك، فذهبوا لينصرفوا، فلحقتهم

(5/261)


أوائل خيل مذحج وهمدان فعطف عَلَيْهِم عمير بن يَزِيدَ وقيس بن يَزِيدَ وعبيدة بن عَمْرو البدي وعبد الرَّحْمَن بن محرز الطمحي وقيس ابن شمر، فتقاتلوا معهم، فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا، وأسر قيس بن يَزِيدَ، وأفلت سائر القوم، فَقَالَ لَهُمْ حجر: لا أبا لكم! تفرقوا لا تقاتلوا فإني آخذ فِي بعض السكك ثُمَّ آخذ طريقا نحو بني حرب، فسار حَتَّى انتهى إِلَى دار رجل مِنْهُمْ يقال لَهُ سليم بن يَزِيدَ، فدخل داره، وجاء القوم فِي طلبه حَتَّى انتهوا إِلَى تِلَكَ الدار، فأخذ سليم بن يَزِيدَ سيفه، ثُمَّ ذهب ليخرج إِلَيْهِم، فبكت بناته، فَقَالَ لَهُ حجر: مَا تريد؟ قَالَ: أريد وَاللَّهِ أسألهم أن ينصرفوا عنك، فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هَذَا مَا ثبت قائمه فِي يدي دونك، فَقَالَ حجر: لا أبا لغيرك! بئس مَا دخلت بِهِ إذا عَلَى بناتك! قَالَ: انى والله ما اموتهن، وَلا رزقهن إلا عَلَى الحي الَّذِي لا يموت، وَلا أشتري العار بشيء أبدا، وَلا تخرج من داري أسيرا أبدا وأنا حي أملك قائم سيفي، فإن قتلت دونك فاصنع مَا بدا لك قَالَ حجر: أما فِي دارك هَذِهِ حائط أقتحمه، أو خوخة أخرج منها، عسى أن يسلمني اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ ويسلمك، فإذا القوم لم يقدروا علي عندك لم يضروك! قَالَ:
بلى هَذِهِ خوخة تخرجك إِلَى دور بني العنبر وإلى غيرهم من قومك، فخرج حَتَّى مر ببني ذهل، فَقَالُوا لَهُ: مر القوم آنفا فِي طلبك يقفون أثرك.
فَقَالَ: مِنْهُمْ أهرب، قَالَ: فخرج وَمَعَهُ فتية مِنْهُمْ يتقصون بِهِ الطريق، ويسلكون بِهِ الأزقة حَتَّى أفضى إِلَى النخع، فَقَالَ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: انصرفوا رحمكم اللَّه! فانصرفوا عنه، وأقبل إِلَى دار عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث أخي الأَشْتَر فدخلها، فإنه لكذلك قَدْ ألقى لَهُ الفرش عَبْد اللَّهِ، وبسط لَهُ البسط، وتلقاه ببسط الوجه، وحسن البشر، إذ أتى فقيل لَهُ: إن الشرط تسأل عنك فِي النخع- وَذَلِكَ أن أمة سوداء يقال لها: أدماء، لقيتهم، فَقَالَتْ: من تطلبون؟

(5/262)


قالوا: نطلب حجرا، قالت: ها هو ذا قَدْ رأيته فِي النخع، فانصرفوا نحو النخع- فخرج من عِنْدَ عَبْد اللَّهِ متنكرا، وركب مَعَهُ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث ليلا حَتَّى أتى دار رَبِيعَة بن ناجد الأَزْدِيّ فِي الأزد، فنزلها يَوْمًا وليلة، فلما أعجزهم أن يقدروا عَلَيْهِ دعا زياد بمُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا ميثاء، أما وَاللَّهِ لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها، وَلا دارا إلا هدمتها ثُمَّ لا تسلم مني حَتَّى أقطعك إربا إربا، قَالَ: أمهلني حَتَّى أطلبه، قَالَ:
قَدْ أمهلتك ثلاثا، فإن جئت بِهِ وإلا عد نفسك مع الهلكى وأخرج مُحَمَّد نحو السجن منتقع اللون يتل تلا عنيفا، فَقَالَ حجر بن يَزِيدَ الكندي لزياد: ضمنيه وخل سبيله يطلب صاحبه، فإنه مخلى سربه- أحرى أن يقدر عَلَيْهِ مِنْهُ إذا كَانَ محبوسا فَقَالَ أتضمنه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما وَاللَّهِ لَئِنْ حاص عنك لأزيرنك شعوب، وإن كنت الآن علي كريما.
قَالَ: إنه لا يفعل، فخلي سبيله ثُمَّ إن حجر بن يَزِيدَ كلمه فِي قيس بن يَزِيدَ، وَقَدْ أتي بِهِ أسيرا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا عَلَى قيس بأس، قَدْ عرفنا رأيه فِي عُثْمَان، وبلاءه يوم صفين مع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: إني قَدْ علمت إنك لم تقاتل مع حجر، أنك ترى رأيه، ولكن قاتلت مَعَهُ حمية قَدْ غفرتها لك لما أعلم من حسن رأيك، وحسن بلائك، ولكن لن أدعك حَتَّى تأتيني بأخيك عمير، قَالَ: أجيئك بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فهات من يضمنه لي معك، قَالَ: هَذَا حجر بن يَزِيدَ يضمنه لك معي، قَالَ حجر بن يَزِيدَ:
نعم أضمنه لك، عَلَى أن تؤمنه عَلَى ماله ودمه، قَالَ: ذَلِكَ لك، فانطلقا فأتيا بِهِ وَهُوَ جريح، فأمر بِهِ فأوقر حديدا، ثُمَّ أخذته الرجال ترفعه، حتى إذا بلغ سررها ألقوه، فوقع عَلَى الأرض، ثُمَّ رفعوه وألقوه، ففعلوا بِهِ ذَلِكَ مرارا، فقام إِلَيْهِ حجر بن يَزِيدَ فَقَالَ: ألم تؤمنه عَلَى ماله ودمه أصلحك اللَّه! قَالَ: بلى، قَدْ آمنته عَلَى ماله ودمه، ولست أهريق لَهُ دما، ولا آخذ

(5/263)


لَهُ مالا قَالَ: أصلحك اللَّه! يشفى بِهِ عَلَى الموت، ودنا مِنْهُ وقام من كَانَ عنده من أهل اليمن، فدنوا مِنْهُ وكلموه، فَقَالَ: أتضمنونه لي بنفسه، فمتى مَا أحدث حدثا أتيتموني بِهِ؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: وتضمنون لي أرش ضربة المسلي، قَالُوا: ونضمنها، فخلي سبيله.
ومكث حجر بن عدي فِي منزل رَبِيعَة بن ناجد الأَزْدِيّ يَوْمًا وليلة، ثُمَّ بعث حجر إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث غلاما لَهُ يدعى رشيدا من أهل أصبهان:
إنه قَدْ بلغني مَا استقبلك بِهِ هَذَا الجبار العنيد، فلا يهولنك شَيْء من أمره، فإني خارج إليك، أجمع نفرا من قومك ثُمَّ أدخل عَلَيْهِ فأسأله أن يؤمنني حَتَّى يبعث بي إِلَى مُعَاوِيَةَ فيرى فِي رأيه.
فخرج ابن الأشعث إِلَى حجر بن يَزِيدَ وإلى جرير بن عَبْدِ اللَّهِ وإلى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث أخي الأَشْتَر، فأتاهم فدخلوا إِلَى زياد فكلموه وطلبوا إِلَيْهِ أن يؤمنه حَتَّى يبعث بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فيرى فِيهِ رأيه، ففعل، فبعثوا إِلَيْهِ رسوله ذَلِكَ يعلمونه أن قَدْ أخذنا الَّذِي تسأل، وأمروه أن يأتي، فأقبل حَتَّى دخل عَلَى زياد فَقَالَ زياد: مرحبا بك أبا عبد الرَّحْمَن! حرب فِي أيام الحرب، وحرب وَقَدْ سَالم الناس! عَلَى أهلها تجني براقش قَالَ: مَا خالعت طاعة، وَلا فارقت جماعة، وإني لعلى بيعتي، فَقَالَ: هيهات هيهات يَا حجر! تشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذا أمكن اللَّه مِنْكَ أن نرضى! كلا وَاللَّهِ.
قَالَ: ألم تؤمني حَتَّى آتى مُعَاوِيَة فيرى فِي رأيه! قَالَ: بلى قَدْ فعلنا، انطلقوا بِهِ إِلَى السجن، فلما قفي بِهِ من عنده قَالَ زياد: أما وَاللَّهِ لولا أمانة مَا برح أو يلفظ مهجة نفسه.
قَالَ هِشَام بن عروة: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: قَالَ زياد: والله لا حرصن عَلَى قطع خيط رقبته.
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، وَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سعيد، عن

(5/264)


الشَّعْبِيِّ وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق، أن حجرا لما قفي بِهِ من عِنْدَ زياد نادى بأعلى صوته: اللَّهُمَّ إني عَلَى بيعتي، لا أقيلها وَلا أستقيلها، سماع اللَّه والناس وَكَانَ عَلَيْهِ برنس فِي غداة باردة، فحبس عشر ليال، وزياد ليس لَهُ عمل إلا طلب رؤساء أَصْحَاب حجر، فخرج عَمْرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حَتَّى نزلا المدائن، ثُمَّ ارتحلا حَتَّى أتيا أرض الموصل، فأتيا جبلا فكمنا فِيهِ، وبلغ عامل ذَلِكَ الرستاق أن رجلين قَدْ كمنا فِي جانب الجبل، فاستنكر شأنهما- وَهُوَ رجل من همدان يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن أبي بلتعة- فسار إليهما فِي الخيل نحو الجبل وَمَعَهُ أهل البلد، فلما انتهى إليهما خرجا، فأما عَمْرو بن الحمق فكان مريضا، وَكَانَ بطنه قَدْ سقى، فلم يكن عنده امتناع، وأما رفاعة بن شداد- وَكَانَ شابا قويا- فوثب عَلَى فرس لَهُ جواد، فَقَالَ لَهُ: أقاتل عنك؟ قَالَ: وما ينفعني أن تقاتل! انج بنفسك إن استطعت، فحمل عَلَيْهِم، فأفرجوا لَهُ، فخرج تنفر بِهِ فرسه، وخرجت الخيل فِي طلبه- وَكَانَ راميا- فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره، فانصرفوا عنه، وأخذ عَمْرو بن الحمق، فسألوه:
من أنت؟ فَقَالَ: من إن تركتموه كَانَ أسلم لكم، وإن قتلتموه كَانَ أضر لكم، فسألوه: فأبى أن يخبرهم، فبعث بِهِ ابن أبي بلتعة إِلَى عامل الموصل- وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثقفي- فلما رَأَى عَمْرو بن الحمق عرفه، وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ بخبره، فكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة: أنه زعم انه طعن عثمان ابن عَفَّانَ تسع طعنات بمشاقص كَانَتْ مَعَهُ، وإنا لا نريد أن نعتدي عَلَيْهِ، فأطعنه تسع طعنات كما طعن عُثْمَان، فأخرج فطعن تسع طعنات، فمات فِي الأولى منهن أو الثانية

(5/265)


قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق قَالَ: وجه زياد فِي طلب أَصْحَاب حجر، فأخذوا يهربون مِنْهُ، ويأخذ من قدر عَلَيْهِ مِنْهُمْ، فبعث إِلَى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب الشرطة- وَهُوَ شداد بن الهيثم- فدعا قبيصة فِي قومه، وأخذ سيفه، فأتاه ربعي بن خراش بن جحش العبسي ورجال من قومه ليسوا بالكثير، فاراد ان يقاتل، فقال له صاحب الشرطة: أنت آمن عَلَى دمك ومالك، فلم تقتل نفسك؟ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: قَدْ أومنت، فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك! قَالَ: ويحكم! إن هَذَا الدعي ابن العاهرة، وَاللَّهِ لَئِنْ وقعت فِي يده لا أفلت مِنْهُ أبدا أو يقتلني، قَالُوا: كلا، فوضع يده فِي أيديهم، فأقبلوا بِهِ إِلَى زياد، فلما دخلوا عليه قال زياد: وحى عبس تعزوني عَلَى الدين، أما وَاللَّهِ لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن، والتوثب عَلَى الأمراء، قَالَ: إني لم آتك إلا عَلَى الأمان، قَالَ: انطلقوا بِهِ إِلَى السجن، وجاء قيس بن عباد الشيباني إِلَى زياد فَقَالَ لَهُ: إن امرأ منا من بني همام يقال لَهُ: صيفي بن فسيل من رءوس أَصْحَاب حجر، وَهُوَ أشد الناس عَلَيْك، فبعث إِلَيْهِ زياد، فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ زياد: يَا عدو اللَّه، مَا تقول فِي أبي تراب؟ قَالَ: مَا أعرف أبا تراب، قَالَ: مَا أعرفك بِهِ! قَالَ: مَا أعرفه، قَالَ: أما تعرف عَلِيّ بن أبي طالب؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فذاك أَبُو تراب، قَالَ: كلا، ذاك أَبُو الحسن والحسين، فَقَالَ لَهُ صاحب الشرطة:
يقول لك الأمير: هُوَ أَبُو تراب، وتقول أنت: لا! قَالَ: وإن كذب الأمير أتريد أن أكذب وأشهد لَهُ عَلَى باطل كما شهد! قَالَ لَهُ زياد: وهذا أَيْضًا مع ذنبك! علي بالعصا، فاتى بها، فقال: ما قولك في على؟، قَالَ: أحسن قول أنا قائله فِي عبد من عباد الله اقوله فِي الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: اضربوا عاتقه بالعصا

(5/266)


حَتَّى يلصق بالأرض، فضرب حَتَّى لزم الأرض ثُمَّ قَالَ: اقلعوا عنه، إيه، مَا قولك في على؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي والمدى مَا قلت إلا مَا سمعت مني، قَالَ لتلعننه أو لأضربن عنقك، قَالَ:
إذا تضربها وَاللَّهِ قبل ذَلِكَ، فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بِاللَّهِ، وشقيت أنت، قَالَ: ادفعوا فِي رقبته، ثُمَّ قَالَ: أوقروه حديدا، وألقوه فِي السجن.
ثُمَّ بعث إِلَى عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ- وَكَانَ شهد مع حجر وقاتلهم قتالا شديدا- فبعث إِلَيْهِ زياد بكير بن حمران الأحمري- وَكَانَ تبيع العمال- فبعثه فِي أناس من أَصْحَابه، فأقبلوا فِي طلبه فوجدوه فِي مسجد عدي بن حاتم، فأخرجوه، فلما أرادوا أن يذهبوا بِهِ- وَكَانَ عزيز النفس- امتنع مِنْهُمْ فحاربهم وقاتلهم، فشجوه ورموه بالحجارة حَتَّى سقط، فنادت ميثاء أخته:
يَا معشر طيئ، أتسلمون ابن خليفة لسانكم وسنانكم! فلما سمع الأحمري نداءها خشي أن تجتمع طيئ فيهلك، فهرب وخرج نسوة من طيئ فأدخلنه دارا، وينطلق الأحمري حَتَّى أتى زيادا فَقَالَ: إن طيئا اجتمعت إلي فلم أطقهم، فأتيتك، فبعث زياد إِلَى عدي- وَكَانَ فِي المسجد- فحبسه وَقَالَ: جئني بِهِ- وَقَدْ أخبر عدي بخبر عَبْد اللَّهِ- فَقَالَ عدي:
كيف آتيك برجل قَدْ قتله القوم؟ قَالَ: جئني حَتَّى أَرَى أن قَدْ قتلوه، فاعتل لَهُ وَقَالَ: لا أدري أين هُوَ، وَلا مَا فعل! فحبسه، فلم يبق رجل من أهل المصر من أهل اليمن وربيعة ومضر إلا فزع لعدي، فأتوا زيادا فكلموه فِيهِ، وأخرج عَبْد اللَّهِ فتغيب فِي بحتر، فأرسل إِلَى عدي: إن شئت أن أخرج حَتَّى أضع يدي فِي يدك فعلت، فبعث إِلَيْهِ عدي: وَاللَّهِ لو كنت تحت قدمي مَا رفعتهما عنك فدعا زياد عديا، فَقَالَ لَهُ: إني أخلي سبيلك عَلَى ان تجعل

(5/267)


لي لتنفيه من الْكُوفَة، ولتسير بِهِ إِلَى الجبلين، قَالَ: نعم، فرجع وأرسل إِلَى عَبْد اللَّهِ بن خليفة: اخرج، فلو قَدْ سكن غضبه لكلمته فيك حَتَّى ترجع إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فخرج إِلَى الجبلين.
وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي فقال: ما اسمك؟ قال: انا كريم ابن عفيف، قَالَ: ويحك، أو ويلك! مَا أحسن اسمك واسم أبيك، وأسوأ عملك ورأيك! قَالَ: أما وَاللَّهِ إن عهدك برأيي لمنذ قريب، ثُمَّ بعث زياد إِلَى أَصْحَاب حجر حَتَّى جمع اثني عشر رجلا فِي السجن ثُمَّ إنه دعا رءوس الأرباع، فَقَالَ: اشهدوا عَلَى حجر بِمَا رأيتم مِنْهُ- وَكَانَ رءوس الأرباع يَوْمَئِذٍ: عَمْرو بن حريث عَلَى ربع أهل الْمَدِينَة، وخالد بن عرفطة عَلَى ربع تميم وهمدان، وقيس بن الْوَلِيد بن عبد شمس بن الْمُغِيرَة عَلَى ربع رَبِيعَة وكندة، وأبو بردة بن أبي مُوسَى عَلَى مذحج وأسد- فشهد هَؤُلاءِ الأربعة أن حجرا جمع إِلَيْهِ الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إِلَى حرب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وزعم أن هَذَا الأمر لا يصلح إلا فِي آل أبي طالب، ووثب بالمصر وأخرج عامل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عَلَيْهِ، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ مَعَهُ هم رءوس أَصْحَابه، وعلى مثل رأيه وأمره ثُمَّ أمر بهم ليخرجوا، فأتاه قيس بن الْوَلِيد فَقَالَ: إنه قَدْ بلغني أن هَؤُلاءِ إذا خرج بهم عرض لَهُمْ فبعث زياد إِلَى الكناسة فابتاع إبلا صعابا، فشد عَلَيْهَا المحامل، ثُمَّ حملهم عَلَيْهَا فِي الرحبة أول النهار، حَتَّى إذا كَانَ العشاء قَالَ زياد: من شاء فليعرض، فلم يتحرك مِنَ النَّاسِ أحد، ونظر زياد فِي شهادة الشهود فَقَالَ: مَا أظن هَذِهِ الشهادة قاطعة، وإني لأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أبي الكنود- وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبيد- وأبو مخنف، عن عبد الرَّحْمَن بن جندب وسُلَيْمَان بن أبي راشد، عن أبي الكنود بأسماء هَؤُلاءِ الشهود:

(5/268)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا شهد عَلَيْهِ أَبُو بردة بن أبي مُوسَى لِلَّهِ رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إِلَى الحرب والفتنة، وجمع إِلَيْهِ الجموع يدعوهم إِلَى نكث البيعة وخلع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَة، وكفر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كفرة صلعاء.
فَقَالَ زياد: عَلَى مثل هَذِهِ الشهادة فاشهدوا، أما وَاللَّهِ لأجهدن عَلَى قطع خيط عنق الخائن الأحمق، فشهد رءوس الارباع الثلاثة الآخرون عَلَى مثل شهادته- وكانوا أربعة- ثُمَّ إن زيادا دعا الناس فَقَالَ: اشهدوا عَلَى مثل شهادة رءوس الأرباع فقرأ عَلَيْهِم الكتاب، فقام أول الناس عناق بن شُرَحْبِيل بن أبي دهم التيمي تيم اللَّه بن ثعلبة، فَقَالَ: بينوا اسمي، فَقَالَ زياد: ابدءوا بأسامي قريش، ثُمَّ اكتبوا اسم عناق فِي الشهود، ومن نعرفه ويعرفه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بالنصيحة والاستقامة.
فشهد إِسْحَاق بن طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ، وموسى بن طلحه، واسماعيل بن طلحه ابن عُبَيْد اللَّهِ، والمنذر بن الزُّبَيْرِ، وعمارة بن عقبه بن ابى معيط، وعبد الرحمن ابن هناد، وعمر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، وعامر بن مسعود بن أُمَيَّة بن خلف، ومحرز بن جارية بن رَبِيعَة بن عبد العزى بن عبد شمس، وعبيد اللَّه بن مسلم ابن شُعْبَةَ الحضرمي، وعناق بن شُرَحْبِيل بن أبي دهم، ووائل بن حجر الحضرمي، وكثير بن شهاب بن حصين الحارثي، وقطن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حصين، والسري بن وَقَّاص الحارثي- وكتب شهادته وَهُوَ غائب فِي عمله- والسائب بن الأقرع الثقفى، وشبث بن ربعي، وعبد اللَّه بن أبي عقيل الثقفي، ومصقلة بن هبيرة الشيباني، والقعقاع بن شور الذهلي، وشداد بن المنذر بن الْحَارِث بن وعلة الذهلي- وَكَانَ يدعى ابن بزيعة، فَقَالَ:
مَا لهذا أب ينسب إِلَيْهِ! ألقوا هَذَا من الشهود، فقيل لَهُ: إنه أخو الحضين، وَهُوَ ابن المنذر، قَالَ: فانسبوه إِلَى أَبِيهِ، فنسب إِلَى أَبِيهِ، فبلغت شدادا، فَقَالَ: ويلي على ابن الزانية! او ليست أمه أعرف من أَبِيهِ! وَاللَّهِ

(5/269)


مَا ينسب إلا إِلَى أمه سمية وحجار بن أبجر العجلي فغضبت رَبِيعَة عَلَى هَؤُلاءِ الشهود الَّذِينَ شهدوا من رَبِيعَة وَقَالُوا لَهُمْ: شهدتم عَلَى أوليائنا وحلفائنا! فَقَالُوا:
مَا نحن إلا مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ شهد عَلَيْهِم ناس من قومهم كثير- وعمرو بن الحجاج الزبيدي ولبيد بن عطارد التميمي، ومُحَمَّد بن عمير بن عطارد التميمي، وسويد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ التميمي من بني سعد، وأسماء بن خارجة الفزاري- كَانَ يعتذر من أمره- وشمر بن ذي الجوشن العامري، وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان، ومحفز بن ثعلبة من عائذة قريش، والهيثم بن الأَسْوَدِ النخعي- وَكَانَ يعتذر إِلَيْهِم- وعبد الرَّحْمَن بن قيس الأسدي، والحارث وشداد ابنا الأزمع الهمدانيان، ثُمَّ الوادعيان، وكريب بن سلمة بن يَزِيدَ الجعفي، وعبد الرَّحْمَن بن أبي سبرة الجعفي، وزحر بن قيس الجعفي، وقدامة بن العجلان الأَزْدِيّ وعزرة بن عزرة الأحمسي- ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة بن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ ليشهدوا عَلَيْهِ، فراغا- وعمر بن قيس ذي اللحية وهانئ بن أبي حية الوادعيان.
فشهد عَلَيْهِ سبعون رجلا، فَقَالَ زياد: ألقوهم إلا من قَدْ عرف بحسب وصلاح فِي دينه، فألقوا حَتَّى صيروا إِلَى هَذِهِ العدة، وألقيت شهادة عَبْد اللَّهِ بن الحجاج الثعلبى، وكتبت شهادة هَؤُلاءِ الشهود فِي صحيفة، ثُمَّ دفعها إِلَى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي، وبعثهما عَلَيْهِم، وأمرهما أن يخرجا بهم وكتب في الشهود شريح ابن الْحَارِث القاضي وشريح بن هانئ الحارثي، فأما شريح فَقَالَ: سألني عنه، فأخبرته أنه كَانَ صواما قواما، واما شريح بن هاني الحارثي فكان يقول: مَا شهدت، وَلَقَدْ بلغني أن قَدْ كتبت شهادتي، فأكذبته ولمته، وجاء وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأخرج القوم عشية، وسار معهم صاحب الشرطة حَتَّى أخرجهم من الْكُوفَة.
فلما انتهوا إِلَى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إِلَى داره وَهِيَ فِي جبانة عرزم، فإذا بناته مشرفات، فَقَالَ لوائل وكثير: ائذنا لي فأوصي أهلي، فأذنا لَهُ، فلما دنا منهن وهن يبكين، سكت عنهن ساعة ثُمَّ

(5/270)


قَالَ: اسكتن، فسكتن، فَقَالَ: اتقين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، واصبرن، فإني أرجو من ربي فِي وجهي هَذَا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إما الشهادة، وَهِيَ السعادة، وإما الانصراف إليكن فِي عافية، وإن الذى كان يرزقكن ويكفيني مئونتكن هُوَ اللَّه تعالى- وَهُوَ حي لا يموت- أرجو أَلا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ثُمَّ انصرف فمر بقومه، فجعل القوم يدعون اللَّه لَهُ بالعافية، فَقَالَ: إنه لمما يعدل عندي خطر مَا أنا فِيهِ هلاك قومي يقول: حيث لا ينصرونني، وكان رجاء ان يتخلصوه.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح العبسي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الحر الجعفي، قَالَ: وَاللَّهِ إني لواقف عِنْدَ باب السري بن أَبِي وَقَّاص حين مروا بحجر وأَصْحَابه، قَالَ: فقلت: أَلا عشرة رهط استنقذ بهم هَؤُلاءِ! أَلا خمسة! قَالَ: فجعل يتلهف، قَالَ: فلم يجبني أحد مِنَ النَّاسِ، قَالَ:
فمضوا بهم حَتَّى انتهوا بهم إِلَى الغريين، فلحقهم شريح بن هانئ مَعَهُ كتاب، فَقَالَ لكثير: بلغ كتابي هَذَا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا فِيهِ؟
قَالَ: لا تسألني فِيهِ حاجتي، فأبى كثير وَقَالَ: مَا أحب أن آتي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بكتاب لا أدري مَا فِيهِ، وعسى الا يوافقه! فأتى بِهِ وائل بن حجر فقبله مِنْهُ ثُمَّ مضوا بهم حَتَّى انتهوا بهم إِلَى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلا.

تسمية الَّذِينَ بعث بهم إِلَى مُعَاوِيَةَ
حجر بن عدي بن جبلة الكندي، والأرقم بن عَبْدِ اللَّهِ الكندي من بني الأرقم، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، من بني عَامِر بن شهران ثُمَّ من قحافة، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرَّحْمَن بن حسان العنزيان من بني هميم، ومحرز بن شهاب التميمي من بني منقر، وعبد اللَّه بن حوية السعدي من

(5/271)


بني تميم، فمضوا بهم حَتَّى نزلوا مرج عذراء، فحبسوا بها ثم ان زيادا أتبعهم برجلين آخرين مع عَامِر بن الأَسْوَدِ العجلي، بعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر بن هوازن، وسعيد بن نمران الهمداني ثُمَّ الناعطي، فتموا أربعة عشر رجلا، فبعث مُعَاوِيَة إِلَى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما، وفض كتابهما، فقرأه عَلَى أهل الشام، فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لعبد اللَّه مُعَاوِيَة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من زياد بن أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أحسن عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ البلاء، فكاد لَهُ عدوه، وكفاه مؤنة من بغى عليه ان طواغيت من هذه الترابية السبئيه، رأسهم حجر بن عدي خالفوا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وفارقوا جماعة الْمُسْلِمِينَ، ونصبوا لنا الحرب، فأظهرنا اللَّه عَلَيْهِم، وأمكننا مِنْهُمْ، وَقَدْ دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي السن والدين مِنْهُمْ، فشهدوا عَلَيْهِم بِمَا رأوا وعملوا، وَقَدْ بعثت بهم إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم فِي أسفل كتابي هَذَا.
فلما قرأ الكتاب وشهادة الشهود عَلَيْهِم، قَالَ: ماذا ترون فِي هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ شهد عَلَيْهِم قومهم بِمَا تستمعون؟ فَقَالَ لَهُ يَزِيد بن أسد البجلي: أَرَى أن تفرقهم فِي قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها.
ودفع وائل بن حجر كتاب شريح بن هانئ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فقرأه فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لعبد اللَّه مُعَاوِيَة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من شريح بن هانئ أَمَّا بَعْدُ، فإنه بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي عَلَى حجر بن عدي، وأن شهادتي عَلَى حجر أنه ممن يقيم الصَّلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه فقرأ كتابه عَلَى وائل بن حجر وكثير، فَقَالَ:
مَا أَرَى هَذَا إلا قَدْ أخرج نفسه من شهادتكم فحبس القوم بمرج عذراء، وكتب مُعَاوِيَة إِلَى زياد: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت مَا اقتصصت بِهِ من أمر حجر وأَصْحَابه، وشهادة من قبلك عَلَيْهِم، فنظرت فِي ذَلِكَ، فأحيانا أَرَى قتلهم أفضل من تركهم،

(5/272)


وأحيانا أَرَى العفو عَنْهُمْ أفضل من قتلهم والسلام.
فكتب إِلَيْهِ زياد مع يَزِيد بن حجية بن رَبِيعَة التيمي: أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأت كتابك، وفهمت رأيك فِي حجر وأَصْحَابه، فعجبت لاشتباه الأمر عَلَيْك فِيهِمْ، وَقَدْ شهد عَلَيْهِم بِمَا قَدْ سمعت من هُوَ أعلم بهم، فإن كَانَتْ لك حاجة فِي هَذَا المصر فلا تردن حجرا وأَصْحَابه إلي.
فأقبل يَزِيد بن حجية حَتَّى مر بهم بعذراء فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، أما وَاللَّهِ مَا أَرَى براءتكم، وَلَقَدْ جئت بكتاب فِيهِ الذبح، فمروني بِمَا أحببتم مما ترون أنه لكم نافع أعمل بِهِ لكم وأنطق بِهِ فَقَالَ حجر: أبلغ مُعَاوِيَة أنا عَلَى بيعتنا، لا نستقيلها وَلا نقيلها، وأنه إنما شهد علينا الأعداء والأظناء.
فقدم يَزِيد بالكتاب إِلَى مُعَاوِيَةَ فقرأه، وبلغه يَزِيد مقالة حجر، فَقَالَ مُعَاوِيَة: زياد أصدق عندنا من حجر، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أم الحكم الثقفي- ويقال: عُثْمَان بن عمير الثقفي: جذاذها جذاذها، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: لا تعن أبرا فخرج أهل الشام وَلا يدرون مَا قَالَ مُعَاوِيَة وعبد الرَّحْمَن، فأتوا النُّعْمَان بن بشير فَقَالُوا لَهُ مقالة ابن أم الحكم، فَقَالَ النُّعْمَان: قتل القوم، وأقبل عَامِر بن الأَسْوَدِ العجلي وَهُوَ بعذراء يريد مُعَاوِيَة ليعلمه علم الرجلين اللذين بعث بهما زياد، فلما ولى ليمضي قام إِلَيْهِ حجر بن عدي يرسف فِي القيود، فَقَالَ: يَا عَامِر، اسمع مني، أبلغ مُعَاوِيَة أن دماءنا عَلَيْهِ حرام، وأخبره أنا قَدْ أومنا وصالحناه، فليتق اللَّه، ولينظر فِي أمرنا فَقَالَ لَهُ نحوا من هَذَا الكلام، فأعاد عَلَيْهِ حجر مرارا، فكان الآخر عرض، فَقَالَ قَدْ فهمت لك- أكثرت، فَقَالَ لَهُ حجر: إني مَا سمعت بعيب، وعلى أية تلوم! إنك وَاللَّهِ تحبى وتعطى، وأن حجرا يقدم ويقتل، فلا ألومك ان تستقل كلامي، اذهب عنك، فكأنه استحيا، فَقَالَ: لا والله ما ذلك بي، ولابلغن ولا جهدن، وكأنه يزعم أنه قَدْ فعل، وأن الآخر ابى

(5/273)


فدخل عَامِر عَلَى مُعَاوِيَة فأخبره بأمر الرجلين قَالَ: وقام يَزِيد بن أسد البجلي فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي ابني عمي- وَقَدْ كَانَ جرير بن عَبْدِ اللَّهِ كتب فيهما: ان امرءين من قومي من أهل الجماعة والرأي الْحَسَن، سعى بهما ساع ظنين إِلَى زياد، فبعث بهما فِي النفر الكوفيين الَّذِينَ وجه بهم زياد إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وهما ممن لا يحدث حدثا فِي الإِسْلام وَلا بغيا عَلَى الخليفة، فلينفعهما ذَلِكَ عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ- فلما سألهما يَزِيد ذكر مُعَاوِيَة كتاب جرير، فَقَالَ: قَدْ كتب إلي ابن عمك فيهما جرير، محسنا عليهما الثناء، وَهُوَ أهل أن يصدق قوله، وتقبل نصيحته، وَقَدْ سألتني ابني عمك، فهما لك وطلب وائل بن حجر فِي الأرقم فتركه لَهُ، وطلب أَبُو الأعور السلمي فِي عتبة بن الأخنس فوهبه لَهُ، وطلب حمرة بن مالك الهمدانى في سعيد ابن نمران الهمداني فوهبه لَهُ، وكلمه حبيب بن مسلمة فِي ابن حوية، فخلى سبيله.
وقام مالك بن هبيرة السكوني، فَقَالَ لمعاوية: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دع لي ابن عمي حجرا، فَقَالَ: إن ابن ابن عمك حجرا رأس القوم، وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصري، فيضطرنا غدا إِلَى أن نشخصك وأَصْحَابك إِلَيْهِ بِالْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أنصفتني يَا مُعَاوِيَة، قاتلت معك ابن عمك فتلقاني مِنْهُمْ يوم كيوم صفين، حَتَّى ظفرت كفك، وعلا كعبك ولم تخف الدوائر، ثُمَّ سألتك ابن عمي فسطوت وبسطت من القول بِمَا لا أنتفع بِهِ، وتخوفت فِيمَا زعمت عاقبة الدوائر! ثُمَّ انصرف فجلس فِي بيته، فبعث مُعَاوِيَة هدبة بن فياض القضاعي من بنى سلامان بن سعد والحصين ابن عَبْدِ اللَّهِ الكلابي وأبا شريف البدي، فأتوهم عِنْدَ المساء، فَقَالَ الخثعمي حين رَأَى الأعور مقبلا: يقتل نصفنا وينجو نصفنا، فَقَالَ سَعِيد بن نمران:
اللَّهُمَّ اجعلني ممن ينجو وأنت عني راض، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حسان العنزي: اللهم اجعلنى ممن يكرم بهوانهم وأنت عني راض، فطالما

(5/274)


عرضت نفسي للقتل، فأبى اللَّه إلا مَا أراه! فَجَاءَ رسول مُعَاوِيَة إِلَيْهِم بتخلية ستة وبقتل ثمانية، فَقَالَ لَهُمْ رسول مُعَاوِيَة: إنا قَدْ أمرنا أن نعرض عَلَيْكُمُ البراءة من علي واللعن لَهُ، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يزعم أن دماءكم قَدْ حلت لَهُ بشهادة أهل مصركم عَلَيْكُمْ، غير أنه قَدْ عفا عن ذَلِكَ، فابرءوا من هَذَا الرجل نخل سبيلكم قَالُوا: اللَّهُمَّ إنا لسنا فاعلي ذَلِكَ فأمر بقبورهم فحفرت، وأدنيت أكفانهم، وقاموا الليل كله يصلون، فلما أصبحوا قَالَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة: يَا هَؤُلاءِ، لقد رأيناكم البارحة قَدْ أطلتم الصَّلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا مَا قولكم فِي عُثْمَان؟ قَالُوا: هُوَ أول من جار فِي الحكم، وعمل بغير الحق، فَقَالَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كَانَ أعلم بكم، ثُمَّ قاموا إِلَيْهِم فَقَالُوا: تبرءون من هَذَا الرجل! قَالُوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ مِنْهُ، فأخذ كل رجل مِنْهُمْ رجلا ليقتله، ووقع قبيصة بن ضبيعة فِي يدي أبي شريف البدي، فَقَالَ لَهُ قبيصة: ان الشربين قومي وقومك أمن، فليقتلني سواك، فَقَالَ لَهُ: برتك رحم! فأخذ الحضرمي فقتله، وقتل القضاعي قبيصة بن ضبيعة.
قَالَ: ثُمَّ إن حجرا قَالَ لَهُمْ: دعوني أتوضأ، قَالُوا لَهُ: توضأ، فلما أن توضأ قَالَ لَهُمْ: دعوني أصل ركعتين فايمن اللَّه مَا توضأت قط إلا صليت ركعتين، قالوا: لتصل، فصلى، ثُمَّ انصرف فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا صليت صلاة قط أقصر منها، ولولا أن تروا أن مَا بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنا نستعديك عَلَى أمتنا، فإن أهل الْكُوفَة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما وَاللَّهِ لَئِنْ قتلتموني بِهَا إني لأول فارس مِنَ الْمُسْلِمِينَ هلك فِي واديها، وأول رجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ نبحته كلابها فمشى إِلَيْهِ الأعور هدبة بن فياض بالسيف، فأرعدت خصائله، فَقَالَ: كلا، زعمت

(5/275)


أنك لا تجزع من الموت، فأنا أدعك فابرأ من صاحبك، فَقَالَ: ما لي لا أجزع وأنا أَرَى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا، وإني وَاللَّهِ إن جزعت من القتل لا أقول مَا يسخط الرب فقتله، وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حَتَّى قتلوا ستة فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي: ابعثوا بنا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فنحن نقول فِي هَذَا الرجل مثل مقالته، فبعثوا إِلَى مُعَاوِيَةَ يخبرونه بمقالتهما، فبعث إِلَيْهِم أن ائتوني بهما.
فلما دخلا عَلَيْهِ قَالَ الخثعمي: اللَّه اللَّه يَا مُعَاوِيَة، فإنك منقول من هَذِهِ الدار الزائلة إِلَى الدار الآخرة الدائمة، ثُمَّ مسئول عما أردت بقتلنا، وفيم سفكت دماءنا، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا تقول فِي علي؟ قَالَ: أقول فِيهِ قولك، قَالَ: أتبرأ من دين علي الَّذِي كَانَ يدين اللَّه بِهِ؟ فسكت، وكره مُعَاوِيَة أن يجيبه وقام شمر بن عَبْدِ اللَّهِ من بني قحافة، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي ابن عمي، قَالَ: هُوَ لك، غير أني حابسه شهرا، فكان يرسل إِلَيْهِ بين كل يومين فيكلمه، وَقَالَ لَهُ: إني لأنفس بك عَلَى العراق أن يكون فِيهِمْ مثلك.
ثُمَّ إن شمرا عاوده فِيهِ الكلام، فَقَالَ: نمرك عَلَى هبة ابن عمك، فدعاه فخلى سبيله على الا يدخل إِلَى الْكُوفَةِ مَا كَانَ لَهُ سلطان، فَقَالَ: تخير أي بلاد العرب أحب إليك أن أسيرك إِلَيْهَا، فاختار الموصل، فكان يقول:
لو قَدْ مات مُعَاوِيَة قدمت المصر، فمات قبل مُعَاوِيَة بشهر.
ثُمَّ أقبل عَلَى عبد الرَّحْمَن العنزي فَقَالَ: إيه يَا أخا رَبِيعَة! مَا قولك فِي علي؟ قَالَ: دعني وَلا تسألني فإنه خير لك، قَالَ: وَاللَّهِ لا أدعك حَتَّى تخبرني عنه، قَالَ: أشهد أنه كَانَ من الذاكرين اللَّه كثيرا، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس، قَالَ: فما قولك

(5/276)


فِي عُثْمَان؟ قَالَ: هُوَ أول من فتح باب الظلم، وأرتج أبواب الحق، قَالَ:
قتلت نفسك، قَالَ: بل إياك قتلت، وَلا رَبِيعَة بالوادي- يقول حين كلم شمر الخثعمي فِي كريم بن عفيف الخثعمي، ولم يكن لَهُ أحد من قومه يكلمه فِيهِ- فبعث بِهِ مُعَاوِيَة إِلَى زياد، وكتب إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإن هَذَا العنزي شر من بعثت، فعاقبه عقوبته الَّتِي هُوَ أهلها واقتله شر قتلة.
فلما قدم بِهِ عَلَى زياد بعث بِهِ زياد إِلَى قس الناطف، فدفن بِهِ حيا.
قَالَ: ولما حمل العنزي والخثعمي إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ العنزي لحجر:
يَا حجر، لا يبعدنك اللَّه، فنعم أخو الإِسْلام كنت! وَقَالَ الخثعمي:
لا تبعد وَلا تفقد، فقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ثُمَّ ذهب بهما وأتبعهما بصره، وَقَالَ: كفى بالموت قطاعا لحبل القرائن! فذهب بعتبة بن الأخنس وسعيد بن نمران بعد حجر بأيام، فخلى سبيلهما
. تسمية من قتل من أَصْحَاب حجر رحمه اللَّه
حجر بن عدي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي ثُمَّ المنقري، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرَّحْمَن بن حسان العنزي، فبعث بِهِ إِلَى زياد فدفن حيا بقس الناطف، فهم سبعة قتلوا وكفنوا وصلى عَلَيْهِم.
[قَالَ: فزعموا أن الْحَسَن لما بلغه قتل حجر وأَصْحَابه، قَالَ: صلوا عَلَيْهِم، وكفنوهم، واستقبلوا بهم القبلة، قَالُوا: نعم، قَالَ: حجوهم ورب الكعبة!]

تسمية من نجا مِنْهُمْ
كريم بن عفيف الخثعمي، وعبد اللَّه بن حوية التميمي، وعاصم بن

(5/277)


عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، والأرقم بن عَبْدِ اللَّهِ الكندي، وعتبة بن الأخنس، من بني سَعِيد بن بكر، وسعيد بن نمران الهمداني فهم سبعة.
وَقَالَ مالك بن هبيرة السكوني حين أبى مُعَاوِيَة أن يهب لَهُ حجرا وَقَدِ اجتمع إِلَيْهِ قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لنحن أغنى عن مُعَاوِيَة من مُعَاوِيَة عنا، وإنا لنجد فِي قومه مِنْهُ بدلا، وَلا يجد منا فِي الناس خلفا، سيروا إِلَى هَذَا الرجل فلنخله من أيديهم، فأقبلوا يسيرون ولم يشكوا أَنَّهُمْ بعذراء لم يقتلوا، فاستقبلتهم قتلتهم قَدْ خرجوا منها، فلما رأوه فِي الناس ظنوا إنما جَاءَ بهم ليخلص حجرا من أيديهم، فَقَالَ لَهُمْ: مَا وراءكم؟ قَالَ: تاب القوم، وجئنا لنخبر مُعَاوِيَة.
فسكت عَنْهُمْ، ومضى نحو عذراء، فاستقبله بعض من جَاءَ منها فأخبره أن القوم قَدْ قتلوا، فَقَالَ: علي بالقوم! وتبعتهم الخيل وسبقوهم حَتَّى دخلوا عَلَى مُعَاوِيَة فأخبروه خبر مَا أتى لَهُ مالك بن هبيرة ومن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاوِيَة: اسكنوا، فإنما هي حرارة يجدها فِي نفسه، وكأنها قَدْ طفئت، ورجع مالك حَتَّى نزل فِي منزله، ولم يأت مُعَاوِيَة، فأرسل إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فأبى أن يأتيه، فلما كَانَ الليل بعث إِلَيْهِ بمائة ألف درهم، وَقَالَ لَهُ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لم يمنعه أن يشفعك فِي ابن عمك إلا شفقة عَلَيْك وعلى أَصْحَابك أن يعيدوا لكم حربا أخرى، وأن حجر بن عدي لو قَدْ بقي خشيت أن يكلفك وأَصْحَابك الشخوص إِلَيْهِ، وأن يكون ذَلِكَ من البلاء عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ أعظم من قتل حجر، فقبلها، وطابت نفسه، وأقبل إِلَيْهِ من غده فِي جموع قومه حَتَّى دخل عَلَيْهِ ورضي عنه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الملك بن نوفل بن مساحق، أن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعثت عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي حجر

(5/278)


وأَصْحَابه، فقدم عَلَيْهِ وَقَدْ قتلهم، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قَالَ: غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: كَانَتْ عَائِشَة تقول: لولا أنا لم تغير شَيْئًا إلا آلت بنا الأمور إِلَى أشد مما كنا فِيهِ لغيرنا قتل حجر، أما وَاللَّهِ إن كَانَ مَا علمت لمسلما حجاجا معتمرا قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل، عن سَعِيد المقبري، أن مُعَاوِيَة حين حج مر عَلَى عَائِشَة- رضوان اللَّه عَلَيْهَا- فاستأذن عَلَيْهَا، فأذنت لَهُ، فلما قعد قالت لَهُ: يَا مُعَاوِيَة، أأمنت أن أخبأ لك من يقتلك؟
قَالَ: بيت الأمن دخلت، قالت: يَا مُعَاوِيَة، أما خشيت اللَّه فِي قتل حجر وأَصْحَابه؟ قَالَ: لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عَلَيْهِم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق، قَالَ:
أدركت الناس وهم يقولون: إن أول ذل دخل الْكُوفَة موت الْحَسَن بن علي وقتل حجر بن عدي، ودعوة زياد.
قَالَ أَبُو مخنف: وزعموا أن مُعَاوِيَة قَالَ عِنْدَ موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل! ثلاث مرات- يعني حجرا.
قَالَ أَبُو مخنف: عن الصقعب بن زهير، عن الْحَسَن، قَالَ: أربع خصال كن فِي مُعَاوِيَة، لو لَمْ يَكُنْ فِيهِ منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه عَلَى هَذِهِ الأمة بالسفهاء حَتَّى ابتزها أمرها بغير مشورة مِنْهُمْ وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد [قال رسول الله ص: الولد للفراش، وللعاهر الحجر،] وقتله حجرا، ويلا لَهُ من حجر! مرتين

(5/279)


وقالت هند ابنة زَيْد بن مخرمة الأنصارية، وكانت تشيع ترثي حجرا:
ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجرا يسير
يسير إِلَى مُعَاوِيَةَ بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير
تجبرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير
واصبحت البلاد بها محولا ... كأن لم يحيها مزن مطير
أَلا يَا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور
أخاف عَلَيْك مَا أردى عديا ... وشيخا فِي دمشق لَهُ زئير
يرى قتل الخيار عَلَيْهِ حقا ... لَهُ من شر أمته وزير
أَلا يَا ليت حجرا مات موتا ... ولم ينحر كما نحر البعير!
فان تهلك فكل زعيم قوم ... من الدُّنْيَا إِلَى هلك يصير
وقالت الكندية ترثي حجرا- ويقال: بل قائلها هَذِهِ الأنصارية:
دموع عيني ديمة تقطر ... تبكي عَلَى حجر وما تفتر
لو كَانَتِ القوس عَلَى أسره ... مَا حمل السيف لَهُ الأعور
وَقَالَ الشاعر يحرض بني هند من بني شيبان عَلَى قيس بن عباد حين سعى بصيفي بن فسيل:
دعا ابن فسيل يال مرة دعوة ... ولاقى ذباب السيف كفا ومعصما
فحرض بني هند إذا مَا لقيتهم ... وقل لغياث وابنه يتكلما
لتبك بني هند قتيلة مثل مَا ... بكت عرس صيفي وتبعث مأتما
غياث بن عِمْرَان بن مُرَّةَ بن الْحَارِث بن دب بن مُرَّةَ بن ذهل بن شيبان، وَكَانَ شريفا، وقتيلة أخت قيس بن عباد، فعاش قيس بن عباد حَتَّى

(5/280)


قاتل مع ابن الأشعث فِي مواطنه، فَقَالَ حوشب للحجاج بن يُوسُفَ: إن منا امرأ صاحب فتن ووثوب عَلَى السلطان، لم تكن فتنة فِي العراق قط إلا وثب فِيهَا، وَهُوَ ترابي، يلعن عُثْمَان، وَقَدْ خرج مع ابن الأشعث فشهد مَعَهُ فِي مواطنه كلها، يحرض الناس حَتَّى إذا أهلكهم اللَّه، جَاءَ فجلس فِي بيته، فبعث إِلَيْهِ الحجاج فضرب عنقه، فَقَالَ بنو أَبِيهِ لآل حوشب: إنما سعيتم بنا سعيا، فَقَالُوا لَهُمْ: وَأَنْتُمْ إنما سعيتم بصاحبنا سعيا.
فَقَالَ أَبُو مخنف: وَقَدْ كَانَ عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ شهد مع حجر ابن عدي، فطلبه زياد فتوارى، فبعث إِلَيْهِ الشرط، وهم أهل الحمراء يَوْمَئِذٍ، فأخذوه، فخرجت أخته النوار فَقَالَتْ: يَا معشر طيئ، أتسلمون سنانكم ولسانكم عَبْد اللَّهِ بن خليفة! فشد الطائيون عَلَى الشرط فضربوهم وانتزعوا مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن خليفة، فرجعوا إِلَى زياد، فأخبروه، فوثب على عدى ابن حاتم وَهُوَ فِي المسجد، فَقَالَ: ائتني بعبد اللَّه بن خليفة، قَالَ: وما لَهُ! فأخبره، قَالَ: فهذا شَيْء كَانَ فِي الحي لا علم لي بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ، قَالَ: لا، وَاللَّهِ لا آتيك بِهِ أبدا، أجيئك بابن عمي تقتله! وَاللَّهِ لو كان تحت قدمي مَا رفعتهما عنه قَالَ: فأمر بِهِ إِلَى السجن، قَالَ: فلم يبق بالكوفة يماني وَلا ربعي إلا أتاه وكلمه، وَقَالُوا: تفعل هَذَا بعدي بن حاتم صاحب رَسُول الله ص! قَالَ: فإني أخرجه عَلَى شرط، قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الْكُوفَة مَا دام لي بِهَا سلطان فأتى عدي فأخبر بِذَلِكَ، فَقَالَ: نعم، فبعث عدى الى عبد الله ابن خليفه فقال: يا بن أخي، إن هَذَا قَدْ لج فِي أمرك، وَقَدْ أبى إلا إخراجك عن مصرك مَا دام لَهُ سلطان، فالحق بالجبلين، فخرج، فجعل عبد الله ابن خليفة يكتب إِلَى عدي، وجعل عدي يمنيه، فكتب إِلَيْهِ:
تذكرت لَيْلَى والشبيبة أعصرا ... وذكر الصبا برح عَلَى من تذكرا
وولى الشباب فافتقدت غضونه ... فيا لك من وجد بِهِ حين ادبرا!

(5/281)


فدع عنك تذكار الشباب وفقده ... وآثاره إذ بان مِنْكَ فأقصرا
وبك عَلَى الخلان لما تخرموا ... ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا
دعتهم مناياهم ومن حان يومه ... مِنَ النَّاسِ فاعلم أنه لن يؤخرا
أُولَئِكَ كَانُوا شيعة لي وموئلا ... إذا الْيَوْم ألفي ذا احتدام مذكرا
وما كنت أهوى بعدهم متعللا ... بشيء من الدُّنْيَا وَلا أن أعمرا
أقول وَلا وَاللَّهِ أنسى ادكارهم ... سجيس الليالي أو أموت فأقبرا
عَلَى أهل عذراء السلام مضاعفا ... من اللَّه وليسق الغمام الكنهورا
ولاقى بِهَا حجر من اللَّه رحمة ... فقد كَانَ أرضى اللَّه حجر وأعذرا
وَلا زال تهطال ملث وديمة ... عَلَى قبر حجر أو ينادى فيحشرا
فيا حجر من للخيل تدمى نحورها ... وللملك المغزي إذا مَا تغشمرا
ومن صادع بالحق بعدك ناطق ... بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا
فنعم أخو الإِسْلام كنت وإنني ... لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا
وَقَدْ كنت تعطي السيف فِي الحرب حقه ... وتعرف معروفا وتنكر منكرا
فيا أخوينا من هميم عصمتما ... ويسرتما للصالحات فأبشرا
ويا أخوي الخندفيين أبشرا ... فقد كنتما حييتما أن تبشرا
ويا إخوتا من حضرموت وغالب ... وشيبان لقيتم حسابا ميسرا

(5/282)


سعدتم فلم أسمع بأصوب مِنْكُمْ ... حجاجا لدى الموت الجليل وأصبرا
سأبكيكم مَا لاح نجم وغرد ... الحمام ببطن الواديين وقرقرا
فقلت ولم أظلم أغوث بن طيئ ... متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا!
هبلتم أَلا قاتلتم عن أخيكم ... وَقَدْ ذب حَتَّى مال ثُمَّ تجورا
ففرجتم عني فغودرت مسلما ... كأني غريب فِي إياد وأعصرا
فمن لكم مثلي لدى كل غارة ... ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا
ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت ... وأوضع فيها المستميت وشمرا
فها انا ذا داري بأجبال طيئ ... طريدا ولو شاء الإله لغيرا
نفاني عدوي ظالما عن مهاجري ... رضيت بِمَا شاء الإله وقدرا
وأسلمني قومي لغير جناية ... كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا
فإن ألف فِي دار بأجبال طيئ ... وَكَانَ معانا من عصير ومحضرا
فما كنت أخشى أن أَرَى متغربا ... لحا اللَّه من لاحى عَلَيْهِ وكثرا
لحا اللَّه قتل الحضرميين وائلا ... ولاقى الفنا من السنان الموفرا
ولاقى الردى القوم الَّذِينَ تحزبوا ... علينا وَقَالُوا قول زور ومنكرا
فلا يدعني قوم لغوث بن طيئ ... لأن دهرهم أشقى بهم وتغيرا

(5/283)


فلم اغزهم فِي المعلمين ولم أثر ... عَلَيْهِم عجاجا بالكويفة أكدرا
فبلغ خليلي أن رحلت مشرقا ... جديلة والحيين معنا وبحترا
ونبهان والأفناء من جذم طيئ ... ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا!
الم تذكروا يوم العذيب أليتي ... امامكم الا أَرَى الدهر مدبرا!
وكري عَلَى مهران والجمع حاسر ... وقتلي الهمام المستميت المسورا
ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم ... ويوم نهاوند الفتوح وتسترا
وتنسونني يوم الشريعة والقنا ... بصفين فِي أكتافهم قَدْ تكسرا
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... برفضي وخذلاني جزاء موفرا
أتنسى بلائي سادرا يا بن حاتم ... عشية مَا أغنت عديك حزمرا!
فدافعت عنك القوم حَتَّى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم الألد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثا بالأباءة مخدرا
نصرتكم إذ خام القريب وأبعط ... البعيد وَقَدْ أفردت نصرا مؤزرا
فكان جزائي أن أجرد بينكم ... سجينا وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدة لي مِنْكَ انك راجعي ... فلم تعن بالميعاد عني حبترا
فأصبحت أرعى النيب طورا وتارة ... أهرهر إن راعي الشويهات هرهرا
كأنيَ لم أركب جوادا لغارة ... ولم أترك القرن الكمي مقطرا

(5/284)


ولم أعترض بالسيف خيلا مغيرة ... إذا النكس مشى القهقرى ثُمَّ جرجرا
ولم أستحث الركض فِي إثر عصبة ... ميممة عُليا سجاس وأبهرا
ولم أذعر الإبلام مني بغارة ... كورد القطا ثُمَّ انحدرت مظفرا
ولم أر فِي خيل تطاعن بالقنا ... بقزوين أو شروين أو أغز كندرا
فذلك دهر زال عني حميده ... وأصبح لي معروفه قَدْ تنكرا
فلا يبعدن قومي وإن كنت غائبا ... وكنت المضاع فِيهِمْ والمكفرا
وَلا خير فِي الدُّنْيَا وَلا العيش بعدهم ... وإن كنت عَنْهُمْ نائي الدار محصرا
فمات بالجبلين قبل موت زياد.
وَقَالَ عبيدة الكندي ثُمَّ البدي، وَهُوَ يعير مُحَمَّد بن الأشعث بخذلانه حجرا:
أسلمت عمك لم تقاتل دونه ... فرقا ولولا أنت كَانَ منيعا
وقتلت وافد آل بيت مُحَمَّد ... وسلبت أسيافا لَهُ ودروعا
لو كنت من أسد عرفت كرامتي ... ورأيت لي بيت الحباب شفيعا

ذكر استعمال الربيع بن زياد على خراسان
وفي هَذِهِ السنة وجه زياد الربيع بن زياد الحارثي أميرا عَلَى خُرَاسَان بعد موت الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ، وَكَانَ الحكم قَدِ استخلف عَلَى عمله بعد موته أنس بن أبي أناس، وأنس هُوَ الَّذِي صلى عَلَى الحكم حين مات فدفن فِي دار خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ أخي خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، وكتب بِذَلِكَ الحكم إِلَى زياد، فعزل زياد أنسا، وولى مكانه خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي

(5/285)


فحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قَالَ: لما عزل زياد أنسا وولي مكانه خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي قَالَ أنس:
أَلا من مبلغ عني زيادا ... مغلغلة يخب بِهَا البريد
أتعزلني وتطعمها خليدا ... لقد لاقت حنيفة مَا تريد
عَلَيْكُمْ باليمامة فاحرثوها ... فأولكم وآخركم عبيد
فولى خليدا شهرا ثُمَّ عزله، وولى خُرَاسَان ربيع بن زياد الحارثي فِي أول سنة إحدى وخمسين، فنقل الناس عيالاتهم إِلَى خُرَاسَان، ووطنوا بِهَا، ثُمَّ عزل الربيع.
فَحدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بن محارب وعبد الرحمن ابن أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، قَالا: قَدِمَ الرَّبِيعُ خُرَاسَانَ فَفَتَحَ بَلْخَ صُلْحًا، وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوهَا بَعْدَ مَا صَالَحَهُمُ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَفَتَحَ قُهُسْتَانَ عَنْوَةً، وَكَانَتْ بِنَاحِيَتِهَا أَتْرَاكٌ، فَقَتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ نَيْزَكُ طَرْخَانَ، فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي وِلايَتِهِ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، قَالَ: غزا الربيع فقطع النهر وَمَعَهُ غلامه فروخ وجاريته شريفة، فغنم وَسَلَّمَ، فأعتق فروخا، وَكَانَ قَدْ قطع النهر قبله الحكم بن عَمْرو فِي ولايته ولم يفتح.
فَحَدَّثَنِي عمر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ أول الْمُسْلِمِينَ شرب من النهر مولى للحكم، اغترف بترسه فشرب، ثُمَّ ناول الحكم فشرب، وتوضأ وصلى من وراء النهر ركعتين، وَكَانَ أول الناس فعل ذَلِكَ، ثُمَّ قفل.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ.
وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة على المدينة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق كله زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة عميرة بن يثربي

(5/286)


ثُمَّ دخلت

سنة اثنتين وخمسين
فزعم الْوَاقِدِيّ أن فِيهَا كَانَتْ غزوة سُفْيَان بن عوف الأَزْدِيّ، ومشتاه بأرض الروم، وأنه توفي بِهَا، واستخلف عَبْد اللَّهِ بن مسعدة الفزاري.
وَقَالَ غيره: بل الَّذِي شتا بأرض الروم فِي هَذِهِ السنة بِالنَّاسِ بسر بن أبي أرطاة، وَمَعَهُ سُفْيَان بن عوف الأَزْدِيّ، وغزا الصائفة فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ الثقفي.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة سَعِيد بن الْعَاصِ فِي قول أبي معشر والواقدي وغيرهما.
وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال عَلَيْهَا كَانُوا فِي سنة إحدى وخمسين

(5/287)


ثُمَّ دخلت

سنة ثلاث وخمسين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذلك مشتى عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بأرض الروم.
وفيها فتحت رودس، جزيرة فِي البحر، ففتحها جُنَادَة بن ابى اميه الأزدي، فنزلها الْمُسْلِمُونَ- فِيمَا ذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ- وزرعوا واتخذوا بِهَا أموالا ومواشي يرعونها حولها، فإذا أمسوا أدخلوها الحصن، ولهم ناطور يحذرهم مَا فِي البحر ممن يريدهم بكيد، فكانوا عَلَى حذر مِنْهُمْ، وكانوا أشد شَيْء عَلَى الروم، فيعترضونهم فِي البحر فيقطعون سفنهم، وَكَانَ مُعَاوِيَة يدر لَهُمُ الأرزاق والعطاء، وَكَانَ العدو قَدْ خافهم، فلما مات مُعَاوِيَة أقفلهم يَزِيد بن معاويه.
وفيها كانت وفاه زياد بن سمية، حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ فِيلٍ مَوْلَى زِيَادٍ، قَالَ: مَلَكَ زِيَادٌ الْعِرَاقَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ مَاتَ سَنَةَ ثَلاثٍ وَخَمْسِينَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما نزل زياد عَلَى العراق بقي إِلَى سنة ثلاث وخمسين، ثُمَّ مات بالكوفة فِي شهر رمضان وخليفته عَلَى الْبَصْرَة سمرة بن جندب.

ذكر سبب مهلك زياد بن سمية
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ، أَنَّ زِيَادًا كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي ضَبَطْتُ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي،

(5/288)


وَيَمِينِي فَارِغَةٌ فَضَمَّ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ الْعَرُوضَ- وَهِيَ الْيَمَامَةُ وَمَا يَلِيهَا- فَدَعَا عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ، فَطُعِنَ وَمَاتَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ: اذْهَبْ إِلَيْكَ ابْنَ سُمَيَّةَ، فَلا الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَكَ، وَلا الآخِرَةَ أَدْرَكْتَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: كَتَبَ زِيَادٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ:
قَدْ ضَبَطْتُ لَكَ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي وَيَمِينِي فَارِغَةٌ، فَاشْغَلْهَا بِالْحِجَازِ، وَبَعَثَ فِي ذَلِكَ الْهَيْثَمَ بْنَ الأَسْوَدِ النَّخَعِيَّ، وَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ مَعَ الْهَيْثَمِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْحِجَازِ أَتَى نَفَرٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ادْعُوا اللَّهَ عَلَيْهِ يَكْفِيكُمُوهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَاسْتَقْبَلُوهَا فَدَعَوْا وَدَعَا، فَخَرَجَتْ طَاعُونَةٌ عَلَى أُصْبُعِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى شُرَيْحٍ- وَكَانَ قَاضِيهِ- فَقَالَ:
حَدَثَ بِي مَا تَرَى، وَقَدْ أُمِرْتُ بِقَطْعِهَا، فَأَشِرْ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ:
إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْجِرَاحُ عَلَى يَدِكَ، وَالأَلَمُ عَلَى قَلْبِكَ، وَأَنْ يَكُونَ الأَجَلُ قَدْ دَنَا، فَتَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجْذَمَ، وَقَدْ قَطَعْتَ يَدَكَ كَرَاهِيَةً لِلِقَائِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الأَجَلِ تَأْخِيرٌ وَقَدْ قَطَعْتَ يَدَكَ فَتَعِيشُ أَجْذَمَ وَتُعَيَّرُ وَلَدُكَ.
فَتَرَكَهَا، وَخَرَجَ شُرَيْحٌ فَسَأَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَشَارَ بِهِ، فَلامُوهُ وَقَالُوا:
هَلا أَشَرْتَ عَلَيْهِ بِقَطْعِهَا! [فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ص: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ المروزي، قَالَ: حدثني أبي، قال: حدثني سُلَيْمَان، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَنْ يُحَدِّثُ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى شُرَيْحٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي قَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ: لا تَفْعَلْ، إِنَّكَ إِنْ عِشْتَ صِرْتَ أَجْذَمَ، وَإِنْ هَلَكْتَ إِيَّاكَ جَانِيًا عَلَى نَفْسِكَ، قَالَ: أَنَامُ وَالطَّاعُونَ فِي لِحَافٍ! فَعَزَمَ أَنْ يَفْعَلَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى النَّارِ وَالْمَكَاوِي جَزِعَ وَتَرَكَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْمَلِكِ بن قريب الأصمعي، قَالَ:
حَدَّثَنِي ابن أبي زياد، قَالَ: لما حضرت زيادا الوفاة قَالَ لَهُ ابنه: يَا أبت، قَدْ هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فِيهَا، قَالَ: يَا بني، قَدْ دنا من أبيك

(5/289)


لباس خير من لباسه هَذَا، أو سلب سريع، فمات فدفن بالثوية إِلَى جانب الْكُوفَة، وَقَدْ توجه يَزِيد إِلَى الحجاز واليا عَلَيْهَا، فَقَالَ مسكين بن عَامِر بن شريح بن عَمْرو بن عدس بن زَيْد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دارم:
رأيت زيادة الإِسْلام ولت ... جهارا حين ودعنا زياد
وَقَالَ الفرزدق لمسكين- ولم يكن هجا زيادا حَتَّى مات:
أمسكين أبكى اللَّه عينك إنما ... جرى فِي ضلال دمعها فتحدرا
بكيت امرأ من آل ميسان كافرا ... ككسرى عَلَى عدانه أو كقيصرا
أقول لَهُ لما أتاني نعيه ... بِهِ لا بظبي بالصريمة أعفرا
فأجابه مسكين، فَقَالَ:
أَلا أيها المرء الَّذِي لست ناطقا ... وَلا قاعدا فِي القوم إلا انبرى ليا
فجئني بعم مثل عمي أو أب ... كمثل أبي أو خال صدق كخاليا
كعمرو بن عَمْرو أو زرارة والدا ... أو البشر من كل فرعت الروابيا
وما زال بي مثل القناة وسابح ... وخطارة غب السرى من عياليا
فهذا لأيام الحفاظ وهذه ... لرحلي وهذا عدة لارتحاليا!
وَقَالَ الفرزدق:
أبلغ زيادا إذا لاقيت مصرعه ... أن الحمامة قَدْ طارت من الحرم
طارت فما زال ينميها قوادمها ... حَتَّى استغاثت إِلَى الأنهار والأجم
حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: رَأَيْتُ زِيَادًا فِيهِ حُمْرَةٌ، فِي عَيْنِهِ الْيُمْنَى انْكِسَارٌ، أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ مَخْرُوطُهَا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعٌ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا لِجَامُهَا قَدْ أرسنها

(5/290)


ذكر الخبر عن وفاه الربيع بن زياد الحارثى
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ الرَّبِيعِ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ، وَهُوَ عَامِلُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ.
(ذكر الخبر عن سبب وفاته:) حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ولي الربيع بن زياد خُرَاسَان سنتين وأشهرا، ومات فِي العام الَّذِي مات فِيهِ زياد، واستخلف ابنه عَبْد اللَّهِ بن الربيع، فولي شهرين، ثُمَّ مات عَبْد اللَّهِ قَالَ: فقدم عهده من قبل زياد عَلَى خُرَاسَان وَهُوَ يدفن، واستخلف عَبْد اللَّهِ بن الربيع عَلَى خُرَاسَان خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي.
قَالَ علي: وأخبرني مُحَمَّد بن الفضل، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بلغنى ان الربيع ابن زياد ذكر يَوْمًا بخراسان حجر بن عدي، فَقَالَ: لا تزال العرب تقتل صبرا بعده، ولو نفرت عِنْدَ قتله لم يقتل رجل مِنْهُمْ صبرا، ولكنها أقرت فذلت، فمكث بعد هَذَا الكلام جمعة، ثُمَّ خرج فِي ثياب بياض فِي يوم جمعة، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني قَدْ مللت الحياة، وإني داع بدعوة فأمنوا ثُمَّ رفع يده بعد الصَّلاة، وَقَالَ: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلا وأمن الناس فخرج، فما توارت ثيابه حَتَّى سقط فحمل إِلَى بيته، واستخلف ابنه عَبْد اللَّهِ، ومات من يومه، ثُمَّ مات ابنه، فاستخلف خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، فأقره زياد، فمات زياد وخليد عَلَى خُرَاسَان، وهلك زياد وَقَدِ استخلف عَلَى عمله عَلَى الْكُوفَة عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، وعلى الْبَصْرَة سمرة بن جندب الفزاري.
فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي، قَالَ: مات زياد وعلى الْبَصْرَة سمرة بن جندب خليفة لَهُ، وعلى الْكُوفَة عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فأقر سمرة عَلَى الْبَصْرَة ثمانية عشر شهرا.
قَالَ عمر: وبلغني عن جَعْفَر بن سُلَيْمَانَ الضبعي، قَالَ: أقر مُعَاوِيَة سمرة بعد زياد ستة أشهر، ثُمَّ عزله، فَقَالَ سمرة: لعن اللَّه مُعَاوِيَة! وَاللَّهِ لو أطعت اللَّه كما أطعت مُعَاوِيَة مَا عذبني ابدا

(5/291)


حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قال: حدثنى سليمان ابن مُسْلِمٍ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: مَرَرْتُ بِالْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَمُرَةَ فَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ فَجَعَلَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، فَإِذَا رَأْسُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَبَدَنُهُ نَاحِيَةً، فَمَرَّ أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» ، قَالَ أَبِي: فَشَهِدْتُ ذَاكَ، فَمَا مَاتَ سَمُرَةُ حَتَّى أَخَذَهُ الزَّمْهَرِيرُ، فَمَاتَ شَرَّ مِيتَةٍ، قَالَ: وَشَهِدْتُهُ وَأُتِيَ بِنَاسٍ كَثِيرٍ وَأُنَاسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لِلرَّجُلِ:
مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ، فَيَقْدَمُ فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ حَتَّى مَرَّ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سعيد بن العاص في قول أبي معشر والواقدى وَغَيْرُهُمَا.
وَكَانَ الْعَامِلُ فِيهَا عَلَى الْمَدِينَةِ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ مَوْتِ زِيَادٍ عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِ زِيَادٍ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ.

(5/292)


ثُمَّ دخلت

سنة أربع وخمسين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَ مشتى مُحَمَّد بن مالك أرض الروم، وصائفة معن بن يَزِيدَ السلمي.
وفيها- فِيمَا زعم الْوَاقِدِيّ- فتح جُنَادَة بن أَبِي أُمَيَّةَ جزيرة فِي البحر قريبة من قسطنطينية يقال لها أرواد.
وذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ أن الْمُسْلِمِينَ أقاموا بِهَا دهرا، فِيمَا يقال سبع سنين، وَكَانَ فِيهَا مجاهد بن جبر قَالَ: وَقَالَ تبيع ابن امرأة كعب: ترون هَذِهِ الدرجة؟ إذا انقلعت جاءت قفلتنا قَالَ: فهاجت ريح شديدة فقلعت الدرجة، وجاء نعي مُعَاوِيَة وكتاب يَزِيد بالقفل فقفلنا، فلم تعمر بعد ذَلِكَ وخربت، وامن الروم.

ذكر عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمال مروان
وفيها عزل مُعَاوِيَة سَعِيد بن الْعَاصِ عن الْمَدِينَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا مَرْوَان بن الحكم.
(ذكر سبب عزل مُعَاوِيَة سعيدا واستعمال مَرْوَان:) حَدَّثَنِي عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ جويرة بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُغْرِي بَيْنَ مَرْوَانَ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَكَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ: أَهْدِمْ دَارَ مَرْوَانَ، فَلَمْ يَهْدِمْهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِهَدْمِهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى مَرْوَانَ.
وأما محمد بْن عمر، فإنه ذكر أن مُعَاوِيَة كتب إِلَى سَعِيد بن الْعَاصِ يأمره بقبض أموال مَرْوَان كلها فيجعلها صافية، ويقبض فدك منه- وكان

(5/293)


وهبها لَهُ، فراجعه سَعِيد بن الْعَاصِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: قرابته قريبة فكتب إِلَيْهِ ثانية يأمره باصطفاء أموال مَرْوَان، فأبى، وأخذ سَعِيد بن الْعَاصِ الكتابين فوضعهما عِنْدَ جارية، فلما عزل سَعِيد عن الْمَدِينَة فوليها مَرْوَان، كتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان بن الحكم يأمره بقبض اموال سعيد بن العاص بالحجار، وأرسل إِلَيْهِ بالكتاب مع ابنه عَبْد الْمَلِكِ، فخبره أنه لو كَانَ شَيْئًا غير كتاب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لتجافيت، فدعا سَعِيد بن الْعَاصِ بالكتابين اللذين كتب بهما مُعَاوِيَة إِلَيْهِ فِي أموال مَرْوَان يأمره فيهما بقبض أمواله، فذهب بهما إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ: هُوَ كَانَ أوصل لنا منا لَهُ! وكف عن قبض أموال سَعِيد.
وكتب سَعِيد بن الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ: العجب مما صنع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بنا فِي قرابتنا، أن يضغن بعضنا عَلَى بعض! فأمير الْمُؤْمِنِينَ فِي حلمه وصبره عَلَى مَا يكره من الاجنبين، وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء، وتوارث الأولاد ذلك، فو الله لو لم نكن بني أب واحد إلا بِمَا جمعنا اللَّه عَلَيْهِ من نصر الخليفة المظلوم، واجتماع كلمتنا، لكان حقا علينا أن نرعى ذَلِكَ، والذي أدركنا بِهِ خير فكتب إِلَيْهِ يتنصل من ذَلِكَ، وأنه عائد إِلَى أحسن مَا يعهده.
عاد الحديث إِلَى حديث عمر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فلما ولى مَرْوَان كتب إِلَيْهِ: اهدم دار سَعِيد، فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: يَا أَبَا عَبْد الْمَلِكِ، أتهدم داري! قَالَ: نعم، كتب إلي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ولو كتب فِي هدم داري لفعلت، قَالَ: مَا كنت لأفعل، قَالَ: بلى، وَاللَّهِ لو كتب إليك لهدمتها، قَالَ: كلا أبا عَبْد الْمَلِكِ وَقَالَ لغلامه: انطلق فجئني بكتاب مُعَاوِيَة، فَجَاءَ بكتاب مُعَاوِيَة إِلَى سَعِيد بن الْعَاصِ فِي هدم دار مَرْوَان بن الحكم، قَالَ: مَرْوَان كتب إليك يَا أَبَا عُثْمَان فِي هدم داري، فلم تهدم ولم تعلمني قَالَ: مَا كنت لأهدم دارك، وَلا أمن، عَلَيْك، وإنما أراد مُعَاوِيَة أن يحرض بيننا، فَقَالَ

(5/294)


مروان: فداك ابى وأمي! أنت وَاللَّهِ أكثر منا ريشا وعقبا ورجع مَرْوَان ولم يهدم دار سَعِيد.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ ذَكْوَانَ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ، كَيْفَ تَرَكْتَ أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ ضَابِطًا لِعَمَلِكَ، مُنَفِّذًا لأَمْرِكَ قَالَ: إِنَّهُ كَصَاحِبِ الْخُبْزَةِ كُفِيَ نُضْجَهَا فَأَكَلَهَا، قَالَ: كَلا، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَمَعَ قَوْمٍ لا يَحْمِلُ بِهِمُ السَّوْطَ، وَلا يَحِلُّ لَهُمُ السَّيْفَ، يَتَهَادُونَ كَوَقْعِ النَّبْلِ، سَهْمٌ لَكَ وَسَهْمٌ عَلَيْكَ، قَالَ: مَا بَاعَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟
قَالَ: خَافَنِي عَلَى شَرَفِهِ، وَخِفْتُهُ عَلَى شَرَفِي، قَالَ: فَمَاذَا لَهُ عِنْدَكَ؟
قَالَ: أُسِرُّهُ غَائِبًا، وَأُسِرُّهُ شَاهِدًا، قَالَ: تَرَكْتَنَا يَا أَبَا عُثْمَانَ فِي هَذِهِ الْهَنَاتِ، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَحَمَّلْتُ الثِّقَلَ، وَكُفِيتُ الْحَزْمَ، وَكُنْتُ قَرِيبًا لَوْ دَعَوْتُ أُجِبْتُ، وَلَوْ ذَهَبْتُ رُفِعْتُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ عَزْلُ مُعَاوِيَةَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلانَ فَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَمُرَةَ وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلانَ، فَأَقَرَّهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَوَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو شرطته عبد الله بن حصن
. ذكر توليه معاويه عبيد الله بن زياد على خراسان
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى مُعَاوِيَةُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ خُرَاسَانَ.
(ذِكْرُ سَبَبِ وِلايَةِ ذَلِكَ) :
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ الْقُرَشِيُّ، قَالا: لَمَّا مَاتَ زِيَادٌ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: مَنِ اسْتَخْلَفَ أَخِي عَلَى عَمَلِهِ بِالْكُوفَةِ؟ قَالَ: عَبْدُ الله بن خالد

(5/295)


ابن أُسَيْدٍ، قَالَ: فَمَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَى الْبَصْرَةِ؟ قَالَ: سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْفَزَارِيُّ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَوِ اسْتَعْمَلَكَ أَبُوكَ اسْتَعْمَلْتُكَ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ:
أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ يَقُولَهَا إِلَيَّ أَحَدٌ بعدك: لو ولاك ابوك وعمك لوليتك! قالا: وَكَانَ مُعَاوِيَةُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلا مِنْ بَنِي حَرْبٍ وَلاهُ الطَّائِفَ، فَإِنْ رَأَى منه خيرا وما يُعْجِبُهُ وَلاهُ مَكَّةَ مَعَهَا، فَإِنْ أَحْسَنَ الْوِلايَةَ وَقَامَ بِمَا وُلِّيَ قِيَامًا حَسَنًا جَمَعَ لَهُ مَعَهُمَا الْمَدِينَةَ، فَكَانَ إِذَا وُلِّيَ الطَّائِفُ رَجُلا قِيلَ:
هُوَ فِي أَبِي جَادٍ، فَإِذَا وَلاهُ مَكَّةَ قِيلَ: هُوَ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا وَلاهُ المدينة قيل: هو قد حذق.
قَالا: فَلَمَّا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَا قَالَ وَلاهُ خُرَاسَانَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ حِينَ وَلاهُ:
إِنِّي قَدْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مِثْلَ عَهْدِي إِلَى عُمَّالِي، ثُمَّ أُوصِيكَ وَصِيَّةَ الْقَرَابَةِ لِخَاصَّتِكَ عِنْدِي: لا تَبِيعَنَّ كَثِيرًا بِقَلِيلٍ، وَخُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ، وَاكْتَفِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ بِالْوَفَاءِ تَخِفَّ عَلَيْكَ الْمَئُونَةُ وَعَلَيْنَا مِنْكَ، وَافْتَحْ بَابَكَ لِلنَّاسِ تَكُنْ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءً، وَإِذَا عَزَمْتَ عَلَى أَمْرٍ فَأَخْرِجْهُ إِلَى النَّاسِ، وَلا يَكُنْ لأَحَدٍ فِيهِ مَطْمَعٌ، وَلا يَرْجِعَنَّ عَلَيْكَ وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَغَلَبُوكَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَلا يَغْلِبُوكَ عَلَى بطنها، وان احتاج أصحابك الى ان تؤاسيهم بِنَفْسِكَ فَأْسُهُمْ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَقَالَ:
اسْتَمْسِكِ الْفَسْفَاسَ إِنْ لَمْ يَقْطَعْ.
وَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُؤْثِرَنَّ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ شَيْئًا، فَإِنَّ فِي تَقْوَاهُ عِوَضًا، وَقِ عِرْضَكَ مِنْ أَنْ تُدَنِّسَهُ، وَإِذَا أَعْطَيْتَ عَهْدًا فَفِ بِهِ، وَلا تَبِيعَنَّ كَثِيرًا بِقَلِيلٍ، وَلا تُخْرِجَنَّ مِنْكَ أَمْرًا حَتَّى تُبْرِمَهُ، فَإِذَا خَرَجَ فَلا يُرَدَنَّ عَلَيْكَ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فكن اكثر من معك، وقاسمهم عَلَى كِتَابِ اللَّهِ،

(5/296)


وَلا تُطْمِعَنَّ أَحَدًا فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَلا تُؤْيِسَنَّ أَحَدًا مِنْ حَقٍّ لَهُ ثُمَّ وَدَّعَهُ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مسلمة، قَالَ: سار عُبَيْد اللَّهِ إِلَى خُرَاسَان فِي آخر سنة ثلاث وخمسين وَهُوَ ابن خمس وعشرين سنة من الشام وقدم إِلَى خراسان اسلم بن زرعه الكلابى، فخرج، فخرج مَعَهُ من الشام الجعد بن قيس النمري يرجز بين يديه بمرثية زياد يقول فِيهَا:
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ مرة أخرى فِي كتابه الَّذِي سماه كتاب أخبار أهل الْبَصْرَة، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ المدائني قَالَ: لما عقد مُعَاوِيَة لعبيد اللَّه بن زياد عَلَى خُرَاسَان خرج وعليه عمامة- وَكَانَ وضيئا- والجعد بن قيس ينشده مرثية زياد:
أبق علي عاذلي من اللوم ... فِيمَا أزيلت نعمتي قبل الْيَوْم
قَدْ ذهب الكريم والظل الدوم ... والنعم المؤثل الدثر الحوم
والماشيات مشية بعد النوم ... ليت الجياد كلها مع القوم
سقين سم ساعة قبل الْيَوْم ... لأربع مضين من شهر الصوم
ومنها:
يوم الثلاثاء الَّذِي كَانَ مضى ... يوم قضى فِيهِ المليك مَا قضى
وفاة بر ماجد جلد القوى ... حر به نوال جعد والتظى
كَانَ زياد جبلا صعب الذرى ... شهما إذا شئتم نقيصات أبي
لا يبعد اللَّه زيادا إذ ثوى.
وبكى عُبَيْد اللَّهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى سقطت عمامته عن رأسه، قَالَ: وقدم عُبَيْد اللَّهِ خُرَاسَان ثُمَّ قطع النهر إِلَى جبال بخارى عَلَى الإبل، فكان هُوَ أول من قطع إليهم جبال بخارى في جند، ففتح راميثن ونصف بيكند- وهما من بخارى- فمن ثُمَّ أصاب البخارية.
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بن رشيد، عن عمه، قَالَ: لقي عُبَيْد اللَّهِ بن

(5/297)


زياد الترك ببخارى ومع ملكهم امرأته قبج خاتون، فلما هزمهم اللَّه أعجلوها عن لبس خفيها، فلبست أحدهما وبقي الآخر، فأصابه الْمُسْلِمُونَ، فقوم الجورب بمائتي ألف درهم.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حفص، عن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بن معمر، عن عبادة بن حصن، قَالَ: مَا رأيت أحدا أشد بأسا من عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، لقينا زحف من الترك بخراسان، فرأيته يقاتل فيحمل عَلَيْهِم فيطعن فِيهِمْ ويغيب عنا، ثُمَّ يرفع رايته تقطر دما.
قَالَ علي: وأخبرنا مسلمة أن البخارية الَّذِينَ قدم بهم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْبَصْرَة ألفان، كلهم جيد الرمي بالنشاب قَالَ مسلمة: كَانَ زحف الترك ببخارى أيام عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من زحوف خُرَاسَان الَّتِي تعد، قَالَ: وأخبرنا الْهُذَلِيّ، قَالَ: كَانَتْ زحوف خُرَاسَان خمسة: أربعة لقيها الأحنف بن قيس، الذى لقيه بين قهستان وأبرشهر، والزحوف الثلاثة الَّتِي لقيها بالمرغاب، والزحف الخامس زحف قارن، فضه عَبْد اللَّهِ بن خازم.
قَالَ علي: قَالَ مسلمة: أقام عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بخراسان سنتين.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، كذلك حدثنى احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره.
وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، وعلى الكوفه عبد الله خَالِد بن أسيد، وَقَالَ بعضهم: كَانَ عَلَيْهَا الضحاك بن قيس، وعلى الْبَصْرَة عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن غيلان

(5/298)


ثُمَّ دخلت

سنة خمس وخمسين
(ذكر الخبر عن الكائن فِيهَا من الأحداث) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ مشتى سُفْيَان بن عوف الأَزْدِيّ بأرض الروم فِي قول الْوَاقِدِيّ.
وَقَالَ بعضهم: بل الَّذِي كَانَ شتا بأرض الروم في هذه السنه عمرو ابن محرز.
وَقَالَ بعضهم: بل الَّذِي شتا بِهَا عَبْد اللَّهِ بن قيس الفزاري.
وَقَالَ بعضهم: بل ذَلِكَ مالك بن عَبْدِ اللَّهِ.
وفيها عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن غيلان عن الْبَصْرَة وولاها عُبَيْد اللَّهِ بن زياد.

ذكر الخبر عن سبب عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو بن غيلان وتوليته عُبَيْد اللَّهِ الْبَصْرَة
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ- قَالَ: وَاخْتَلَفَا فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ- قَالا: خَطَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَيْلانَ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ، فَحَصَبَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ- قَالَ عُمَرُ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: يُدْعَى جُبَيْرَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَحَدَ بَنِي ضِرَارٍ- فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، فَقَالَ:
السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّسْلِيمْ ... خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ
فَأَتَتْهُ بَنُو ضَبَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبَنَا جَنَى مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ بَالَغَ الأَمِيرُ فِي عُقُوبَتِهِ، وَنَحْنُ لا نَأْمَنُ أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ عُقُوبَةً تَخُصُّ أَوْ تَعُمُّ، فَإِنْ رَأَى الأَمِيرُ أَنْ يَكْتُبَ لَنَا كِتَابًا يَخْرُجُ

(5/299)


بِهِ أَحَدُنَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَطَعَهُ عَلَى شُبْهَةٍ وَأَمْرٍ لَمْ يَضِحْ، فَكَتَبَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمْسَكُوا الْكِتَابَ حَتَّى بَلَغَ رَأْسَ السَّنَةِ- وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: لَمْ يَزِدْ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ- فَوَجَّهَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَوَافَاهُ الضَّبِّيُّونَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَطَعَ صَاحِبَنَا ظُلْمًا، وَهَذَا كِتَابُهُ إِلَيْكَ، وَقَرَأَ الْكِتَابَ، فَقَالَ: أَمَّا الْقَوَدُ مِنْ عُمَّالِي فَلا يَصِحُّ، وَلا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ شئتم وديت صاحبكم، قالوا: فده، فوداه مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعَزَلَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَنْ تُحِبُّونَ أَنْ أُوَلِّيَ بَلَدَكُمْ، قَالُوا: يَتَخَيَّرُ لَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عَلِمَ رَأْيَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي ابْنِ عَامِرٍ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ فِي ابْنِ عَامِرٍ؟ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَرَفْتُمْ فِي شَرَفِهِ وَعَفَافِهِ وَطَهَارَتِهِ، قَالُوا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ، فَجَعَلَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِيَسْبِرَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ وَلَّيْتُ عَلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ.
قَالَ عمر: حدثني علي بن محمد، قال: عزل معاوية عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو وولى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْبَصْرَة فِي سنة خمس وخمسين وولى عبيد الله اسلم ابن زرعة خُرَاسَان فلم يغز ولم يفتح بِهَا شَيْئًا، وولى شرطة عَبْد اللَّهِ بن حصن، والقضاء زرارة بن أوفى ثُمَّ عزله، وولي القضاء ابن أذينة العبدي.
وفي هَذِهِ السنة عزل مُعَاوِيَة عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد عن الْكُوفَة وولاها الضحاك بن قيس الفهري.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، حدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.

(5/300)


ثُمَّ دخلت

سنة ست وخمسين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَ مشتى جُنَادَة بن أَبِي أُمَيَّةَ بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن ابن مسعود.
وقيل غزا فِيهَا فِي البحر يَزِيد بن شجره الرهاوى، وفي البر عياض ابن الْحَارِث.
وحج بِالنَّاسِ- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثابت عمن حدثه، عن إسحاق ابن عِيسَى، عن أبي معشر- الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ.
وفيها اعتمر مُعَاوِيَة فِي رجب.

ذكر خبر البيعه ليزيد بولاية العهد
وفيها دعا مُعَاوِيَة الناس إِلَى بيعة ابنه يَزِيد من بعده، وجعله ولي العهد.
ذكر السبب فِي ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الهمداني وعلي بن مُجَاهِدٍ، قَالا: قَالَ الشَّعْبِيّ: قدم الْمُغِيرَة عَلَى مُعَاوِيَة واستعفاه وشكا إِلَيْهِ الضعف، فأعفاه، وأراد أن يولي سَعِيد بن الْعَاصِ، وبلغ كاتب الْمُغِيرَة ذَلِكَ، فأتى سَعِيد بن الْعَاصِ فأخبره وعنده رجل من أهل الْكُوفَة يقال لَهُ رَبِيعَة- أو الربيع- من خزاعة، فأتى الْمُغِيرَة فَقَالَ: يَا مغيرة، مَا أَرَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إلا قَدْ قلاك، رأيت ابن خنيس كاتبك عند سعيد ابن الْعَاصِ يخبره أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يوليه الْكُوفَة، قَالَ الْمُغِيرَة: أفلا يقول كما قَالَ الأعشى:

(5/301)


أم غاب ربك فاعترتك خصاصة ... ولعل ربك أن يعود مؤيدا
رويدا! أدخل عَلَى يَزِيد، فدخل عَلَيْهِ فعرض لَهُ بالبيعة، فأدى ذَلِكَ يَزِيد إِلَى أَبِيهِ، فرد مُعَاوِيَة الْمُغِيرَة إِلَى الْكُوفَةِ، فأمره أن يعمل فِي بيعة يَزِيد، فشخص الْمُغِيرَة إِلَى الْكُوفَةِ، فأتاه كاتبه ابن خنيس، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا غششتك وَلا خنتك، وَلا كرهت ولايتك، ولكن سعيدا كَانَتْ لَهُ عندي يد وبلاء، فشكرت ذَلِكَ لَهُ، فرضي عنه وأعاده إِلَى كتابته، وعمل الْمُغِيرَة فِي بيعة يَزِيد، وأوفد فِي ذَلِكَ وافدا إِلَى مُعَاوِيَةَ.
حَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، عن مسلمة، قَالَ: لما أراد مُعَاوِيَة أن يبايع ليزيد كتب إِلَى زياد يستشيره، فبعث زياد إِلَى عبيد بن كعب النميري، فَقَالَ: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قَدْ أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إِلَى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابا، ورجل دنيا لَهُ شرف فِي نفسه وعقل يصون حسبه، وَقَدْ عجمتهما مِنْكَ، فأحمدت الَّذِي قبلك، وَقَدْ دعوتك لأمر اتهمت عَلَيْهِ بطون الصحف، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كتب إلي يزعم أنه قَدْ عزم عَلَى بيعة يَزِيد، وَهُوَ يتخوف نفرة الناس، ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني، وعلاقة أمر الإِسْلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع مَا قَدْ أولع بِهِ من الصيد، فَالْقَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مؤديا عني، فأخبره عن فعلات يَزِيد، فَقَالَ لَهُ: رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك مَا تريد، وَلا تعجل فإن دركا فِي تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت فَقَالَ عبيد لَهُ: أفلا غير هَذَا! قَالَ: مَا هُوَ؟
قَالَ: لا تفسد عَلَى مُعَاوِيَة رأيه، وَلا تمقت إِلَيْهِ ابنه، وألقى أنا يَزِيد سرا من مُعَاوِيَة فأخبره عنك أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كتب إليك يستشيرك فِي بيعته،

(5/302)


وأنك تخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عَلَيْهِ، وأنك ترى لَهُ ترك مَا ينقم عَلَيْهِ، فيستحكم لأمير الْمُؤْمِنِينَ الحجة عَلَى الناس، ويسهل لك مَا تريد، فتكون قَدْ نصحت يَزِيد وأرضيت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة فَقَالَ زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص عَلَى بركة اللَّه، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إِنْ شَاءَ اللَّهُ من الخطإ، قَالَ: تقول بِمَا ترى، ويقضي اللَّه بغيب مَا يعلم فقدم عَلَى يَزِيد فذاكره ذَلِكَ وكتب زياد إِلَى مُعَاوِيَةَ يأمره بالتؤده، والا يعجل، فقبل ذَلِكَ مُعَاوِيَة، وكف يَزِيد عن كثير مما كَانَ يصنع، ثُمَّ قدم عبيد عَلَى زياد فأقطعه قطيعة.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: لما مات زياد دعا مُعَاوِيَة بكتاب فقرأه عَلَى الناس باستخلاف يَزِيد، أن حدث بِهِ حدث الموت فيزيد ولي عهد، فاستوسق لَهُ الناس عَلَى البيعة ليزيد غير خمسة نفر.
فَحَدَّثَنِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابن عون، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل بنخلة، قَالَ: بايع الناس ليزيد بن مُعَاوِيَة غير الْحُسَيْن بن علي وابن عمر وابن الزُّبَيْر وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وابن عباس، فلما قدم مُعَاوِيَة ارسل الى الحسين بن على، فقال: يا بن أخي، قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي، فما إربك إِلَى الخلاف؟ قَالَ: أنا أقودهم! قَالَ: نعم، أنت تقودهم، قَالَ: فأرسل إِلَيْهِم، فإن بايعوا كنت رجلا مِنْهُمْ، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قَالَ: وتفعل؟ قال: نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا قَالَ: فالتوى عَلَيْهِ، ثُمَّ أعطاه ذَلِكَ، فخرج وَقَدْ أقعد لَهُ ابن الزبير

(5/303)


رجلا بالطريق قَالَ: يقول لك أخوك ابن الزُّبَيْر: مَا كَانَ؟ فلم يزل بِهِ حَتَّى استخرج مِنْهُ شَيْئًا.
ثُمَّ أرسل بعده إِلَى ابن الزبير، فقال له: قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما إربك إِلَى الخلاف؟
قَالَ: أنا أقودهم! قَالَ: نعم، أنت تقودهم، قَالَ: فأرسل إِلَيْهِم فإن بايعوا كنت رجلا مِنْهُمْ، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قَالَ: وتفعل؟ قال:
نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نحن فِي حرم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وعهد اللَّه سُبْحَانَهُ ثقيل، فأبى عَلَيْهِ، وخرج.
ثُمَّ أرسل بعده إِلَى ابن عمر فكلمه بكلام هُوَ ألين من كلام صاحبه، فَقَالَ: إني أرهب أن أدع أمة مُحَمَّد بعدي كالضأن لا راعى لها، وقد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، فما إربك إِلَى الخلاف! قَالَ: هل لك فِي أمر يذهب الذم، ويحقن الدم، وتدرك بِهِ حاجتك؟ قَالَ: وددت! قَالَ: تبرز سريرك، ثُمَّ أجيء فأبايعك، عَلَى أني أدخل بعدك فِيمَا تجتمع عَلَيْهِ الأمة، فو الله لو أن الأمة اجتمعت بعدك عَلَى عبد حبشي لدخلت فِيمَا تدخل فِيهِ الأمة، قَالَ: وتفعل؟ قَالَ: نعم، ثُمَّ خرج فأتى منزله فأطبق بابه، وجعل الناس يجيئون فلا يأذن لَهُمْ.
فأرسل إِلَى عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فقال: يا بن أبي بكر، بأية يد أو رجل تقدم عَلَى معصيتي! قَالَ: أرجو أن يكون ذَلِكَ خيرا لي، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لقد هممت أن أقتلك، قَالَ: لو فعلت لأتبعك اللَّه بِهِ لعنة فِي الدُّنْيَا، وأدخلك بِهِ فِي الآخرة النار.
قال: ولم يذكر ابن عباس
. ذكر عزل ابن زياد عن خراسان واستعمال سعيد بن عثمان
وَكَانَ العامل عَلَى الْمَدِينَة فِي هَذِهِ السنة مَرْوَان بن الحكم، وعلى الْكُوفَة الضحاك بن قيس، وعلى الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى خراسان سعيد ابن عثمان

(5/304)


وَكَانَ سبب ولايته خُرَاسَان مَا حَدَّثَنِي عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي علي، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بن حفص، قَالَ: سأل سَعِيد بن عُثْمَانَ مُعَاوِيَة أن يستعمله عَلَى خُرَاسَان، فَقَالَ: إن بِهَا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حَتَّى بلغت باصطناعه المدى الَّذِي لا يجارى إِلَيْهِ وَلا يسامى، فما شكرت بلاءه، وَلا جازيته بآلائه، وقدمت علي هَذَا- يعني يَزِيد بن مُعَاوِيَة- وبايعت لَهُ، وو الله لأنا خير منه أبا واما ونفسا، فقال: فَقَالَ مُعَاوِيَة:
أما بلاء أبيك فقد يحق عَلَيَّ الجزاء بِهِ، وَقَدْ كَانَ من شكري لذلك أني طلبت بدمه حَتَّى تكشفت الأمور، ولست بلائم لنفسي فِي التشمير، وأما فضل أبيك عَلَى أَبِيهِ فأبوك وَاللَّهِ خير مني واقرب برسول الله ص، وأما فضل أمك عَلَى أمه فما ينكر، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، واما فضلك عليه فو الله مَا أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك.
فَقَالَ لَهُ يَزِيد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ابن عمك، وأنت أحق من نظر فِي امره، وقد عتب عليك فأعتبه، قَالَ: فولاه حرب خُرَاسَان، وولى إِسْحَاق ابن طَلْحَة خراجها، وَكَانَ إِسْحَاق ابن خالة مُعَاوِيَة، أمه أم ابان ابنه عتبة ابن رَبِيعَة، فلما صار بالري مات إِسْحَاق بن طَلْحَة فولي سَعِيد خراج خُرَاسَان وحربها.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي علي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مسلمة، قَالَ: خرج سَعِيد إِلَى خُرَاسَان وخرج مَعَهُ أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس، وطلحه ابن عبد الله بن خلف الخزاعي والمهلب بن أبي صفرة وربيعة بن عسل أحد بني عَمْرو بن يربوع، قَالَ: وَكَانَ قوم من الأعراب يقطعون الطريق عَلَى الحاج ببطن فلج، فقيل لسعيد: ان هاهنا قوما يقطعون

(5/305)


الطريق عَلَى الحاج ويخيفون السبيل، فلو أخرجتهم معك! قَالَ: فأخرج قوما من بني تميم، مِنْهُمْ مالك بن الريب المازني فِي فتيان كَانُوا مَعَهُ، وفيهم يقول الراجز:
ألله أنجاك من القصيم ... ومن أبي حردبة الأثيم
ومن غويث فاتح العكوم ... ومالك وسيفه المسموم
قَالَ علي: قَالَ مسلمة: قدم سَعِيد بن عُثْمَانَ، فقطع النهر إِلَى سمرقند، فخرج إِلَيْهِ أهل الصغد، فتواقفوا يَوْمًا إِلَى الليل ثُمَّ انصرفوا مِنْ غَيْرِ قتال، فَقَالَ مالك بن الريب يذم سعيدا:
ما زلت يوم الصغد ترعد واقفا ... من الجبن حَتَّى خفت أن تتنصرا
وما كَانَ فِي عُثْمَان شَيْء علمته ... سوى نسله فِي رهطه حين أدبرا
ولولا بنو حرب لظلت دماؤكم ... بطون العظايا من كسير وأعورا
قَالَ: فلما كَانَ الغد خرج إِلَيْهِم سَعِيد بن عُثْمَانَ، وناهضه الصغد، فقاتلهم فهزمهم وحصرهم فِي مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا مِنْهُمْ خمسين غلاما يكونون فِي يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ، ولم يف لَهُمْ، وجاء بالغلمان الرهن مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَة.
قَالَ: وقدم سَعِيد بن عُثْمَانَ خُرَاسَان وأسلم بن زرعة الكلابي بِهَا من قبل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فلم يزل أسلم بن زرعة بِهَا مقيما حَتَّى كتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعهده عَلَى خُرَاسَان الثانية، فلما قدم كتاب عُبَيْد اللَّهِ عَلَى أسلم طرق سَعِيد بن عُثْمَانَ ليلا، فأسقطت جارية لَهُ غلاما، فكان سَعِيد

(5/306)


يقول: لأقتلن بِهِ رجلا من بني حرب، وقدم عَلَى مُعَاوِيَة فشكا أسلم إِلَيْهِ، وغضبت القيسية، قَالَ: فدخل همام بن قبيصة النمري فنظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة محمر العينين، فَقَالَ: يَا همام، إن عينيك لمحمرتان، قَالَ همام: كانتا يوم صفين أشد حمرة، فغم مُعَاوِيَة ذَلِكَ، فلما رَأَى ذَلِكَ سَعِيد كف عن أسلم، فأقام أسلم بن زرعة عَلَى خُرَاسَان واليا لعبيد اللَّه بن زياد سنتين

(5/307)


ثُمَّ دخلت

سنة سبع وخمسين
وَكَانَ فِيهَا مشتى عَبْد اللَّهِ بن قيس بأرض الروم.
وفيها صرف مَرْوَان عن الْمَدِينَة فِي ذي القعدة فِي قول الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ غيره: كَانَ مروان اليه الْمَدِينَة فِي هَذِهِ السنة.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: استعمل مُعَاوِيَة عَلَى الْمَدِينَة حين صرف عنها مَرْوَان الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ.
وكالذي قَالَ الْوَاقِدِيُّ قَالَ أَبُو معشر، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أحمد بْن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عنه.
وَكَانَ العامل عَلَى الْكُوفَة فِي هَذِهِ السنة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خُرَاسَان سَعِيد بن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ.

(5/308)


ثُمَّ دخلت

سنة ثمان وخمسين
(ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث) ففيها نزع مُعَاوِيَة مَرْوَان عن الْمَدِينَة فِي ذي القعدة فِي قول أبي معشر، وأمر الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهَا، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بن عِيسَى، عنه.
وفيها غزا مالك بن عَبْدِ اللَّهِ الخثعمي أرض الروم.
وفيها قتل يَزِيد بن شجرة فِي البحر فِي السفن فِي قول الْوَاقِدِيّ قَالَ:
ويقال عَمْرو بن يَزِيدَ الجهني، وَكَانَ الَّذِي شتا بأرض الروم، وقد قيل:
ان الَّذِي غزا فِي البحر فِي هَذِهِ السنة جُنَادَة بن أَبِي أُمَيَّةَ.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الواقدى وغيره.

عزل الضحاك عن الكوفه واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم
وفي هَذِهِ السنة ولى مُعَاوِيَة الْكُوفَة عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُثْمَانَ بن رَبِيعَة الثقفي، وَهُوَ ابن أم الحكم أخت مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ، وعزل عنها الضحاك بن قيس، ففي عمله فِي هَذِهِ السنة خرجت الطائفة الَّذِينَ كَانَ الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ حبسهم فِي السجن من الخوارج الَّذِينَ كَانُوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات الْمُغِيرَة خرجوا من السجن.
فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ أن أبا مخنف، حدثه عن عبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي أن حيان بن ظبيان السلمي جمع إِلَيْهِ أَصْحَابه، ثُمَّ إنه حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَّا بَعْدُ، فإن الله عز

(5/309)


وَجَلَّ كتب علينا الجهاد، فمنا مَنْ قَضى نَحْبَهُ، ومنا مَنْ يَنْتَظِرُ، وأولئك الأبرار الفائزون بفضلهم، ومن يكن منا من ينتظر فهو من سلفنا القاضين نحبهم، السابقين بإحسان، فمن كَانَ مِنْكُمْ يريد اللَّه وثوابه فليسلك سبيل أَصْحَابه وإخوانه يؤته اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ مع الْمُحْسِنِينَ.
قَالَ معاذ بن جوين الطَّائِيّ: يَا أهل الإِسْلام، إنا وَاللَّهِ لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور، كَانَ لنا بِهِ عِنْدَ اللَّه عذر، لكان تركه أيسر علينا، وأخف من ركوبه، ولكنا قَدْ علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا، وَقَدْ جعل لنا القلوب والأسماع حَتَّى ننكر الظلم، ونغير الجور، ونجاهد الظالمين، ثُمَّ قَالَ: ابسط يدك نبايعك، فبايعه وبايعه القوم، فضربوا عَلَى يد حيان بن ظبيان، فبايعوه، وَذَلِكَ فِي إمارة عبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثقفي، وَهُوَ ابن أم الحكم، وَكَانَ عَلَى شرطته زائدة بن قدامة الثقفي.
ثُمَّ إن القوم اجتمعوا بعد ذَلِكَ بأيام إِلَى منزل معاذ بن جوين بن حصين الطَّائِيّ فَقَالَ لَهُمْ حيان بن ظبيان: عباد اللَّه، أشيروا برأيكم، أين تأمروني أن أخرج؟ فَقَالَ لَهُ معاذ: إني أَرَى أن تسير بنا إِلَى حلوان حَتَّى ننزلها، فإنها كورة بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر- يعني بالثغر الري- فمن كَانَ يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبال والسواد لحق بنا فَقَالَ لَهُ حيان: عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، لعمري لا يتركونكم حَتَّى يجتمعوا إليكم، ولكن قَدْ رأيت أن أخرج معكم فِي جانب الْكُوفَة والسبخة أو زرارة والحيرة، ثُمَّ نقاتلهم حَتَّى نلحق بربنا، فإني وَاللَّهِ لقد علمت أنكم لا تقدرون وَأَنْتُمْ دون المائة رجل أن تهزموا عدوكم، ولا ان تشتد نكايتكم فِيهِمْ، ولكن متى علم اللَّه أنكم قَدْ أجهدتم أنفسكم فِي جهاد عدوه وعدوكم كَانَ لكم بِهِ العذر، وخرجتم من الإثم قالوا: رأينا رأيك، فقال لهم عتريس ابن عرقوب أَبُو سُلَيْمَان الشيباني: ولكن لا أَرَى راى جماعتكم، فانظروا في راى لكم، إني لا إخالكم تجهلون معرفتي بالحرب، وتجربتي بالأمور، فَقَالُوا لَهُ: أجل، أنت كما ذكرت، فما رأيك؟ قَالَ: مَا أَرَى أن تخرجوا عَلَى الناس بالمصر، إنكم قليل فِي كثير، وَاللَّهِ مَا تزَيْدون عَلَى أن تجزروهم أنفسكم، وتقروا أعينهم بقتلكم، وليس هكذا تكون المكايدة إذ آثرتم أن

(5/310)


تخرجوا عَلَى قومكم، فكيدوا عدوكم مَا يضرهم، قَالُوا: فما الرأي؟ قَالَ:
تسيرون إِلَى الكورة الَّتِي أشار بنزولها معاذ بن جوين بن حصين- يعني حلوان- أو تسيرون بنا إِلَى عين التمر فنقيم بِهَا، فإذا سمع بنا إخواننا أتونا من كل جانب وأوب، فَقَالَ لَهُ حيان بن ظبيان: إنك وَاللَّهِ لو سرت بنا أنت وجميع أَصْحَابك نحو أحد هَذَيْنِ الوجهين مَا اطمأننتم بِهِ حَتَّى يلحق بكم خيول أهل المصر، فأنى تشفون أنفسكم! فو الله مَا عدتكم بالكثيرة الَّتِي ينبغي أن تطمعوا معها بالنصر فِي الدُّنْيَا عَلَى الظالمين المعتدين، فاخرجوا بجانب من مصركم هَذَا فقاتلوا عن أمر اللَّه من خالف طاعة اللَّه، وَلا تربصوا وَلا تنتظروا فإنكم إنما تبادرون بِذَلِكَ إِلَى الجنة، وتخرجون أنفسكم بِذَلِكَ من الْفِتْنَة قَالُوا: أما إذا كَانَ لا بد لنا فإنا لن نخالفك، فاخرج حَيْثُ أحببت.
فمكث حَتَّى إذا كَانَ آخر سنة من سني ابن أم الحكم فِي أول السنة- وَهُوَ أول يوم من شهر ربيع الآخر- اجتمع أَصْحَاب حيان بن ظبيان إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قوم، إن اللَّه قَدْ جمعكم لخير وعلى خير، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره مَا سررت بشيء قط فِي الدُّنْيَا بعد ما أسلمت سروري لمخرجي هَذَا عَلَى الظلمة الاثمه، فو الله مَا أحب أن الدُّنْيَا بحذافيرها لي وأن اللَّه حرمني فِي مخرجي هَذَا الشهادة وأني قَدْ رأيت أن نخرج حَتَّى ننزل جانب دار جرير، فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم فَقَالَ عتريس بن عرقوب البكري: أما إن نقاتلهم فِي جوف المصر فإنه يقاتلنا الرجال، وتصعد النساء والصبيان والإماء فيرموننا بالحجارة، فَقَالَ لَهُمْ رجل مِنْهُمُ: انزلوا بنا إذا من وراء المصر الجسر- وَهُوَ موضع زرارة، وإنما بنيت زرارة بعد ذَلِكَ إلا أبياتا يسيرة كَانَتْ منها قبل ذَلِكَ- فَقَالَ لَهُمْ معاذ بن جوين بن حصين الطَّائِيّ: لا، بل سيروا بنا فلننزل بانقيا فما أسرع مَا يأتيكم عدوكم، فإذا كَانَ ذَلِكَ استقبلنا القوم بوجوهنا، وجعلنا البيوت فِي ظهورنا، فقاتلناهم من وجه واحد فخرجوا، فبعث إِلَيْهِم جيش، فقتلوا جميعا

(5/311)


ثم ان عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الْكُوفَة، فحدثت عن هشام ابن مُحَمَّدٍ، قَالَ: استعمل مُعَاوِيَة ابن أم الحكم عَلَى الْكُوفَة فأساء السيرة فِيهِمْ، فطردوه، فلحق بمعاوية وَهُوَ خاله، فَقَالَ لَهُ: أوليك خيرا منها، مصر، قَالَ: فولاه، فتوجه إِلَيْهَا، وبلغ مُعَاوِيَة بن حديج السكوني الخبر، فخرج فاستقبله عَلَى مرحلتين من مصر، فَقَالَ: ارجع إِلَى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك فِي إخواننا من أهل الْكُوفَة.
قَالَ: فرجع إِلَى معاويه، واقبل معاويه بن حديج وافدا، قال: وَكَانَ إذا جَاءَ قلست لَهُ الطريق- يعني ضربت لَهُ قباب الريحان- قَالَ: فدخل عَلَى مُعَاوِيَة وعنده أم الحكم، فَقَالَتْ: من هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ:
بخ! هَذَا مُعَاوِيَة بن حديج، قالت: لا مرحبا بِهِ! تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فَقَالَ: عَلَى رسلك يَا أم الحكم! أما وَاللَّهِ لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار فِي إخواننا من أهل الْكُوفَة، مَا كَانَ اللَّه ليريه ذَلِكَ، ولو فعل ذَلِكَ لضربناه ضربا يطأطئ مِنْهُ، وإن كره ذَلِكَ الجالس فالتفت إِلَيْهَا مُعَاوِيَة، فَقَالَ: كفي
. ذكر قتل عروه بن اديه وغيره من الخوارج
. وفي هَذِهِ السنة اشتد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد عَلَى الخوارج، فقتل مِنْهُمْ صبرا جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل مِنْهُمْ صبرا عروة بن أدية، أخو أبي بلال مِرْدَاس بن أدية.
(ذكر سبب قتله إياهم:) حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ عَاصِمٍ الأَسَدِيُّ، أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ خَرَجَ فِي رِهَانٍ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ يَنْتَظِرُ الْخَيْلَ اجْتَمَعَ النَّاسُ وَفِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أُدَيَّةَ أَخُو أَبِي بِلالٍ، فَأَقْبَلَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: خَمْسٌ كُنَّ

(5/312)


فِي الأُمَمِ قَبْلَنَا، فَقَدْ صِرْنَ فِينَا: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» وَخَصْلَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَمْ يَحْفَظْهُمَا جَرِيرٌ فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ظَنَّ ابْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى ذَلِكَ إِلا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَامَ وَرَكِبَ وَتَرَكَ رِهَانَهُ، فَقِيلَ لِعُرْوَةَ:
مَا صَنَعْتَ! تَعْلَمَنَّ وَاللَّهِ لَيَقْتُلَنَّكَ قَالَ: فَتَوَارَى، فَطَلَبَهُ ابْنُ زِيَادٍ، فَأَتَى الْكُوفَةَ، فَأَخَذَ بِهَا، فَقَدِمَ بِهِ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاهُ، ثُمَّ دَعَا بِهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنَّكَ أَفْسَدْتَ دُنْيَايَ وَأَفْسَدْتَ آخِرَتَكَ، فَقَتَلَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنَتِهِ فَقَتَلَهَا.
وَأَمَّا مِرْدَاسُ بْنُ أُدَيَّةَ فَإِنَّهُ خَرَجَ بِالأَهْوَازِ وَقَدْ كَانَ ابْنُ زِيَادٍ قَبْلَ ذَلِكَ حَبَسَهُ- فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي خَلادُ بْنُ يَزِيدَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ-:
حَبَسَ ابْنُ زِيَادٍ- فِيمَنْ حَبَسَ- مِرْدَاسَ بْنَ أُدَيَّةَ، فَكَانَ السَّجَّانُ يَرَى عِبَادَتَهُ وَاجْتِهَادَهُ، وَكَانَ يَأْذَنُ لَهُ فِي اللَّيْلِ، فَيَنْصَرِفُ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَتَاهُ حَتَّى يَدْخُلَ السِّجْنَ، وَكَانَ صَدِيقٌ لِمِرْدَاسٍ يُسَامِرُ ابْنَ زِيَادٍ، فَذَكَرَ ابْنُ زِيَادٍ الْخَوَارِجَ لَيْلَةً فَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِمْ إِذَا أَصْبَحَ، فَانْطَلَقَ صَدِيقُ مِرْدَاسٍ إِلَى مَنْزِلِ مِرْدَاسٍ فَأَخْبَرَهُمْ، وَقَالَ: أَرْسِلُوا إِلَى أَبِي بِلالٍ فِي السِّجْنِ فَلْيَعْهَدْ فَإِنَّهُ مَقْتُولٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِرْدَاسٌ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ صَاحِبَ السِّجْنِ، فَبَاتَ بِلَيْلَةِ سُوءٍ إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ الْخَبَرَ مِرْدَاسٌ فَلا يَرْجِعُ، فَلَمَّا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهِ إِذَا بِهِ قَدْ طَلَعَ، فَقَالَ لَهُ السَّجَّانُ: هَلْ بَلَغَكَ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ الأَمِيرُ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ غَدَوْتَ! قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ يَكُنْ جَزَاؤُكَ مَعَ إِحْسَانِكَ أَنْ تعاقب بسبي، وَأَصْبَحَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَجَعَلَ يَقْتُلُ الْخَوَارِجَ، ثُمَّ دَعَا بِمِرْدَاسٍ، فَلَمَّا حَضَرَ وَثَبَ السَّجَّانُ- وَكَانَ ظِئْرًا لِعُبَيْدِ اللَّهِ- فَأَخَذَ بِقَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: هب هَذَا، وَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَوَهَبَهُ لَهُ وَأَطْلَقَهُ.
حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: خرج

(5/313)


مِرْدَاسٌ أَبُو بِلالٍ- وَهُوَ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ- فِي أَرْبَعِينَ رَجُلا إِلَى الأَهْوَازِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ ابْنُ زِيَادٍ جَيْشًا عَلَيْهِمُ ابْنُ حِصْنٍ التَّمِيمِيُّ، فَقَتَلُوا فِي أَصْحَابِهِ وَهَزَمُوهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
أَأَلْفَا مُؤْمِنٍ مِنْكُمْ زَعَمْتُمْ ... وَيَقْتُلُهُمْ بِآسِكَ أَرْبَعُونَا
كَذَبْتُمْ لَيْسَ ذَاكَ كَمَا زَعَمْتُمْ ... وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ مُؤْمِنُونَا
هِيَ الْفِئَةُ الْقَلِيلَةُ قَدْ عَلِمْتُمْ ... عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ يُنْصَرُونَا
قَالَ عُمَرُ: الْبَيْتُ الأَخِيرُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ، أَنْشَدَنِيهِ خَلادُ بْنُ يَزِيدَ الْبَاهِلِيُّ.
وَقِيلَ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَيْرَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَاسْتُقْضِيَ مَكَانَهُ عَلَيْهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ.
وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي هذه السنه عبد الرحمن بن أُمِّ الْحَكَمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
كَانَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، كَذَلِكَ قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ

(5/314)


ثُمَّ دخلت

سنة تسع وخمسين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَ مشتى عَمْرو بن مُرَّةَ الجهني أرض الروم فِي البر، قَالَ الْوَاقِدِيّ:
لَمْ يَكُنْ عامئذ غزو فِي البحر وَقَالَ غيره: بل غزا فِي البحر جُنَادَة بن أبي أمية.
وفيها عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الْكُوفَة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ، وَقَدْ ذكرنا قبل سبب عزل ابن أم الحكم عن الكوفه.

ذكر ولايه عبد الرحمن بن زياد خراسان
وفي هَذِهِ السنة ولى مُعَاوِيَة عبد الرَّحْمَن بن زياد بن سمية خُرَاسَان.
ذكر سبب استعمال مُعَاوِيَة إِيَّاهُ عَلَى خُرَاسَان:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَنَا يَقُولُونَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَا لَنَا حَقٌّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
فَمَاذَا تُوَلِّيَنِي؟ قَالَ: بِالْكُوفَةِ النُّعْمَانُ رشيد، وهو رجل من اصحاب النبي ص، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ، وَعَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَلَسْتُ أَرَى عَمَلا يُشْبِهُكَ إِلا أَنْ أُشْرِكَكَ فِي عَمَلِ أَخِيكَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ أَشْرِكْنِي، فَإِنَّ عَمَلَهُ وَاسِعٌ يَحْتَمِلُ الشِّرْكَةَ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ وَجَّهَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، فَأَخَذَ اسلم بن

(5/315)


زُرْعَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ، فَأَغْرَمَ اسلم بن زرعه ثلاثمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ.
قَالَ: وَذَكَرَ مُصْعَبُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ أَخِيهِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ:
قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ خُرَاسَانَ، فَقَدِمَ رَجُلٌ سَخِيٌّ حَرِيصٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَغْزُ غَزْوَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَوَانَةَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِنْ خُرَاسَانَ بَعْدَ قَتْلِ الحسين ع، واستخلف على خراسان قيس ابن الهيثم.
قال: وحدثنى مسلمه بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو حَفْصٍ، قَالا: قَالَ يَزِيدُ لعبد الرحمن ابن زِيَادٍ: كَمْ قَدِمْتُ بِهِ مَعَكَ مِنَ الْمَالِ مِنْ خُرَاسَانَ؟ قَالَ: عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ وَقَبَضْنَاهَا مِنْكَ، وَرَدَدْنَاكَ عَلَى عَمَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَوَّغْنَاكَ وَعَزَلْنَاكَ، وَتُعْطِي عبد الله بن جعفر خمسمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: بَلْ تُسَوِّغُنِي مَا قُلْتَ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَيْهَا غَيْرِي وَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ الف درهم، وقال: خمسمائة الف من قبل امير المؤمنين، وخمسمائة الف من قبلي
. ذكر وفود عبيد الله بن زياد على معاويه
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَعَزَلَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهَا وَجَدَّدَ له الولاية.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: وفد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فِي أهل العراق إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: ائذن لوفدك عَلَى منازلهم وشرفهم، فأذن لهم،

(5/316)


ودخل الأحنف فِي آخرهم، وَكَانَ سيئ المنزلة من عُبَيْد اللَّهِ، فلما نظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة رحب بِهِ، وأجلسه مَعَهُ عَلَى سريرة، ثُمَّ تكلم القوم فأحسنوا الثناء عَلَى عُبَيْد اللَّهِ، والأحنف ساكت، فَقَالَ: ما لك يَا أَبَا بحر لا تتكلم! قَالَ: إن تكلمت خالفت القوم فَقَالَ: انهضوا فقد عزلته عنكم، واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق فِي القوم أحد إلا أتى رجلا من بني أُمَيَّة أو من أشراف أهل الشام، كلهم يطلب، وقعد الأحنف فِي منزله، فلم يأت أحدا، فلبثوا أياما، ثُمَّ بعث إِلَيْهِم مُعَاوِيَة فجمعهم، فلما دخلوا عَلَيْهِ قَالَ: من اخترتم؟
فاختلفت كلمتهم، وسمى كل فريق مِنْهُمْ رجلا والأحنف ساكت، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: ما لك يَا أَبَا بحر لا تتكلم! قَالَ: إن وليت علينا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد اللَّه أحدا، وإن وليت من غيرهم فانظر فِي ذَلِكَ، قَالَ مُعَاوِيَة: فإني قَدْ أعدته عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أوصاه بالأحنف، وقبح رأيه فِي مباعدته، فلما هاجت الْفِتْنَة لم يف لعبيد الله غير الأحنف.

ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميرى بنى زياد
وفي هَذِهِ السنة كَانَ مَا كَانَ من أمر يَزِيد بن مفرغ الحميري وعباد بن زياد وهجاء يزيد بنى زياد.
ذكر سبب ذَلِكَ:
حدثت عن أبي عبيدة معمر بْن المثنى أن يَزِيد بن رَبِيعَة بن مفرغ الحميري كَانَ مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق فِي إعلاف دوابهم، فَقَالَ ابن مفرغ:
أَلا ليت اللحى عادت حشيشا ... فنعلفها خيول المسلمينا!
وَكَانَ عباد بن زياد عظيم اللحية، فأنهي شعره إِلَى عباد، وقيل:
مَا أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب مِنْهُ، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه بِهِ قوله:

(5/317)


إذا أودى مُعَاوِيَة بن حرب ... فبشر شعب قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع
ولكن كَانَ أمرا فِيهِ لبس ... عَلَى وجل شديد وارتياع
وقوله:
أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى ان يقال ابوك زان!
فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
فَحَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: لما هجا ابن المفرغ عبادا فارقه مقبلا إِلَى الْبَصْرَة، وعبيد اللَّه يَوْمَئِذٍ وافد عَلَى مُعَاوِيَة، فكتب عباد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ ببعض مَا هجاه بِهِ، فلما قرأ عُبَيْد اللَّهِ الشعر دخل عَلَى مُعَاوِيَة فأنشده إِيَّاهُ، واستأذنه فِي قتل ابن مفرغ، فأبى عَلَيْهِ أن يقتله، وَقَالَ: أدبه وَلا تبلغ بِهِ القتل، وقدم ابن مفرغ الْبَصْرَة، فاستجار بالأحنف بن قيس، فَقَالَ: إنا لا نجير عَلَى ابن سمية، فإن شئت كفيتك شعراء بني تميم، قَالَ: ذاك مَا لا أبالي أن أكفاه، فأتى خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ فوعده، وأتى أُمَيَّة فوعده، ثُمَّ أتى عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر فوعده، ثُمَّ أتى المنذر بن الجارود فأجاره، وأدخله داره، وكانت بحرية بنت المنذر عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ، فلما قدم عُبَيْد اللَّهِ الْبَصْرَة أخبر بمكان ابن مفرغ عِنْدَ المنذر، وأتى المنذر عُبَيْد اللَّهِ مسلما، فأرسل عُبَيْد اللَّهِ الشرط إِلَى دار المنذر، فأخذوا ابن مفرغ، فلم يشعر المنذر وَهُوَ عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ إلا بابن مفرغ قَدْ أقيم عَلَى رأسه، فقام إِلَى عُبَيْد اللَّهِ وَقَالَ: أيها الأمير، إني قَدْ أجرته، قَالَ: وَاللَّهِ يَا منذر ليمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثُمَّ تجيره علي! فأمر بِهِ فسقي دواء، ثُمَّ حمل عَلَى حمار عَلَيْهِ إكاف فجعل يطاف بِهِ وَهُوَ يسلح

(5/318)


فِي ثيابه، فيمر بِهِ فِي الأسواق، فمر بِهِ فارسي فرآه، فسأل عنه، فَقَالَ: اين جيست؟ ففهمها ابن مفرغ، فقال:
آب است نبيذ است ... عصارات زبيب است
سميه رو سپيد است
ثم هجا المنذر بن الجارود:
تركت قريشا أن أجاور فِيهِمُ ... وجاورت عبد القيس أهل المشقر
أناس أجارونا فكان جوارهم ... أعاصير من فسو العراق المبذر
فأصبح جاري من جذيمة نائما ... وَلا يمنع الجيران غير المشمر
وَقَالَ لعبيد اللَّه:
يغسل الماء مَا صنعت وقولي ... راسخ مِنْكَ فِي العظام البوالي
ثُمَّ حمله عُبَيْد اللَّهِ إِلَى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فِيهِ بِالشَّامِ مُعَاوِيَة، فأرسل رسولا إِلَى عباد، فحمل ابن مفرغ من عنده حَتَّى قدم عَلَى مُعَاوِيَة، فَقَالَ فِي طريقه:
عدسْ مَا لعبّاد عَلَيْك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى ... إمام وحبل للأنام وثيق

(5/319)


سأشكر مَا أوليت من حسن نعمة ... ومثلي بشكر المنعمين حقيق
فلما دخل عَلَى مُعَاوِيَة بكى، وَقَالَ: ركب مني مَا لم يركب من مسلم عَلَى غير حدث وَلا جريرة! قَالَ: أولست القائل:
أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني!
القصيدة- قَالَ: لا والذي عظم حق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مَا قلت هَذَا، قَالَ:
أفلم تقل:
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع
فِي أشعار كثيرة هجوت بِهَا ابن زياد! اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لَمْ يَكُنْ مما كَانَ شَيْء، فانطلق، وفي أي أرض شئت فانزل.
فنزل الموصل، ثُمَّ إنه ارتاح إِلَى الْبَصْرَة، فقدمها، ودخل عَلَى عُبَيْد اللَّهِ فآمنه.
وأما أَبُو عبيدة فإنه قَالَ فِي نزول ابن مفرغ الموصل عن الَّذِي أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُو زَيْد، قَالَ: ذكر أن مُعَاوِيَة لما قَالَ لَهُ: ألست القائل:
أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
الأبيات، حلف ابن مفرغ أنه لم يقله، وأنه إنما قاله عبد الرحمن بن أم الحكم أخو مَرْوَان، واتخذني ذريعة إِلَى هجاء زياد، وَكَانَ عتب عَلَيْهِ قبل ذَلِكَ، فغضب معاويه على عبد الرحمن بن أم الحكم وحرمه عطاءه، حتى اضربه، فكلم فِيهِ، فَقَالَ: لا أرضى عنه حَتَّى يرضى عُبَيْد اللَّهِ، فقدم العراق عَلَى عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَهُ:
لأنت زيادة فِي آل حرب ... أحب إلي من إحدى بناني
أراك أخا وعما وابن عم ... وَلا أدري بغيب مَا تراني

(5/320)


فَقَالَ: أراك وَاللَّهِ شاعر سوء! فرضي عنه، فَقَالَ مُعَاوِيَة لابن مفرغ:
ألست القائل:
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع
الأبيات! لا تعودن إِلَى مثلها، عفونا عنك فأقبل حَتَّى نزل الموصل، فتزوج امرأة، فلما كَانَ فِي ليلة بنائها خرج حين أصبح إِلَى الصيد، فلقي دهانا أو عطارا عَلَى حمار لَهُ، فَقَالَ لَهُ ابن مفرغ: من أين أقبلت؟ قَالَ:
من الأهواز، قَالَ: وما فعل ماء مسرقان؟ قَالَ: عَلَى حاله، قَالَ: فخرج ابن مفرغ فتوجه قبل الْبَصْرَة، ولم يعلم أهله بمسيره، ومضى حَتَّى قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بِالْبَصْرَةِ، فدخل عَلَيْهِ فآمنه، ومكث عنده حَتَّى استأذنه فِي الخروج إِلَى كَرْمَان، فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، وكتب الى عامله هنالك بالوصاية والإكرام لَهُ، فخرج إِلَيْهَا وَكَانَ عامل عُبَيْد الله يومئذ على كرمان شريك ابن الأعور الحارثي.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْن أَبِي سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ وغيره.
وَكَانَ الوالي عَلَى الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، وعلى الْكُوفَة النُّعْمَان بن بشير، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عباياد بن زياد، وعلى كَرْمَان شريك بن الأعور من قبل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد

(5/321)


ثُمَّ دخلت

سنة ستين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هَذِهِ السنة كَانَتْ غزوة مالك بن عَبْدِ اللَّهِ سورية ودخول جناده ابن ابى اميه رودس، وهدمه مدينتها، في قول الواقدى.

ذكر عهد معاويه لابنه يزيد
وفيها كَانَ أخذ مُعَاوِيَة عَلَى الوفد الَّذِينَ وفدوا إِلَيْهِ مع عُبَيْد اللَّهِ بن زياد البيعة لابنه يَزِيد، وعهد إِلَى ابنه يَزِيد حين مرض فِيهَا مَا عهد إِلَيْهِ فِي النفر الَّذِينَ امتنعوا من البيعة ليزيد حين دعاهم إِلَى البيعة.
وَكَانَ عهده الَّذِي عهد، مَا ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة، أن مُعَاوِيَة لما مرض مرضته الَّتِي هلك فِيهَا دعا يَزِيد ابنه، فَقَالَ: يَا بني، إني قَدْ كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هَذَا الأمر الَّذِي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش:
الْحُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عُمَرَ، وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فأما عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فرجل قَدْ وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الْحُسَيْن بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حَتَّى يخرجوه، فإن خرج عَلَيْك فظفرت بِهِ فاصفح عنه فإن لَهُ رحما ماسة وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل إن رَأَى أَصْحَابه صنعوا شَيْئًا صنع مثلهم، ليس لَهُ همة إلا فِي النساء واللهو، وأما الَّذِي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة

(5/322)


الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزُّبَيْر، فإن هُوَ فعلها بك فقدرت عَلَيْهِ فقطعه إربا إربا.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَدْ سمعنا فِي حديث آخر أن مُعَاوِيَة لما حضره الموت- وَذَلِكَ فِي سنة ستين- وَكَانَ يَزِيد غائبا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري- وَكَانَ صاحب شرطته- ومسلم بن عُقْبَةَ المري، فأوصى إليهما فَقَالَ: بلغا يَزِيد وصيتي، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عَلَيْك مِنْهُمْ، وتعاهد من غاب، وأنظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عَنْهُمْ كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عَلَيْك مائة ألف سيف، وأنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شَيْء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إِلَى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد الله ابن الزُّبَيْرِ، فأما ابن عمر فرجل قَدْ وقذه الدين، فليس ملتمسا شَيْئًا قبلك، وأما الْحُسَيْن بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه اللَّه بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن لَهُ رحما ماسة، وحقا عظيما، وقرابة من محمد ص، وَلا أظن أهل العراق تاركيه حَتَّى يخرجوه، فإن قدرت عَلَيْهِ فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزُّبَيْر فإنه خب ضب، فإذا شخص لك فألبد لَهُ، إلا أن يلتمس مِنْكَ صلحا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك مَا استطعت
. ذكر وفاه مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ
وفي هَذِهِ السنة هلك مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ بدمشق، فاختلف فِي وقت وفاته بعد إجماع جميعهم عَلَى أن هلاكه كَانَ فِي سنة ستين من الهجره،

(5/323)


وفي رجب منها، فَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة لهلال رجب من سنة ستين.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مات مُعَاوِيَة للنصف من رجب.
وَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة بدمشق سنة ستين يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِث عنه
. ذكر الخبر عن مدة ملكه
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت الرازي، قال: حدثني من سمع إسحاق بن عِيسَى يذكر عن أبي معشر، قَالَ: بويع لمعاوية بأذرح، بايعه الْحَسَن بن علي فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وتوفي مُعَاوِيَة فِي رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشره سنه وثلاثة اشهر.
وحدثني الحارث، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ دِينَارٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالُوا:
تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سَنَةً وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: بايع أهل الشام مُعَاوِيَة بالخلافة فِي سنة سبع وثلاثين فِي ذي القعدة حين تفرق الحكمان، وكانوا قبل بايعوه عَلَى الطلب بدم عُثْمَان، ثُمَّ صالحه الْحَسَن بن علي، وَسَلَّمَ لَهُ الأمر سنة إحدى وأربعين، لخمس بقين من شهر ربيع الأول، فبايع الناس جميعا مُعَاوِيَة، فقيل: عام الجماعة، ومات بدمشق سنة ستين، يوم الخميس لثمان بقين من رجب وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يَوْمًا.
قَالَ: ويقال: كَانَ بين موت علي ع وموت مُعَاوِيَة تسع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاث ليال

(5/324)


وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: بويع لمعاوية بالخلافة فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، فولى تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر إلا أياما، ثُمَّ مات لهلال رجب من سنة ستين

ذكر مده عمره
واختلفوا فِي مدة عمره، وكم عاش؟ فَقَالَ بعضهم: مات يوم مات وَهُوَ ابن خمس وسبعين سنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: سَأَلَنِي الْوَلِيدُ عَنْ أَعْمَارِ الْخُلَفَاءِ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ! إِنَّ هَذَا لَعُمْرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وسبعين سنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير قَالَ: قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد:
مات مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن ثلاث وسبعين، قَالَ: ويقال ابن ثمانين سنة.
وَقَالَ آخرون: توفي وَهُوَ ابن ثمان وسبعين سنة.
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ آخَرُونَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَنْ أَبِيهِ

(5/325)


ذكر العلة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وفاته
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ مُعَاوِيَةُ وَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، قَالَ لأَهْلِهِ: احْشُوا عَيْنِي إِثْمِدًا، وَأَوْسِعُوا رَأْسِي دُهْنًا، فَفَعَلُوا، وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ بِالدُّهْنِ، ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ، فَجَلَسَ وَقَالَ:
أَسْنِدُونِي، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنُوا لِلنَّاسِ فَلْيُسَلِّمُوا قِيَامًا، وَلا يَجْلِسْ أَحَدٌ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ قَائِمًا فَيَرَاهُ مُكْتَحِلا مُدَّهِنًا فَيَقُولُ: يَقُولُ النَّاسُ: هُوَ لِمَآبِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ النَّاسِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مُعَاوِيَةُ:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُريهم ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَضَعْضَعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
قَالَ: وَكَانَ بِهِ النُّفَاثَاتُ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عن إِسْحَاق بن أيوب، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بن ميناس الكلبي، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَة، لابنتيه فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ وهما تقلبانه: تقلبان حولا قلبا، جمع المال من شب إِلَى دب إن لم يدخل النار، ثُمَّ تمثل:
لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب ... وَقَدْ كفيتكم التطواف والرحلا
ويقال: من جمع ذي حسب.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ فِي

(5/326)


مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَسَانِي قَمِيصًا فَرَفَعْتُهُ.
وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ يَوْمًا، فَأَخَذْتُ قُلامَتَهُ فَجَعَلْتُهَا فِي قَارُورَةٍ، فَإِذَا مِتُّ فَأَلْبِسُونِي ذَلِكَ الْقَمِيصَ، وَقَطِّعُوا تِلَكَ الْقُلامَةَ، وَاسْحَقُوهَا وَذَرُوهَا فِي عَيْنِي، وَفِي فِيَّ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَنِي بِبَرَكَتِهَا! ثُمَّ قَالَ مُتَمَثِّلا بِشِعْرِ الأَشْهَبِ بْنِ رُمَيْلَةَ النَّهْشَلِيِّ يَمْدَحُ بِهِ الْقُبَاعَ:
إِذَا مِتَّ مَاتَ الْجُودُ وَانْقَطَعَ النَّدَى ... مِنَ النَّاسِ إِلا مِنْ قَلِيلٍ مُصَرَّدِ
وَرُدَّتْ أَكُفُّ السَّائِلِينَ وَأَمْسَكُوا ... مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِخَلَفٍ مُجَدَّدِ
فَقَالَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ- أَوْ غَيْرُهَا: كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْكَ، فَقَالَ مُتَمَثِّلا:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقِي مَنِ اتَّقَاهُ، وَلا وَاقِيَ لِمَنْ لا يَتَّقِي اللَّهَ، ثم قضى.
حدثنا أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حُضِرَ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ أَرَادَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْبَاقِي، لأَنَّ عُمَرَ قَاسَمَ عُمَّالَهُ
. ذكر الخبر عمن صلى عَلَى مُعَاوِيَة حين مات
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: صلى عَلَى مُعَاوِيَة الضحاك بن قيس الفهري، وَكَانَ يَزِيد غائبا حين مات مُعَاوِيَة.
وحدثت عن هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الملك ابن نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة، قَالَ: لما مات مُعَاوِيَة خرج

(5/327)


الضحاك بن قيس حَتَّى صعد الْمِنْبَر وأكفان مُعَاوِيَة عَلَى يديه تلوح، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن مُعَاوِيَة كَانَ عود العرب، وحد العرب، قطع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْفِتْنَة، وملكه عَلَى العباد، وفتح بِهِ البلاد أَلا إنه قَدْ مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فِيهَا، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثُمَّ هُوَ البرزخ إِلَى يوم الْقِيَامَة، فمن كَانَ مِنْكُمْ يريد أن يشهده فليحضر عِنْدَ الأولى وبعث البريد إِلَى يَزِيد بوجع مُعَاوِيَة، فَقَالَ يَزِيد فِي ذَلِكَ:
جَاءَ البريد بقرطاس يخب بِهِ ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا فِي كتابكمُ؟ ... قَالُوا: الخليفة أمسى مثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقطعا
من لا تزل نفسه توفي عَلَى شرف ... توشك مقاليد تِلَكَ النفس أن تقعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق ... وصوت رملة ريع القلب فانصدعا
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن إِسْحَاق بن خليد، عن خليد ابن عجلان مولى عباد، قَالَ: مات مُعَاوِيَة ويزيد بحوارين، وكانوا كتبوا إِلَيْهِ حين مرض، فأقبل وَقَدْ دفن، فأتى قبره فصلى عَلَيْهِ، ودعا لَهُ، ثُمَّ أتى منزله، فَقَالَ: جَاءَ البريد بقرطاس الأبيات
. ذكر الخبر عن نسبه وكنيته
أما نسبه فإنه ابن أبي سُفْيَان، واسم أبي سُفْيَان صخر بن حرب بن أُمَيَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وأمه هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بن قصي، وكنيته أَبُو عبد الرَّحْمَن

(5/328)


ذكر نسائه وولده
من نسائه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدى ابن زهير بن حَارِثَة بن جناب الكلبي، ولدت لَهُ يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَالَ علي:
ولدت ميسون لمعاوية مع يَزِيد أمة- رب المشارق- فماتت صغيرة، ولم يذكرها هِشَام فِي أولاد مُعَاوِيَة.
ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عَمْرو بن نوفل بن عبد مناف ولدت له عبد الرحمن وعبد الله بنى مُعَاوِيَة، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ محمقا ضعيفا، وَكَانَ يكنى أبا الخير حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: مر عَبْد اللَّهِ بن مُعَاوِيَة يَوْمًا بطحان قَدْ شد بغله فِي الرحا للطحن، وجعل فِي عنقه جلاجل، فَقَالَ لَهُ:
لم جعلت فِي عنق بغلك هَذِهِ الجلاجل؟ فَقَالَ الطحان: جعلتها فِي عنقه لأعلم إن قد قام فلم تدر الرحا، فَقَالَ لَهُ: أرأيت إن هُوَ قام وحرك راسه كيف تعلم انه لا يدير الرحا؟ فَقَالَ لَهُ الطحان: إن بغلي هَذَا- أصلح اللَّه الأمير- ليس لَهُ عقل مثل عقل الأمير! وأما عبد الرَّحْمَن فإنه مات صغيرا.
ومنهن نائلة بنت عمارة الكلبية، تزوجها، فَحَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لما تزوج مُعَاوِيَة نائلة قَالَ لميسون: انطلقي فانظري إِلَى ابنة عمك، فنظرت إِلَيْهَا، فَقَالَ: كيف رأيتها؟ فَقَالَتْ: جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن رأس زوجها فِي حجرها، فطلقها مُعَاوِيَة، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا بعد حبيب النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ، فقتل، ووضع رأسه فِي حجرها.
ومنهن كتوة بنت قرظه اخت فاخته، فغزا قبرس وَهِيَ مَعَهُ، فماتت هنالك

ذكر بعض مَا حضرنا من ذكر أخباره وسيره
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لما بويع لمعاوية بالخلافة صير

(5/329)


عَلَى شرطته قيس بن حمزة الهمداني، ثُمَّ عزله، وَاسْتَعْمَلَ زميل بن عَمْرو العذري- ويقال السكسكى وكان كاتبه وصاحب امره سر جون بن مَنْصُور الرومي، وعلى حرسه رجل من الموالي يقال لَهُ المختار، وقيل: رجل يقال لَهُ مالك، ويكنى أبا المخارق، مولى لحمير وَكَانَ أول من اتخذ الحرس وَكَانَ عَلَى حجابه سعد مولاه، وعلى القضاء فضالة بن عبيد الأَنْصَارِيّ، فمات فاستقضى أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني الى هاهنا حديث أحمد، عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ غير علي: وَكَانَ عَلَى ديوان الخاتم عَبْد اللَّهِ بن محصن الحميري، وَكَانَ أول من اتخذ ديوان الخاتم قَالَ: وَكَانَ سبب ذَلِكَ أن مُعَاوِيَة أمر لعمرو بن الزُّبَيْرِ فِي معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بِذَلِكَ إِلَى زياد بن سمية وَهُوَ عَلَى العراق، ففض عَمْرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها مُعَاوِيَة، فأخذ عمرا بردها وحبسه، فأداها عنه أخوه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فأحدث معاويه عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب، ولم تكن تخزم.
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: تَذْكُرُونَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَدَهَاءَهُمَا وَعِنْدَكُمْ مُعَاوِيَةُ! حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ فُلَيْحٍ، قَالَ: اخبرت ان عمرو ابن الْعَاصِ وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ أَهْلُ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: انْظُرُوا، إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ فَلا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، فَإِنَّهُ اعظم لكم في عينه، وصغروه وَقَدْ صَغَّرَ أَمْرِي عِنْدَ الْقَوْمِ، فَانْظُرُوا إِذَا دَخَلَ الْوَفْدُ فَتَعْتِعُوهُمْ أَشَدَّ تَعْتَعَةً

(5/330)


تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فَلا يَبْلُغُنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلا وَقَدْ هَمَّتْهُ نَفْسُهُ بِالتَّلَفِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ ابْنَ الْخَيَّاطِ، فَدَخَلَ وَقَدْ تُعْتِعَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: لَعَنَكُمُ اللَّهُ! نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالإِمَارَةِ، فَسَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ! قَالَ: وَلَبِسَ مُعَاوِيَةُ يَوْمًا عِمَامَتَهُ الْحُرْقَانِيَّةَ وَاكْتَحَلَ، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ فِيهِ سَمِعَهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الأُمَوِيُّ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ، فَرَأَى مُعَاوِيَةَ فِي مَوْكِبٍ يَتَلَقَّاهُ، وَرَاحَ إِلَيْهِ فِي مَوْكِبٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ، تَرُوحُ فِي مَوْكِبٍ وَتَغْدُو فِي مِثْلِهِ، وَبَلَغَنِي أَنَّكَ تُصْبِحُ فِي مَنْزِلِكَ وَذَوُو الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ! قَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعَدُوَّ بِهَا قَرِيبٌ مِنَّا، وَلَهُمْ عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ، فَأَرَدْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرَوْا لِلإِسْلامِ عِزًّا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَكَيْدُ رَجُلٍ لَبِيبٍ، أَوْ خُدْعَةُ رَجُلٍ أَرِيبٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ أَصِرْ إِلَيْهِ، قَالَ: وَيْحَكَ! مَا نَاظَرْتُكَ فِي أَمْرٍ أَعِيبُ عَلَيْكَ فِيهِ إِلا تَرَكْتَنِي مَا أَدْرِي آمُرُكَ أَمْ أَنْهَاكَ! حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله، عن مَعْمَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَدَقَّ عَظْمِي، وَشَنِفَتْ لِي قُرَيْشٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَعْزِلَنِي فَاعْزِلْنِي.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: جَاءَنِي كِتَابَكَ تَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ كَبِرَتْ سِنُّكَ، فَلَعَمْرِي مَا أَكَلَ عُمُرُكَ غَيْرَكَ، وَتَذْكُرُ أَنَّ قُرَيْشًا شَنِفَتْ لَكَ، وَلَعَمْرِي مَا أَصَبْتَ خَيْرًا إِلا مِنْهُمْ وَتَسْأَلُنِي أَنْ أَعْزِلَكَ، فَقَدْ فَعَلْتُ، فَإِنْ تَكُ صَادِقًا فَقَدْ شَفَعْتُكَ، وَإِنْ تَكُ مُخَادِعًا فَقَدْ خَدَعْتُكَ

(5/331)


حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: إِذَا لم يكن الاموى مصلحا لما له، حَلِيمًا، لَمْ يُشْبِهْ مَنْ هُوَ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْهَاشِمِيُّ سَخِيًّا جَوَادًا لَمْ يُشْبِهْ مَنْ هُوَ مِنْهُ، وَلا يَقْدُمُكَ مِنَ الْهَاشِمِيِّ اللِّسَانُ وَالسَّخَاءُ وَالشَّجَاعَةُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ عَوَانَةَ وَخَلادِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: تَغَدَّى مُعَاوِيَةُ يَوْمًا وَعِنْدَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ بَشِيرٌ- وَيُقَالُ: غَيْرُ بَشِيرٍ- فَأَكْثَرَ مِنَ الأَكْلِ، فَلَحَظَهُ مُعَاوِيَةُ، وَفَطِنَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْمِزَ ابْنَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا خَرَجَ لامَهُ عَلَى مَا صَنَعَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا فَعَلَ ابْنُكَ التِّلِقَّامَةُ؟ قَالَ: اشْتَكَى، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنْ أَكْلَهُ سَيُورِثُهُ دَاءً حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: قَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي بُرْنُسٍ أَسْوَدَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِينَ اللَّهِ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدِمَ الشَّيْخُ لأُوَلِّيهِ، وَلا وَاللَّهِ لا أُوَلِّيهِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ حيث اصابته قرحته، فقال: هلم يا بن أَخِي، نَحْوِي فَانْظُرْ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هِيَ قَدْ سُبِرَتْ، فَقُلْتُ:
لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَخَلَ يَزِيدُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنْ وَلِيتَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَاسْتَوْصِ بِهَذَا، فَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ لِي خَلِيلا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ فِي الْقِتَالِ مَا لَمْ يَرَهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ شِهَابِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلأَحْنَفِ وَكَانَ يَبْدَأُ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الأَشْعَثِ فَجَلَسَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالأَحْنَفِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّا لَمْ نَأْذَنْ لَهُ قَبْلَكَ فَتَكُونَ دُونَهُ، وَقَدْ فعلت فعال من احس مِنْ نَفْسِهِ ذُلا، إِنَّا كَمَا نَمْلِكُ أُمُورَكُمْ

(5/332)


نَمْلِكُ إِذْنَكُمْ، فَأَرِيدُوا مِنَّا مَا نُرِيدُ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لَكُمْ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُحَيْمِ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: خَطَبَ رَبِيعَةُ بْنُ عِسْلٍ الْيَرْبُوعِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اسْقُوهُ سَوِيقًا، وَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا رَبِيعَةُ، كَيْفَ النَّاسُ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: مُخْتَلِفُونَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فِرْقَةٍ، قَالَ: فَمِنْ أَيِّهِمْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْتَ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعِنِّي فِي بِنَاءِ دَارِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ جَذَعٍ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ دَارَكَ؟ قَالَ بِالْبَصْرَةِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخَيْنِ فِي فَرْسَخَيْنِ، قَالَ: فَدَارُكَ فِي الْبَصْرَةِ، أَوِ الْبَصْرَةُ فِي دَارِكَ! فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِهِ عَلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ! أَنَا ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِهِ، خَطَبَ أَبِي إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لِسَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ: مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَحْمَقِ قَوْمِهِ، قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: هَلْ زَوَّجَ أَبَاكَ مُعَاوِيَةُ؟
قَالَ: لا، قَالَ: فَلا أَرَى أَبَاكَ صَنَعَ شَيْئًا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ الْقُرَشِيِّ، قَالَ:
تَنَازَعَ عُتْبَةُ وَعَنْبَسَةُ ابْنَا أَبِي سُفْيَانَ- وَأُمُّ عُتْبَةَ هِنْدٌ وَأُمُّ عَنْبَسَةَ ابْنَةُ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدَّوْسِيِّ- فَأَغْلَظَ مُعَاوِيَةُ لِعَنْبَسَةَ، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: وَأَنْتَ أَيْضًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: يَا عَنْبَسَةُ، إِنَّ عُتْبَةَ ابن هند، فقال عنبسة:
كنا بِخَيْرٍ صَالِحَا ذَاتِ بَيْنِنَا ... قَدِيمًا فَأَمْسَتْ فَرَّقَتْ بَيْنَنَا هِنْدُ
فَإِنْ تَكُ هِنْدٌ لَمْ تَلِدْنِي فَإِنَّنِي ... لِبَيْضَاءَ يُنْمِيهَا غَطَارِفَةٌ نُجْدُ
أَبُوهَا أَبُو الأَضْيَافِ فِي كُلِّ شِتْوَةٍ ... وَمَأْوَى ضِعَافٌ لا تُنُوءُ مِنَ الْجَهْدِ
جُفَيْنَاتُهُ مَا إِنْ تَزَالُ مُقِيمَةً ... لِمَنْ خَافَ مِنْ غَوْرِي تُهَامَةُ أَوْ نَجْدُ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا أُعِيدُهَا عَلَيْكَ أَبَدًا.
حدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد اللَّهِ، عن حرملة بن عِمْرَان، قَالَ: أتى معاوية في ليلة أن

(5/333)


قيصر قصد لَهُ فِي الناس، وأن ناتل بن قيس الجذامي غلب فلسطين وأخذ بيت مالها، وان المصريين الذين كان سجنهم هربوا، وأن عَلِيّ بن أبي طالب قصد لَهُ فِي الناس، فَقَالَ لمؤذنه: أذن هَذِهِ الساعة- وَذَلِكَ نصف الليل- فجاءه عَمْرو بن الْعَاصِ، فَقَالَ: لم أرسلت إلي؟ قَالَ: أنا مَا أرسلت إليك، قَالَ: مَا أذن المؤذن هَذِهِ الساعة إلا من أجلي، قَالَ: رميت بالقسي الأربع، قَالَ عَمْرو: أما هَؤُلاءِ الَّذِينَ خرجوا من سجنك، فإنهم إن خرجوا من سجنك فهم فِي سجن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وهم قوم شراة لا رحلة بهم، فاجعل لمن أتاك برجل مِنْهُمْ أو برأسه ديته، فإنك ستؤتى بهم، وانظر قيصر فوادعه، وأعطه مالا وحللا من حلل مصر، فإنه سيرضى منك بذاك، وانظر ناتل ابن قيس، فلعمري مَا أغضبه الدين، وَلا أراد إلا مَا أصاب، فاكتب إِلَيْهِ، وهب لَهُ ذَلِكَ، وهنئه إِيَّاهُ، فإن كَانَتْ لك قدرة عَلَيْهِ، وإن لم تكن لك فلا تأس عَلَيْهِ، واجعل حدك وحديدك لهذا الَّذِي عنده دم ابن عمك.
قَالَ: وَكَانَ القوم كلهم خرجوا من سجنه غير أبرهة بن الصباح، قَالَ مُعَاوِيَة: مَا منعك من أن تخرج مع أَصْحَابك؟ قَالَ: مَا منعني مِنْهُ بغض لعلي، وَلا حب لك، ولكني لم أقدر عَلَيْهِ، فخلى سبيله.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ:
حدثني عبد الله بن المبارك، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ بْنِ حَكَمَةَ الْفَزَارِيُّ مِنْ بَنِي آلِ بَدْرٍ، قَالَ: انْتَقَلَ مُعَاوِيَةُ مِنْ بَعْضِ كُوَرِ الشَّامِ إِلَى بَعْضِ عَمَلِهِ، فَنَزَلَ مَنْزِلا بِالشَّامِ، فَبُسِطَ لَهُ عَلَى ظَهْرِ أَجَارٍّ مِشْرَفٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَذِنَ لِي، فَقَعَدْتُ مَعَهُ، فَمَرَّتِ القطرات والرحائل والجوارى والخيول، فقال:
يا بن مَسْعَدَةَ، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! لَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا وَلَمْ تُرِدْهُ الدُّنْيَا، وَأَمَّا عُمَرَ- أَوْ قَالَ: ابْنُ حَنْتَمَةَ- فَأَرَادَتْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُرِدْهَا، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَأَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَصَابَتْ مِنْهُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَتَمَرَّغْنَا فِيهَا، ثُمَّ كَأَنَّهُ نَدِمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمُلْكٌ آتَانَا اللَّهُ إِيَّاهُ

(5/334)


حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ:
كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ لابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَا كَانَ أَعْطَاهُ أَبَاهُ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ فَهَدَرَ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي إِنْ بَقِيتُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَعْتُ عَهْدَهُ قَالَ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
مَا رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ مُتَّكِئًا قَطُّ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى كَاسِرًا عَيْنَهُ يَقُولُ لِرَجُلٍ: تَكَلَّمْ، إِلا رَحْمَتُهُ قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَسْتُ أَنْصَحَ النَّاسِ لَكَ؟ قَالَ: بِذَلِكَ نِلْتَ مَا نِلْتَ.
قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عَلِيٌّ: عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، أَنَّ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ نَالَ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَزَيْدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَالِسٌ، فَعَلاهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِزَيْدٍ: عَمَدْتَ إِلَى شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَيَّدِ أَهْلِ الشَّامِ فَضَرَبْتَهُ! وَأَقْبَلَ عَلَى بسر فقال: تشم عَلِيًّا وَهُوَ جَدُّهُ وَابْنُ الْفَارُوقِ عَلَى رُءُوسِ الناس، او كنت تَرَى أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ! ثُمَّ أَرْضَاهُمَا جَمِيعًا.
قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي لأَرْفَعُ نَفْسِي مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، وَجَهْلٌ أَكْثَرَ مِنْ حِلْمِي، أَوْ عَوْرَةٌ لا أُوَارِيهَا بِسِتْرِي، أَوْ إِسَاءَةٌ أَكْثَرَ مِنْ إِحْسَانِي قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: زَيْنُ الشَّرِيفِ الْعَفَافُ، قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَيْنٍ خَرَّارَةٍ، فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، فَقَالَ عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ عَرُوسًا بِعَقِيلَةٍ مِنْ عَقَائِلِ الْعَرَبِ، فَقَالَ وَرْدَانُ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العاص: ما من شيء أحب إلي من الإِفْضَالِ عَلَى الإِخْوَانِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَذَا مِنْكَ، قَالَ: مَا تُحِبُّ فَافْعَلْ.
حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ عامل مُعَاوِيَة عَلَى الْمَدِينَة إذا أراد أن يبرد بريدا إِلَى مُعَاوِيَةَ أمر مناديه فنادى: من لَهُ حاجة يكتب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فكتب زر بن حبيش- أو أيمن بن خريم- كتابا لطيفا ورمى بِهِ فِي الكتب، وفيه:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قَدْ دنا حصادها

(5/335)


فلما وردت الكتب عَلَيْهِ فقرأ هَذَا الكتاب، قَالَ: نعى إلي نفسي.
قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا من شَيْء ألذ عندي من غيظ أتجرعه.
قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَة لعبد الرَّحْمَن بن الحكم بن ابى العاص: يا بن أخي، إنك قَدْ لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة، والهجاء فتعر كريما، وتستثير لئيما، والمدح، فإنه طعمة الوقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال مَا تزين بِهِ نفسك، وتؤدب بِهِ غيرك.
حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنِ بن حماد: نظر معاويه الى الثما فِي عباءة، فازدراه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فِيهَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَجُلانِ إِنْ مَاتَا لَمْ يَمُوتَا، وَرَجُلٌ إِنْ مَاتَ مَاتَ، أَنَا إِنْ مِتُّ خَلَفَنِي ابْنِي، وَسَعِيدٌ إِنْ مَاتَ خَلَفَهُ عمرو، وعبد الله بن عامر إِنْ مَاتَ مَاتَ، فَبَلَغَ مَرْوَانَ، فَقَالَ:
أَمَا ذَكَرَ ابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِابْنِي ابْنَيْهُمَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ:
قَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَشَدُّهُمْ لِي تَحْبِيبًا إِلَى النَّاسِ قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: الْعَقْلُ وَالْحِلْمُ أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ، فَإِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا غَضِبَ كَظَمَ، وَإِذَا قَدَرَ غَفَرَ، وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ.
حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، عن عَبْد اللَّهِ، وهشام بن سَعْدٍ، عن عبد الملك ابن عمير، قَالَ: أغلظ رجل لمعاوية فأكثر، فقيل لَهُ: أتحلم عن هَذَا؟
فَقَالَ: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم مَا لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لامَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى الْغِنَاءِ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ بُدَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ وَاضِعٌ رِجْلا عَلَى رِجْلٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِبُدَيْحٍ: إِيهًا يَا بُدَيْحُ! فَتَغَنَّى،

(5/336)


فَحَرَّكَ مُعَاوِيَةُ رِجْلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
إِنَّ الْكَرِيمَ طُرُوبٌ.
قَالَ: وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ سَائِبُ خَاثِرٍ- وَكَانَ مَوْلًى لِبَنِي لَيْثٍ، وَكَانَ فَاجِرًا- فَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ حَوَائِجَكَ، فَفَعَلَ، وَرَفَعَ فِيهَا حَاجَةَ سَائِبِ خَاثِرٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ هَذَا؟ فَخَبَّرَهُ، فَقَالَ: أَدْخِلْهُ، فلما قام على باب المجلس غنى:
لمن الدِّيَارَ رُسُومُهَا قَفْرُ ... لَعِبَتْ بِهَا الأَرْوَاحُ وَالْقَطْرُ!
وَخِلالُهَا مِنْ بُعْدِ سَاكِنِهَا ... حِجَجٌ خَلَوْنَ ثَمَانِ أَوْ عَشْرُ
وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا ... شَرِقَا بِهِ اللُّبَّاتُ وَالنَّحْرُ
فَقَالَ أَحْسَنْتَ، وَقَضَى حَوَائِجَهُ حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَخْلَقَ لِلْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَرِدُ النَّاسَ مِنْهُ عَلَى أَرْجَاءِ وَادٍ رَحْبٍ، وَلَمْ يكن كالضيق الخضخض، الْحَصَرِ- يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عن سُفْيَان بن عيينة، عن مُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عن قبيصة بن جابر الأسدي قَالَ: أَلا أخبركم من صحبت؟ صحبت عُمَر بن الْخَطَّابِ فما رأيت رجلا أفقه فقها، وَلا أحسن مدارسة مِنْهُ، ثُمَّ صحبت طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ، فما رأيت رجلا أعطى للجزيل مِنْ غَيْرِ مسألة مِنْهُ، ثُمَّ صحبت مُعَاوِيَة فما رأيت رجلا أحب رفيقا، وَلا أشبه سريرة بعلانية مِنْهُ، ولو أن الْمُغِيرَة جعل فِي مدينة لا يخرج من أبوابها كلها إلا بالغدر لخرج منها.

(5/337)


خلافة يَزِيد بن مُعَاوِيَة
وفي هَذِهِ السنة بويع ليزيد بن مُعَاوِيَة بالخلافة بعد وفاة أَبِيهِ، للنصف من رجب فِي قول بعضهم، وفي قول بعض: لثمان بقين مِنْهُ- عَلَى مَا ذكرنا قبل من وفاة والده مُعَاوِيَة- فأقر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد عَلَى الْبَصْرَة، والنعمان بن بشير عَلَى الْكُوفَة.
وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، ولي يَزِيد فِي هلال رجب سنة ستين، وأمير الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، وأمير الكوفه النعمان ابن بشير الأَنْصَارِيّ، وأمير الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وأمير مكة عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الَّذِينَ أبوا عَلَى مُعَاوِيَة الإجابة إِلَى بيعة يَزِيد حين دعا الناس إِلَى بيعته، وأنه ولي عهده بعده، والفراغ من أمرهم، فكتب إِلَى الْوَلِيدِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من يَزِيد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْوَلِيدِ بن عتبة، أَمَّا بَعْدُ، فإن مُعَاوِيَة كَانَ عبدا من عباد اللَّه، أكرمه اللَّه واستخلفه، وخوله، ومكن لَهُ، فعاش بقدر، ومات بأجل، فرحمه اللَّه، فقد عاش محمودا، ومات برا تقيا، والسلام.
وكتب إِلَيْهِ فِي صحيفة كأنها أذن فأرة:
أَمَّا بَعْدُ، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزُّبَيْرِ بالبيعة أخذا شديدا ليست فِيهِ رخصة حَتَّى يبايعوا، والسلام.
فلما أتاه نعي مُعَاوِيَة فظع بِهِ، وكبر عَلَيْهِ، فبعث إِلَى مَرْوَان بن الحكم فدعاه إِلَيْهِ- وَكَانَ الْوَلِيد يوم قدم الْمَدِينَة قدمها مَرْوَان متكارها- فلما رَأَى ذَلِكَ الْوَلِيد مِنْهُ شتمه عِنْدَ جلسائه، فبلغ ذَلِكَ مَرْوَان، فجلس عنه وصرمه، فلم يزل كذلك حَتَّى جَاءَ نعي مُعَاوِيَة إِلَى الْوَلِيدِ، فلما عظم عَلَى الْوَلِيدِ هلاك مُعَاوِيَة وما أمر بِهِ من أخذ هَؤُلاءِ الرهط بالبيعة، فزع عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مَرْوَان، ودعاه، فلما قرأ عَلَيْهِ كتاب يَزِيد، استرجع وترحم عَلَيْهِ، واستشاره

(5/338)


الْوَلِيد فِي الأمر وَقَالَ: كيف ترى أن نصنع؟ قَالَ: فإني أَرَى أن تبعث الساعة إِلَى هَؤُلاءِ النفر فتدعوهم إِلَى البيعة والدخول فِي الطاعة، فإن فعلوا قبلت مِنْهُمْ، وكففت عَنْهُمْ، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت مُعَاوِيَة، فإنهم إن علموا بموت مُعَاوِيَة وثب كل امرئ مِنْهُمْ فِي جانب، وأظهر الخلاف والمنابذة، ودعا إِلَى نفسه لا أدري، أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال، وَلا يحب أنه يولى عَلَى الناس، إلا أن يدفع إِلَيْهِ هَذَا الأمر عفوا فأرسل عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَانَ- وَهُوَ إذ ذاك غلام حدث- إليهما يدعوهما، فوجدهما فِي المسجد وهما جالسان، فأتاهما فِي ساعة لَمْ يَكُنِ الْوَلِيد يجلس فِيهَا لِلنَّاسِ، وَلا يأتيانه فِي مثلها، فَقَالَ: أجيبا، الأمير يدعوكما، فقال لَهُ: انصرف، الآن نأتيه ثُمَّ أقبل أحدهما عَلَى الآخر، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ للحسين: ظن فيما تراه بعث إلينا فِي هَذِهِ الساعة الَّتِي لَمْ يَكُنْ يجلس فِيهَا! فَقَالَ حُسَيْن: قَدْ ظننت، أرى طاغيتهم قَدْ هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو فِي الناس الخبر، فَقَالَ: وأنا مَا أظن غيره قَالَ: فما تريد أن تصنع؟ قَالَ: أجمع فتياني الساعة، ثُمَّ أمشي إِلَيْهِ، فإذا بلغت الباب احتبستهم عَلَيْهِ، ثُمَّ دخلت عَلَيْهِ.
قَالَ: فإني أخافه عَلَيْك إذا دخلت، قَالَ: لا آتيه إلا وأنا عَلَى الامتناع قادر فقام فجمع إِلَيْهِ مواليه وأهل بيته، ثُمَّ أقبل يمشي حَتَّى انتهى إِلَى باب الْوَلِيد وَقَالَ لأَصْحَابه: إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قَدْ علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حَتَّى أخرج إليكم، فدخل فسلم عَلَيْهِ بالإمرة ومروان جالس عنده، فَقَالَ حُسَيْن، كأنه لا يظن مَا يظن من موت مُعَاوِيَة: الصلة خير من القطيعة، أصلح اللَّه ذات بينكما! فلم يجيباه فِي هَذَا بشيء، وجاء حَتَّى جلس، فأقرأه الْوَلِيد الكتاب، ونعى لَهُ مُعَاوِيَة، ودعاه إِلَى البيعة، [فَقَالَ حُسَيْن: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ورحم اللَّه مُعَاوِيَة، وعظم لك الأجر! أما مَا سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا،

(5/339)


وَلا أراك تجتزئ بِهَا مني سرا دون أن نظهرها عَلَى رءوس الناس علانية، قَالَ: أجل،] قَالَ: فإذا خرجت إِلَى النَّاسِ فدعوتهم إِلَى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد- وَكَانَ يحب العافية: فانصرف عَلَى اسم اللَّه حَتَّى تأتينا مع جماعة الناس، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: وَاللَّهِ لَئِنْ فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت مِنْهُ عَلَى مثلها أبدا حَتَّى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، وَلا يخرج من عندك حَتَّى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عِنْدَ ذلك الحسين، [فقال: يا بن الزرقاء، أنت تقتلني أم هُوَ! كذبت وَاللَّهِ وأثمت،] ثُمَّ خرج فمر بأَصْحَابه، فخرجوا مَعَهُ حَتَّى أتى منزله فَقَالَ مَرْوَان للوليد:
عصيتني، لا وَاللَّهِ لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدا، قَالَ الْوَلِيد: وبخ غيرك يَا مَرْوَان، إنك اخترت لي الَّتِي فِيهَا هلاك ديني، وَاللَّهِ مَا أحب أن لي مَا طلعت عَلَيْهِ الشمس وغربت عنه من مال الدُّنْيَا وملكها، وأني قتلت حسينا، سبحان اللَّه! أقتل حسينا إن قَالَ: لا أبايع! وَاللَّهِ إني لا أظن امرأً يحاسب بدم حُسَيْن لخفيف الميزان عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: فإذا كَانَ هَذَا رأيك فقد أصبت فِيمَا صنعت، يقول هَذَا لَهُ وَهُوَ غير الحامد لَهُ عَلَى رأيه.
وأما ابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: الآن آتيكم، ثُمَّ أتى داره فكمن فِيهَا، فبعث الْوَلِيد إِلَيْهِ فوجده مجتمعا فِي أَصْحَابه متحرزا، فألح عَلَيْهِ بكثرة الرسل والرجال فِي إثر الرجال، فأما حُسَيْن فَقَالَ: كف حَتَّى تنظر وننظر، وترى ونرى، وأما ابن الزُّبَيْر فَقَالَ: لا تعجلوني فإني آتيكم، أمهلوني، فألحوا عليهما عشيتهما تِلَكَ كلها وأول ليلهما، وكانوا عَلَى حُسَيْن أشد إبقاء، وبعث الْوَلِيد إِلَى ابن الزُّبَيْر موالي لَهُ فشتموه وصاحوا به: يا بن الكاهلية، وَاللَّهِ لتأتين الأمير أو ليقتلنك، فلبث بِذَلِكَ نهاره كله وأول ليله يقول: الآن أجيء، فإذا استحثوه قَالَ: وَاللَّهِ لقد استربت بكثرة الإرسال، وتتابع هَذِهِ الرجال، فلا تعجلوني حَتَّى أبعث إِلَى الأمير من يأتيني برأيه وأمره، فبعث إِلَيْهِ أخاه جَعْفَر بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ: رحمك اللَّه! كف عن عَبْد اللَّهِ فإنك قَدْ أفزعته وذعرته بكثرة رسلك، وَهُوَ آتيك غدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فمر رسلك فلينصرفوا عنا فبعث إِلَيْهِم فانصرفوا، وخرج ابن الزُّبَيْر من تحت الليل فأخذ طريق

(5/340)


الفرع هُوَ وأخوه جَعْفَر، ليس مَعَهُمَا ثالث، وتجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب، وتوجه نحو مكة، فلما أصبح بعث إِلَيْهِ الْوَلِيد فوجده قَدْ خرج، فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ إن أخطأ مكة فسرح فِي إثره الرجال، فبعث راكبا من موالي بني أُمَيَّة فِي ثمانين راكبا، فطلبوه فلم يقدروا عَلَيْهِ، فرجعوا، فتشاغلوا عن حُسَيْن بطلب عَبْد اللَّهِ يومهم ذَلِكَ حَتَّى أمسوا، ثُمَّ بعث الرجال إِلَى حُسَيْن عِنْدَ المساء فَقَالَ: أصبحوا ثُمَّ ترون ونرى، فكفوا عنه تِلَكَ الليلة، ولم يلحوا عَلَيْهِ، فخرج حُسَيْن من تحت ليلته، وَهِيَ ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين.
وَكَانَ مخرج ابن الزُّبَيْر قبله بليلة، خرج ليلة السبت فأخذ طريق الفرع، فبينا عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ يساير أخاه جعفرا إذ تمثل جَعْفَر بقول صبرة الحنظلي:
وكل بني أم سيمسون ليلة ... ولم يبق من أعقابهم غير واحد
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ! سبحان اللَّه، مَا أردت إِلَى مَا أسمع يَا أخي! قَالَ: وَاللَّهِ يَا أخي مَا أردت بِهِ شَيْئًا مما تكره، فَقَالَ: فذاك وَاللَّهِ أكره إلي أن يكون جَاءَ عَلَى لسانك مِنْ غَيْرِ تعمد- قَالَ: وكأنه تطير مِنْهُ- وأما الْحُسَيْن فإنه خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجل اهل بيته، الا محمد بن الحنفية فإنه قَالَ لَهُ: يَا أخي، أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بِهَا مِنْكَ، تنح بتبعتك عن يَزِيد بن مُعَاوِيَة وعن الأمصار مَا استطعت، ثُمَّ ابعث رسلك إِلَى النَّاسِ فادعهم إِلَى نفسك فإن بايعوا لك حمدت اللَّه عَلَى ذَلِكَ، وإن أجمع الناس عَلَى غيرك لم ينقص اللَّه بِذَلِكَ دينك وَلا عقلك، وَلا يذهب بِهِ مروءتك وَلا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرا من هَذِهِ الأمصار وتأتي جماعة مِنَ النَّاسِ، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عَلَيْك، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هَذِهِ الأمة كلها نفسا وأبا، وأما أضيعها دما وأذلها أهلا، قَالَ

(5/341)


لَهُ الْحُسَيْن: فإني ذاهب يَا أخي، قَالَ: فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذَلِكَ، وإن نبت بك لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وخرجت من بلد إِلَى بلد حَتَّى تنظر إِلَى مَا يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك اصوب ما تكون رأيا وأحزمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا، وَلا تكون الأمور عَلَيْك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا، [قَالَ:
يَا أخي، قَدْ نصحت فأشفقت، فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا] .
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعد المقبري، قَالَ: نظرت إِلَى الْحُسَيْن داخلا مسجد الْمَدِينَة وإنه ليمشي وَهُوَ معتمد عَلَى رجلين، يعتمد عَلَى هَذَا مرة وعلى هَذَا مرة، وَهُوَ يتمثل بقول ابن مفرغ:
لا ذعرت السوام فِي فلق الصبح ... مغيرا وَلا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المهابة ضيما ... والمنايا يرصدنني أن أحيدا
قَالَ: فقلت فِي نفسي: وَاللَّهِ مَا تمثل بهذين البيتين إلا لشيء يريد، قَالَ: فما مكث إلا يومين حَتَّى بلغني أنه سار إِلَى مكة.
ثُمَّ إن الْوَلِيد بعث إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فَقَالَ: بايع ليزيد، فَقَالَ: إذا بايع الناس بايعت، فَقَالَ رجل: مَا يمنعك أن تبايع؟ انما تريد ان يختلف الناس فيقتتلوا ويتفانوا، فإذا جهدهم ذَلِكَ قَالُوا: عَلَيْكُمْ بعبد اللَّه بن عُمَرَ، لم يبق غيره، بايعوه! قَالَ عَبْد اللَّهِ: مَا أحب أن يقتتلوا وَلا يختلفوا وَلا يتفانوا، ولكن إذا بايع الناس ولم يبق غيري بايعت، قَالَ: فتركوه وكانوا لا يتخوفونه

(5/342)


قَالَ: ومضى ابن الزُّبَيْر حَتَّى أتى مكة وعليها عَمْرو بن سَعِيد، فلما دخل مكة قَالَ: إنما أنا عائذ، ولم يكن يصلي بصلاتهم، وَلا يفيض بإفاضتهم، كَانَ يقف هُوَ وأَصْحَابه ناحية، ثُمَّ يفيض بهم وحده، ويصلي بهم وحده، قَالَ: [فلما سار الْحُسَيْن نحو مكة، قال: «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» فلما دخل مكة قَالَ:
«وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ] »

ذكر عزل الوليد عن المدينة وولايه عمر بن سعيد
وفي هَذِهِ السنة عزل يَزِيد الْوَلِيد بن عتبة عن الْمَدِينَة، عزله فِي شهر رمضان، فأقر عَلَيْهَا عَمْرو بن سَعِيد الأشدق.
وفيها قدم عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الْمَدِينَة فِي رمضان، فزعم الْوَاقِدِيّ أن ابن عمر لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ حين ورد نعي مُعَاوِيَة وبيعة يَزِيد عَلَى الْوَلِيدِ، وأن ابن الزُّبَيْر والحسين لما دعيا إِلَى البيعة ليزيد أبيا وخرجا من ليلتهما إِلَى مكة، فلقيهما ابن عَبَّاس وابن عمر جائيين مِنْ مَكَّةَ، فسألاهما، مَا وراءكما؟
قَالا: موت مُعَاوِيَة والبيعة ليزيد، فَقَالَ لهما ابن عمر: اتقيا اللَّه وَلا تفرقا جماعة الْمُسْلِمِينَ، وأما ابن عمر فقدم فأقام أياما، فانتظر حَتَّى جاءت البيعة من البلدان، فتقدم إِلَى الْوَلِيدِ بن عتبة فبايعه، وبايعه ابن عَبَّاس.
وفي هَذِهِ السنة وجه عَمْرو بن سَعِيد عَمْرو بن الزُّبَيْرِ إِلَى أخيه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ لحربه.
(ذكر الخبر عن ذَلِكَ:) ذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ أن عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الأشدق قدم الْمَدِينَة فِي رمضان سنة ستين فدخل عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة، فدخلوا عَلَى رجل عظيم الكبر مفوه

(5/343)


قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن سَعِيد، عن شيبة بن نصاح، قَالَ:
كَانَتِ الرسل تجري بين يَزِيد بن مُعَاوِيَة وابن الزبير في البيعه، فحلف يزيد الا يقبل مِنْهُ حَتَّى يؤتى بِهِ فِي جامعة، وَكَانَ الْحَارِث بن خَالِد المخزومي عَلَى الصَّلاة، فمنعه ابن الزُّبَيْر، فلما منعه كتب يَزِيد إِلَى عَمْرو بن سَعِيد، أن ابعث جيشا إِلَى ابن الزُّبَيْر، وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد لما قدم الْمَدِينَة ولى شرطته عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، لما كَانَ يعلم مَا بينه وبين عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ من البغضاء، فأرسل إِلَى نفر من أهل الْمَدِينَة فضربهم ضربا شديدا.
قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل بن أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نظر إِلَى كل من كَانَ يهوى هوى ابن الزبير فضربه، وكان ممن ضرب المنذر ابن الزُّبَيْرِ، وابنه مُحَمَّد بن المنذر، وعبد الرَّحْمَن بن الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وعثمان بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد ابن عمار بن ياسر، فضربهم الأربعين إِلَى الخمسين إِلَى الستين، وفر مِنْهُ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَانَ وعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن سهل فِي أناس إِلَى مكة، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد لعمرو بن الزُّبَيْرِ: من رجل نوجه إِلَى أخيك؟ قَالَ:
لا توجه إِلَيْهِ رجلا أبدا أنكأ لَهُ مني، فأخرج لأهل الديوان عشرات، وخرج من موالي أهل الْمَدِينَة ناس كثير، وتوجه مَعَهُ أنيس بن عَمْرو الأسلمي في سبعمائة، فوجهه فِي مقدمته، فعسكر بالجرف، فَجَاءَ مَرْوَان بن الحكم إِلَى عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ: لا تغز مكة، واتق اللَّه، وَلا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزُّبَيْر فقد كبر، هَذَا لَهُ بضع وستون سنة، وَهُوَ رجل لجوج، وَاللَّهِ لَئِنْ لم تقتلوه ليموتن، فَقَالَ عَمْرو بن الزُّبَيْرِ وَاللَّهِ لنقاتلنه ولنغزونه فِي جوف الكعبة عَلَى رغم أنف من رغم، فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ إن ذَلِكَ ليسوءني، فسار أنيس بن عَمْرو الأسلمي حَتَّى نزل بذي طوى، وسار عَمْرو بن الزُّبَيْرِ حَتَّى نزل بالأبطح، فأرسل عَمْرو بن الزُّبَيْرِ إِلَى أخيه: بريمين الخليفة، واجعل فِي عنقك جامعة من فضة لا ترى، لا يضرب الناس بعضهم بعضا، واتق اللَّه فإنك فِي بلد حرام.
قَالَ ابن الزُّبَيْر: موعدك المسجد، فأرسل ابن الزُّبَيْر عَبْد اللَّهِ بن صفوان

(5/344)


الْجُمَحِيّ إِلَى أنيس بن عَمْرو من قبل ذي طوى، وَكَانَ قَدْ ضوى إِلَى عَبْد الله ابن صفوان قوم ممن نزل حول مكة، فقاتلوا انيس بن عمرو، فهزم انيس ابن عمرو اقبح هزيمه، وتفرق عن عَمْرو جماعة أَصْحَابه، فدخل دار عَلْقَمَة، فأتاه عبيدة بن الزُّبَيْرِ فأجاره، ثُمَّ جَاءَ إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ:
إني قَدْ أجرته، فَقَالَ: أتجير من حقوق الناس! هَذَا مَا لا يصلح.
قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: فحدثت هَذَا الحديث مُحَمَّد بن عبيد بن عمير فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرو بن دينار، قَالَ: كتب يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى عَمْرو ابن سَعِيد: أن استعمل عَمْرو بن الزُّبَيْرِ عَلَى جيش، وابعثه إِلَى ابن الزُّبَيْر، وابعث مَعَهُ أنيس بن عَمْرو، قَالَ: فسار عَمْرو بن الزُّبَيْرِ حَتَّى نزل فِي داره عِنْدَ الصفا، ونزل أنيس بن عَمْرو بذي طوى، فكان عَمْرو بن الزُّبَيْرِ يصلي بِالنَّاسِ، ويصلي خلفه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فإذا انصرف شبك أصابعه فِي أصابعه، ولم يبق أحد من قريش إلا أتى عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، وقعد عَبْد اللَّهِ بن صفوان فَقَالَ: ما لي لا أَرَى عَبْد اللَّهِ بن صفوان! أما وَاللَّهِ لَئِنْ سرت إِلَيْهِ ليعلمن أن بني جمح ومن ضوى إِلَيْهِ من غيرهم قليل، فبلغ عَبْد اللَّهِ بن صفوان كلمته هَذِهِ، فحركته، فَقَالَ لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ: إني أراك كأنك تريد البقيا عَلَى أخيك، فَقَالَ عبد الله: أنا أبقي عَلَيْهِ يَا أَبَا صفوان! وَاللَّهِ لو قدرت عَلَى عون الذر عَلَيْهِ لاستعنت بِهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ ابن صفوان: فأنا أكفيك أنيس بن عَمْرو، فاكفني أخاك، قَالَ ابن الزُّبَيْر: نعم، فسار عَبْد اللَّهِ ابن صفوان إِلَى أنيس بن عَمْرو وَهُوَ بذي طوى، فلاقاه فِي جمع كثير من أهل مكة وغيرهم من الأعوان، فهزم أنيس بن عمرو ومن معه، وقتلوا مدبرهم، واجهزوا على جريحهم، وسار معصب بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى عَمْرو، وتفرق عنه أَصْحَابه حَتَّى تخلص إِلَى عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ عبيدة بن الزُّبَيْرِ لعمرو:
تعال أنا أجيرك فَجَاءَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ أجرت عمرا، فأجره لي، فأبى أن يجيره، وضربه بكل من كَانَ ضرب بِالْمَدِينَةِ، وحبسه بسجن عارم

(5/345)


قَالَ الْوَاقِدِيّ: قَدِ اختلفوا علينا فِي حديث عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، وكتبت كل ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي خَالِد بن إلياس، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي الجهم، قَالَ:
لما قدم عَمْرو بن سَعِيد الْمَدِينَة واليا، قدم فِي ذي القعدة سنة ستين، فولى عَمْرو ابن الزُّبَيْرِ شرطته، وَقَالَ: قَدْ أقسم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الا يقبل بيعة ابن الزُّبَيْر إلا أن يؤتى بِهِ فِي جامعة، فليبر يمين أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فإني أجعل جامعة خفيفة من ورق أو ذهب، ويلبس عَلَيْهَا برنسا، وَلا ترى إلا أن يسمع صوتها، وَقَالَ:
خذها فليست للعزيز بخطة ... وفيها مقال لامرئ متذلل
أعامر إن القوم ساموك خطة ... ومالك فِي الجيران عذل معذل
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي رِيَاحُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُرَيْحٍ: [لا تَغْزُ مَكَّةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله ص يَقُولُ: إِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ لِي فِي الْقِتَالِ بِمَكَّةَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِهَا،] فَأَبَى عَمْرٌو أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَهُ، وَقَالَ:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَبَعَثَ عَمْرٌو جيشا مع عمرو ومعه انيس ابن عَمْرٍو الأَسْلَمِيُّ، وَزَيْدٌ غُلامُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، - وَكَانُوا نَحْوَ أَلْفَيْنِ- فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقُتِلَ أُنَيْسُ بْنُ عَمْرٍو وَالْمُهَاجِرُ مَوْلَى الْقَلَمَّسِ فِي نَاسٍ كَثِيرٍ، وَهُزِمَ جَيْشُ عَمْرٍو، فَجَاءَ عُبَيْدَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لأَخِيهِ عَمْرٍو: أَنْتَ فِي ذِمَّتِي، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا هَذَا الدَّمُ الَّذِي فِي وَجْهِكَ يَا خَبِيثُ! فَقَالَ عَمْرٌو:
لَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا
فَحَبَسَهُ وَأَخْفَرَ عُبَيْدَةَ، وَقَالَ: أَمَرْتُكَ أَنْ تُجِيرَ هَذَا الْفَاسِقَ الْمُسْتَحِلَّ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ أَقَادَ عَمْرًا مِنْ كُلِّ مَنْ ضَرَبَهُ إِلا الْمُنْذِرَ وَابْنَهُ، فَإِنَّهُمَا أَبَيَا

(5/346)


أَنْ يَسْتَقِيدَا، وَمَاتَ تَحْتَ السِّيَاطِ قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِجْنُ عَارِمٍ لِعَبْدٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ: زيد عَارِمٍ، فَسُمِّيَ السِّجْنُ بِهِ، وَحَبَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ عَمْرًا فِيهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مع أنيس بن عَمْرو ألفان.
وفي هَذِهِ السنة وجه أهل الْكُوفَة الرسل إِلَى الحسين ع وَهُوَ بمكة يدعونه إِلَى القدوم عَلَيْهِم، فوجه إِلَيْهِم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
. ذكر الخبر عن مراسله الكوفيين الحسين ع للمصير إِلَى مَا قبلهم وأمر مسلم بن عقيل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جناب المصيصي- ويكنى أبا الْوَلِيد- قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد بن يَزِيدَ بن أسد بن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمار الدهني، قَالَ: [قلت لأبي جَعْفَر:
حَدَّثَنِي بمقتل الْحُسَيْن حَتَّى كأني حضرته، قَالَ: مات مُعَاوِيَة والوليد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْمَدِينَة، فأرسل إِلَى الْحُسَيْن بن علي ليأخذ بيعته، فَقَالَ لَهُ: أخرني وارفق، فأخره، فخرج إِلَى مكة، فأتاه أهل الْكُوفَة ورسلهم:
إنا قَدْ حبسنا أنفسنا عَلَيْك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدم علينا- وَكَانَ النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ عَلَى الْكُوفَة، قَالَ: فبعث الْحُسَيْن إِلَى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فَقَالَ لَهُ: سر إِلَى الْكُوفَةِ فانظر مَا كتبوا بِهِ إلي، فإن كَانَ حقا خرجنا إِلَيْهِم فخرج مسلم حَتَّى أتى الْمَدِينَة، فأخذ منها دليلين، فمرا بِهِ فِي البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إِلَى الْحُسَيْن يستعفيه، فكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن: أن امض إِلَى الْكُوفَةِ] .
فخرج حَتَّى قدمها، ونزل عَلَى رجل من أهلها يقال لَهُ ابن عوسجة، قَالَ: فلما تحدث أهل الْكُوفَة بمقدمه دبوا إِلَيْهِ فبايعوه، فبايعه مِنْهُمُ

(5/347)


اثنا عشر ألفا قَالَ: فقام رجل ممن يهوى يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى النُّعْمَان بن بشير، فَقَالَ لَهُ: إنك ضعيف أو متضعف، قَدْ فسد البلاد! فَقَالَ لَهُ النُّعْمَان: أن أكون ضعيفا وأنا فِي طاعة اللَّه أحب إلي من أن أكون قويا فِي معصية اللَّه، وما كنت لأهتك سترا ستره اللَّه.
فكتب بقول النُّعْمَان إِلَى يَزِيد، فدعا مولى لَهُ يقال لَهُ: سرجون، - وَكَانَ يستشيره- فأخبره الخبر، فَقَالَ لَهُ: أكنت قابلا من مُعَاوِيَة لو كَانَ حيا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فاقبل مني، فإنه ليس للكوفة إلا عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد، فولها إِيَّاهُ- وَكَانَ يَزِيد عَلَيْهِ ساخطا، وَكَانَ هم بعزله عن الْبَصْرَة- فكتب إِلَيْهِ برضائه، وأنه قَدْ ولاه الْكُوفَة مع الْبَصْرَة، وكتب إِلَيْهِ أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.
قَالَ: فأقبل عُبَيْد اللَّهِ فِي وجوه أهل الْبَصْرَة حَتَّى قدم الْكُوفَة متلثما، وَلا يمر عَلَى مجلس من مجالسهم فيسلم الا قالوا: عليك السلام يا بن بنت رَسُول اللَّهِ- وهم يظنون أنه الْحُسَيْن بن على ع- حَتَّى نزل القصر، فدعا مولى لَهُ فأعطاه ثلاثة آلاف، وَقَالَ لَهُ: اذهب حَتَّى تسأل عن الرجل الَّذِي يبايع لَهُ أهل الْكُوفَة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إِلَيْهِ ليتقوى فلم يزل يتلطف ويرفق بِهِ حَتَّى دل عَلَى شيخ من أهل الْكُوفَة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فَقَالَ لَهُ الشيخ: لقد سرني لقاؤك إياي، وَقَدْ ساءني، فأما مَا سرني من ذَلِكَ فما هداك اللَّه لَهُ، وأما مَا ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد فأدخله إِلَيْهِ، فأخذ مِنْهُ المال وبايعه، ورجع إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فأخبره.
فتحول مسلم حين قدم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من الدار الَّتِي كَانَ فِيهَا إِلَى منزل هانئ بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إِلَى الحسين بن على ع يخبره ببيعة اثني عشر ألفا من أهل الْكُوفَة، ويأمره بالقدوم.
وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ لوجوه أهل الْكُوفَة: ما لي أَرَى هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قَالَ: فخرج إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث فِي ناس من قومه وَهُوَ عَلَى باب

(5/348)


داره، فَقَالُوا: إن الأمير قَدْ ذكرك واستبطأك، فانطلق إِلَيْهِ، فلم يزالوا بِهِ حَتَّى ركب معهم وسار حَتَّى دخل عَلَى عُبَيْد اللَّهِ وعنده شريح القاضي، فلما نظر إِلَيْهِ قَالَ لشريح: أتتك بحائن رجلاه، فلما سلم عَلَيْهِ قَالَ: يَا هانئ، أين مسلم؟ قَالَ: مَا أدري، فأمر عُبَيْد اللَّهِ مولاه صاحب الدراهم فخرج إِلَيْهِ، فلما رآه قطع بِهِ، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير! وَاللَّهِ مَا دعوته إِلَى منزلي ولكنه جَاءَ فطرح نفسه علي، قَالَ: ائتني بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لو كَانَ تحت قدمي مَا رفعتهما عنه، قَالَ: أدنوه إلي، فأدني فضربه عَلَى حاجبه فشجه، قَالَ: وأهوى هانئ إِلَى سيف شرطي ليسله، فدفع عن ذَلِكَ، وَقَالَ:
قَدْ أحل اللَّه دمك، فأمر بِهِ فحبس فِي جانب القصر.
وَقَالَ غير ابى جعفر: الذى جاء بهانىء بن عروة إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد عَمْرو بن الحجاج الزبيدي:
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو قتيبة، قال: حدثنا يونس ابن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: حدثنا عماره بن عقبه ابن أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ ابْنِ زِيَادٍ فَحَدَّثَ، قَالَ: طَرَدْتُ الْيَوْمَ حُمُرًا فَأَصَبْتُ مِنْهَا حِمَارًا فَعَقَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ:
إِنَّ حِمَارًا تَعْقِرُهُ أَنْتَ لَحِمَارٌ حَائِنٌ، فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِأَحْيَنَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ! رَجُلٌ جِيءَ بِأَبِيهِ كَافِرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَمَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ: النَّارُ، فَأَنْتَ مِنَ الصِّبْيَةِ، وَأَنْتَ فِي النَّارِ، قَالَ: فَضَحِكَ ابْنُ زِيَادٍ رجع الحديث إِلَى حديث عمار الدهني، عن أبي جَعْفَر قَالَ: فبينا هُوَ

(5/349)


كذلك إذ خرج الخبر إِلَى مذحج، فإذا عَلَى باب القصر جلبة سمعها عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: مذحج، فَقَالَ لشريح: اخرج إِلَيْهِم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، وبعث عينا عَلَيْهِ من مواليه يسمع مَا يقول، فمر بهانىء بن عروة، فَقَالَ لَهُ هانئ: اتق اللَّه يَا شريح، فإنه قاتلي، فخرج شريح حَتَّى قام عَلَى باب القصر، فَقَالَ: لا بأس عَلَيْهِ، إنما حبسه الأمير ليسائله، فَقَالُوا: صدق، ليس عَلَى صاحبكم بأس، فتفرقوا، فأتى مسلما الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إِلَيْهِ أربعة آلاف من أهل الْكُوفَة، فقدم مقدمته، وعبى ميمنته وميسرته، وسار فِي القلب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، وبعث عُبَيْد اللَّهِ إِلَى وجوه أهل الْكُوفَة فجمعهم عنده فِي القصر، فلما سار إِلَيْهِ مسلم فانتهى إِلَى باب القصر أشرفوا عَلَى عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أَصْحَاب مسلم يتسللون حتى امسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أُولَئِكَ أَيْضًا.
فلما رَأَى مسلم أنه قَدْ بقي وحده يتردد في الطرق أتى بابا فنزل عَلَيْهِ، فخرجت إِلَيْهِ امرأة، فَقَالَ لها: اسقيني، فسقته، ثُمَّ دخلت فمكثت مَا شاء اللَّه، ثُمَّ خرجت فإذا هُوَ عَلَى الباب، قالت: يَا عَبْد اللَّهِ، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، قَالَ: إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل، وَكَانَ ابنها مولى لمُحَمَّد بن الأشعث، فلما علم بِهِ الغلام انطلق إِلَى مُحَمَّد فأخبره، فانطلق مُحَمَّد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فأخبره، فبعث عُبَيْد اللَّهِ عَمْرو بن حريث المخزومي- وَكَانَ صاحب شرطه- إِلَيْهِ، وَمَعَهُ عبد الرحمن ابن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث، فلم يعلم مسلم حَتَّى أحيط بالدار، فلما رَأَى ذَلِكَ مسلم خرج إِلَيْهِم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرَّحْمَن الأمان، فأمكن من يده، فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فأمر بِهِ فأصعد إِلَى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى جثته إِلَى النَّاسِ، وأمر بهانىء فسحب إِلَى الكناسة، فصلب هنالك، وَقَالَ شاعرهم فِي ذَلِكَ:
فإن كنت لا تدرين مَا الموت فانظري ... إِلَى هانئ فِي السوق وابن عقيل

(5/350)


أصابهما أمر الإمام فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
أيركب أسماء الهماليج آمنا ... وَقَدْ طلبته مذحج بذحول!
وأما أَبُو مخنف فإنه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إِلَى الْكُوفَةِ ومقتله قصة هي أشبع وأتم من خبر عمار الدهني عن أبي جَعْفَر الَّذِي ذكرناه، مَا حدثت عن هِشَام بن مُحَمَّد، عنه، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، قَالَ: حَدَّثَنِي عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة حُسَيْن- وكانت مع سكينة ابنة حُسَيْن، وَهُوَ مولى لأبيها، وَهِيَ إذ ذاك صغيرة- قَالَ: خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم، [فَقَالَ للحسين أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزُّبَيْر لا يلحقك الطلب، قَالَ: لا، وَاللَّهِ لا أفارقه حَتَّى يقضي اللَّه مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ، قَالَ:
فاستقبلنا عَبْد اللَّهِ بن مطيع فَقَالَ للحسين: جعلت فداك! أين تريد؟ قَالَ:
أما الآن فإني أريد مكة، وأما بعدها فانى أستخير اللَّه،] قَالَ: خار اللَّه لك، وجعلنا فداك، فإذا أنت أتيت مكة فإياك أن تقرب الْكُوفَة، فإنها بلدة مشئومة، بِهَا قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي عَلَى نفسه، الزم الحرم، فإنك سيد العرب، لا يعدل بك وَاللَّهِ أهل الحجاز أحدا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمى وخالي، فو الله لَئِنْ هلكت لنسترقن بعدك فأقبل حَتَّى نزل مكة، فأقبل أهلها يختلفون إِلَيْهِ ويأتونه ومن كَانَ بِهَا من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزُّبَيْر بِهَا قَدْ لزم الكعبة، فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف، ويأتي حسينا فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين، ويأتيه بين كل يومين مرة، وَلا يزال يشير عَلَيْهِ بالرأي وَهُوَ أثقل خلق اللَّه عَلَى ابن الزُّبَيْر، قَدْ عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه وَلا يتابعونه أبدا مَا دام حُسَيْن بالبلد، وإن حسينا أعظم فِي أعينهم وأنفسهم مِنْهُ،.
وأطوع فِي الناس مِنْهُ.
فلما بلغ أهل الْكُوفَة هلاك مُعَاوِيَة أرجف أهل العراق بيزيد، وَقَالُوا: قَدِ امتنع حُسَيْن وابن الزُّبَيْر، ولحقا بمكة، فكتب أهل

(5/351)


الْكُوفَة إِلَى حُسَيْن، وعليهم النُّعْمَان بن بشير.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر الهمداني، قَالَ: اجتمعت الشيعة فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد، فذكرنا هلاك مُعَاوِيَة، فحمدنا اللَّه عَلَيْهِ، فَقَالَ لنا سُلَيْمَان بن صرد: إن مُعَاوِيَة قَدْ هلك، وإن حسينا قَدْ تقبض عَلَى القوم ببيعته، وَقَدْ خرج إِلَى مكة، وَأَنْتُمْ شيعته وشيعة أَبِيهِ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إِلَيْهِ، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، قَالُوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه، قَالَ: فاكتبوا إِلَيْهِ، فكتبوا إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لحسين بن علي من سُلَيْمَان بن صرد والمسيب ابن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين من أهل الْكُوفَة سلام عَلَيْك، فإنا نحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي قصم عدوك الجبار العنيد الَّذِي انتزى عَلَى هَذِهِ الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عَلَيْهَا بغير رضا منها، ثُمَّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال اللَّه دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدا لَهُ كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل اللَّه أن يجمعنا بك عَلَى الحق والنعمان ابن بشير فِي قصر الإمارة لسنا نجتمع مَعَهُ فِي جمعة، وَلا نخرج مَعَهُ إِلَى عيد، ولو قَدْ بلغنا أنك قَدْ أقبلت إلينا أخرجناه حَتَّى نلحقه بِالشَّامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام ورحمة اللَّه عَلَيْك.
قَالَ: ثُمَّ سرحنا بالكتاب مع عَبْد اللَّهِ بن سبع الهمداني وعبد اللَّه بن وال، وأمرناهما بالنجاء، فخرج الرجلان مسرعين حَتَّى قدما عَلَى حُسَيْن لعشر مضين من شهر رمضان بمكة، ثُمَّ لبثنا يومين، ثم سرحنا اليه قيس ابن مسهر الصيداوي وعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي، فحملوا معهم نحوا من ثلاثة وخمسين صحيفة، الصحيفة من الرجل والاثنين والأربعة

(5/352)


قَالَ: ثُمَّ لبثنا يومين آخرين، ثُمَّ سرحنا إِلَيْهِ هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحتفى، وكتبنا مَعَهُمَا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لحسين بن علي من شيعته من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، اما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، وَلا رأي لَهُمْ فِي غيرك، فالعجل العجل، والسلام عَلَيْك.
وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومُحَمَّد بن عمير التميمي:
أَمَّا بَعْدُ، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم عَلَى جند لك مجند، والسلام عَلَيْك.
وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثُمَّ كتب مع هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، وكانا آخر الرسل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من حُسَيْن بن علي إِلَى الملإ من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، أَمَّا بَعْدُ، فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وَقَدْ فهمت كل الَّذِي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل اللَّه أن يجمعنا بك عَلَى الهدى والحق وقد بعثت إليكم أخي وابن عمى وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قَدْ أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى مِنْكُمْ عَلَى مثل مَا قدمت علي بِهِ رسلكم، وقرأت فِي كتبكم، أقدم عَلَيْكُمْ وشيكا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلعمري مَا الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه عَلَى ذات اللَّه والسلام.
قَالَ أَبُو مخنف: وذكر أَبُو المخارق الراسبي، قَالَ: اجتمع ناس من الشيعة بِالْبَصْرَةِ فِي منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد- أو منقذ- أياما، وكانت تشيع، وَكَانَ منزلها لَهُمْ مألفا يتحدثون فِيهِ، وَقَدْ بلغ ابن زياد إقبال الْحُسَيْن، فكتب إِلَى عامله بالبصرة ان يضع المناظر ويأخذ

(5/353)


قَالَ: فأجمع يَزِيد بن نبيط الخروج- وَهُوَ من عبد القيس- إِلَى الْحُسَيْن، وَكَانَ لَهُ بنون عشرة، فَقَالَ: أيكم يخرج معي؟ فانتدب مَعَهُ ابنان لَهُ: عَبْد اللَّهِ وعبيد اللَّه، فَقَالَ لأَصْحَابه فِي بيت تِلَكَ المرأة: إني قَدْ أزمعت عَلَى الخروج، وأنا خارج، فَقَالُوا لَهُ: إنا نخاف عَلَيْك أَصْحَاب ابن زياد، فقال: انى والله لو قد استوت اخفافهما بالجدد لهان علي طلب من طلبني.
قَالَ: ثم خرج فتقدى في الطريق حتى انتهى الى حسين ع، فدخل فِي رحله بالأبطح، وبلغ الْحُسَيْن مجيئه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إِلَى رحل الْحُسَيْن، فقيل لَهُ: قَدْ خرج إِلَى منزلك، فأقبل فِي أثره، ولما لم يجده الْحُسَيْن جلس فِي رحله ينتظره، وجاء البصري فوجده فِي رحله جالسا، فَقَالَ: «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» قَالَ: فسلم عَلَيْهِ، وجلس إِلَيْهِ، فخبره بِالَّذِي جَاءَ لَهُ، فدعا لَهُ بخير، ثُمَّ أقبل مَعَهُ حَتَّى أتى فقاتل مَعَهُ، فقتل مَعَهُ هُوَ وابناه ثُمَّ دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الكدن الأرحبي، فأمره بتقوى اللَّه وكتمان أمره، واللطف، فإن رَأَى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إِلَيْهِ بِذَلِكَ.
فأقبل مسلم حَتَّى أتى الْمَدِينَة فصلى فِي مسجد رَسُول اللَّهِ ص، وودع من أحب من أهله، ثُمَّ استأجر دليلين من قيس، فأقبلا بِهِ، فضلا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وَقَالَ الدليلان: هَذَا الطريق حتى تنتهي إِلَى الماء، وَقَدْ كادوا أن يموتوا عطشا فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى حُسَيْن، وَذَلِكَ بالمضيق من بطن الخبيت:
أَمَّا بَعْدُ، فإني أقبلت مِنَ الْمَدِينَةِ معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلا، واشتد علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حَتَّى انتهينا إِلَى الماء، فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وَذَلِكَ الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت، وَقَدْ تطيرت من وجهي هَذَا، فإن رأيت أعفيتني مِنْهُ، وبعثت غيري، والسلام

(5/354)


فكتب إِلَيْهِ حُسَيْن:
أَمَّا بَعْدُ، فقد خشيت أَلا يكون حملك عَلَى الكتاب إلي فِي الاستعفاء من الوجه الَّذِي وجهتك لَهُ إلا الجبن، فامض لوجهك الَّذِي وجهتك لَهُ، والسلام عَلَيْك.
فَقَالَ مسلم لمن قرأ الكتاب: هَذَا مَا لست أتخوفه عَلَى نفسي، فأقبل كما هُوَ حَتَّى مر بماء لطيئ، فنزل بهم، ثُمَّ ارتحل مِنْهُ، فإذا رجل يرمي الصيد، فنظر إِلَيْهِ قَدْ رمى ظبيا حين أشرف لَهُ، فصرعه، فَقَالَ مسلم:
يقتل عدونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أقبل مسلم حَتَّى دخل الكوفه، فنزل دار المختار ابن أبي عبيد- وَهِيَ الَّتِي تدعى الْيَوْم دار مسلم بن المسيب- وأقبلت الشيعة تختلف إِلَيْهِ، فلما اجتمعت إِلَيْهِ جماعة مِنْهُمْ قرأ عَلَيْهِم كتاب حُسَيْن، فأخذوا يبكون.
فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإني لا أخبرك عن الناس، وَلا أعلم مَا فِي أنفسهم، وما أغرك مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لأحدثنك عما أنا موطن نفسي عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حَتَّى ألقى اللَّه، لا أريد بِذَلِكَ إلا مَا عند الله.
فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي، فَقَالَ: رحمك اللَّه! قَدْ قضيت مَا فِي نفسك، بواجز من قولك، ثُمَّ قَالَ: وأنا وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ عَلَى مثل مَا هَذَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ الحنفي مثل ذَلِكَ فَقَالَ الحجاج بن علي: فقلت لمُحَمَّد بن بشر: فهل كان منك أنت قول؟ فقال: إن كنت لأحب أن يعز اللَّه أَصْحَابي بالظفر، وما كنت لأحب أن أقتل، وكرهت أن أكذب.
واختلفت الشيعة إِلَيْهِ حَتَّى علم مكانه، فبلغ ذَلِكَ النُّعْمَان بن بشير.
قَالَ أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قَالَ:
خرج إلينا النُّعْمَان بن بشير فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فاتقوا اللَّه عباد اللَّه وَلا تسارعوا إِلَى الْفِتْنَة والفرقة، فإن فيهما يهلك

(5/355)


الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال- وَكَانَ حليما ناسكا يحب العافية- قَالَ: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، وَلا أثب عَلَى من لا يثب علي، وَلا أشاتمكم، وَلا أتحرش بكم، وَلا أخذ بالقرف وَلا الظنة وَلا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم امامكم، فو الله الَّذِي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي مَا ثبت قائمه فِي يدي، ولو لَمْ يَكُنْ لي مِنْكُمْ ناصر أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق مِنْكُمْ أكثر ممن يرديه الباطل.
قَالَ: فقام إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن سَعِيد الحضرمي حليف بني أُمَيَّة فَقَالَ:
إنه لا يصلح مَا ترى إلا الغشم، إن هَذَا الَّذِي أنت عَلَيْهِ فِيمَا بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فَقَالَ: أن أكون من المستضعفين فِي طاعة اللَّه أحب إلي من أن أكون من الأعزين فِي معصية اللَّه، ثُمَّ نزل.
وخرج عَبْد اللَّهِ بن مسلم، وكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: أَمَّا بَعْدُ، فإن مسلم بن عقيل قَدْ قدم الْكُوفَة فبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كَانَ لك بالكوفة حاجة فابعث إِلَيْهَا رجلا قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك فِي عدوك، فإن النُّعْمَان بن بشير رجل ضعيف، أو هُوَ يتضعف فكان أول من كتب إِلَيْهِ.
ثُمَّ كتب إِلَيْهِ عمارة بن عُقْبَةَ بنحو من كتابه، ثُمَّ كتب اليه عمر بن سعد ابن أَبِي وَقَّاص بمثل ذَلِكَ.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: فلما اجتمعت الكتب عِنْدَ يَزِيد ليس بين كتبهم إلا يومان، دعا يَزِيد بن مُعَاوِيَة سرجون مولى مُعَاوِيَة فَقَالَ: مَا رأيك؟
فإن حسينا قَدْ توجه نحو الْكُوفَة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وَقَدْ بلغني عن النُّعْمَان ضعف وقول سيئ- وأقرأه كتبهم- فما ترى من أستعمل عَلَى الْكُوفَة؟ وَكَانَ يَزِيد عاتبا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ سرجون: أرأيت مُعَاوِيَة لو نشر لك، أكنت آخذا برأيه؟ قَالَ: نعم، فأخرج عهد عُبَيْد اللَّهِ عَلَى الْكُوفَة فَقَالَ: هَذَا رأي مُعَاوِيَة، ومات وَقَدْ أمر بهذا الكتاب فأخذ برأيه وضم المصرين إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، وبعث إِلَيْهِ بعهده عَلَى الْكُوفَة

(5/356)


ثُمَّ دعا مسلم بن عَمْرو الباهلي- وَكَانَ عنده- فبعثه إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بعهده إِلَى الْبَصْرَة، وكتب إِلَيْهِ مَعَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الْكُوفَة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين، فسر حين قرأ كتابي هَذَا حَتَّى تأتي أهل الْكُوفَة فتطلب ابن عقيل كطلب الحرزه حَتَّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام.
فأقبل مسلم بن عَمْرو حَتَّى قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بِالْبَصْرَةِ، فأمر عُبَيْد اللَّهِ بالجهاز والتهيؤ والمسير إِلَى الْكُوفَةِ من الغد.
وَقَدْ كَانَ حُسَيْن كتب إِلَى أهل الْبَصْرَة كتابا، قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف:
حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن أبي عُثْمَان النهدي، قَالَ: كتب حُسَيْن مع مولى لَهُمْ يقال لَهُ: سُلَيْمَان، وكتب بنسخة إِلَى رءوس الأخماس بِالْبَصْرَةِ وإلى الأشراف، فكتب إِلَى مالك بن مسمع البكري، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عَمْرو، والى قيس ابن الهيثم، والى عمرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر، فجاءت مِنْهُ نسخة واحدة إِلَى جميع أشرافها: أَمَّا بَعْدُ، فان الله اصطفى محمدا ص عَلَى خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثُمَّ قبضه اللَّه إِلَيْهِ وَقَدْ نصح لعباده، وبلغ ما ارسل به ص، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه فِي الناس، فاستأثر علينا قومنا بِذَلِكَ، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بِذَلِكَ الحق المستحق علينا ممن تولاه، وَقَدْ أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق، فرحمهم اللَّه، وغفر لنا ولهم.
وَقَدْ بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إِلَى كتاب الله وسنه نبيه ص، فإن السنة قَدْ أميتت، وإن البدعة قَدْ أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه.
فكل من قرأ ذَلِكَ الكتاب من أشراف الناس كتمه، غير المنذر بن الجارود، فإنه خشي بزعمه أن يكون دسيسا من قبل عُبَيْد اللَّهِ، فجاءه بالرسول من العشية

(5/357)


الَّتِي يريد صبيحتها أن يسبق إِلَى الْكُوفَةِ، وأقرأه كتابه، فقدم الرسول فضرب عنقه وصعد عُبَيْد اللَّهِ منبر الْبَصْرَة فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فو الله مَا تقرن بي الصعبة، وَلا يقعقع لي بالشنان، وإني لنكل لمن عاداني، وسم لمن حاربني، أنصف القارة من راماها يَا أهل البصره، ان امير المؤمنين ولانى الكوفه وأنا غاد إِلَيْهَا الغداة، وَقَدِ استخلفت عَلَيْكُمْ عُثْمَان بن زياد بن أَبِي سُفْيَانَ، وإياكم والخلاف والارجاف، فو الذى لا إله غيره لَئِنْ بلغني عن رجل مِنْكُمْ خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حَتَّى تستمعوا لي، وَلا يكون فيكم مخالف وَلا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطيء الحصى ولم ينتزعني شبه خال وَلا ابن عم.
ثُمَّ خرج مِنَ الْبَصْرَةِ واستخلف أخاه عُثْمَان بن زياد، وأقبل إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَهُ مسلم بن عَمْرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته، حَتَّى دخل الْكُوفَة وعليه عمامة سوداء، وَهُوَ متلثم والناس قَدْ بلغهم إقبال حُسَيْن إِلَيْهِم، فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين قدم عُبَيْد اللَّهِ أنه الْحُسَيْن، فأخذ لا يمر عَلَى جماعة مِنَ النَّاسِ الا سلموا عليه، وقالوا: مرحبا بك يا بن رَسُول اللَّهِ! قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين ع مَا ساءه، فَقَالَ مسلم بن عَمْرو لما أكثروا: تأخروا، هَذَا الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فاخذ حين أقبل عَلَى الظهر، وإنما مَعَهُ بضعة عشر رجلا، فلما دخل القصر وعلم الناس أنه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد دخلهم من ذَلِكَ كآبة وحزن شديد، وغاظ عُبَيْد اللَّهِ مَا سمع مِنْهُمْ، وَقَالَ: أَلا أَرَى هَؤُلاءِ كما أَرَى.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي المعلى بن كليب، عن أبي وداك، قَالَ: لما نزل القصر نودي: الصَّلاة جامعة، قَالَ: فاجتمع الناس، فخرج إلينا فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أصلحه اللَّه ولاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إِلَى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة عَلَى مريبكم وعاصيكم، وانا

(5/358)


متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي عَلَى من ترك أمري، وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه.
الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، ثُمَّ نزل فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا، فَقَالَ: اكتبوا إلي الغرباء، ومن فيكم من طلبة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الَّذِينَ رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحدا، فيضمن لنا ما في عرافته الا يخالفنا مِنْهُمْ مخالف، وَلا يبغي علينا مِنْهُمْ باغ، فمن لم يفعل برئت مِنْهُ الذمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيما عريف وجد فِي عرافته من بغية أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أحد لم يرفعه إلينا صلب عَلَى باب داره، والقيت تِلَكَ العرافة من العطاء، وسير إِلَى موضع بعمان الزارة.
وأما عِيسَى بن يَزِيدَ الكناني فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر عُمَر بن شَبَّةَ، عن هَارُون بن مسلم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صالح، عنه- قَالَ: لما جَاءَ كتاب يَزِيد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، انتخب من اهل البصره خمسمائة، فِيهِمْ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، وشريك بن الأعور- وَكَانَ شيعة لعلي، فكان أول من سقط بِالنَّاسِ شريك، فيقال: إنه تساقط غمرة وَمَعَهُ ناس- ثُمَّ سقط عَبْد الله ابن الْحَارِث وسقط مَعَهُ ناس، ورجوا أن يلوي عَلَيْهِم عُبَيْد اللَّهِ ويسبقه الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَةِ، فجعل لا يلتفت إِلَى من سقط، ويمضي حَتَّى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه، فَقَالَ: أيا مهران، عَلَى هَذِهِ الحال، إن أمسكت عنك حَتَّى تنظر إِلَى القصر فلك مائة ألف، قَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا أستطيع فنزل عُبَيْد اللَّهِ فأخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن، ثُمَّ اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته، ثُمَّ انحدر راجلا وحده، فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إِلَيْهِ لم يشكوا أنه الْحُسَيْن، فيقولون: مرحبا بك يا بن رَسُول اللَّهِ! وجعل لا يكلمهم، وخرج إِلَيْهِ الناس من دورهم وبيوتهم، وسمع بهم النُّعْمَان بن بشير فغلق عَلَيْهِ وعلى خاصته، وانتهى إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ وَهُوَ لا يشك أنه الْحُسَيْن، وَمَعَهُ الخلق يضجون، فكلمه النُّعْمَان، فَقَالَ: أنشدك

(5/359)


اللَّه ألا تنحيت عني! مَا أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي فِي قتلك من أرب، فجعل لا يكلمه ثُمَّ إنه دنا وتدلى الآخر بين شرفين، فجعل يكلمه فَقَالَ: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك، فسمعها إنسان خلفه، فتكفى إِلَى القوم، فَقَالَ: أي قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فَقَالُوا:
ويحك! إنما هُوَ الْحُسَيْن، ففتح لَهُ النُّعْمَان، فدخل، وضربوا الباب فِي وجوه الناس، فانفضوا، وأصبح فجلس عَلَى الْمِنْبَر فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني لأعلم أنه قَدْ سار معي، وأظهر الطاعة لي من هُوَ عدو للحسين حين ظن أن الْحُسَيْن قد دخل البلد وغلب عليه، والله مَا عرفت مِنْكُمْ أحدا، ثُمَّ نزل وأخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة، وأنه بناحية الْكُوفَة، فدعا مولى لبني تميم فأعطاه مالا، وَقَالَ: انتحل هَذَا الأمر، وأعنهم بالمال، واقصد لهانئ ومسلم وانزل عَلَيْهِ، فَجَاءَ هانئا فأخبره أنه شيعة، وأن مَعَهُ مالا وقدم شريك بن الأعور شاكيا، فَقَالَ لهانئ: مر مسلما يكن عندي، فإن عُبَيْد اللَّهِ يعودني، وَقَالَ شريك لمسلم: أرأيتك إن أمكنتك من عُبَيْد اللَّهِ أضاربه أنت بالسيف؟ قَالَ: نعم وَاللَّهِ وجاء عُبَيْد اللَّهِ شريكا يعوده فِي منزل هانئ- وَقَدْ قَالَ شريك لمسلم: إذا سمعتني أقول: اسقوني ماء فاخرج عَلَيْهِ فاضربه- وجلس عُبَيْد اللَّهِ عَلَى فراش شريك، وقام عَلَى رأسه مهران، فَقَالَ: اسقوني ماء، فخرجت جارية بقدح، فرأت مسلما، فزالت، فَقَالَ شريك: اسقوني ماء، ثُمَّ قَالَ الثالثة: ويلكم تحموني الماء! اسقونيه ولو كَانَتْ فِيهِ نفسي، ففطن مهران فغمز عُبَيْد اللَّهِ، فوثب، فَقَالَ شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك، قَالَ: أعود إليك، فجعل مهران يطرد بِهِ، وَقَالَ: أراد وَاللَّهِ قتلك، قَالَ: وكيف مع إكرامي شريكا وفي بيت هانئ ويد أبي عنده يد! فرجع فأرسل إِلَى أسماء بن خارجة ومُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: ائتياني بهانىء، فقالا لَهُ: إنه لا يأتي إلا بالأمان، قَالَ: وما لَهُ وللأمان! وهل أحدث حدثا! انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه، فأتياه فدعواه، فَقَالَ: إنه إن أخذني قتلني، فلم يزالا بِهِ حَتَّى جاءا بِهِ وعبيد اللَّه يخطب يوم الجمعة، فجلس فِي المسجد، وَقَدْ رجل هانئ

(5/360)


غديرتيه، فلما صلى عُبَيْد اللَّهِ، قَالَ: يَا هانئ، فتبعه، ودخل فسلم، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: يَا هانئ، أما تعلم أن أبي قدم هَذَا البلد فلم يترك أحدا من هَذِهِ الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر، وَكَانَ من حجر مَا قَدْ علمت، ثُمَّ لم يزل يحسن صحبتك، ثُمَّ كتب إِلَى أَمِير الْكُوفَة: إن حاجتي قبلك هانئ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فكان جزائي أن خبأت فِي بيتك رجلا ليقتلني! قَالَ: مَا فعلت، فأخرج التميمي الَّذِي كَانَ عينا عَلَيْهِم، فلما رآه هانئ علم أن قَدْ أخبره الخبر، فَقَالَ: أيها الأمير، قَدْ كَانَ الَّذِي بلغك، ولن أضيع يدك عني، فأنت آمن وأهلك، فسر حَيْثُ شئت.
فكبا عُبَيْد اللَّهِ عندها، ومهران قائم عَلَى رأسه فِي يده معكزة، فَقَالَ:
وا ذلاه! هَذَا العبد الحائك يؤمنك فِي سلطانك! فَقَالَ: خذه، فطرح المعكزة، وأخذ بضفيرتي هانئ، ثُمَّ أقنع بوجهه، ثُمَّ أخذ عُبَيْد اللَّهِ المعكزة فضرب بِهَا وجه هانئ، وندر الزج، فارتز فِي الجدار، ثُمَّ ضرب وجهه حَتَّى كسر أنفه وجبينه، وسمع الناس الهيعة، وبلغ الخبر مذحج، فأقبلوا، فأطافوا بالدار، وأمر عُبَيْد اللَّهِ بهانىء فألقي فِي بيت، وصيح المذحجيون، وأمر عُبَيْد اللَّهِ مهران أن يدخل عَلَيْهِ شريحا، فخرج، فأدخله عَلَيْهِ، ودخلت الشرط مَعَهُ، فَقَالَ: يَا شريح، قَدْ ترى مَا يصنع بي! قَالَ: أراك حيا، قَالَ: وحي أنا مع مَا ترى! أخبر قومي أَنَّهُمْ إن انصرفوا قتلني، فخرج إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ: قَدْ رأيته حيا، ورأيت أثرا سيئا، قَالَ: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته! اخرج إِلَى هَؤُلاءِ فأخبرهم، فخرج، وأمر عُبَيْد اللَّهِ الرجل فخرج مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ شريح: مَا هَذِهِ الرعة السيئة! الرجل حي، وَقَدْ عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه، فانصرفوا وَلا تحلوا بأنفسكم وَلا بصاحبكم.
فانصرفوا.
وذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن المعلى بن كليب، عن أبي الوداك، قَالَ: نزل شريك بن الأعور عَلَى هانئ بن عروة المرادي، وَكَانَ شريك شيعيا، وَقَدْ شهد صفين مع عمار

(5/361)


وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عُبَيْد اللَّهِ ومقالته الَّتِي قالها، وما أخذ بِهِ العرفاء والناس، فخرج من دار المختار- وَقَدْ علم بِهِ- حَتَّى انتهى إِلَى دار هانئ بن عروة المرادي، فدخل بابه، وأرسل إِلَيْهِ أن اخرج، فخرج إِلَيْهِ هانئ، فكره هانئ مكانه حين رآه، فَقَالَ لَهُ مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني، فَقَالَ: رحمك اللَّه! لقد كلفتني شططا، ولولا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عني، غير أنه يأخذني من ذَلِكَ ذمام، وليس مردود مثلي عَلَى مثلك عن جهل، أدخل.
فآواه، وأخذت الشيعة تختلف إِلَيْهِ فِي دار هانئ بن عروة، ودعا ابن زياد مولى لَهُ يقال لَهُ معقل، فَقَالَ لَهُ: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثُمَّ اطلب مسلم ابن عقيل، واطلب لنا أَصْحَابه، ثُمَّ أعطهم هَذِهِ الثلاثة آلاف، فقل لَهُمُ:
استعينوا بِهَا عَلَى حرب عدوكم، وأعلمهم أنك مِنْهُمْ، فإنك لو قَدْ أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتموك شَيْئًا من أخبارهم، ثُمَّ اغد عَلَيْهِم ورح ففعل ذَلِكَ، فَجَاءَ حَتَّى أتى إِلَى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة فِي المسجد الأعظم وَهُوَ يصلي، وسمع الناس يقولون:
إن هَذَا يبايع للحسين، فَجَاءَ فجلس حَتَّى فرغ من صلاته ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ، إني امرؤ من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، أنعم اللَّه علي بحب أهل هَذَا البيت وحب من أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بِهَا لقاء رجل مِنْهُمْ بلغني أنه قدم الكوفه يبايع لابن بنت رسول الله ص، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عَلَيْهِ وَلا يعرف مكانه، فإني لجالس آنفا فِي المسجد إذ سمعت نفرا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يقولون: هَذَا رجل لَهُ علم بأهل هَذَا البيت، وإني أتيتك لتقبض هَذَا المال وتدخلني عَلَى صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي لَهُ قبل لقائه، فَقَالَ: أحمد اللَّه عَلَى لقائك إياي، فقد سرني ذَلِكَ لتنال مَا تحب، ولينصر اللَّه بك أهل بيت نبيه، وَلَقَدْ ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هَذَا الطاغية وسطوته.
فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عَلَيْهِ المواثيق المغلظة ليناصح

(5/362)


وليكتمن، فأعطاه من ذَلِكَ مَا رضي بِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اختلف إلي أياما فِي منزلي، فأنا طالب لك الإذن عَلَى صاحبك فأخذ يختلف مع الناس، فطلب لَهُ الإذن فمرض هانئ بن عروة، فَجَاءَ عُبَيْد اللَّهِ عائدا لَهُ، فَقَالَ لَهُ عمارة بن عبيد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هَذَا الطاغية، فقد أمكنك اللَّه مِنْهُ فاقتله، قَالَ هانئ: مَا أحب أن يقتل فِي داري، فخرج فما مكث إلا جمعة حَتَّى مرض شريك بن الأعور- وَكَانَ كريما عَلَى ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وَكَانَ شديد التشيع- فأرسل إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ:
أني رائح إليك العشية، فَقَالَ لمسلم: إن هَذَا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إِلَيْهِ فاقتله، ثُمَّ اقعد فِي القصر، ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هَذَا أيامي هَذِهِ سرت إِلَى الْبَصْرَة وكفيتك أمرها.
فلما كَانَ من العشي أقبل عُبَيْد اللَّهِ لعيادة شريك، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وَقَالَ لَهُ شريك: لا يفوتنك إذا جلس، فقام هانئ بن عروة إِلَيْهِ فَقَالَ: إني لا أحب أن يقتل فِي داري- كأنه استقبح ذلك- فجاء عبيد الله ابن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكا عن وجعه، وَقَالَ: مَا الَّذِي تجد؟
ومتى أشكيت؟ فلما طال سؤاله إِيَّاهُ، ورأى أن الآخر لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول:
مَا تنتظرون بسلمى أن تحيوها
أسقنيها وإن كَانَتْ فِيهَا نفسي، فَقَالَ ذَلِكَ مرتين أو ثلاثا، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ، وَلا يفطن مَا شأنه: أترونه يهجر؟ فَقَالَ لَهُ هانئ: نعم أصلحك اللَّه! مَا زال هَذَا ديدنه قبيل عماية الصبح حَتَّى ساعته هَذِهِ ثُمَّ إنه قام فانصرف، فخرج مسلم، فَقَالَ لَهُ شريك: مَا منعك من قتله؟ فَقَالَ:
خصلتان: أما إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل فِي داره، [وأما الأخرى فحديث حدثه الناس عن النبي ص: أن الإيمان قيد الفتك، وَلا يفتك مؤمن،] فَقَالَ هانئ: أما وَاللَّهِ لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا، ولكن كرهت أن يقتل فِي داري ولبث شريك بن الأعور بعد

(5/363)


ذَلِكَ ثلاثا ثُمَّ مات، فخرج ابن زياد فصلى عَلَيْهِ، وبلغ عُبَيْد اللَّهِ بعد مَا قتل مسلما وهانئا أن ذَلِكَ الَّذِي كنت سمعت من شريك فِي مرضه إنما كَانَ يحرض مسلما، ويأمره بالخروج إليك ليقتلك، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: وَاللَّهِ لا أصلي عَلَى جنازة رجل من اهل العراق ابدا، وو الله لولا أن قبر زياد فِيهِمْ لنبشت شريكا.
ثُمَّ إن معقلا مولى ابن زياد الَّذِي دسه بالمال إِلَى ابن عقيل وأَصْحَابه، اختلف إِلَى مسلم بن عوسجة أياما ليدخله عَلَى ابن عقيل، فأقبل بِهِ حَتَّى أدخله عَلَيْهِ بعد موت شريك بن الأعور، فأخبره خبره كله، فأخذ ابن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائدي، فقبض ماله الَّذِي جَاءَ بِهِ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ يقبض أموالهم، وما يعين بِهِ بعضهم بعضا، يشتري لَهُمُ السلاح، وَكَانَ بِهِ بصيرا، وَكَانَ من فرسان العرب ووجوه الشيعة- وأقبل ذَلِكَ الرجل يختلف إِلَيْهِم، فهو أول داخل وآخر خارج، يسمع أخبارهم، ويعلم أسرارهم، ثُمَّ ينطلق بِهَا حَتَّى يقرها فِي أذن ابن زياد قَالَ: وَكَانَ هانئ يغدو ويروح إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فلما نزل بِهِ مسلم انقطع من الاختلاف وتمارض، فجعل لا يخرج، فَقَالَ ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أَرَى هانئا! فَقَالُوا: هُوَ شاك، فَقَالَ: لو علمت بمرضه لعدته! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، قَالَ: دعا عُبَيْد اللَّهِ مُحَمَّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَسَن بن عُقْبَةَ المرادي أنه بعث مَعَهُمَا عَمْرو بن الحجاج الزبيدي.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قَالَ: كَانَتْ روعة أخت عَمْرو بن الحجاج تحت هانئ بن عروة، وَهِيَ أم يَحْيَى بن هانئ فَقَالَ لَهُمْ: مَا يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟ قَالُوا: مَا ندري أصلحك اللَّه!

(5/364)


وإنه ليتشكى، قَالَ: قَدْ بلغني أنه قَدْ برأ، وَهُوَ يجلس عَلَى باب داره، فالقوه، فمروه الا يدع مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ من الحق، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب فأتوه حَتَّى وقفوا عَلَيْهِ عشية وَهُوَ جالس عَلَى بابه، فَقَالُوا: مَا يمنعك من لقاء الأمير، فإنه قَدْ ذكرك، وَقَدْ قَالَ: لو أعلم أنه شاك لعدته؟ فَقَالَ لَهُمُ: الشكوى تمنعني، فَقَالُوا لَهُ: يبلغه أنك تجلس كل عشية عَلَى باب دارك، وَقَدِ استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عَلَيْك لما ركبت معنا! فدعا بثيابه فلبسها، ثُمَّ دعا ببغلة فركبها حَتَّى إذا دنا من القصر، كأن نفسه أحست ببعض الذى كان، فقال لحسان ابن أسماء بن خارجه: يا بن أخي، إني وَاللَّهِ لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟
قَالَ: أي عم، وَاللَّهِ مَا أتخوف عَلَيْك شَيْئًا، ولم تجعل عَلَى نفسك سبيلا وأنت بريء؟ وزعموا أن أسماء لم يعلم فِي أي شَيْء بعث إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ، فأما مُحَمَّد فقد علم بِهِ، فدخل القوم عَلَى ابن زياد، ودخل معهم، فلما طلع قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: أتتك بحائن رجلاه! وَقَدْ عرس عُبَيْد اللَّهِ إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عُقْبَةَ، فلما دنا من ابن زياد وعنده شريح القاضي التفت نحوه، فَقَالَ:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وَقَدْ كَانَ لَهُ أول مَا قدم مكرما ملطفا، فَقَالَ لَهُ هانئ: وما ذاك أيها الأمير؟ قَالَ: إيه يَا هانئ بن عروة! مَا هَذِهِ الأمور الَّتِي تربص فِي دورك لأمير الْمُؤْمِنِينَ وعامة الْمُسْلِمِينَ! جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت لَهُ السلاح والرجال فِي الدور حولك، وظننت أن ذَلِكَ يخفى علي لك! قَالَ: مَا فعلت، وما مسلم عندي، قَالَ: بلى قَدْ فعلت، قَالَ: مَا فعلت، قَالَ:
بلى، فلما كثر ذَلِكَ بينهما، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلا ذَلِكَ العين، فَجَاءَ حَتَّى وقف بين يديه فَقَالَ: أتعرف هَذَا؟
قَالَ: نعم، وعلم هانئ عِنْدَ ذَلِكَ أنه كَانَ عينا عَلَيْهِم، وأنه قَدْ أتاه باخبارهم،

(5/365)


فسقط فِي خلده ساعة ثُمَّ إن نفسه راجعته، فَقَالَ لَهُ: اسمع مني، وصدق مقالتي، فو الله لا أكذبك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره مَا دعوته إِلَى منزلي، وَلا علمت بشيء من أمره، حَتَّى رأيته جالسا عَلَى بابي، فسألني النزول علي، فاستحييت من رده، ودخلني من ذَلِكَ ذمام، فأدخلته داري وضفته وآويته، وَقَدْ كَانَ من أمره الَّذِي بلغك، فإن شئت أعطيت الآن موثقا مغلظا وما تطمئن اليه الا أبغيك سوءا، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون فِي يدك حَتَّى آتيك، وأنطلق إِلَيْهِ فأمره أن يخرج من داري إِلَى حَيْثُ شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا تفارقني أبدا حَتَّى تأتيني به، فقال: لا، والله لا أجيئك أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله! قَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لا آتيك بِهِ.
فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عَمْرو الباهلي- وليس بالكوفة شامي وَلا بصري غيره- فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير! خلني وإياه حَتَّى أكلمه، لما رَأَى لجاجته وتأبيه عَلَى ابن زياد أن يدفع إِلَيْهِ مسلما، فَقَالَ لهانئ: قم الى هاهنا حَتَّى أكلمك، فقام فخلا بِهِ ناحية من ابن زياد، وهما مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ قريب حَيْثُ يراهما، إذا رفعا أصواتهما سمع مَا يقولان، وإذا خفضا خفي عَلَيْهِ مَا يقولان، فَقَالَ لَهُ مسلم: يَا هانئ، إني أنشدك اللَّه أن تقتل نفسك، وتدخل البلاء عَلَى قومك وعشيرتك! فو الله إني لأنفس بك عن القتل، وَهُوَ يرى أن عشيرته ستحرك فِي شأنه أن هَذَا الرجل ابن عم القوم، وليسوا قاتليه وَلا ضائريه، فادفعه إِلَيْهِ فإنه ليس عَلَيْك بِذَلِكَ مخزاة وَلا منقصة، إنما تدفعه إِلَى السلطان، قَالَ: بلى، وَاللَّهِ إن علي فِي ذَلِكَ للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! وَاللَّهِ لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حَتَّى أموت دونه.
فأخذ يناشده وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لا أدفعه إِلَيْهِ أبدا، فسمع ابن زياد ذَلِكَ، فَقَالَ: أدنوه مني، فأدنوه مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ أو لأضربن عنقك،

(5/366)


قَالَ: إذا تكثر البارقة حول دارك، فَقَالَ: والهفا عليك! أبا لبارقه تخوفني! وَهُوَ يظن أن عشيرته سيمنعونه، فَقَالَ ابن زياد: أدنوه مني، فأدني، فاستعرض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حَتَّى كسر أنفه، وسيل الدماء عَلَى ثيابه، ونثر لحم خديه وجبينه عَلَى لحيته حَتَّى كسر القضيب، وضرب هانئ بيده إِلَى قائم سيف شرطي من تِلَكَ الرجال، وجابذه الرجل ومنع، فقال عبيد الله: احروري سائر الْيَوْم! أحللت بنفسك، قَدْ حل لنا قتلك، خذوه فألقوه فِي بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عَلَيْهِ بابه، واجعلوا عَلَيْهِ حرسا، ففعل ذلك به، فقام اليه أسماء ابن خارجة فَقَالَ: أرسل غدر سائر الْيَوْم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل حَتَّى إذا جئناك بِهِ وأدخلناه عَلَيْك هشمت وجهه، وسيلت دمه عَلَى لحيته، وزعمت أنك تقتله! فَقَالَ لَهُ عُبَيْد الله: وانك لهاهنا! فأمر بِهِ فلهز وتعتع بِهِ، ثُمَّ ترك فحبس.
وأما مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: قَدْ رضينا بِمَا رَأَى الأمير، لنا كَانَ أم علينا، إنما الأمير مؤدب وبلغ عَمْرو بن الحجاج أن هانئا قَدْ قتل، فأقبل فِي مذحج حَتَّى أحاط بالقصر وَمَعَهُ جمع عظيم، ثُمَّ نادى: أنا عَمْرو بن الحجاج، هَذِهِ فرسان مذحج ووجوهها، لم تخلع طاعه، ولم تفارق جماعة، وَقَدْ بلغهم أن صاحبهم يقتل، فأعظموا ذَلِكَ، فقيل لعبيد اللَّه: هَذِهِ مذحج بالباب، فَقَالَ لشريح القاضي: ادخل عَلَى صاحبهم فانظر إِلَيْهِ، ثُمَّ اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل، وأنك قَدْ رأيته، فدخل إِلَيْهِ شريح فنظر إِلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عبد الرَّحْمَن بن شريح، قَالَ: سمعته يحدث إِسْمَاعِيل بن طَلْحَة، قَالَ: دخلت عَلَى هانئ، فلما رآني قَالَ: يَا لله يا للمسلمين! اهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين! وأين أهل المصر! تفاقدوا! يخلوني، وعدوهم وابن عدوهم! والدماء

(5/367)


تسيل عَلَى لحيته، إذ سمع الرجة عَلَى باب القصر، وخرجت واتبعني، فَقَالَ:
يَا شريح، إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني، قَالَ: فخرجت إِلَيْهِم ومعي حميد بن بكير الأحمري- أرسله معي ابن زياد، وَكَانَ من شرطه ممن يقوم عَلَى رأسه- وايم اللَّه لولا مكانه معي لكنت أبلغت أَصْحَابه مَا أمرني بِهِ، فلما خرجت إِلَيْهِم قلت:
إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم فِي صاحبكم أمرني بالدخول إِلَيْهِ، فأتيته فنظرت إِلَيْهِ، فأمرني أن ألقاكم، وأن أعلمكم أنه حي، وأن الَّذِي بلغكم من قتله كَانَ باطلا فَقَالَ عَمْرو واصحابه: فاما إذ لم يقتل فالحمد لِلَّهِ، ثُمَّ انصرفوا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر الهمداني، قَالَ: لما ضرب عُبَيْد اللَّهِ هانئا وحبسه خشي أن يثب الناس بِهِ، فخرج فصعد الْمِنْبَر وَمَعَهُ أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فاعتصموا بطاعة اللَّه وطاعة أئمتكم، وَلا تختلفوا وَلا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا، إن أخاك من صدقك، وَقَدْ أعذر من أنذر قَالَ: ثُمَّ ذهب لينزل، فما نزل عن الْمِنْبَر حَتَّى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ويقولون: قَدْ جَاءَ ابن عقيل! قَدْ جَاءَ ابن عقيل! فدخل عُبَيْد اللَّهِ القصر مسرعا، وأغلق أبوابه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن خازم، قَالَ:
أنا وَاللَّهِ رسول ابن عقيل إِلَى القصر لأنظر إِلَى مَا صار أمر هانئ، قَالَ:
فلما ضرب وحبس ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل عَلَى مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يَا عثرتاه! يَا ثكلاه! فدخلت عَلَى مسلم بن عقيل بالخبر، فأمرني أن أنادي فِي أَصْحَابه وَقَدْ ملأ مِنْهُمُ الدور حوله، وَقَدْ بايعه ثمانية عشر ألفا، وفي الدور أربعة آلاف رجل، فَقَالَ لي:
ناد: يَا منصور أمت، فناديت: يَا منصور أمت، وتنادى أهل الْكُوفَة

(5/368)


فاجتمعوا إِلَيْهِ، فعقد مسلم لعبيد اللَّه بن عمرو بن عزيز الكندي عَلَى ربع كندة وربيعة، وَقَالَ: سر أمامي فِي الخيل، ثُمَّ عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي عَلَى ربع مذحج وأسد، وَقَالَ: انزل فِي الرجال فأنت عَلَيْهِم، وعقد لأبي ثمامة الصائدي عَلَى ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي عَلَى ربع الْمَدِينَة، ثُمَّ أقبل نحو القصر، فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز فِي القصر، وغلق الأبواب قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يونس بن أبي إِسْحَاق، عن عباس الجدلي قَالَ: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر الا ونحن ثلاثمائة.
قَالَ: وأقبل مسلم يسير فِي الناس من مراد حَتَّى أحاط بالقصر، ثُمَّ إن الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فو الله مَا لبثنا إلا قليلا حَتَّى امتلأ المسجد مِنَ النَّاسِ والسوق، وما زالوا يثوبون حَتَّى المساء، فضاق بعبيد اللَّه ذرعه، وَكَانَ كبر أمره أن يتمسك بباب القصر، وليس مَعَهُ إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الَّذِي يلي دار الروميين، وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عَلَيْهِم، فينظرون إِلَيْهِم فيتقون أن يرموهم بالحجارة، وأن يشتموهم وهم لا يفترون عَلَى عُبَيْد اللَّهِ وعلى أَبِيهِ ودعا عُبَيْد اللَّهِ كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب، ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر مُحَمَّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ مثل ذَلِكَ للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا إِلَيْهِم لقلة عدد من مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن كثيرا ألفى رجلا من

(5/369)


كلب يقال لَهُ عبد الأعلى بن يَزِيدَ، قَدْ لبس سلاحه يريد ابن عقيل فِي بني فتيان، فأخذه حَتَّى أدخله عَلَى ابن زياد، فأخبره خبره، فَقَالَ لابن زياد:
إنما أردتك، قَالَ: وكنت وعدتني ذَلِكَ من نفسك، فأمر بِهِ فحبس، وخرج مُحَمَّد بن الأشعث حَتَّى وقف عِنْدَ دور بني عمارة، وجاءه عمارة بن صلخب الأَزْدِيّ وَهُوَ يريد ابن عقيل، عَلَيْهِ سلاحه، فأخذه فبعث بِهِ إِلَى ابن زياد فحبسه، فبعث ابن عقيل إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث من المسجد عبد الرَّحْمَن ابن شريح الشبامي، فلما رَأَى مُحَمَّد بن الأشعث كثرة من أتاه، أخذ يتنحى ويتأخر، وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث: قَدْ جلت عَلَى ابن عقيل من العرار، فتأخر عن موقفه، فأقبل حَتَّى دخل عَلَى ابن زياد من قبل دار الروميين، فلما اجتمع عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ كثير بن شهاب ومُحَمَّد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم، قال لَهُ كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد: أصلح اللَّه الأمير! معك فِي القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إِلَيْهِم، فأبى عُبَيْد اللَّهِ، وعقد لشبث بن ربعي لواء، فأخرجه، وأقام الناس مع ابن عقيل يكبرون ويثوبون حَتَّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عُبَيْد اللَّهِ إِلَى الأشراف فجمعهم إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أشرفوا عَلَى الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إِلَيْهِم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن عَبْد اللَّهِ بن خازم الكثيري من الأزد، من بني كثير، قَالَ: أشرف علينا الأشراف، فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حَتَّى كادت الشمس أن تجب، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، الحقوا بأهاليكم، وَلا تعجلوا الشر، وَلا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هَذِهِ جنود أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد قَدْ أقبلت، وَقَدْ أعطى اللَّه الأمير عهدا:
لَئِنْ أتممتم عَلَى حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم فِي مغازي أهل الشام عَلَى غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حَتَّى لا يبقى لَهُ فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال

(5/370)


مَا جرت أيديها، وتكلم الأشراف بنحو من كلام هَذَا، فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون، وأخذوا ينصرفون.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيد، أن المرأة كَانَتْ تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إِلَى ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر! انصرف فيذهب بِهِ، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حَتَّى أمسى ابن عقيل وما مَعَهُ ثلاثون نفسا فلما رَأَى إنه قَدْ أمسى وليس مَعَهُ إلا أُولَئِكَ النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة، وبلغ الأبواب وَمَعَهُ مِنْهُمْ عشرة، ثُمَّ خرج من الباب وإذا ليس مَعَهُ إنسان، والتفت فإذا هُوَ لا يحس أحدا يدله عَلَى الطريق، وَلا يدله عَلَى منزل وَلا يواسيه بنفسه إن عرض لَهُ عدو، فمضى عَلَى وجهه يتلدد فِي أزقة الْكُوفَة لا يدري أين يذهب! حَتَّى خرج إِلَى دور بني جبلة من كندة، فمشى حَتَّى انتهى إِلَى باب امرأة يقال لها طوعة- أم ولد كَانَتْ للأشعث بن قيس، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت لَهُ بلالا، وَكَانَ بلال، قَدْ خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره- فسلم عَلَيْهَا ابن عقيل، فردت عَلَيْهِ، فَقَالَ لها: يَا أمة اللَّه، اسقيني ماء، فدخلت فسقته، فجلس وأدخلت الإناء، ثُمَّ خرجت فَقَالَتْ: يَا عَبْد اللَّهِ ألم تشرب! قَالَ: بلى، قالت: فاذهب إِلَى أهلك، فسكت، ثُمَّ عادت فَقَالَتْ مثل ذَلِكَ، فسكت، ثُمَّ قالت له: في الله، سبحان اللَّه يَا عَبْد اللَّهِ! فمر إِلَى أهلك عافاك اللَّه، فإنه لا يصلح لك الجلوس عَلَى بابي، وَلا أحله لك، فقام فَقَالَ: يَا أمة اللَّه، مَا لي فِي هَذَا المصر منزل وَلا عشيرة، فهل لك إِلَى أجر ومعروف، ولعلي مكافئك بِهِ بعد الْيَوْم! فَقَالَتْ: يَا عَبْد اللَّهِ، وما ذاك؟ قَالَ:
أنا مسلم بن عقيل، كذبني هَؤُلاءِ القوم وغروني، قالت: أنت مسلم! قَالَ: نعم قالت: ادخل، فأدخلته بيتا فِي دارها غير البيت الَّذِي تكون فِيهِ، وفرشت لَهُ، وعرضت عَلَيْهِ العشاء فلم يتعش، ولم يكن بأسرع من أن جَاءَ ابنها فرآها تكثر الدخول فِي البيت والخروج مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إنه

(5/371)


ليريبني كثرة دخولك هَذَا البيت منذ الليلة وخروجك مِنْهُ! إن لك لشأنا، قالت: يَا بني، اله عن هَذَا، قَالَ لها: وَاللَّهِ لتخبرني: قالت: أقبل عَلَى شأنك وَلا تسألني عن شَيْء، فألح عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا بني، لا تحدثن أحدا مِنَ النَّاسِ بِمَا أخبرك بِهِ، وأخذت عَلَيْهِ الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت- وزعموا أنه قَدْ كَانَ شريدا مِنَ النَّاسِ وَقَالَ بعضهم: كَانَ يشرب مع أَصْحَاب لَهُ- ولما طال عَلَى ابن زياد، وأخذ لا يسمع لأَصْحَاب ابن عقيل صوتا كما كَانَ يسمعه قبل ذَلِكَ قَالَ لأَصْحَابه: أشرفوا فانظروا هل ترون مِنْهُمْ أحدا! فأشرفوا فلم يروا أحدا، قَالَ: فانظروا لعلهم تحت الظلال قَدْ كمنوا لكم، ففرعوا بحابح المسجد، وجعلوا يخفضون شعل النار فِي أيديهم، ثُمَّ ينظرون: هل فِي الظلال أحد؟ وكانت أحيانا تضيء لَهُمْ، وأحيانا لا تضيء لَهُمْ كما يريدون، فدلوا القناديل وأنصاف الطنان تشد بالحبال، ثُمَّ تجعل فِيهَا النيران، ثُمَّ تدلى، حَتَّى تنتهي إِلَى الأرض ففعلوا ذَلِكَ فِي أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حَتَّى فعلوا ذَلِكَ بالظلة الَّتِي فِيهَا الْمِنْبَر، فلما لم يروا شَيْئًا أعلموا ابن زياد، ففتح باب السدة الَّتِي فِي المسجد ثُمَّ خرج فصعد الْمِنْبَر، وخرج أَصْحَابه مَعَهُ، فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة، وأمر عَمْرو بن نافع فنادى: أَلا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا فِي المسجد، فلم يكن لَهُ إلا ساعة حَتَّى امتلأ المسجد مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أمر مناديه فأقام الصَّلاة، فَقَالَ الحصين بن تميم: إن شئت صليت بِالنَّاسِ، أو يصلي بهم غيرك، ودخلت أنت فصليت فِي القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فَقَالَ: مر حرسي فليقوموا ورائي كما كَانُوا يقفون، ودر فِيهِمْ فإني لست بداخل إذا.
فصلى بِالنَّاسِ، ثُمَّ قام فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل، قَدْ أتى مَا قَدْ رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة اللَّه من رجل وجدناه فِي داره، ومن جَاءَ بِهِ فله ديته اتقوا اللَّه عباد اللَّه، والزموا طاعتكم وبيعتكم، وَلا تجعلوا عَلَى أنفسكم سبيلا يَا حصين

(5/372)


ابن تميم، ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الْكُوفَة، أو خرج هَذَا الرجل ولم تأتني بِهِ، وَقَدْ سلطتك عَلَى دور أهل الْكُوفَة، فابعث مراصدة عَلَى أفواه السكك، وأصبح غدا واستبر الدور وجس خلالها حَتَّى تأتيني بهذا الرجل- وَكَانَ الحصين عَلَى شرطه، وَهُوَ من بني تميم- ثُمَّ نزل ابن زياد فدخل وَقَدْ عقد لعمرو بن حريث راية وأمره عَلَى الناس، فلما أصبح جلس مجلسه وأذن لِلنَّاسِ فدخلوا عَلَيْهِ، وأقبل مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: مرحبا بمن لا يستغش ولايتهم! ثُمَّ أقعده إِلَى جنبه، وأصبح ابن تِلَكَ العجوز وَهُوَ بلال بن أسيد الَّذِي آوت أمه ابن عقيل، فغدا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن محمد ابن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عِنْدَ أمه، قَالَ: فأقبل عبد الرَّحْمَن حَتَّى أتى أباه وَهُوَ عِنْدَ ابن زياد، فساره، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: مَا قَالَ لك؟
قَالَ: أَخْبَرَنِي أن ابن عقيل فِي دار من دورنا، فنخس بالقضيب فِي جنبه ثُمَّ قَالَ: قم فأتني بِهِ الساعة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعِيد بن زائدة بن قدامة الثقفي، أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث إِلَى عَمْرو بن حريث وَهُوَ فِي المسجد خليفته عَلَى الناس، أن ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس- وإنما كره أن يبعث مَعَهُ قومه لأنه قَدْ علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فِيهِمْ مثل ابن عقيل- فبعث مَعَهُ عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن عباس السلمي فِي ستين أو سبعين من قيس، حَتَّى أتوا الدار الَّتِي فِيهَا ابن عقيل، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قَدْ أتي، فخرج إِلَيْهِم بسيفه، واقتحموا عَلَيْهِ الدار، فشد عَلَيْهِم يضربهم بسيفه حَتَّى أخرجهم من الدار، ثُمَّ عادوا إِلَيْهِ، فشد عَلَيْهِم كذلك، فاختلف هُوَ وبكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا، وأشرع السيف فِي السفلى، ونصلت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربة فِي رأسه منكرة، وثنى بأخرى عَلَى حبل العاتق كادت تطلع عَلَى جوفه فلما رأوا ذَلِكَ أشرفوا عَلَيْهِ من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار فِي أطنان القصب، ثُمَّ يقلبونها عَلَيْهِ من فوق

(5/373)


البيت، فلما رَأَى ذَلِكَ خرج عَلَيْهِم مصلتا بسيفه فِي السكة فقاتلهم، فأقبل عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: يَا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك، فأقبل يقاتلهم، وَهُوَ يقول:
أقسمت لا أقتل إلا حرا ... وإن رأيت الموت شَيْئًا نكرا
كل امرئ يَوْمًا ملاق شرا ... ويخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع الشمس فاستقر ... أخاف أن أكذب أو أغرا
فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن الأشعث: إنك لا تكذب وَلا تخدع وَلا تغر، إن القوم بنو عمك، وليسوا بقاتليك وَلا ضاربيك، وَقَدْ أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال وانبهر، فأسند ظهره إِلَى جنب تلك الدار، فدنا محمد ابن الأشعث فَقَالَ: لك الأمان، فَقَالَ: آمن أنا؟ قَالَ: نعم، وَقَالَ القوم:
أنت آمن، غير عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن العباس السلمي فإنه قَالَ:
لا ناقة لي فِي هَذَا وَلا جمل، وتنحى.
وَقَالَ ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني مَا وضعت يدي فِي أيديكم وأتي ببغلة فحمل عَلَيْهَا، واجتمعوا حوله، وانتزعوا سيفه من عنقه، فكأنه عِنْدَ ذَلِكَ آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثُمَّ قَالَ: هذا أول الغدر، قال محمد ابن الاشعث: أرجو الا يكون عَلَيْك بأس، قَالَ: مَا هُوَ إلا الرجاء، أين أمانكم! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وبكى، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن عباس: إن من يطلب مثل الَّذِي تطلب إذا نزل بِهِ مثل الَّذِي نزل بك لم يبك، قَالَ: إني وَاللَّهِ مَا لنفسي أبكي، وَلا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حُسَيْن! ثُمَّ أقبل عَلَى مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ، إني أراك وَاللَّهِ ستعجز عن أماني، فهل عندك خير! تستطيع أن تبعث من عندك رجلا عَلَى لساني يبلغ حسينا، فإني لا أراه إلا قَدْ خرج إليكم الْيَوْم مقبلا، او هو خرج غدا هُوَ وأهل بيته، وإن مَا ترى من جزعي لذلك،

(5/374)


فيقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وَهُوَ فِي أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حَتَّى تقتل، وَهُوَ يقول: ارجع بأهل بيتك، وَلا يغرك أهل الْكُوفَة فإنهم أَصْحَاب أبيك الَّذِي كَانَ يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الْكُوفَة قَدْ كذبوك وكذبوني، وليس لمكذب رأي، فَقَالَ ابن الأشعث: وَاللَّهِ لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قَدْ أمنتك قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي جَعْفَر بن حُذَيْفَة الطائي- وقد عرف سعيد ابن شيبان الحديث- قَالَ: دعا مُحَمَّد بن الأشعث إياس بن العثل الطَّائِيّ من بني مالك ابن عَمْرو بن ثمامة، وَكَانَ شاعرا، وَكَانَ لمُحَمَّد زوارا، فَقَالَ لَهُ: الق حسينا فأبلغه هَذَا الكتاب، وكتب فِيهِ الَّذِي أمره ابن عقيل، وَقَالَ لَهُ: هَذَا زادك وجهازك، ومتعة لعيالك، فَقَالَ: من أين لي براحلة، فإن راحلتي قَدْ أنضيتها؟ قَالَ: هَذِهِ راحلة فاركبها برحلها ثُمَّ خرج فاستقبله بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلغه الرسالة، [فَقَالَ لَهُ حُسَيْن: كل مَا حم نازل، وعند اللَّه نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا] .
وَقَدْ كَانَ مسلم بن عقيل حَيْثُ تحول إِلَى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا، قدم كتابا إِلَى حُسَيْن مع عابس بن أبي شبيب الشاكري:
أَمَّا بَعْدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، وَقَدْ بايعني من أهل الْكُوفَة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لَهُمْ فِي آل مُعَاوِيَة رأي وَلا هوى، والسلام.
وأقبل مُحَمَّد بن الأشعث بابن عقيل إِلَى باب القصر، فاستأذن فأذن لَهُ، فأخبر عُبَيْد اللَّهِ خبر ابن عقيل وضرب بكير إِيَّاهُ، فَقَالَ: بعدا لَهُ! فأخبره مُحَمَّد بن الأشعث بِمَا كَانَ مِنْهُ وما كَانَ من أمانه إِيَّاهُ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: مَا أنت والأمان! كأنا أرسلناك تؤمنه! انما أرسلناك لتأتينا بِهِ، فسكت وانتهى ابن عقيل إِلَى باب القصر وَهُوَ عطشان، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، مِنْهُمْ عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعْد أن مسلم بن عقيل حين

(5/375)


انتهى إِلَى باب القصر فإذا قلة باردة موضوعة عَلَى الباب، فَقَالَ ابن عقيل:
اسقوني من هَذَا الماء، فَقَالَ لَهُ مسلم بن عَمْرو: أتراها مَا أبردها! لا وَاللَّهِ لا تذوق منها قطرة أبدا حَتَّى تذوق الحميم فِي نار جهنم! قَالَ لَهُ ابن عقيل:
ويحك! من أنت؟ قَالَ: أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت، أنا مسلم بن عَمْرو الباهلي، فَقَالَ ابن عقيل: لأمك الثكل! مَا أجفاك، وما أفظك، وأقسى قلبك واغلظك! أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود فِي نار جهنم مني، ثُمَّ جلس متساندا إِلَى حائط.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعْد أن عَمْرو بن حريث بعث غلاما يدعى سُلَيْمَان، فجاءه بماء فِي قلة فسقاه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي سَعِيد بن مدرك بن عمارة، أن عمارة بن عُقْبَةَ بعث غلاما لَهُ يدعى قيسا، فجاءه بقلة عَلَيْهَا منديل وَمَعَهُ قدح فصب فِيهِ ماء، ثُمَّ سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فِيهِ، فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ! لو كَانَ لي من الرزق المقسوم شربته وأدخل مسلم عَلَى ابن زياد فلم يسلم عَلَيْهِ بالإمرة، فَقَالَ لَهُ الحرسي: أَلا تسلم عَلَى الأمير! فَقَالَ لَهُ: إن كَانَ يريد قتلي فما سلامي عَلَيْهِ! وإن كَانَ لا يريد قتلي فلعمري ليكثرن سلامي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: لعمري لتقتلن، قَالَ: كذلك؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
فدعني أوص إِلَى بعض قومي، فنظر إِلَى جلساء عُبَيْد اللَّهِ وفيهم عُمَر بن سَعْدٍ، فقال: يا عمر، ان بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وَقَدْ يجب لي عَلَيْك نجح حاجتي، وَهُوَ سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فَقَالَ لَهُ عبيد اللَّهِ:
لا تمتنع أن تنظر فِي حاجة ابن عمك، فقام مَعَهُ فجلس حَيْثُ ينظر إِلَيْهِ ابن زياد، فَقَالَ لَهُ: إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الْكُوفَة، سبعمائة درهم، فاقضها عني، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها، وابعث إِلَى حُسَيْن من يرده، فإني قَدْ كتبت إِلَيْهِ أعلمه أن الناس مَعَهُ، وَلا

(5/376)


أراه إلا مقبلا، فَقَالَ عمر لابن زياد: أتدري مَا قَالَ لي؟ إنه ذكر كذا وكذا، قَالَ لَهُ ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين، ولكن قَدْ يؤتمن الخائن، أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك أن تصنع فِيهِ مَا أحببت، وأما حُسَيْن فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لن نشفعك فِيهَا، إنه ليس بأهل منا لذلك، قَدْ جاهدنا وخالفنا، وجهد عَلَى هلاكنا.
وزعموا أنه قال: اما جثته فانا لا نبالى إذ قتلناه مَا صنع بِهَا ثُمَّ إن ابن زياد قال: ايه يا بن عقيل! أتيت الناس وأمرهم جميع، وكلمتهم واحدة، لتشتتهم، وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم عَلَى بعض! قَالَ: كلا، لست أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فِيهِمْ أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إِلَى حكم الكتاب، قَالَ: وما أنت وذاك يا فاسق! او لم نكن نعمل بذاك فِيهِمْ إذ أنت بِالْمَدِينَةِ تشرب الخمر! قَالَ: أنا أشرب الخمر! وَاللَّهِ إن اللَّه ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأني لست كما ذكرت وان أحق بشرب الخمر مني وأولى بِهَا من يلغ فِي دماء الْمُسْلِمِينَ ولغا، فيقتل النفس الَّتِي حرم اللَّه قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل عَلَى الغضب والعداوة وسوء الظن، وَهُوَ يلهو ويلعب كأن لم يصنع شَيْئًا فَقَالَ لَهُ ابن زياد: يَا فاسق، إن نفسك تمنيك مَا حال اللَّه دونه، ولم يرك أهله، قَالَ: فمن اهله يا بن زياد؟ قَالَ: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ عَلَى كل حال، رضينا بِاللَّهِ حكما بيننا وبينكم، قَالَ:
كأنك تظن أن لكم فِي الأمر شَيْئًا! قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بالظن، ولكنه اليقين، قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فِي الإِسْلام! قَالَ: أما إنك أحق من أحدث فِي الإِسْلام مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، وَلا أحد مِنَ النَّاسِ أحق بِهَا مِنْكَ وأقبل ابن سمية يشتمه ويشتم حسينا وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم لا يكلمه وزعم أهل العلم أن عُبَيْد اللَّهِ أمر لَهُ بماء فسقي بخزفة، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إنه لم يمنعنا أن نسقيك فِيهَا إلا كراهة أن تحرم بالشرب فِيهَا،

(5/377)


ثُمَّ نقتلك، ولذلك سقيناك فِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: اصعدوا بِهِ فوق القصر فاضربوا عنقه، ثم اتبعوا جسده راسه، فقال: يا بن الأشعث، أما وَاللَّهِ لولا أنك آمنتني مَا استسلمت، قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك، ثم قال:
يا بن زياد، أما وَاللَّهِ لو كَانَتْ بيني وبينك قرابة مَا قتلتني، ثُمَّ قَالَ ابن زياد:
أين هَذَا الَّذِي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدعي، فَقَالَ:
اصعد فكن أنت الَّذِي تضرب عنقه، فصعد بِهِ وَهُوَ يكبر ويستغفر ويصلي عَلَى ملائكة اللَّه ورسله وَهُوَ يقول: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا وأشرف بِهِ عَلَى موضع الجزارين الْيَوْم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.
قَالَ أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة قَالَ: نزل الأحمري بكير بن حمران الَّذِي قتل مسلما، فَقَالَ لَهُ ابن زياد:
قتله؟ قال: نعم، قَالَ: نعم، قَالَ: فما كَانَ يقول وَأَنْتُمْ تصعدون بِهِ؟ قَالَ: كَانَ يكبر ويسبح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله قَالَ: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا، فقلت له: ادن منى، الحمد لله الَّذِي أقادني مِنْكَ، فضربته ضربة لم تغن شَيْئًا، فَقَالَ أما ترى فِي خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد! فَقَالَ ابن زياد: او فخرا عِنْدَ الموت! قَالَ: ثُمَّ ضربته الثانية فقتلته.
قَالَ: وقام مُحَمَّد بن الأشعث إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فكلمه فِي هانئ بن عروة، وَقَالَ: إنك قَدْ عرفت منزلة هانئ بن عروة فِي المصر، وبيته فِي العشيرة، وَقَدْ علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك اللَّه لما وهبته لي، فإني أكره عداوة قومه، هم أعز أهل المصر، وعدد أهل اليمن! قَالَ: فوعده أن يفعل، فلما كَانَ من أمر مسلم بن عقيل مَا كَانَ، بدا لَهُ فِيهِ، وأبى أن يفي له بما قال.
قال: فامر بهانىء بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال: اخرجوا الى السوق فاضربوا عنقه، قال: فاخرج بهانىء حَتَّى انتهى إِلَى مكان من

(5/378)


السوق كَانَ يباع فِيهِ الغنم وَهُوَ مكتوف، فجعل يقول: وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم! وا مذحجاه، وأين مني مذحج! فلما رَأَى أن أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف، ثُمَّ قَالَ: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش بِهِ رجل عن نفسه! قَالَ: ووثبوا إِلَيْهِ فشدوه وثاقا، ثُمَّ قيل لَهُ: امدد عنقك، فَقَالَ:
مَا أنا بِهَا مجد سخي، وما أنا بمعينكم عَلَى نفسي.
قَالَ: فضربه مولى لعبيد اللَّه بن زياد- تركي يقال لَهُ رشيد- بالسيف، فلم يصنع سيفه شَيْئًا، فَقَالَ هانئ: إِلَى اللَّهِ المعاد! اللَّهُمَّ إِلَى رحمتك ورضوانك! ثُمَّ ضربه أخرى فقتله.
قَالَ: فبصر بِهِ عبد الرَّحْمَن بن الحصين المرادي بخازر، وَهُوَ مع عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ الناس: هَذَا قاتل هانئ بن عروة، فَقَالَ ابن الحصين: قتلني اللَّه إن لم أقتله أو أقتل دونه! فحمل عَلَيْهِ بالرمح فطعنه فقتله ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الَّذِي كَانَ أخذه كثير بن شهاب فِي بني فتيان، فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ:
أَخْبَرَنِي بأمرك، فَقَالَ: أصلحك اللَّه! خرجت لأنظر مَا يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب، فَقَالَ لَهُ: فعليك وعليك، من الأيمان المغلظة، إن كَانَ أخرجك إلا مَا زعمت! فأبى أن يحلف، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: انطلقوا بهذا إِلَى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بِهَا، قَالَ: فانطلق بِهِ فضربت عنقه، قَالَ: وأخرج عمارة بن صلخب الأَزْدِيّ- وَكَانَ ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره- فأتي بِهِ أَيْضًا عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: ممن أنت؟ قَالَ: من الأزد.
قَالَ: انطلقوا بِهِ إِلَى قومه، فضربت عنقه فِيهِمْ، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الأسدي فِي قتلة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادى- ويقال: قاله الفرزدق:
ان كنت لا تدرين مَا الموت فانظري ... إِلَى هانئ فِي السوق وابن عقيل

(5/379)


إِلَى بطل قَدْ هشم السيف وجهه ... وآخر يهوي من طمار قتيل
أصابهما أمر الأمير فأصبحا ... أحاديث من يسري بكل سبيل
ترى جسدا قَدْ غير الموت لونه ... ونضح دم قَدْ سال كل مسيل
فتى هُوَ أحيا من فتاة حيية ... وأقطع من ذي شفرتين صقيل
أيركب أسماء الهماليج آمنا ... وَقَدْ طلبته مذحج بذحول!
تطيف حواليه مراد وكلهم ... عَلَى رقبه من سائل ومسول
فان أنتم لم تثأروا بأخيكمُ ... فكونوا بغايا أرضيت بقليل
قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب يَحْيَى بن أبي حية الكلبي، قَالَ: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما قتل مسلما وهانئا بعث برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي وَالزُّبَيْر بن الأروح التميمي إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وأمر كاتبه عَمْرو بن نافع أن يكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة بِمَا كَانَ من مسلم وهانئ، فكتب إِلَيْهِ كتابا أطال فِيهِ- وَكَانَ أول من أطال فِي الكتب- فلما نظر فِيهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد كرهه، وَقَالَ: مَا هَذَا التطويل وهذه الفضول؟ اكتب:
أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي أخذ لأمير الْمُؤْمِنِينَ بحقه، وكفاه مؤنة عدوه أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه اللَّه أن مسلم بن عقيل لجأ إِلَى دار هانئ بن عروة المرادي، وأني جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حَتَّى استخرجتهما، وأمكن اللَّه منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما، وَقَدْ بعثت إليك برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني وَالزُّبَيْر بن الأروح التميمي- وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة- فليسألهما أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عما أحب من أمر، فإن عندهما علما وصدقا، وفهما وورعا، والسلام.
فكتب إِلَيْهِ يَزِيد: أَمَّا بَعْدُ، فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأيي فيك، وَقَدْ دعوت رسوليك فسألتهما، وناجيتهما

(5/380)


فوجدتهما فِي رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيرا، وإنه قَدْ بلغني أن الْحُسَيْن بن علي قَدْ توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس عَلَى الظن، وخذ عَلَى التهمه، غير الا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي فِي كل مَا يحدث من الخبر، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة، قَالَ: كَانَ مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين- ويقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة ستين من يوم عرفة بعد مخرج الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ مقبلا إِلَى الْكُوفَةِ بيوم- قَالَ: وَكَانَ مخرج الْحُسَيْن مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة، ثُمَّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية فِي الْيَوْم الَّذِي خرج فِيهِ مسلم بن عقيل.
وذكر هَارُون بن مسلم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صالح، عن عِيسَى بن يَزِيدَ، أن المختار بن أبي عبيد وعبد اللَّه بن الْحَارِث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عَبْد اللَّهِ براية حمراء، وعليه ثياب حمر، وجاء المختار برايته فركزها عَلَى باب عَمْرو بن حريث، وَقَالَ: إنما خرجت لأمنع عمرا، وإن ابن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلما وأَصْحَابه عشية سار مسلم إِلَى قصر ابن زياد قتالا شديدا، وأن شبثا جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرقوا، فَقَالَ لَهُ القعقاع: إنك قَدْ سددت عَلَى الناس وجه مصيرهم، فافرج لَهُمْ ينسربوا، وإن عُبَيْد اللَّهِ أمر أن يطلب المختار وعبد اللَّه بن الْحَارِث، وجعل فيهما جعلا، فاتى بهما فحبسا.

(5/381)


ذكر مسير الحسين الى الكوفه
وفي هذه السنه كان خروج الحسين ع مِنْ مَكَّةَ متوجها إِلَى الْكُوفَةِ.
ذكر الخبر عن مسيره إِلَيْهَا وما كَانَ من أمره فِي مسيره ذَلِكَ:
قَالَ هِشَام عن أبي مخنف: حَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ المخزومي، قَالَ: لما قدمت كتب أهل العراق إِلَى الْحُسَيْن وتهيأ للمسير إِلَى العراق، أتيته فدخلت عَلَيْهِ وَهُوَ بمكة، فحمدت اللَّه وأثنيت عَلَيْهِ، ثُمَّ قلت: أَمَّا بَعْدُ، فإني أتيتك يا بن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك تستنصحني وإلا كففت عما اريد ان اقول، فقال: قل، فو الله ما اظنك بسيئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل، قَالَ: قلت لَهُ: إنه قَدْ بلغني أنك تريد المسير إِلَى العراق، وإني مشفق عَلَيْك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فِيهِ عماله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، وَلا آمن عَلَيْك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحب إِلَيْهِ ممن يقاتلك مَعَهُ، [فقال الحسين: جزاك الله خيرا يا بن عم، فقد وَاللَّهِ علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح] .
قَالَ: فانصرفت من عنده فدخلت عَلَى الْحَارِث بن خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام، فسألني: هل لقيت حسينا؟ فقلت له: نعم، قال: فما قَالَ لك، وما قلت لَهُ؟ قَالَ: فقلت لَهُ: قلت كذا وكذا، وَقَالَ كذا وكذا، فَقَالَ:
نصحته ورب المروة الشهباء، أما ورب البنية إن الرأي لما رأيته، قبله أو تركه، ثُمَّ قَالَ:
رب مستنصح يغش ويردي ... وظنين بالغيب يلفى نصيحا

(5/382)


قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان، أن حسينا لما أجمع المسير إِلَى الْكُوفَةِ أتاه عَبْد الله بن عباس فقال: يا بن عم، إنك قَدْ أرجف الناس إنك سائر إِلَى العراق، فبين لي مَا أنت صانع؟ قَالَ:
إني قَدْ أجمعت المسير فِي أحد يومي هَذَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: فإني أعيذك بِاللَّهِ من ذَلِكَ، أَخْبَرَنِي رحمك اللَّه! أتسير إِلَى قوم قَدْ قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم؟ فإن كَانُوا قَدْ فعلوا ذَلِكَ فسر إِلَيْهِم، وإن كَانُوا إنما دعوك إِلَيْهِم وأميرهم عَلَيْهِم قاهر لَهُمْ، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك إِلَى الحرب والقتال، وَلا آمن عَلَيْك أن يغروك ويكذبوك، ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عَلَيْك، [فَقَالَ لَهُ حُسَيْن: وإني أستخير اللَّه وأنظر مَا يكون] .
قَالَ: فخرج ابن عَبَّاس من عنده، وأتاه ابن الزُّبَيْر فحدثه ساعة، ثُمَّ قَالَ: مَا أدري مَا تركنا هَؤُلاءِ القوم وكفنا عَنْهُمْ، ونحن أبناء الْمُهَاجِرِينَ، وولاة هَذَا الأمر دونهم! خبرني مَا تريد أن تصنع؟ [فَقَالَ الْحُسَيْن: وَاللَّهِ لقد حدثت نفسي بإتيان الْكُوفَة، وَلَقَدْ كتب إلي شيعتي بِهَا وأشراف أهلها، وأستخير اللَّه،] فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: أما لو كَانَ لي بِهَا مثل شيعتك مَا عدلت بِهَا، قَالَ: ثُمَّ إنه خشي أن يتهمه فَقَالَ: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثُمَّ اردت هذا الأمر هاهنا مَا خولف عَلَيْك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قام فخرج من عنده، [فَقَالَ الْحُسَيْن: ها إن هَذَا ليس شَيْء يؤتاه من الدُّنْيَا أحب إِلَيْهِ من أن أخرج من الحجاز إِلَى العراق، وَقَدْ علم أنه ليس لَهُ من الأمر معي شَيْء، وأن الناس لم يعدلوه بي، فود أني خرجت منها لتخلو لَهُ] .
قَالَ: فلما كَانَ من العشي أو من الغد، أتى الْحُسَيْن عَبْد اللَّهِ بن العباس فقال: يا بن عم إني أتصبر وَلا أصبر، إني أتخوف عَلَيْك فِي هَذَا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنهم، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كَانَ أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إِلَيْهِم فلينفوا عدوهم، ثُمَّ أقدم عَلَيْهِم، فإن أبيت الا انه تخرج فسر إِلَى اليمن

(5/383)


فإن بِهَا حصونا وشعابا، وَهِيَ أرض عريضة طويلة، ولأبيك بِهَا شيعة، وأنت عن الناس فِي عزلة، فتكتب إِلَى النَّاسِ وترسل، وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عِنْدَ ذَلِكَ الَّذِي تحب فِي عافية، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: يا بن عم، إني وَاللَّهِ لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكني قَدْ أزمعت وأجمعت عَلَى المسير،] فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عُثْمَان ونساؤه وولده ينظرون إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ابن عَبَّاس: لقد أقررت عين ابن الزُّبَيْر بتخليتك إِيَّاهُ والحجاز والخروج منها، وَهُوَ الْيَوْم لا ينظر إِلَيْهِ أحد معك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حَتَّى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ خرج ابن عَبَّاس من عنده، فمر بعبد اللَّه بن الزبير، فقال: قرت عينك يا بن الزبير! ثم قال:
يا لك من قبره بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري مَا شئت أن تنقري.
هَذَا حُسَيْن يخرج إِلَى العراق، وعليك بالحجاز.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ أَبُو جناب يَحْيَى بن أبي حية، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عَبْد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قَالا:
خرجنا حاجين من الْكُوفَة حَتَّى قدمنا مكة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ قائمين عِنْدَ ارتفاع الضحى فِيمَا بين الحجر والباب، قَالا: فتقربنا منهما، فسمعنا ابن الزُّبَيْر وَهُوَ يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هَذَا الأمر، فآزرناك وساعدناك، ونصحنا لك وبايعناك، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: إن أبي حَدَّثَنِي أن بِهَا كبشا يستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذَلِكَ الكبش،] فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع وَلا تعصى، فَقَالَ: وما أريد هَذَا أَيْضًا، قَالا: ثُمَّ إنهما أخفيا

(5/384)


كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حَتَّى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إِلَى منى عِنْدَ الظهر، قَالا: فطاف الْحُسَيْن بالبيت وبين الصفا والمروة، وقص من شعره، وحل من عمرته، ثُمَّ توجه نحو الْكُوفَة، وتوجهنا نحو الناس إِلَى منى.
قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي سَعِيد عقيصى، عن بعض أَصْحَابه، [قَالَ:
سمعت الْحُسَيْن بن علي وَهُوَ بمكة وَهُوَ واقف مع عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ ابن الزبير الى يا بن فاطمة، فأصغى إِلَيْهِ، فساره، قَالَ: ثُمَّ التفت إلينا الْحُسَيْن فَقَالَ: أتدرون مَا يقول ابن الزُّبَيْر؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا اللَّه فداك! فَقَالَ: قَالَ: أقم فِي هَذَا المسجد أجمع لك الناس، ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْن:
وَاللَّهِ لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر، وايم اللَّه لو كنت فِي جحر هامة من هَذِهِ الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، وو الله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود فِي السبت] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان قَالَ: لما خرج الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ اعترضه رسل عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، عَلَيْهِم يَحْيَى بن سَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ: انصرف، أين تذهب! فأبى عَلَيْهِم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط ثُمَّ ان الحسين واصحابه امتنعوا امتناعا قويا، ومضى الحسين ع عَلَى وجهه، فنادوه:
يَا حُسَيْن، أَلا تتقي اللَّه! تخرج من الجماعة، وتفرق بين هَذِهِ الأمة! [فتأول حُسَيْن قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: «لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ] » .
قَالَ: ثُمَّ إن الْحُسَيْن أقبل حَتَّى مر بالتنعيم، فلقي بِهَا عيرا قَدْ أقبل بِهَا من اليمن، بعث بِهَا بحير بن ريسان الحميري إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، - وَكَانَ عامله على اليمن- وعلى العمير الورس والحلل ينطلق بِهَا إِلَى يَزِيد

(5/385)


فأخذها الْحُسَيْن، فانطلق بِهَا، [ثُمَّ قَالَ لأَصْحَاب الإبل: لا أكرهكم، من أحب أن يمضي معنا إِلَى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هَذَا أعطيناه من الكراء عَلَى قدر مَا قطع من الأرض، قَالَ: فمن فارقه مِنْهُمْ حوسب فأوفي حقه، ومن مضى مِنْهُمْ مَعَهُ أعطاه كراءه وكساه] .
قَالَ أَبُو مخنف، عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله ابن سليم والمذري قَالا: [أقبلنا حَتَّى انتهينا إِلَى الصفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر، فواقف حسينا فَقَالَ لَهُ: أعطاك اللَّه سؤلك وأملك فِيمَا تحب، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: بين لنا نبأ الناس خلفك، فَقَالَ لَهُ الفرزدق: من الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُمَيَّة، والقضاء ينزل من السماء، واللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ، * فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: صدقت، لِلَّهِ الأمر، واللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ*، وكُلَّ يَوْمٍ ربنا فِي شَأْنٍ، أن نزل القضاء بِمَا نحب فنحمد اللَّه عَلَى نعمائه، وَهُوَ المستعان عَلَى أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كَانَ الحق نيته، والتقوى سريرته، ثُمَّ حرك الْحُسَيْن راحلته فَقَالَ:
السلام عَلَيْك، ثُمَّ افترقا] .
قَالَ هِشَام، عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بن الفرزدق بن غالب، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حججت بأمي، فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم فِي أيام الحج، وَذَلِكَ فِي سنة ستين، إذ لقيت الْحُسَيْن بن علي خارجا مِنْ مَكَّةَ مَعَهُ أسيافه وتراسه، فقلت: لمن هَذَا القطار؟ فقيل: للحسين بن علي، فأتيته فقلت: بابى وأمي يا بن رَسُول اللَّهِ! مَا أعجلك عن الحج؟ فَقَالَ: لو لم أعجل لأخذت، قَالَ: ثُمَّ سألني: ممن أنت؟ فقلت لَهُ: امرؤ من العراق، قال: فو الله مَا فتشني عن أكثر من ذَلِكَ، واكتفى بِهَا مني، [فَقَالَ:
أَخْبَرَنِي عن الناس خلفك؟ قَالَ: فقلت لَهُ: القلوب معك، والسيوف مع بني أُمَيَّة، والقضاء بيد اللَّه، قَالَ: فَقَالَ لي: صدقت،] قَالَ: فسألته عن أشياء، فأخبرني بِهَا من نذور ومناسك، قَالَ: وإذا هُوَ ثقيل اللسان من

(5/386)


برسام أصابه بِالْعِرَاقِ، قَالَ: ثُمَّ مضيت فإذا بفسطاط مضروب فِي الحرم، وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هُوَ لعبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فسألني، فأخبرته بلقاء الْحُسَيْن بن علي، فقال لي: ويلك! فهلا اتبعته، فو الله ليملكن، وَلا يجوز السلاح فِيهِ وَلا فِي أَصْحَابه، قَالَ: فهممت وَاللَّهِ أن ألحق بِهِ، ووقع فِي قلبي مقالته، ثُمَّ ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدني ذَلِكَ عن اللحاق بهم، فقدمت على اهلى بعسفان، قال: فو الله إني لعندهم إذ أقبلت عير قَدِ امتارت من الْكُوفَة، فلما سمعت بهم خرجت فِي آثارهم حَتَّى إذا أسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم: أَلا مَا فعل الْحُسَيْن ابن علي؟ قَالَ: فردوا علي: أَلا قَدْ قتل، قَالَ: فانصرفت وأنا ألعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: وَكَانَ أهل ذَلِكَ الزمان يقولون ذَلِكَ الأمر، وينتظرونه فِي كل يوم وليلة قَالَ: وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو يقول:
لا تبلغ الشجرة وَلا النخلة وَلا الصغير حَتَّى يظهر هَذَا الأمر، قَالَ: فقلت لَهُ: فما يمنعك أن تبيع الوهط؟ قَالَ: فَقَالَ لي: لعنة اللَّه عَلَى فلان- يعني مُعَاوِيَة- وعليك، قَالَ: فقلت: لا، بل عَلَيْك لعنة اللَّه، قَالَ: فزادني من اللعن ولم يكن عنده من حشمه أحد فألقى مِنْهُمْ شرا، قَالَ: فخرجت وَهُوَ لا يعرفني- والوهط حائط لعبد اللَّه بن عَمْرو بالطائف، قَالَ: وَكَانَ مُعَاوِيَة قَدْ ساوم بِهِ عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو، وأعطاه بِهِ مالا كثيرا، فأبى أن يبيعه بشيء- قَالَ: وأقبل الْحُسَيْن مغذا لا يلوي عَلَى شَيْء حَتَّى نزل ذات عرق.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب الوالبي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن ابن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لما خرجنا مِنْ مَكَّةَ كتب عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْحُسَيْن بن علي مع ابنيه: عون ومُحَمَّد: أَمَّا بَعْدُ، فإني أسألك بِاللَّهِ لما انصرفت حين تنظر فِي كتابي، فإني مشفق عَلَيْك من الوجه الَّذِي توجه لَهُ أن يكون فِيهِ هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت الْيَوْم طفئ نور الأرض، فإنك علم المهتدين، ورجاء الْمُؤْمِنِينَ، فلا تعجل بالسير

(5/387)


فإني فِي أثر الكتاب، والسلام.
قَالَ: وقام عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر إِلَى عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فكلمه.
وَقَالَ: اكتب إِلَى الْحُسَيْن كتابا تجعل لَهُ فِيهِ الأمان، وتمنيه فِيهِ البر والصلة، وتوثق لَهُ فِي كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إِلَى ذَلِكَ فيرجع، فقال عمرو ابن سَعِيد: اكتب مَا شئت وأتني بِهِ حَتَّى أختمه، فكتب عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر الكتاب، ثُمَّ أتى بِهِ عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ له: اختمه، وابعث بِهِ مع أخيك يَحْيَى بن سَعِيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إِلَيْهِ، ويعلم أنه الجد مِنْكَ، ففعل، وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة عَلَى مكة، قَالَ: فلحقه يَحْيَى وعبد اللَّه بن جَعْفَر، ثُمَّ انصرفا بعد أن أقرأه يَحْيَى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا بِهِ، وَكَانَ مما اعتذر بِهِ إلينا أن قَالَ: إني رايت رؤيا فيها رسول الله ص، وأمرت فِيهَا بأمر أنا ماض لَهُ، علي كان اولى، فقالا لَهُ: فما تِلَكَ الرؤيا؟ قَالَ: مَا حدثت أحدا بِهَا، وما أنا محدث بِهَا حَتَّى ألقى ربي.
قَالَ: وَكَانَ كتاب عَمْرو بن سَعِيد إِلَى الْحُسَيْن بن علي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عَمْرو بن سَعِيد إِلَى الْحُسَيْن بن علي، أَمَّا بَعْدُ، فإني اسال الله ان يصرفك عما يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قَدْ توجهت إِلَى العراق، وإني أعيذك بِاللَّهِ من الشقاق، فإني أخاف عَلَيْك فِيهِ الهلاك، وَقَدْ بعثت إليك عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر ويحيى بن سَعِيد، فأقبل إلي مَعَهُمَا، فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار لك، اللَّه علي بِذَلِكَ شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عَلَيْك.
قَالَ: وكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن: أَمَّا بَعْدُ، فإنه لم يشاقق اللَّه ورسوله من دعا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وعمل صالحا وَقَالَ إنني مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ دعوت إِلَى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان اللَّه، ولن يؤمن اللَّه يوم الْقِيَامَة من لم يخفه فِي الدُّنْيَا، فنسأل اللَّه مخافة فِي الدُّنْيَا توجب لنا أمانة يوم

(5/388)


القيامه، فان كنت نويت بالكتاب صلى وبري، فجزيت خيرا فِي الدُّنْيَا والآخرة، والسلام.
رجع الحديث إِلَى حديث عمار الدهني عن أبي جَعْفَر فَحَدَّثَنِي زكرياء بن يَحْيَى الضرير، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جناب المصيصي قَالَ:
حَدَّثَنَا خَالِد بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيّ قَالَ: [حَدَّثَنَا عمار الدهني قَالَ:
قلت لأبي جَعْفَر: حَدَّثَنِي عن مقتل الْحُسَيْن حَتَّى كأني حضرته، قَالَ: فأقبل حُسَيْن بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كَانَ إِلَيْهِ، حَتَّى إذا كَانَ بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يَزِيدَ التميمي، فَقَالَ لَهُ: أين تريد؟
قَالَ: أريد هَذَا المصر، قَالَ لَهُ: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه، فهم أن يرجع، وَكَانَ مَعَهُ إخوة مسلم بن عقيل، فَقَالُوا: والله لا نرجع حَتَّى نصيب بثأرنا أو نقتل، فَقَالَ: لا خير فِي الحياة بعدكم! فسار فلقيته أوائل خيل عُبَيْد اللَّهِ، فلما رَأَى ذَلِكَ عدل إِلَى كربلاء فأسند ظهره إِلَى قصباء وخلا كيلا يقاتل إلا من وجه واحد، فنزل وضرب أبنيته، وَكَانَ أَصْحَابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وَكَانَ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص قَدْ ولاه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الري وعهد إِلَيْهِ عهده فَقَالَ: اكفني هَذَا الرجل، قَالَ: أعفني، فأبى أن يعفيه، قَالَ: فأنظرني الليلة، فأخره، فنظر فِي أمره فلما أصبح غدا عَلَيْهِ راضيا بِمَا أمر بِهِ، فتوجه إِلَيْهِ عُمَر بن سَعْد، فلما أتاه قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: اختر واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فأنصرف من حَيْثُ جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إِلَى يَزِيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور، فقبل ذَلِكَ عمر، فكتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ: لا وَلا كرامة حَتَّى يضع يده فِي يدي!] [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا وَاللَّهِ لا يكون ذَلِكَ أبدا] [، فقاتله فقتل أَصْحَاب الْحُسَيْن كلهم، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وجاء سهم فأصاب ابنا لَهُ مَعَهُ فِي حجره، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا، ثُمَّ أمر بحبرة فشققها، ثُمَّ

(5/389)


لبسها وخرج بسيفه، فقاتل حتى قتل ص، قتله رجل من مذحج وحز رأسه، وانطلق بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ وَقَالَ:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... فقد قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وأوفده إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة وَمَعَهُ الرأس، فوضع رأسه بين يديه وعنده أَبُو برزة الأسلمي، فجعل ينكت بالقضيب عَلَى فِيهِ ويقول:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
فَقَالَ لَهُ أَبُو برزه: ارفع قضيبك، فو الله لربما رايت فا رسول الله ص عَلَى فِيهِ يلثمه! وسرح عُمَر بن سَعْد بحرمه وعياله إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، ولم يكن بقي من أهل بيت الْحُسَيْن بن علي ع إلا غلام كَانَ مريضا مع النساء، فأمر بِهِ عُبَيْد اللَّهِ ليقتل، فطرحت زينب نفسها عَلَيْهِ وقالت:
وَاللَّهِ لا يقتل حَتَّى تقتلوني! فرق لها، فتركه وكف عنه قَالَ: فجهزهم وحملهم إِلَى يَزِيد، فلما قدموا عَلَيْهِ جمع من كَانَ بحضرته من أهل الشام، ثُمَّ أدخلوهم، فهنئوه بالفتح، قَالَ رجل مِنْهُمْ أزرق أحمر ونظر إِلَى وصيفة من بناتهم فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ، فَقَالَتْ زينب: لا وَاللَّهِ وَلا كرامة لك وَلا لَهُ إلا أن يخرج من دين اللَّه، قَالَ:
فأعادها الأزرق، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: كف عن هَذَا، ثُمَّ أدخلهم عَلَى عياله، فجهزهم وحملهم إِلَى الْمَدِينَة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها، واضعة كمها عَلَى رأسها تلقاهم وَهِيَ تبكي وتقول:
ماذا تقولون إن قَالَ النَّبِيّ لكم ... ماذا فعلتم وَأَنْتُمْ آخر الأمم!
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... مِنْهُمْ أسارى وقتلى ضرجوا بدم
مَا كَانَ هَذَا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء فِي ذوي رحمي
!]

(5/390)


حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْحُسَيْنَ ع.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ على ع كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ: إِنَّهُ مَعَكَ مِائَةُ أَلْفٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ، فَنَزَلَ دَارَ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَأُخْبِرَ ابْنُ زِيَادٍ بِذَلِكَ زَادَ الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ فِي حَدِيثِهِ: فَأَرْسَلَ إِلَى هَانِئٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: أَلَمْ أُوَقِّرْكَ! أَلَمْ أُكْرِمْكَ! أَلَمْ أَفْعَلْ بِكَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَما جَزَاءُ ذَلِكَ؟
قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أَمْنَعَكَ، قَالَ: تَمْنَعُنِي! قَالَ: فَأَخَذَ قَضِيبًا مَكَانَهُ فَضَرَبَهُ بِهِ، وَأَمَرَ فَكُتِفَ ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِبَابِ الْقَصْرِ فَأُغْلِقَ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، فَلا أَحَدٌ يُجُيبُهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ فِي مَلإٍ مِنَ النَّاسِ.
قَالَ حصين: فَحَدَّثَنِي هلال بن يساف قَالَ: لقيتهم تِلَكَ الليلة فِي الطريق عِنْدَ مسجد الأنصار، فلم يكونوا يمرون في طريق يمينا ولا شمالا الا وذهبت مِنْهُمْ طائفة، الثلاثون والأربعون، ونحو ذَلِكَ قَالَ: فلما بلغ السوق، وَهِيَ ليلة مظلمة، ودخلوا المسجد، قيل لابن زياد: وَاللَّهِ مَا نرى كثير أحد، وَلا نسمع أصوات كثير أحد، فأمر بسقف المسجد فقلع، ثُمَّ أمر بحرادي فِيهَا النيران، فجعلوا ينظرون، فإذا قريب خمسين رجلا.
قَالَ: فنزل فصعد الْمِنْبَر وَقَالَ لِلنَّاسِ: تميزوا أرباعا أرباعا، فانطلق كل قوم إِلَى رأس ربعهم، فنهض إِلَيْهِم قوم يقاتلونهم، فجرح مسلم جراحة ثقيلة، وقتل ناس من أَصْحَابه، وانهزموا، فخرج مسلم فدخل دارا من دور كندة، فَجَاءَ رجل إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث وَهُوَ جالس إِلَى ابن زياد، فساره، فَقَالَ لَهُ: إن مسلما فِي دار فلان، فَقَالَ ابن زياد: مَا قَالَ لك؟ قَالَ:
إن مسلما فِي دار فلان، قَالَ ابن زياد لرجلين: انطلقا فأتياني بِهِ، فدخلا عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ امرأة قَدْ أوقدت لَهُ النار، فهو يغسل عنه الدماء، فقالا

(5/391)


لَهُ: انطلق، الأمير يدعوك، فَقَالَ: اعقدا لي عقدا، فقالا: مَا نملك ذاك، فانطلق مَعَهُمَا حَتَّى أتاه فأمر بِهِ فكتف ثُمَّ قَالَ: هيه هيه يا بن خليه- قال الحسين في حديثه: يا بن كذا- جئت لتنزع سلطاني! ثُمَّ أمر بِهِ فضربت عنقه قَالَ حصين: فَحَدَّثَنِي هلال بن يساف أن ابن زياد أمر بأخذ مَا بين واقصة إِلَى طريق الشام إِلَى طريق الْبَصْرَة، فلا يدعون أحدا يلج وَلا أحدا يخرج، فأقبل الْحُسَيْن وَلا يشعر بشيء حَتَّى لقي الأعراب، فسألهم، فَقَالُوا:
لا وَاللَّهِ مَا ندري، غير أنا لا نستطيع أن نلج وَلا نخرج، قَالَ: فانطلق يسير نحو طريق الشام نحو يَزِيد، فلقيته الخيول بكربلاء، فنزل يناشدهم اللَّه والإسلام، قَالَ: وَكَانَ بعث إِلَيْهِ عُمَر بن سَعْدٍ وشمر بن ذي الجوشن وحصين ابن نميم، فناشدهم الْحُسَيْن اللَّه والإسلام أن يسيروه إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فيضع يده فِي يده، فَقَالُوا: لا، إلا عَلَى حكم ابن زياد، وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ الحر بن يَزِيدَ الحنظلي ثُمَّ النهشلي عَلَى خيل، فلما سمع مَا يقول الْحُسَيْن قَالَ لَهُمْ: ألا تقبلون من هَؤُلاءِ مَا يعرضون عَلَيْكُمْ! وَاللَّهِ لو سألكم هَذَا الترك والديلم مَا حل لكم أن تردوه! فأبوا إلا عَلَى حكم ابن زياد، فصرف الحر وجه فرسه، وانطلق إِلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه، فظنوا أنه إنما جَاءَ ليقاتلهم، فلما دنا مِنْهُمْ قلب ترسه وَسَلَّمَ عَلَيْهِم، ثُمَّ كر عَلَى أَصْحَاب ابن زياد فقاتلهم، فقتل مِنْهُمْ رجلين، ثُمَّ قتل رحمة اللَّه عَلَيْهِ وذكر أن زهير بن القين البجلي لقي الْحُسَيْن وَكَانَ حاجا، فأقبل مَعَهُ، وخرج إِلَيْهِ ابن ابى بحريه المرادي ورجلان آخران وعمرو بن الحجاج ومعن السلمي، قَالَ الحصين: وَقَدْ رأيتهما.
قَالَ الحصين: وَحَدَّثَنِي سعد بن عبيدة، قَالَ: إن أشياخا من أهل الْكُوفَة لوقوف عَلَى التل يبكون ويقولون: اللَّهُمَّ أنزل نصرك، قَالَ: قلت: يَا أعداء اللَّه، أَلا تنزلون فتنصرونه! قَالَ: فأقبل الْحُسَيْن يكلم من بعث إِلَيْهِ ابن زياد، قَالَ: وإني لأنظر إِلَيْهِ وعليه جبة من برود، فلما كلمهم انصرف، فرماه رجل من بني تميم يقال لَهُ: عمر الطهوي بسهم، فإني لأنظر إِلَى السهم بين كتفيه متعلقا فِي جبته، فلما أبوا عَلَيْهِ رجع إِلَى مصافه، وإني لأنظر إِلَيْهِم،

(5/392)


وانهم لقريب من مائه رجل، فيهم لصلب على بن ابى طالب ع خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سليم حليف لَهُمْ، ورجل من بني كنانة حليف لَهُمْ، وابن عُمَر بن زياد.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي سعد بن عبيدة، قَالَ: إنا لمستنقعون فِي الماء مع عُمَر بن سَعْد، إذ أتاه رجل فساره وَقَالَ لَهُ: قَدْ بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي، وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك، قَالَ: فوثب إِلَى فرسه فركبه، ثُمَّ دعا سلاحه فلبسه، وإنه عَلَى فرسه، فنهض بِالنَّاسِ إِلَيْهِم فقاتلوهم، فجيء برأس الْحُسَيْن إِلَى ابن زياد، فوضع بين يديه، فجعل ينكت بقضيبه، ويقول: إن أبا عَبْد اللَّهِ قَدْ كَانَ شمط، قَالَ: وجيء بنسائه وبناته وأهله، وَكَانَ أحسن شَيْء صنعه أن أمر لهن بمنزل فِي مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقا، وأمر لهن بنفقة وكسوة قَالَ: فانطلق غلامان مِنْهُمْ لعبد اللَّه بن جَعْفَر- أو ابن ابن جَعْفَر- فأتيا رجلا من طيئ فلجأ إِلَيْهِ، فضرب أعناقهما، وجاء برءوسهما حَتَّى وضعهما بين يدي ابن زياد، قَالَ: فهم بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي مولى لمعاوية بن أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: لما أتي يَزِيد برأس الْحُسَيْن فوضع بين يديه، قَالَ: رأيته يبكي، وَقَالَ: لو كَانَ بينه وبينه رحم مَا فعل هَذَا.
قَالَ حصين: فلما قتل الْحُسَيْن لبثوا شهرين أو ثلاثة، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حَتَّى ترتفع.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي العلاء بن أبي عاثة قَالَ: حَدَّثَنِي رأس الجالوت، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حَتَّى أخلف المكان، قَالَ: قلت: لم؟ قَالَ: كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول فِي ذَلِكَ المكان، قَالَ: وكنت أخاف أن أكون أنا، فلما قتل الْحُسَيْن قلنا: هَذَا الَّذِي كنا نتحدث قَالَ: وكنت بعد ذَلِكَ إذا مررت بِذَلِكَ المكان أسير وَلا أركض.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: حدثني علي بن محمد،

(5/393)


عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: [قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لا يَدْعُونِي حَتَّى يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ الْعَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي، فَإِذَا فَعَلُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلَّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مَنْ فرم الامه،] فقدم للعراق فَقَتَلَ بِنِينَوَى يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ.
قَالَ الْحَارِث: قَالَ ابن سعد: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ:
قتل الْحُسَيْن بن علي ع فِي صفر سنة إحدى وستين وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن خمس وخمسين.
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أفلح بن سَعِيدٍ، عن ابن كعب القرظي، قَالَ الْحَارِث:
حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، عن أبي معشر، قَالَ: قتل الْحُسَيْن لعشر خلون من المحرم قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا أثبت.
قَالَ الْحَارِث: قَالَ ابن سعد: أَخْبَرَنَا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عطاء ابن مسلم، عمن أخبره، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قَالَ: أول رأس رفع عَلَى خشبة، رأس الْحُسَيْن رَضِيَ الله عنه وصلى اللَّه عَلَى روحه.
قَالَ أَبُو مخنف: عن هِشَام بن الْوَلِيد، عمن شهد ذَلِكَ، قال: اقبل الحسين ابن على باهله من مكة ومحمد بن الحنفية بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: فبلغه خبره وَهُوَ يتوضأ فِي طست، قَالَ: فبكى حَتَّى سمعت وكف دموعه فِي الطست.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إِسْحَاق السبيعي، قَالَ: ولما بلغ عُبَيْد اللَّهِ إقبال الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ الى الكوفه، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حَتَّى نزل القادسية ونظم الخيل مَا بين القادسية إِلَى خفان، وما بين القادسية إِلَى القطقطانة وإلى لعلع، وَقَالَ الناس: هَذَا الْحُسَيْن يريد العراق.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قيس أن الْحُسَيْن أقبل حَتَّى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى أهل الْكُوفَة، وكتب مَعَهُ إِلَيْهِم:

(5/394)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من الْحُسَيْن بن علي إِلَى إخوانه من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فِيهِ بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم عَلَى نصرنا، والطلب بحقنا، فسألت اللَّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم عَلَى ذَلِكَ أعظم الأجر، وَقَدْ شخصت إليكم مِنْ مَكَّةَ يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية،، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا امركم ووجدوا، فإني قادم عَلَيْكُمْ فِي أيامي هَذِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وبركاته.
وكان مسلم ابن عقيل قَدْ كَانَ كتب إِلَى الْحُسَيْن قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة: أَمَّا بَعْدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جمع أهل الْكُوفَة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عَلَيْك.
قَالَ: فأقبل الْحُسَيْن بالصبيان والنساء مَعَهُ لا يلوي عَلَى شَيْء، وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى الْكُوفَةِ بكتاب الْحُسَيْن، حَتَّى إذا انتهى إِلَى القادسية أخذه الحصين بن تميم فبعث بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّهِ: اصعد إِلَى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب، فصعد ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إن هَذَا الْحُسَيْن بن علي خير خلق اللَّه، ابن فاطمة بنت رَسُول اللَّهِ، وأنا رسوله إليكم، وَقَدْ فارقته بالحاجر، فأجيبوه، ثُمَّ لعن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فامر به عبيد الله ابن زياد أن يرمى بِهِ من فوق القصر، فرمي بِهِ، فتقطع فمات ثُمَّ أقبل الْحُسَيْن سيرا إِلَى الْكُوفَةِ، فانتهى إِلَى ماء من مياه العرب، فإذا عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوى، وهو نازل هاهنا، فلما رَأَى الْحُسَيْن قام إِلَيْهِ، فَقَالَ: بأبي أنت وأمي يا بن رَسُول اللَّهِ! مَا أقدمك! واحتمله فأنزله، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: كَانَ من موت مُعَاوِيَة مَا قَدْ بلغك، فكتب إلي أهل العراق يدعونني إِلَى أنفسهم،] فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن مطيع: اذكرك الله يا بن رَسُول اللَّهِ وحرمة الإِسْلام أن تنتهك! أنشدك الله في حرمه رسول الله ص! أنشدك الله في حرمه العرب! فو الله لَئِنْ طلبت مَا فِي أيدي بني أُمَيَّة ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا وَاللَّهِ إنها لحرمة الإِسْلام تنتهك، وحرمة قريش

(5/395)


وحرمة العرب، فلا تفعل، وَلا تأت الْكُوفَة، وَلا تعرض لبني أُمَيَّة، قَالَ: فأبى إلا ان يمضى، قال: فاقبل الحسين حتى كَانَ بالماء فوق زرود.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي السدي، عن رجل من بني فزارة قَالَ: لما كَانَ زمن الحجاج بن يُوسُفَ كنا فِي دار الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ الَّتِي فِي التمارين، الَّتِي أقطعت بعد زهير بن القين، من بني عَمْرو بن يشكر من بجيلة، وَكَانَ أهل الشام لا يدخلونها، فكنا مختبئين فِيهَا، قَالَ: فقلت للفزاري:
حَدَّثَنِي عنكم حين أقبلتم مع الْحُسَيْن بن علي، قَالَ: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا مِنْ مَكَّةَ نساير الْحُسَيْن، فلم يكن شَيْء أبغض إلينا من أن نسايره فِي منزل، فإذا سار الْحُسَيْن تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الْحُسَيْن تقدم زهير، حَتَّى نزلنا يَوْمَئِذٍ فِي منزل لم نجد بدا من أن ننازله فِيهِ، فنزل الْحُسَيْن فِي جانب، ونزلنا فِي جانب، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الْحُسَيْن حَتَّى سلم، ثُمَّ دخل فَقَالَ: يَا زهير بن القين، إن أبا عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بن علي بعثني إليك لتأتيه، قَالَ: فطرح كل إنسان مَا فِي يده حَتَّى كأننا عَلَى رءوسنا الطير.
قَالَ أَبُو مخنف: فحدثتني دلهم بنت عَمْرو امرأة زهير بن القين، قالت: فقلت لَهُ: أيبعث إليك ابن رَسُول اللَّهِ ثُمَّ لا تأتيه! سبحان اللَّه! لو أتيته فسمعت من كلامه! ثُمَّ انصرفت، قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جَاءَ مستبشرا قَدْ أسفر وجهه، قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم، وحمل إِلَى الْحُسَيْن، ثُمَّ قَالَ لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: من أحب مِنْكُمْ أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، إني سأحدثكم حديثا، غزونا بلنجر، ففتح اللَّه علينا، وأصبنا غنائم، فَقَالَ لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بِمَا فتح اللَّه عَلَيْكُمْ، وأصبتم من الغنائم! فقلنا: نعم، فَقَالَ لنا: إذا أدركتم شباب آل مُحَمَّد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم منكم بِمَا أصبتم من الغنائم، فأما

(5/396)


أنا فإني أستودعكم اللَّه، قَالَ: ثُمَّ وَاللَّهِ مَا زال فِي أول القوم حَتَّى قتل.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عَبْد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قَالا: لما قضينا حجنا لَمْ يَكُنْ لنا همة إلا اللحاق بالحسين فِي الطريق لننظر مَا يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حَتَّى لحقناه بزرود، فلما دنونا مِنْهُ إذا نحن برجل من أهل الْكُوفَة قَدْ عدل عن الطريق حين رَأَى الْحُسَيْن، قَالا: فوقف الْحُسَيْن كأنه يريده، ثُمَّ تركه، ومضى ومضينا نحوه، فَقَالَ أحدنا لصاحبه: اذهب بنا إِلَى هَذَا فلنسأله، فإن كَانَ عنده خبر الْكُوفَة علمناه، فمضينا حَتَّى انتهينا إِلَيْهِ، فقلنا: السلام عَلَيْك، قَالَ: وعَلَيْكُمُ السلام ورحمة اللَّه، ثُمَّ قلنا: فمن الرجل؟ قَالَ: أسدي: فقلنا: فنحن أسديان فمن أنت؟ قَالَ: أنا بكير بن المثعبة، فانتسبنا لَهُ، ثُمَّ قلنا: أَخْبَرَنَا عن الناس وراءك، قَالَ: نعم، لم أخرج من الْكُوفَة حَتَّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، فرأيتهما يجران بأرجلهما فِي السوق، قَالا: فأقبلنا حَتَّى لحقنا بالحسين، فسايرناه حَتَّى نزل الثعلبية ممسيا، فجئناه حين نزل، فسلمنا عَلَيْهِ فرد علينا، فقلنا لَهُ: يرحمك اللَّه، إن عندنا خبرا، فإن شئت حَدَّثَنَا علانية، وإن شئت سرا، [قَالَ: فنظر إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ: مَا دون هَؤُلاءِ سر،] فقلنا لَهُ: أرأيت الراكب الَّذِي استقبلك عشاء أمس؟ قَالَ: نعم، وَقَدْ أردت مسألته، فقلنا: قَدِ استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وَهُوَ امرؤ من أسد منا، ذو رأي وصدق، وفضل وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حَتَّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وحتى رآهما يجران فِي السوق بأرجلهما، [فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! رحمة اللَّه عليهما، فردد ذَلِكَ مرارا،] فقلنا: ننشدك اللَّه فِي نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هَذَا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر وَلا شيعة، بل نتخوف أن تكون عَلَيْك! قَالَ: فوثب عِنْدَ ذَلِكَ بنو عقيل بن أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ، عن زَيْد بن عَلِيّ بن حُسَيْن، وعن دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، أن بني عقيل قَالُوا: لا وَاللَّهِ لا نبرح حَتَّى ندرك ثأرنا، أو نذوق مَا ذاق أخونا

(5/397)


قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، [عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، قالا: فنظر إلينا الْحُسَيْن فَقَالَ: لا خير فِي العيش بعد هَؤُلاءِ،] قَالا: فعلمنا أنه قَدْ عزم لَهُ رأيه عَلَى المسير، قَالا: فقلنا: خار اللَّه لك! قَالا: فَقَالَ: رحمكما اللَّه! قَالا:
فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه: إنك وَاللَّهِ مَا أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الْكُوفَة لكان الناس إليك أسرع، [قَالَ الأسديان: ثُمَّ انتظر حَتَّى إذا كَانَ السحر قَالَ لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا، ثُمَّ ارتحلوا وساروا حَتَّى انتهوا إِلَى زبالة] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو علي الأَنْصَارِيّ، عن بكر بن مصعب المزني، قَالَ: كَانَ الْحُسَيْن لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إِلَى زبالة سقط إِلَيْهِ مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عَبْد اللَّهِ بن بقطر، وَكَانَ سرحه إِلَى مسلم بن عقيل من الطريق وَهُوَ لا يدري أنه قَدْ أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن تميم بالقادسية، فسرح بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب، ثُمَّ انزل حَتَّى أَرَى فيك رأيي! قَالَ: فصعد، فلما أشرف عَلَى الناس قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني رسول الْحُسَيْن ابن فاطمه بنت رسول الله ص لتنصروه وتوازروه عَلَى ابن مرجانة ابن سمية الدعي فأمر بِهِ عُبَيْد اللَّهِ فألقي من فوق القصر إِلَى الأرض، فكسرت عظامه، وبقي بِهِ رمق، فأتاه رجل يقال لَهُ عَبْد الْمَلِكِ بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ: إنما أردت أن أريحه.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بن عَيَّاش عمن أخبره، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ عَبْد الْمَلِكِ بن عمير الَّذِي قام إِلَيْهِ فذبحه، ولكنه قام إِلَيْهِ رجل جعد طوال يشبه عَبْد الْمَلِكِ بن عمير قَالَ: فأتى ذَلِكَ الخبر حسينا وَهُوَ بزبالة، فأخرج لِلنَّاسِ كتابا، فقرأ عَلَيْهِم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ أتانا خبر فظيع، قتل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة وعبد اللَّه بن بقطر، وَقَدْ خذلتنا شيعتنا، فمن

(5/398)


أحب مِنْكُمُ الانصراف فلينصرف، ليس عَلَيْهِ منا ذمام.
قَالَ: فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا وشمالا حَتَّى بقي فِي أَصْحَابه الَّذِينَ جاءوا مَعَهُ من الْمَدِينَة، وإنما فعل ذَلِكَ لأنه ظن أنما اتبعه الأعراب، لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قَدِ استقامت لَهُ طاعة أهله، فكره أن يسيروا مَعَهُ إلا وهم يعلمون علام يقدمون، وَقَدْ علم أَنَّهُمْ إذا بين لَهُمْ لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت مَعَهُ قَالَ: فلما كَانَ من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا، ثُمَّ سار حَتَّى مر ببطن العقبة، فنزل بِهَا قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي لوذان أحد بني عِكْرِمَة إن أحد عمومته سأل الحسين ع أين تريد؟ فحدثه، فَقَالَ لَهُ: إني أنشدك الله لما انصرفت، فو الله لا تقدم إلا عَلَى الأسنة وحد السيوف، فإن هَؤُلاءِ الَّذِينَ بعثوا إليك لو كَانُوا كفوك مؤنة القتال، ووطئوا لك الأشياء فقدمت عَلَيْهِم كَانَ ذَلِكَ رأيا، فأما عَلَى هَذِهِ الحال الَّتِي تذكرها فإني لا أَرَى لَكَ أن تفعل.
قَالَ: [فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْد اللَّهِ، إنه ليس يخفى علي، الرأي مَا رأيت، ولكن اللَّه لا يغلب عَلَى أمره، ثُمَّ ارتحل منها] .
ونزع يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة عن مكة، وولاها عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، وَذَلِكَ فِي شهر رمضان منها، فحج بِالنَّاسِ عمرو ابن سَعِيد فِي هَذِهِ السنة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وَكَانَ عامله عَلَى مكة والمدينة فِي هَذِهِ السنة بعد ما عزل الْوَلِيد بن عتبة عَمْرو بن سَعِيدٍ، وعلى الْكُوفَة والبصرة وأعمالهما عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة

(5/399)


ثُمَّ دخلت

سنة إحدى وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذَلِكَ

مقتل الْحُسَيْن رضوان اللَّه عَلَيْهِ،
قتل فِيهَا فِي المحرم لعشر خلون مِنْهُ، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت، قَالَ: حَدَّثَنِي محدث، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ وهشام بن الكلبي، وَقَدْ ذكرنا ابتداء أمر الْحُسَيْن فِي مسيره نحو العراق وما كَانَ مِنْهُ فِي سنة ستين، ونذكر الآن مَا كَانَ من أمره فِي سنة إحدى وستين وكيف كَانَ مقتله.
حُدِّثْتُ عَنْ هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا:
اقبل الحسين ع حَتَّى نَزَلَ شِرَافَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ فَاسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا، فَرَسَمُوا صَدْرَ يَوْمِهِمْ حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ [ثُمَّ إِنَّ رَجُلا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ مَا كَبَّرْتَ؟
قَالَ: رَأَيْتُ النَّخْلَ، فَقَالَ لَهُ الأَسَدِيَّانِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ مَا رَأَيْنَا بِهِ نَخْلَةٍ قَطُّ، قَالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رَأَى؟ قُلْنَا: نَرَاهُ رَأَى هَوَادِيَ الْخَيْلِ، فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ أَرَى ذَلِكَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ، نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا، وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ؟] فَقُلْنَا لَهُ: بَلَى، هَذَا ذُو حُسَمَ إِلَى جَنْبِكَ، تَمِيلُ إِلَيْهِ عَنْ يَسَارِكَ، فَإِنْ سَبَقْتَ الْقَوْمَ إِلَيْهِ فهو كما تريد، قالا:
فاخذ اليه ذات اليسار، قالا: وَمِلْنَا مَعَهُ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ طَلَعَتْ عَلَيْنَا هَوَادِيَ الْخَيْلِ، فَتَبَيَّنَّاهَا، وَعُدْنَا، فَلَمَّا رَأَوْنَا وَقَدْ عَدَلْنَا عَنِ الطَّرِيقِ عَدَلُوا إِلَيْنَا كَأَنَّ أَسِنَّتَهُمُ الْيَعَاسِيبُ، وَكَأَنَّ رَايَاتِهِمْ أَجْنَحَةُ الطَّيْرِ، قال: فَاسْتَبَقْنَا إِلَى ذِي حُسَمَ، فَسَبَقْنَاهُمْ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ الْحُسَيْنُ، فَأَمَرَ بِأَبْنِيَتِهِ فَضُرِبَتْ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ فَارِسٍ مَعَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ التَّمِيمِيِّ الْيَرْبُوعِيِّ حَتَّى وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ مُقَابِلَ الْحُسَيْنِ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَالْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ مُعَتَّمُونَ مُتَقَلِّدُو أسيافهم، [فقال

(5/400)


الْحُسَيْنُ لِفِتْيَانِهِ: اسْقُوا الْقَوْمَ وَارْوُوهُمْ مِنَ الْمَاءِ وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا،] فَقَامَ فِتْيَانُهُ فَرَشَّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا، فَقَامَ فِتْيَةٌ وَسَقَوُا الْقَوْمَ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى أَرْوَوْهُمْ، وَأَقْبَلُوا يَمْلَئُونَ الْقِصَاعَ وَالأَتْوَارَ وَالطِّسَاسَ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ يُدْنُونَهَا مِنَ الْفَرَسِ، فَإِذَا عَبَّ فِيهِ ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا عُزِلَتْ عَنْهُ، وَسَقَوْا آخَرَ حَتَّى سَقَوُا الْخَيْلَ كُلَّهَا.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي لقيط، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الطعان المحاربي: كنت مع الحر بن يَزِيدَ، فجئت فِي آخر من جَاءَ من أَصْحَابه، فلما رَأَى الْحُسَيْن مَا بي وبفرسي من العطش قَالَ: أنخ الراوية- والراوية عندي السقاء- ثم قال:
يا بن أخ، أنخ الجمل، فأنخته، فَقَالَ: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فَقَالَ الْحُسَيْن: اخنث السقاء- أي اعطفه- قَالَ:
فجعلت لا أدري كيف أفعل! قَالَ: فقام الْحُسَيْن فخنثه، فشربت وسقيت فرسي قَالَ: وَكَانَ مجيء الحر بن يَزِيدَ ومسيره إِلَى الْحُسَيْن من القادسية، وَذَلِكَ أن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما بلغه اقبال الحسين بعث الحصين ابن تميم التميمي- وَكَانَ عَلَى شرطه- فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم مَا بين القطقطانة إِلَى خفان، وقدم الحر بن يَزِيدَ بين يديه فِي هَذِهِ الألف من القادسية، فيستقبل حسينا قَالَ: فلم يزل موافقا حسينا حَتَّى حضرت الصَّلاة صلاة الظهر، فأمر الْحُسَيْن الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامة خرج الْحُسَيْن فِي إزار ورداء ونعلين، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنها معذرة إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وإليكم، إني لم آتكم حَتَّى أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم: أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل اللَّه يجمعنا بك عَلَى الهدى، فإن كنتم عَلَى ذلك فقد جئتكم، فان تعطونى ما اطمان إِلَيْهِ من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إِلَى المكان الَّذِي أقبلت مِنْهُ إليكم قَالَ: فسكتوا عنه وَقَالُوا للمؤذن: أقم، فأقام الصَّلاة، فقال الحسين ع للحر: أتريد أن تصلي بأَصْحَابك؟ قَالَ: لا، بل

(5/401)


تصلي أنت ونصلي بصلاتك، قَالَ: فصلى بهم الْحُسَيْن، ثُمَّ إنه دخل واجتمع إِلَيْهِ أَصْحَابه، وانصرف الحر إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ بِهِ، فدخل خيمة قَدْ ضربت لَهُ، فاجتمع إِلَيْهِ جماعة من أَصْحَابه، وعاد أَصْحَابه إِلَى صفهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فأعادوه، ثُمَّ أخذ كل رجل مِنْهُمْ بعنان دابته وجلس فِي ظلها، فلما كَانَ وقت العصر أمر الْحُسَيْن أن يتهيئوا للرحيل ثُمَّ إنه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وأقام فاستقدم الْحُسَيْن فصلى بالقوم ثُمَّ سلم، وانصرف إِلَى القوم بوجهه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لِلَّهِ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هَذَا الأمر عَلَيْكُمْ من هَؤُلاءِ المدعين مَا ليس لَهُمْ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وَكَانَ رأيكم غير مَا أتتني كتبكم، وقدمت بِهِ علي رسلكم، انصرفت عنكم، فَقَالَ لَهُ الحر بن يَزِيدَ: إنا وَاللَّهِ مَا ندري مَا هَذِهِ الكتب الَّتِي تذكر! فَقَالَ الْحُسَيْن: يَا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صحفا، فنشرها بين أيديهم، فَقَالَ الحر: فإنا لسنا من هَؤُلاءِ الَّذِينَ كتبوا إليك، وَقَدْ أمرنا إذا نحن لقيناك الا نفارقك حَتَّى نقدمك عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: الموت أدنى إليك من ذَلِكَ،] ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: قوموا فاركبوا، فركبوا وانتظروا حَتَّى ركبت نساؤهم، فَقَالَ لأَصْحَابه: انصرفوا بنا، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فَقَالَ الْحُسَيْن للحر:
ثكلتك أمك! مَا تريد؟ قَالَ: أما وَاللَّهِ لو غيرك من العرب يقولها لي وَهُوَ عَلَى مثل الحال الَّتِي أنت عَلَيْهَا مَا تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كَانَ، ولكن وَاللَّهِ مَا لي إِلَى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن مَا يقدر عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: فما تريد؟ قَالَ الحر: أريد وَاللَّهِ أن أنطلق بك إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: إذن وَاللَّهِ لا أتبعك، فَقَالَ لَهُ الحر:
إذن وَاللَّهِ لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات، ولما كثر الكلام بينهما قَالَ لَهُ الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت الا أفارقك حَتَّى أقدمك الْكُوفَة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الْكُوفَة، وَلا تردك إِلَى المدينة،

(5/402)


تكون بيني وبينك نصفا حَتَّى أكتب إِلَى ابن زياد، وتكتب أنت الى يزيد ابن مُعَاوِيَة إن أردت أن تكتب إِلَيْهِ، أو إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إن شئت، فلعل اللَّه إِلَى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فِيهِ العافية من أن أبتلى بشيء من امرك، قال: فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا ثُمَّ إن الْحُسَيْن سار فِي أَصْحَابه والحر يسايره.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ، إِنَّ الْحُسَيْنَ خَطَبَ أَصْحَابَهُ وَأَصْحَابَ الْحَرِّ بِالْبَيْضَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، ان رسول الله ص قَالَ: [مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلا لِحَرَمِ اللَّهِ، نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ الله، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلا قَوْلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلَهُ] أَلا وَإِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ من غير، قَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلِيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ، أَنَّكُمْ لا تُسْلِمُونِي وَلا تَخْذَلُونِي، فَإِنْ تَمَمْتُمْ عَلَى بَيْعَتِكُمْ تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ، فَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ على، وابن فاطمه بنت رسول الله ص، نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِيكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، فَلَعَمْرِي مَا هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ، وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ أَخْطَأْتُمْ، وَنَصِيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
وَقَالَ عقبة بن أبي العيزار: قام حسين ع بذي حسم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنه قَدْ نزل من الأمر مَا قَدْ ترون، وإن الدُّنْيَا قَدْ تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت جدا، فلم يبق منها الا صبابه

(5/403)


كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل أَلا ترون أن الحق لا يعمل بِهِ، وأن الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن فِي لقاء اللَّه محقا، [فإني لا أَرَى الموت إلا شهادة، وَلا الحياة مع الظالمين إلا برما] .
قَالَ: فقام زهير بن القين البجلي فَقَالَ لأَصْحَابه: تكلمون أم أتكلم؟ قَالُوا: لا، بل تكلم، فَحَمِدَ اللَّهَ فأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قال: قد سمعنا هداك الله يا بن رَسُول اللَّهِ مقالتك، وَاللَّهِ لو كَانَتِ الدُّنْيَا لنا باقية، وكنا فِيهَا مخلدين، إلا أن فراقها فِي نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك عَلَى الإقامة فِيهَا.
قَالَ: فدعا لَهُ الْحُسَيْن ثُمَّ قَالَ لَهُ خيرا، وأقبل الحر يسايره وَهُوَ يقول لَهُ:
يَا حُسَيْن، إني أذكرك اللَّه فِي نفسك، فإني أشهد لَئِنْ قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فِيمَا أَرَى، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: أفبالموت تخوفني! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! مَا أدري مَا أقول لك! ولكن أقول كما قَالَ أخو الأوس لابن عمه، ولقيه وَهُوَ يريد نصرة رَسُول الله ص، فَقَالَ لَهُ:
أين تذهب؟ فإنك مقتول، فَقَالَ:
سأمضي وما بالموت عار عَلَى الفتى ... إذا مَا نوى حقا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا يغش ويرغما
] قَالَ: فلما سمع ذَلِكَ مِنْهُ الحر تنحى عنه، وَكَانَ يسير بأَصْحَابه فِي ناحية وحسين فِي ناحية أخرى، حَتَّى انتهوا إِلَى عذيب الهجانات، وَكَانَ بِهَا هجائن النُّعْمَان ترعى هنالك، فإذا هم بأربعة نفر قَدْ أقبلوا من الْكُوفَة عَلَى رواحلهم، يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال لَهُ الكامل، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي عَلَى فرسه، وَهُوَ يقول:

(5/404)


يَا ناقتي لا تذعري من زجري ... وشمري قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفر ... حَتَّى تحلي بكريم النجر
الماجد الحر رحيب الصدر ... أتى بِهِ اللَّه لخير أمر
ثمت أبقاه بقاء الدهر.
قَالَ: فلما انتهوا إِلَى الْحُسَيْن أنشدوه هَذِهِ الأبيات، [فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إني لأرجو أن يكون خيرا مَا أراد اللَّه بنا، قتلنا أم ظفرنا،] قَالَ: وأقبل إِلَيْهِم الحر بن يَزِيدَ فَقَالَ: إن هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ من أهل الْكُوفَة ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لأمنعنهم مما أمنع مِنْهُ نفسي، إنما هَؤُلاءِ أنصاري وأعواني، وَقَدْ كنت أعطيتني الا تعرض لي بشيء حَتَّى يأتيك كتاب من ابن زياد، فَقَالَ: أجل، لكن لم يأتوا معك، قَالَ: هم أَصْحَابي، وهم بمنزلة من جَاءَ معي، فإن تممت عَلَى مَا كَانَ بيني وبينك وإلا ناجزتك، قَالَ: فكف عَنْهُمُ الحر، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُمُ الْحُسَيْن:
أخبروني خبر الناس وراءكم، فَقَالَ لَهُ مجمع بن عَبْدِ اللَّهِ العائذي، وَهُوَ أحد النفر الأربعة الَّذِينَ جاءوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص بِهِ نصيحتهم، فهم ألب واحد عَلَيْك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عَلَيْك، قَالَ: أخبروني، فهل لكم برسولي إليكم؟ قَالُوا: من هُوَ؟ قَالَ: قيس بن مسهر الصيداوي، فَقَالُوا: نعم، أخذه الحصين ابن تميم فبعث بِهِ إِلَى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عَلَيْك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إِلَى نصرتك، وأخبرهم بقدومك، فأمر بِهِ ابن زياد فألقي من طمار القصر، [فترقرقت عينا حسين ع ولم يملك دمعه، ثم قال: «مِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» اللَّهُمَّ اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، وأجمع بيننا وبينهم فِي مستقر من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك!]

(5/405)


قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي جميل بن مرثد من بنى معن، عن الطرماح ابن عدي، أنه دنا من الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إني لأنظر فما أَرَى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أراهم ملازميك لكان كفي بهم، وَقَدْ رأيت قبل خروجي من الْكُوفَة إليك بيوم ظهر الْكُوفَة وفيه مِنَ النَّاسِ مَا لم تر عيناي فِي صعيد واحد جمعا أكثر مِنْهُ، فسألت عَنْهُمْ، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثُمَّ يسرحون إِلَى الْحُسَيْن، فأنشدك الله ان قدرت على الا تقدم عَلَيْهِم شبرا إلا فعلت! فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك اللَّه بِهِ حَتَّى ترى من رأيك، ويستبين لك مَا أنت صانع، فسر حَتَّى أنزلك مناع جبلنا الَّذِي يدعى أجأ، امتنعنا وَاللَّهِ بِهِ من ملوك غسان وحمير ومن النُّعْمَان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، وَاللَّهِ إن دخل علينا ذل قط، فأسير معك حَتَّى أنزلك القرية، ثُمَّ نبعث إِلَى الرجال ممن بأجأ وَسَلمَى من طيّئ، فو الله لا ياتى عليك عشره ايام حتى تأتيك طيئ رجالا وركبانا، ثُمَّ أقم فينا مَا بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، وَاللَّهِ لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف، [فَقَالَ لَهُ:
جزاك اللَّه وقومك خيرا! إنه قَدْ كَانَ بيننا وبين هَؤُلاءِ القوم قول لسنا نقدر مَعَهُ عَلَى الانصراف، وَلا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور فِي عاقبه!] قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي جميل بن مرثد، قال: حدثنى الطرماح ابن عدي، قَالَ: فودعته وقلت لَهُ: دفع اللَّه عنك شر الجن والإنس، إني قَدِ امترت لأهلي من الْكُوفَة ميرة، ومعي نفقة لَهُمْ، فآتيهم فأضع ذَلِكَ فِيهِمْ، ثُمَّ أقبل إليك ان شاء الله، فان الحقك فو الله لأكونن من أنصارك، قَالَ: فإن كنت فاعلا فعجل رحمك اللَّه، قَالَ: فعلمت أنه مستوحش إِلَى الرجال حَتَّى يسألني التعجيل، قَالَ: فلما بلغت أهلي وضعت عندهم مَا يصلحهم، وأوصيت، فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرتك هَذِهِ شَيْئًا مَا كنت

(5/406)


تصنعه قبل الْيَوْم، فأخبرتهم بِمَا أريد، وأقبلت فِي طريق بني ثعل حَتَّى إذا دنوت من عذيب الهجانات، استقبلني سماعة بن بدر، فنعاه الى، فرجعت، قال: ومضى الحسين ع حَتَّى انتهى إِلَى قصر بني مقاتل، فنزل بِهِ، فإذا هُوَ بفسطاط مضروب.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أن الْحُسَيْن بْن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لمن هَذَا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله ابن الحر الجعفي، قَالَ: ادعوه لي، وبعث إِلَيْهِ، فلما أتاه الرسول، قَالَ:
هَذَا الْحُسَيْن بن علي يدعوك، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن الحر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وَاللَّهِ مَا خرجت من الْكُوفَة إلا كراهة أن يدخلها الْحُسَيْن وأنا بِهَا، وَاللَّهِ مَا أريد أن أراه وَلا يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فأخذ الْحُسَيْن نعليه فانتعل، ثُمَّ قام فجاءه حَتَّى دخل عَلَيْهِ، فسلم وجلس، ثُمَّ دعاه إِلَى الخروج مَعَهُ، فأعاد إِلَيْهِ ابن الحر تِلَكَ المقاله، [فقال: فالا تنصرنا فاتق اللَّه أن تكون ممن يقاتلنا، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثُمَّ لا ينصرنا إلا هلك،] قَالَ: أما هَذَا فلا يكون أبدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قام الْحُسَيْن ع من عنده حَتَّى دخل رحله.
قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قَالَ: لما كَانَ فِي آخر الليل أمر الْحُسَيْن بالاستقاء من الماء، ثُمَّ أمرنا بالرحيل، ففعلنا، قَالَ: فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الْحُسَيْن برأسه خفقة ثُمَّ انتبه وَهُوَ يقول: إنا لِلَّهِ وإنا إِلَيْهِ راجعون والحمد لِلَّهِ رب العالمين، قَالَ: ففعل ذَلِكَ مرتين أو ثلاثا، قَالَ: فأقبل إِلَيْهِ ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن عَلَى فرس لَهُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، والحمد لِلَّهِ رب العالمين، يَا أبت، جعلت فداك! مم حمدت اللَّه واسترجعت؟ قَالَ: يَا بني، إني خفقت برأسي خفقة فعن لي فارس عَلَى فرس فَقَالَ: القوم يسيرون والمنايا تسري إِلَيْهِم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، قَالَ لَهُ: يَا أبت،

(5/407)


لا أراك اللَّه سوءا، ألسنا عَلَى الحق! [قَالَ: بلى والذي إِلَيْهِ مرجع العباد، قَالَ: يَا أبت، إذا لا نبالي، نموت محقين، فَقَالَ لَهُ: جزاك اللَّه من ولد خير مَا جزى ولدا عن والده،] قَالَ: فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثُمَّ عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأَصْحَابه يريد أن يفرقهم، فيأتيه الحر بن يَزِيدَ فيردهم فيرده، فجعل إذا ردهم إِلَى الْكُوفَةِ ردا شديدا امتنعوا عَلَيْهِ فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون حَتَّى انتهوا إِلَى نينوى، المكان الَّذِي نزل بِهِ الْحُسَيْن، قَالَ: فإذا راكب عَلَى نجيب لَهُ وعليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الْكُوفَة، فوقفوا جميعا ينتظرونه، فلما انتهى إِلَيْهِم سلم عَلَى الحر بن يَزِيدَ وأَصْحَابه، ولم يسلم عَلَى الْحُسَيْن ع وأَصْحَابه، فدفع إِلَى الحر كتابا من عُبَيْد الله ابن زياد فإذا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عَلَيْك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء فِي غير حصن وعلى غير ماء، وَقَدْ أمرت رسولي أن يلزمك وَلا يفارقك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.
قَالَ: فلما قرأ الكتاب قَالَ لَهُمُ الحر: هَذَا كتاب الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد يأمرني فِيهِ أن أجعجع بكم فِي المكان الَّذِي يأتيني فِيهِ كتابه، وهذا رسوله، وَقَدْ امره الا يفارقني حَتَّى أنفذ رأيه وأمره، فنظر إِلَى رسول عبيد الله يزيد ابن زياد بن المهاصر أَبُو الشعثاء الكندي ثُمَّ البهدلي فعن لَهُ، فَقَالَ:
أمالك بن النسير البدي؟ قَالَ: نعم- وَكَانَ أحد كندة- فَقَالَ له يزيد ابن زياد: ثكلتك أمك! ماذا جئت فِيهِ؟ قَالَ: وما جئت فِيهِ! أطعت إمامي، ووفيت ببيعتي، فَقَالَ لَهُ أَبُو الشعثاء: عصيت ربك، وأطعت إمامك فِي هلاك نفسك، كسبت العار والنار، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ:
«وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» ، فهو إمامك قَالَ: وأخذ الحر بن يَزِيدَ القوم بالنزول فِي ذَلِكَ المكان عَلَى غير ماء وَلا فِي قرية، فَقَالُوا: دعنا ننزل فِي هَذِهِ القرية، يعنون نينوى-

(5/408)


أو هَذِهِ القرية- يعنون الغاضرية- أو هَذِهِ الاخرى- يعنون شفيه.
فَقَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أستطيع ذَلِكَ، هَذَا رجل قَدْ بعث إلي عينا، فَقَالَ لَهُ زهير بن القين: يا بن رَسُول اللَّهِ، إن قتال هَؤُلاءِ أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى مَا لا قبل لنا بِهِ، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: مَا كنت لأبدأهم بالقتال،] فَقَالَ لَهُ زهير بن القين: سر بنا الى هذه القرية حتى تنزلها فإنها حصينة، وَهِيَ عَلَى شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: وأية قرية هي؟ قَالَ: هي العقر، فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من العقر، ثُمَّ نزل، وَذَلِكَ يوم الخميس، وَهُوَ الْيَوْم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين فلما كَانَ من الغد قدم عَلَيْهِم عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص من الْكُوفَة فِي أربعة آلاف قَالَ: وَكَانَ سبب خروج ابن سعد الى الحسين ع أن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعثه عَلَى أربعة آلاف من أهل الْكُوفَة يسير بهم إِلَى دَسْتَبَى، وكانت الديلم قَدْ خرجوا إِلَيْهَا وغلبوا عَلَيْهَا، فكتب إِلَيْهِ ابن زياد عهده عَلَى الري، وأمره بالخروج.
فخرج معسكرا بِالنَّاسِ بحمام أعين، فلما كَانَ من أمر الْحُسَيْن مَا كَانَ وأقبل إِلَى الْكُوفَةِ دعا ابن زياد عُمَر بن سَعْدٍ، فَقَالَ: سر إِلَى الْحُسَيْن، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إِلَى عملك، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: إن رأيت رحمك اللَّه أن تعفيني فافعل، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّهِ: نعم، عَلَى أن ترد لنا عهدنا، قَالَ:
فلما قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ عُمَر بن سَعْد: أمهلني الْيَوْم حتى انظر، قال: فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحدا إلا نهاه، قَالَ: وجاء حمزه ابن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ- وَهُوَ ابن أخته- فَقَالَ: أنشدك اللَّه يَا خال أن تسير إِلَى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك! فو الله لان تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كَانَ لك، خير لك من أن تلقى اللَّه بدم الْحُسَيْن! فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: فإني أفعل إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة بن الحكم، عن عمار بن عَبْدِ اللَّهِ بن يسار

(5/409)


الجهني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دخلت عَلَى عُمَر بن سَعْد، وَقَدْ أمر بالمسير إِلَى الْحُسَيْن، فَقَالَ لي: إن الأمير أمرني بالمسير إِلَى الْحُسَيْن، فأبيت ذَلِكَ عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: أصاب اللَّه بك، أرشدك اللَّه، أحل فلا تفعل وَلا تسر إِلَيْهِ.
قَالَ: فخرجت من عنده، فأتاني آت وَقَالَ: هَذَا عُمَر بن سَعْد يندب الناس إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ: فأتيته فإذا هُوَ جالس، فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قَدْ عزم عَلَى المسير إِلَيْهِ، فخرجت من عنده، قال: فاقبل عمر ابن سَعْد إِلَى ابن زياد فَقَالَ: أصلحك اللَّه! إنك وليتني هَذَا العمل، وكتبت لي العهد، وسمع بِهِ الناس، فإن رأيت أن تنفذ لي ذَلِكَ فافعل وابعث إِلَى الْحُسَيْن فِي هَذَا الجيش من أشراف الْكُوفَة من لست بأغنى وَلا أجزأ عنك فِي الحرب مِنْهُ، فسمى لَهُ أناسا، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: لا تعلمني بأشراف أهل الْكُوفَة، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث إن سرت بجندنا، وإلا فابعث إلينا بعهدنا، فلما رآه قَدْ لج قَالَ: فإني سائر، قَالَ: فأقبل فِي أربعة آلاف حَتَّى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الْحُسَيْن نينوى.
قَالَ: فبعث عمر بن سعد الى الحسين ع عزره بن قيس الأحمسي، فَقَالَ: ائته فسله مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟ وماذا يريد؟ وَكَانَ عزرة ممن كتب إِلَى الْحُسَيْن فاستحيا مِنْهُ أن يأتيه قَالَ: فعرض ذَلِكَ عَلَى الرؤساء الَّذِينَ كاتبوه، فكلهم أبى وكرهه قَالَ: وقام إِلَيْهِ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ- وَكَانَ فارسا شجاعا ليس يرد وجهه شَيْء- فَقَالَ: أنا أذهب إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ شئت لأفتكن بِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: مَا أريد أن يفتك بِهِ، ولكن ائته فسله مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟ قَالَ: فأقبل إِلَيْهِ، فلما رآه أَبُو ثمامة الصائدي قَالَ للحسين:
أصلحك اللَّه أبا عَبْد اللَّهِ! قَدْ جاءك شر أهل الأرض وأجرؤه عَلَى دم وأفتكه، فقام إِلَيْهِ، فَقَالَ: ضع سيفك، قَالَ: لا وَاللَّهِ وَلا كرامة، إنما أنا رسول، فإن سمعتم مني أبلغتكم مَا أرسلت بِهِ إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم، فَقَالَ لَهُ: فإني آخذ بقائم سيفك، ثُمَّ تكلم بحاجتك، قَالَ: لا وَاللَّهِ، لا تمسه فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي مَا جئت بِهِ وأنا أبلغه عنك، وَلا أدعك تدنو مِنْهُ، فإنك فاجر، قَالَ: فاستبا، ثُمَّ انصرف إِلَى عُمَر بن سَعْد فأخبره الخبر، قَالَ:

(5/410)


فدعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فَقَالَ لَهُ: ويحك يَا قرة! الق حسينا فسله مَا جَاءَ بِهِ؟ وماذا يريد؟ قَالَ: فأتاه قرة بن قيس، فلما رآه الْحُسَيْن مقبلا قَالَ: أتعرفون هَذَا؟ فَقَالَ حبيب بن مظاهر: نعم، هَذَا رجل من حنظلة تميمي، وَهُوَ ابن أختنا، وَلَقَدْ كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هَذَا المشهد، قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى سلم عَلَى الْحُسَيْن، وأبلغه رساله عمر بن سعد اليه له، [فقال الْحُسَيْن: كتب إلي أهل مصركم هَذَا إن اقدم، فاما إذ كرهوني فأنا أنصرف عَنْهُمْ،] قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: ويحك يَا قرة ابن قيس! أنى ترجع إِلَى القوم الظالمين! انصر هَذَا الرجل الَّذِي بآبائه أيدك اللَّه بالكرامة وإيانا معك، فَقَالَ لَهُ قرة: ارجع إِلَى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيي، قَالَ: فانصرف إِلَى عُمَر بن سَعْد فأخبره الخبر، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: إني لأرجو أن يعافيني اللَّه من حربه وقتاله.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي النضر بن صالح بن حبيب ابن زهير العبسي، عن حسان بن فائد بن بكير العبسي، قَالَ: أشهد أن كتاب عُمَر بن سَعْد جَاءَ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأنا عنده فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فإني حَيْثُ نزلت بالحسين بعثت إِلَيْهِ رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فَقَالَ: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني به رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فاما إذ كرهوني فبدا لَهُمْ غير مَا أتتني بِهِ رسلهم فأنا منصرف عَنْهُمْ، فلما قرئ الكتاب عَلَى ابن زياد قَالَ:
الآن إذ علقت مخالبنا بِهِ ... يرجو النجاة ولات حين مناص!
قَالَ: وكتب إِلَى عُمَر بن سَعْد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك، وفهمت مَا ذكرت، فاعرض عَلَى الْحُسَيْن أن يبايع ليزيد بن مُعَاوِيَة هُوَ وجميع أَصْحَابه، فإذا فعل ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا، والسلام

(5/411)


قَالَ: فلما أتى عُمَر بن سَعْد الكتاب، قال: قد حسبت الا يقبل ابن زياد العافية.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: جَاءَ من عُبَيْد اللَّهِ بن زياد كتاب إِلَى عُمَر بن سَعْد: أَمَّا بَعْدُ، فحل بين الْحُسَيْن وأَصْحَابه وبين الماء، وَلا يذوقوا مِنْهُ قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ قَالَ: فبعث عُمَر بن سَعْد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا عَلَى الشريعة، وحالوا بين حُسَيْن وأَصْحَابه وبين الماء أن يسقوا مِنْهُ قطرة، وَذَلِكَ قبل قتل الْحُسَيْن بثلاث.
قَالَ: ونازله عَبْد اللَّهِ بن أبي حصين الأَزْدِيّ- وعداده فِي بجيلة- فَقَالَ:
يَا حُسَيْن، أَلا تنظر إِلَى الماء كأنه كبد السماء! وَاللَّهِ لا تذوق مِنْهُ قطرة حَتَّى تموت عطشا، فَقَالَ حُسَيْن: اللَّهُمَّ اقتله عطشا، وَلا تغفر لَهُ أبدا.
قَالَ حميد بن مسلم: وَاللَّهِ لعدته بعد ذلك في مرضه، فو الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ لقد رأيته يشرب حَتَّى بغر، ثُمَّ يقيء، ثُمَّ يعود فيشرب حَتَّى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دابه حتى لفظ عصبه يعني نفسه- قَالَ: ولما اشتد عَلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه العطش دعا العباس بن عَلِيّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه فِي ثَلاثِينَ فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حَتَّى دنوا من الماء ليلا واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الْجَمَلِيّ، فَقَالَ عَمْرو بن الحجاج الزبيدى: من الرجل؟ فجيء فقال: مَا جَاءَ بك؟ قَالَ: جئنا نشرب من هَذَا الماء الَّذِي حلأتمونا عنه، قَالَ: فاشرب هنيئا، قَالَ: لا وَاللَّهِ، لا أشرب مِنْهُ قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أَصْحَابه، فطلعوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: لا سبيل إِلَى سقي هَؤُلاءِ، إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء، فلما دنا مِنْهُ أَصْحَابه قَالَ لرجاله: املئوا قربكم، فشد الرجالة فملئوا قربهم، وثار إِلَيْهِم عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه، فحمل عَلَيْهِم العباس بن علي ونافع بن هلال فكفوهم، ثُمَّ انصرفوا إِلَى رحالهم، فَقَالُوا: امضوا، ووقفوا دونهم، فعطف

(5/412)


عَلَيْهِم عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه واطردوا قليلا ثُمَّ إن رجلا من صداء طعن من أَصْحَاب عَمْرو بن الحجاج، طعنه نافع بن هلال، فظن أنها ليست بشيء، ثُمَّ إنها انتقضت بعد ذَلِكَ، فمات منها، وجاء أَصْحَاب حُسَيْن بالقرب فأدخلوها عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب، عن هانئ بن ثبيت الحضرمي- وَكَانَ قَدْ شهد قتل الْحُسَيْن، قَالَ: بعث الحسين ع إِلَى عُمَر بن سَعْد عَمْرو بن قرظة بن كعب الأنصاري: ان القنى الليل بين عسكري وعسكرك.
قَالَ: فخرج عُمَر بن سَعْد فِي نحو من عشرين فارسا، وأقبل حُسَيْن فِي مثل ذَلِكَ، فلما التقوا أمر حُسَيْن أَصْحَابه أن يتنحوا عنه، وأمر عُمَر بن سَعْد أَصْحَابه بمثل ذَلِكَ، قَالَ: فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما وَلا كلامهما، فتكلما فأطالا حَتَّى ذهب من الليل هزيع، ثُمَّ انصرف كل واحد منهما إِلَى عسكره بأَصْحَابه، وتحدث الناس فِيمَا بينهما، ظنا يظنونه أن حسينا قَالَ لعمر بن سَعْد: اخرج معي إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة وندع العسكرين، قَالَ عمر: إذن تهدم داري، قَالَ: أنا أبنيها لك، قَالَ: إذن تؤخذ ضياعي، قَالَ: إذن أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز قَالَ: فتكره ذَلِكَ عمر، قَالَ: فتحدث الناس بِذَلِكَ، وشاع فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أن يكونوا سمعوا من ذَلِكَ شَيْئًا وَلا علموه.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْمُجَالِدُ بن سَعِيدٍ والصقعب بن زهير الأَزْدِيّ وغيرهما من المحدثين، فهو مَا عَلَيْهِ جماعة المحدثين، قَالُوا: إنه قَالَ:
اختاروا مني خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إِلَى المكان الَّذِي أقبلت مِنْهُ، وإما أن أضع يدي فِي يد يَزِيد بن مُعَاوِيَة فيرى فِيمَا بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروني إِلَى أي ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ شئتم، فأكون رجلا من أهله، لي مَا لَهُمْ وعلي مَا عَلَيْهِم.
قَالَ أَبُو مخنف: فأما عبد الرَّحْمَن بن جندب فَحَدَّثَنِي عن عقبة بن سمعان قَالَ: صحبت حسينا فخرجت مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مكة، ومن مكة إِلَى

(5/413)


العراق، ولم أفارقه حَتَّى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بِالْمَدِينَةِ وَلا بمكة وَلا فِي الطريق وَلا بِالْعِرَاقِ وَلا فِي عسكر إِلَى يوم مقتله إلا وَقَدْ سمعتها أَلا وَاللَّهِ مَا أعطاهم مَا يتذاكر الناس وما يزعمون، من أن يضع يده فِي يد يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَلا أن يسيروه إِلَى ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ، ولكنه قَالَ: دعوني فلأذهب فِي هَذِهِ الأرض العريضة حَتَّى ننظر مَا يصير أمر الناس.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيد الهمداني والصقعب بن زهير، أنهما كانا التقيا مرارا ثلاثا أو أربعا، حُسَيْن وعمر بن سَعْدٍ، قَالَ: فكتب عمر ابن سَعْد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هَذَا حُسَيْن قَدْ أعطاني أن يرجع إِلَى المكان الَّذِي مِنْهُ أتى، أو أن نسيره إِلَى أي ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ شئنا، فيكون رجلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ، وعليه مَا عَلَيْهِم، أو أن يأتي يَزِيد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فيضع يده فِي يده، فيرى فِيمَا بينه وبينه رأيه، وفي هَذَا لكم رضا، وللأمة صلاح قَالَ: فلما قرأ عُبَيْد اللَّهِ الكتاب قَالَ: هَذَا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق عَلَى قومه، نعم قَدْ قبلت قَالَ: فقام إِلَيْهِ شمر بن ذي الجوشن، فَقَالَ: أتقبل هَذَا مِنْهُ وَقَدْ نزل بأرضك إِلَى جنبك! وَاللَّهِ لَئِنْ رحل من بلدك، ولم يضع يده فِي يدك، ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هَذِهِ المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل عَلَى حكمك هُوَ وأَصْحَابه، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كَانَ ذَلِكَ لك، وَاللَّهِ لقد بلغني أن حسينا وعمر بن سَعْد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: نعم مَا رأيت! الرأي رأيك.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ:
ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فَقَالَ لَهُ: اخرج بهذا الكتاب إِلَى عُمَر بن سَعْد فليعرض عَلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه النزول عَلَى حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع لَهُ وأطع، وإن هُوَ أبى فقاتلهم، فأنت أَمِير الناس، وثب عَلَيْهِ فاضرب عنقه، وابعث إلي برأسه

(5/414)


قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، قال: ثم كتب عبيد الله ابن زياد إِلَى عُمَر بن سَعْد: أَمَّا بَعْدُ، فإني لم أبعثك إِلَى حُسَيْن لتكف عنه وَلا لتطاوله، وَلا لتمنيه السلامة والبقاء، وَلا لتقعد لَهُ عندي شافعا انظر، فإن نزل حُسَيْن وأَصْحَابه عَلَى الحكم واستسلموا، فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إِلَيْهِم حَتَّى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حُسَيْن فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم، وليس دهري فِي هَذَا أن يضر بعد الموت شَيْئًا، ولكن علي قول لو قَدْ قتلته فعلت هَذَا بِهِ إن أنت مضيت لأمرنا فِيهِ جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قَدْ أمرناه بأمرنا، والسلام قَالَ أَبُو مخنف: عن الْحَارِث بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك العامري، قَالَ: لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هُوَ وعبد اللَّه بن أبي المحل- وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عِنْدَ على بن ابى طالب ع، فولدت لَهُ العباس وعبد اللَّه وجعفرا وعثمان- فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن أبي المحل بن حزام بن خَالِد بن رَبِيعَة بن الوحيد بن كعب بن عَامِر بن كلاب:
أصلح اللَّه الأمير! إن بني أختنا مع الْحُسَيْن، فإن رأيت أن تكتب لَهُمْ أمانا فعلت، قَالَ: نعم ونعمة عين فأمر كاتبه، فكتب لَهُمْ أمانا، فبعث بِهِ عَبْد اللَّهِ بن أبي المحل مع مولى لَهُ يقال لَهُ: كزمان، فلما قدم عَلَيْهِم دعاهم، فَقَالَ: هَذَا أمان بعث بِهِ خالكم، فَقَالَ لَهُ الفتية: أقرئ خالنا السلام، وقل له: أن لا حاجة لنا فِي أمانكم، أمان اللَّه خير من أمان ابن سمية قَالَ: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الى عمر ابن سَعْد، فلما قدم بِهِ عَلَيْهِ فقرأه قَالَ لَهُ عمر: مَا لك ويلك! لا قرب اللَّه دارك، وقبح اللَّه مَا قدمت بِهِ علي! وَاللَّهِ إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل مَا كتبت بِهِ إِلَيْهِ، أفسدت علينا أمرا كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم وَاللَّهِ حُسَيْن، إن نفسا أبية لبين جنبيه، فَقَالَ لَهُ شمر: أَخْبِرْنِي مَا أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند

(5/415)


والعسكر، قَالَ: لا وَلا كرامة لك، وأنا أتولى ذَلِكَ، قَالَ: فدونك، وكن أنت عَلَى الرجال، قَالَ: فنهض إِلَيْهِ عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، قَالَ: وجاء شمر حَتَّى وقف عَلَى أَصْحَاب الْحُسَيْن، فَقَالَ: أين بنو أختنا؟
فخرج إِلَيْهِ العباس وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا له: مالك وما تريد؟ قَالَ:
أنتم يَا بني أختي آمنون، قَالَ لَهُ الفتية: لعنك اللَّه ولعن أمانك! لَئِنْ كنت خالنا أتؤمننا وابن رَسُول اللَّهِ لا أمان لَهُ! قَالَ: ثُمَّ إن عُمَر بن سَعْد نادى:
يَا خيل اللَّه اركبي وأبشري فركب فِي الناس، ثُمَّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه عَلَى ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها، فَقَالَتْ: يَا أخي، أما تسمع الأصوات قَدِ اقتربت! قَالَ: [فرفع الْحُسَيْن رأسه فَقَالَ: انى رايت رسول الله ص فِي المنام فَقَالَ لي: إنك تروح إلينا، قَالَ] :
فلطمت أخته وجهها وقالت: يَا ويلتا! فَقَالَ: ليس لك الويل يَا أخية، اسكني رحمك الرحمن! وَقَالَ العباس بن علي: يَا أخي، أتاك القوم، قَالَ: فنهض، ثُمَّ قَالَ: يَا عباس، اركب بنفسي أنت يَا أخي حَتَّى تلقاهم فتقول لَهُمْ: مَا لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جَاءَ بهم؟ فأتاهم العباس، فاستقبلهم فِي نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فَقَالَ لَهُمُ العباس: مَا بدا لكم؟ وما تريدون؟ قَالُوا: جَاءَ أمر الأمير بأن نعرض عَلَيْكُمْ أن تنزلوا عَلَى حكمه أو ننازلكم، قَالَ: فلا تعجلوا.
حَتَّى أرجع إِلَى أبي عَبْد اللَّهِ فأعرض عَلَيْهِ مَا ذكرتم، قَالَ: فوقفوا ثُمَّ قَالُوا:
القه فأعلمه ذَلِكَ، ثُمَّ القنا بِمَا يقول، قَالَ: فانصرف العباس راجعا يركض الى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أَصْحَابه يخاطبون القوم، فَقَالَ حبيب ابن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم، فَقَالَ لَهُ زهير: أنت بدأت بهذا، فكن أنت تكلمهم، فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر:
أما وَاللَّهِ لبئس القوم عِنْدَ اللَّه غدا قوم يقدمون عَلَيْهِ قَدْ قتلوا ذرية نبيه عَلَيْهِ السلام وعترته واهل بيته ص وعباد أهل هَذَا المصر المجتهدين بالأسحار، والذاكرين اللَّه كثيرا، فَقَالَ لَهُ عزرة بن قيس: انك لتزكى

(5/416)


نفسك مَا استطعت، فَقَالَ لَهُ زهير: يَا عزرة، إن اللَّه قَدْ زكاها وهداها، فاتق اللَّه يَا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك اللَّه يَا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال عَلَى قتل النفوس الزكية! قَالَ: يَا زهير، مَا كنت عندنا من شيعة أهل هَذَا البيت، إنما كنت عثمانيا، قَالَ: أفلست تستدل بموقفي هَذَا أني مِنْهُمْ! أما وَاللَّهِ مَا كتبت إِلَيْهِ كتابا قط، وَلا أرسلت إِلَيْهِ رسولا قط، وَلا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رايته ذكرت به رسول الله ص ومكانه مِنْهُ، وعرفت مَا يقدم عَلَيْهِ من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون فِي حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظا لما ضيعتم من حق اللَّه وحق رسوله ع قَالَ: وأقبل العباس بن علي يركض حَتَّى انتهى إِلَيْهِم، فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إن أبا عبد الله يسألكم ان تنصرفوا هَذِهِ العشية حَتَّى ينظر فِي هَذَا الأمر، فإن هَذَا أمر لم يجر بينكم وبينه فِيهِ منطق، فإذا أصبحنا التقينا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الَّذِي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بِذَلِكَ أن يردهم عنه تِلَكَ العشية حَتَّى يأمر بأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بِذَلِكَ قَالَ عُمَر بن سَعْد: مَا ترى يَا شمر؟ قَالَ: مَا ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك، قَالَ: قَدْ أردت الا أكون، ثُمَّ أقبل عَلَى الناس فَقَالَ:
ماذا ترون؟ فَقَالَ عَمْرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان اللَّه! وَاللَّهِ لو كَانُوا من الديلم ثُمَّ سألوك هَذِهِ المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إِلَيْهَا، وَقَالَ قيس بن الأشعث: أجبهم إِلَى مَا سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة، فَقَالَ: وَاللَّهِ لو أعلم أن يفعلوا مَا أخرجتهم العشية، قَالَ: وَكَانَ العباس بن علي حين أتى حسينا بِمَا عرض عَلَيْهِ عُمَر بن سَعْدٍ [قَالَ: ارجع إِلَيْهِم، فإن استطعت أن تؤخرهم إِلَى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قَدْ كنت أحب الصَّلاة لَهُ وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار!] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك

(5/417)


العامري، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن قَالَ: أتانا رسول من قبل عُمَر بن سَعْد فقام مثل حَيْثُ يسمع الصوت فَقَالَ: إنا قَدْ أجلناكم إِلَى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم إِلَى أميرنا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم] .
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم الفائشي، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي- بطن من همدان- ان الحسين بن على ع جمع أَصْحَابه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَيْضًا الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، قَالا: جمع الحسين اصحابه بعد ما رجع عُمَر بن سَعْد، وَذَلِكَ عِنْدَ قرب المساء، قَالَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن: فدنوت مِنْهُ لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وَهُوَ يقول لأَصْحَابه: أثني عَلَى اللَّه تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده عَلَى السراء والضراء، اللَّهُمَّ إني أحمدك عَلَى أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا فِي الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين، أَمَّا بَعْدُ، فإني لا أعلم أَصْحَابا أولى وَلا خيرا من أَصْحَابي، وَلا أهل بيت أبر وَلا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللَّه عني جميعا خيرا، أَلا وإني أظن يومنا من هَؤُلاءِ الأعداء غدا، أَلا وإني قَدْ رأيت لكم فانطلقوا جميعا فِي حل، ليس عَلَيْكُمْ مني ذمام، هَذَا ليل قَدْ غشيكم، فاتخذوه جملا] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن عاصم الفائشي- بطن من همدان- عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: قدمت ومالك بن النضر الأرحبي عَلَى الْحُسَيْن، فسلمنا عَلَيْهِ، ثُمَّ جلسنا إِلَيْهِ، فرد علينا، ورحب بنا، وسألنا عما جئنا لَهُ، فقلنا: جئنا لنسلم عَلَيْك، وندعو اللَّه لك بالعافية، ونحدث بك عهدا، ونخبرك خبر الناس، وإنا نحدثك أَنَّهُمْ قَدْ جمعوا عَلَى حربك فر رأيك [فقال الحسين ع: حسبي اللَّه ونعم الوكيل!] قَالَ: فتذممنا وَسَلَّمنا عَلَيْهِ، ودعونا اللَّه لَهُ، قَالَ: فما يمنعكما من نصرتي؟ فقال مالك ابن النضر: عليّ دين، ولي عيال، فقلت لَهُ: إن علي دينا، وإن لي لعيالا، ولكنك إن جعلتني فِي حل من الانصراف إذا لم أجد مقاتلا قاتلت

(5/418)


عنك مَا كَانَ لك نافعا، وعنك دافعا! قَالَ: قَالَ: فأنت فِي حل، فأقمت مَعَهُ، فلما كَانَ الليل قَالَ: [هَذَا الليل قَدْ غشيكم، فاتخذوه جملا، ثُمَّ ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتى، تفرقوا فِي سوادكم ومدائنكم حَتَّى يفرج اللَّه، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قَدْ أصابوني لهوا عن طلب غيري،] فَقَالَ لَهُ إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا اللَّه ذَلِكَ أبدا، بدأهم بهذا القول العباس بن علي ثُمَّ إِنَّهُمْ تكلموا بهذا ونحوه، [فقال الحسين ع: يَا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم،] اذهبوا قَدْ أذنت لكم، قَالُوا: فما يقول الناس! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، وَلا ندري مَا صنعوا! لا وَاللَّهِ لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حَتَّى نرد موردك، فقبح اللَّه العيش بعدك! قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: فقام إِلَيْهِ مسلم بن عوسجة الأسدي فَقَالَ: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إِلَى اللَّهِ فِي أداء حقك! أما وَاللَّهِ حَتَّى أكسر فِي صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي مَا ثبت قائمه فِي يدي، وَلا أفارقك، ولو لَمْ يَكُنْ معي سلاح أقاتلهم بِهِ لقذفتهم بالحجارة دونك حَتَّى أموت معك.
قَالَ: وَقَالَ سَعِيد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي: وَاللَّهِ لا نخليك حَتَّى يعلم اللَّه أنا حفظنا غيبه رسول الله ص فيك، وَاللَّهِ لو علمت أني أقتل ثُمَّ أحيا ثُمَّ أحرق حيا ثُمَّ أذر، يفعل ذَلِكَ بي سبعين مرة مَا فارقتك حَتَّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذَلِكَ! وإنما هي قتلة واحدة، ثُمَّ هي الكرامة الَّتِي لا انقضاء لها أبدا.
قَالَ: وَقَالَ زهير بن القين: وَاللَّهِ لوددت أني قتلت ثُمَّ نشرت ثُمَّ قتلت حَتَّى أقتل كذا ألف قتلة، وأن اللَّه يدفع بِذَلِكَ القتل عن نفسك وعن أنفس

(5/419)


هَؤُلاءِ الفتية من أهل بيتك قَالَ: وتكلم جماعة أَصْحَابه بكلام يشبه بعضه بعضا فِي وجه واحد، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا، وقضينا مَا علينا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب وابو الضحاك، [عن على ابن الْحُسَيْن بن علي قَالَ: إني جالس فِي تِلَكَ العشية الَّتِي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأَصْحَابه فِي خباء لَهُ، وعنده حوي، مولى أبي ذر الْغِفَارِيّ، وَهُوَ يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يَا دهر أف لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إِلَى الجليل ... وكل حي سالك السبيل
قال: فأعادها مرتين او ثلاثا حَتَّى فهمتها، فعرفت مَا أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قَدْ نزل،] [فأما عمتي فإنها سمعت مَا سمعت، وَهِيَ امرأة، وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، وانها لحاسره حتى انتهت اليه، فقالت:
وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! الْيَوْم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي، يَا خليفة الماضي، وثمال الباقي، قَالَ: فنظر إِلَيْهَا الْحُسَيْن ع فَقَالَ: يَا أخية، لا يذهبن حلمك الشَّيْطَان،] قالت: بأبي أنت وأمي يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ! استقتلت نفسي فداك، فرد غصته، وترقرقت عيناه، وَقَالَ: لو ترك القطا ليلا لنام، قالت: يا ويلتى، افتغصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي، وأشد عَلَى نفسي! ولطمت وجهها، وأهوت إِلَى جيبها وشقته، وخرت مغشيا عَلَيْهَا، فقام إِلَيْهَا الْحُسَيْن فصب عَلَى وجهها الماء، [وَقَالَ لها: يَا أخية، اتقي اللَّه وتعزي بعزاء اللَّه،، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ

(5/420)


إلا وجه اللَّه الَّذِي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وَهُوَ فرد وحده، أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول اللَّه أسوة، قَالَ: فعزاها بهذا ونحوه، وَقَالَ لها: يَا أخية، إني أقسم عَلَيْك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، وَلا تخمشي علي وجها، وَلا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت،] قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بِهَا حَتَّى أجلسها عندي، وخرج إِلَى أَصْحَابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فِي بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الَّذِي يأتيهم مِنْهُ عدوهم.
قَالَ أَبُو مخنف: عن عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: فلما أمسى حُسَيْن وأَصْحَابه قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويدعون ويتضرعون، قَالَ: فتمر بنا خيل لَهُمْ تحرسنا، وإن حسينا ليقرأ: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» فسمعها رجل من تِلَكَ الخيل الَّتِي كَانَتْ تحرسنا، فَقَالَ: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا مِنْكُمْ.
قَالَ: فعرفته فقلت لبرير بن حضير: تدري من هَذَا؟ قَالَ: لا، قلت هَذَا أَبُو حرب السبيعي عَبْد اللَّهِ بن شهر- وَكَانَ مضحاكا بطالا، وَكَانَ شريفا شجاعا فاتكا، وَكَانَ سَعِيد بن قيس ربما حبسه فِي جناية- فَقَالَ لَهُ برير بن حضير: يَا فاسق، أنت يجعلك اللَّه فِي الطيبين! فَقَالَ لَهُ: من أنت؟ قَالَ: أنا برير بن حضير، قَالَ: إنا لِلَّهِ! عز علي! هلكت وَاللَّهِ، هلكت وَاللَّهِ يَا برير! قَالَ: يَا أَبَا حرب، هل لك أن تتوب إِلَى الله من ذنوبك العظام! فو الله إنا لنحن الطيبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون، قَالَ: وأنا عَلَى ذَلِكَ من الشاهدين، قلت: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك! قَالَ: جعلت فداك! فمن ينادم يَزِيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل! قال: ها هو ذا معي، قَالَ: قبح اللَّه رأيك عَلَى كل حال! أنت سفيه قَالَ: ثُمَّ انصرف

(5/421)


عنا، وَكَانَ الَّذِي يحرسنا بالليل فِي الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وَكَانَ عَلَى الخيل، قَالَ: فلما صلى عُمَر بن سَعْد الغداة يوم السبت- وَقَدْ بلغنا أَيْضًا أنه كَانَ يوم الجمعة، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم يوم عاشوراء- خرج فيمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ.
قَالَ: وعبأ الْحُسَيْن أَصْحَابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وَكَانَ مَعَهُ اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين فِي ميمنة أَصْحَابه، وحبيب بن مظاهر فِي ميسرة أَصْحَابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت فِي ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كَانَ من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم قال: وكان الحسين ع أتي بقصب وحطب إِلَى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه فِي ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثُمَّ ألقوا فِيهِ ذَلِكَ الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فِيهِ النار كيلا نؤتى من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد ففعلوا، وَكَانَ لَهُمْ نافعا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر، عن عَمْرو الحضرمي، قَالَ: لما خرج عُمَر بن سَعْد بِالنَّاسِ كَانَ عَلَى ربع أهل الْمَدِينَة يَوْمَئِذٍ عَبْد اللَّهِ بن زهير بن سليم الأَزْدِيّ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرَّحْمَن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع رَبِيعَة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يَزِيدَ الرياحي، فشهد هَؤُلاءِ كلهم مقتل الْحُسَيْن إلا الحر بن يَزِيدَ فإنه عدل إِلَى الْحُسَيْن، وقتل مَعَهُ وجعل عمر عَلَى ميمنته عَمْرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شُرَحْبِيل بن الأعور بن عُمَرَ بن مُعَاوِيَة- وَهُوَ الضباب بن كلاب- وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويدا مولاه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَمْرو بن مُرَّةَ الْجَمَلِيّ، عن أبي صالح الحنفي،

(5/422)


عن غلام لعبد الرَّحْمَن بن عبد ربه الأَنْصَارِيّ، قَالَ: كنت مع مولاي، فلما حضر الناس وأقبلوا إِلَى الْحُسَيْن، أمر الْحُسَيْن بفسطاط فضرب، ثُمَّ أمر بمسك فميث فِي جفنة عظيمة أو صحفة، قَالَ: ثُمَّ دخل الْحُسَيْن ذَلِكَ الفسطاط فتطلى بالنورة قَالَ: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير ابن حضير الهمداني عَلَى باب الفسطاط تحتك مناكبهما، فازدحما أيهما يطلي عَلَى أثره، فجعل برير يهازل عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن:
دعنا، فو الله مَا هَذِهِ بساعة باطل، فَقَالَ لَهُ برير: وَاللَّهِ لقد علم قومي أني مَا أحببت الباطل شابا وَلا كهلا، ولكن وَاللَّهِ إني لمستبشر بِمَا نحن لاقون، وَاللَّهِ إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هَؤُلاءِ علينا بأسيافهم، ولوددت أَنَّهُمْ قَدْ مالوا علينا بأسيافهم قَالَ: فلما فرغ الْحُسَيْن دخلنا فاطلينا، قَالَ:
ثُمَّ إن الْحُسَيْن ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، قَالَ: فاقتتل أَصْحَابه بين يديه قتالا شديدا، فلما رأيت القوم قَدْ صرعوا أفلت وتركتهم قَالَ أَبُو مخنف، عن بعض أَصْحَابه، عن أبي خَالِد الكاهلي، قَالَ:
لما صبحت الخيل الْحُسَيْن رفع الْحُسَيْن يديه، فَقَالَ: [اللَّهُمَّ أنت ثقتي فِي كل كرب، ورجائي فِي كل شدة، وأنت لي فِي كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فِيهِ الفؤاد، وتقل فِيهِ الحيلة، ويخذل فِيهِ الصديق، ويشمت فِيهِ العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة] .
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم، قَالَ: حَدَّثَنِي الضحاك المشرقي، قَالَ: لما أقبلوا نحونا فنظروا إِلَى النار تضطرم فِي الحطب والقصب الَّذِي كنا ألهبنا فِيهِ النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا مِنْهُمْ رجل يركض عَلَى فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حَتَّى مر عَلَى أبياتنا، فنظر إِلَى أبياتنا فإذا هُوَ لا يرى إلا حطبا تلتهب النار فِيهِ، فرجع راجعا، فنادى بأعلى صوته: يَا حُسَيْن، استعجلت النار فِي الدُّنْيَا قبل يوم الْقِيَامَة! [فَقَالَ

(5/423)


الْحُسَيْن: من هَذَا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! فَقَالُوا: نعم، أصلحك اللَّه! هُوَ هُوَ، فقال: يا بن راعية المعزى، أنت أولى بِهَا صليا،] فَقَالَ له مسلم بن عوسجة: يا بن رَسُول اللَّهِ، جعلت فداك! أَلا أرميه بسهم! فإنه قَدْ أمكنني، وليس يسقط مني سهم، فالفاسق من أعظم الجبارين، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم، وَكَانَ مع الْحُسَيْن فرس لَهُ يدعى لاحقا حمل عَلَيْهِ ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قَالَ: فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها، ثم نادى باعلى صوته دعاء يسمع جل الناس:
أَيُّهَا النَّاسُ، اسمعوا قولي، وَلا تعجلوني حَتَّى أعظكم بِمَا لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عَلَيْكُمْ، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بِذَلِكَ أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ، «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» قَالَ: فلما سمع أخواته كلامه هَذَا صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليا ابنه، وَقَالَ لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن، قَالَ: فلما ذهبا ليسكتاهن قَالَ: لا يبعد ابن عَبَّاس، قَالَ: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنه قَدْ كَانَ نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، وذكر اللَّه بِمَا هو اهله، وصلى على محمد ص وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذَلِكَ مَا اللَّه أعلم وما لا يحصى ذكره.
قَالَ: فو الله مَا سمعت متكلما قط قبله وَلا بعده أبلغ فِي منطق مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فانسبوني فانظروا من أنا، ثُمَّ ارجعوا إِلَى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم ص وابن وصيه وابن عمه، وأول الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ والمصدق لِرَسُولِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ من عِنْدَ ربه! او ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أوليس جَعْفَر الشهيد الطيار

(5/424)


ذو الجناحين عمى! [او لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ لي ولأخي: هَذَانِ سيدا شباب أهل الجنة!] فإن صدقتموني بِمَا أقول- وَهُوَ الحق- فو الله مَا تعمدت كذبا مذ علمت أن اللَّه يمقت عَلَيْهِ أهله، ويضر بِهِ من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذَلِكَ أخبركم، سلوا جابر بن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيّ، أو أبا سَعِيد الخدري، أو سَهْل بن سَعْد الساعدي، أو زَيْد بن أَرْقَمَ، أو أنس بن مالك، يخبروكم أَنَّهُمْ سمعوا هذه المقاله من رسول الله ص لي ولأخي.
أفما فِي هَذَا حاجز لكم عن سفك دمي! فَقَالَ لَهُ شمر بن ذي الجوشن:
هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ان كان يدرى ما يقول! فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر:
وَاللَّهِ إني لأراك تعبد اللَّه عَلَى سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق مَا تدري مَا يقول، قَدْ طبع اللَّه عَلَى قلبك، ثُمَّ قَالَ لَهُمُ الْحُسَيْن: فإن كنتم فِي شك من هَذَا القول أفتشكون أثرا مَا أني ابن بنت نبيكم! فو الله مَا بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري مِنْكُمْ وَلا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة.
أخبروني، أتطلبوني بقتيل مِنْكُمْ قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ قَالَ: فأخذوا لا يكلمونه، قَالَ: فنادى: يَا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يَزِيد بن الْحَارِث، ألم تكتبوا إلي أن قَدْ أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم عَلَى جند لك مجند، فأقبل! قَالُوا لَهُ: لم نفعل، فَقَالَ: سبحان اللَّه! بلى وَاللَّهِ، لقد فعلتم، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إِلَى مأمني من الأرض، قَالَ: فَقَالَ لَهُ قيس بن الاشعث:
او لا تنزل عَلَى حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا مَا تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الْحُسَيْن: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، [لا وَاللَّهِ لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، وَلا أقر إقرار العبيد عباد اللَّه، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ

(5/425)


أعوذ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، قَالَ:] ثُمَّ إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حنظلة بن أسعد الشامي، عن رجل من قومه شهد مقتل الْحُسَيْن حين قتل يقال لَهُ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: لما زحفنا قبل الحسين خرج إلينا زهير بن قين عَلَى فرس لَهُ ذنوب، شاك فِي السلاح، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، نذار لكم من عذاب اللَّه نذار! إن حقا عَلَى المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حَتَّى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، مَا لم يقع بيننا وبينكم السيف، وَأَنْتُمْ للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وَأَنْتُمْ أمة، إن اللَّه قَدِ ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ص لينظر مَا نحن وَأَنْتُمْ عاملون، إنا ندعوكم إِلَى نصرهم وخذلان الطاغية عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم عَلَى جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأَصْحَابه، وهانئ بن عروة وأشباهه، قَالَ:
فسبوه، وأثنوا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، ودعوا لَهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نبرح حَتَّى نقتل صاحبك ومن مَعَهُ، أو نبعث بِهِ وبأَصْحَابه إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ سلما، فَقَالَ لَهُمْ: عباد اللَّه، إن ولد فاطمة رضوان اللَّه عَلَيْهَا أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بِاللَّهِ أن تقتلوهم، فخلوا بين الرجل وبين ابن عمه يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلعمري إن يَزِيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن، قَالَ: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وَقَالَ: اسكت أسكت اللَّه نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فَقَالَ لَهُ زهير: يا بن البوال عَلَى عقبيه، مَا إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، وَاللَّهِ مَا أظنك تحكم من كتاب اللَّه آيتين، فأبشر بالخزي يوم الْقِيَامَة والعذاب الأليم، فَقَالَ لَهُ شمر: إن اللَّه قاتلك وصاحبك عن ساعة، قَالَ: أفبالموت تخوفني!

(5/426)


فو الله للموت مَعَهُ أحب إلي من الخلد معكم، قَالَ: ثُمَّ أقبل عَلَى الناس رافعا صوته، فَقَالَ: عباد اللَّه، لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعه محمد ص قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم، قَالَ: فناداه رجل فَقَالَ لَهُ: إن أبا عَبْد اللَّهِ يقول لك: أقبل، فلعمري لَئِنْ كَانَ مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فِي الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ! قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، قَالَ: ثُمَّ إن الحر بن يَزِيدَ لما زحف عُمَر بن سَعْدٍ قَالَ لَهُ: أصلحك اللَّه! مقاتل أنت هَذَا الرجل؟ قَالَ: إي وَاللَّهِ قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي، قَالَ: أفما لكم فِي واحدة من الخصال الَّتِي عرض عَلَيْكُمْ رضا؟
قَالَ عُمَر بن سَعْد: أما وَاللَّهِ لو كَانَ الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قَدْ أبى ذَلِكَ، قَالَ: فأقبل حَتَّى وقف مِنَ النَّاسِ موقفا، وَمَعَهُ رجل من قومه يقال لَهُ قرة بن قيس، فَقَالَ: يَا قرة، هل سقيت فرسك الْيَوْم؟ قَالَ: لا، قَالَ: إنما تريد أن تسقيه؟ قَالَ: فظننت وَاللَّهِ أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذَلِكَ، فيخاف أن أرفعه عَلَيْهِ، فقلت لَهُ:
لم أسقه، وأنا منطلق فساقيه، قَالَ: فاعتزلت ذَلِكَ المكان الَّذِي كَانَ فِيهِ، قَالَ: فو الله لو أنه أطلعني عَلَى الَّذِي يريد لخرجت مَعَهُ إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ:
فأخذ يدنو من حُسَيْن قليلا قليلا، فَقَالَ لَهُ رجل من قومه يقال له المهاجر ابن أوس: ما تريد يا بن يَزِيدَ؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يَزِيدَ؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يَزِيدَ، وَاللَّهِ إن أمرك لمريب، وَاللَّهِ مَا رأيت مِنْكَ فِي موقف قط مثل شَيْء أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الْكُوفَة رجلا مَا عدوتك، فما هَذَا الَّذِي أَرَى مِنْكَ! قَالَ: إني وَاللَّهِ أخير نفسي بين الجنه والنار، وو الله لا أختار عَلَى الجنة شَيْئًا ولو قطعت وحرقت، ثم ضرب فرسه فلحق بحسين ع، فقال له: جعلني الله فداك يا بن رَسُول اللَّهِ! أنا صاحبك الَّذِي حبستك عن الرجوع، وسايرتك فِي الطريق،

(5/427)


وجعجعت بك فِي هَذَا المكان، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا ظننت أن القوم يردون عَلَيْك مَا عرضت عَلَيْهِم أبدا، وَلا يبلغون مِنْكَ هَذِهِ المنزلة فقلت فِي نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم فِي بعض أمرهم، وَلا يرون أني خرجت من طاعتهم وأما هم فسيقبلون من حُسَيْن هَذِهِ الخصال التي يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أَنَّهُمْ لا يقبلونها مِنْكَ مَا ركبتها مِنْكَ، وإني قَدْ جئتك تائبا مما كَانَ مني إِلَى ربي، ومواسيا لك بنفسي حَتَّى أموت بين يديك، أفترى ذَلِكَ لي توبة؟
قَالَ: نعم، يتوب اللَّه عَلَيْك، ويغفر لك، مَا اسمك؟ قَالَ: أنا الحر بن يَزِيدَ، [قَالَ: أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، انزل، قَالَ: أنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم عَلَى فرسي ساعة، وإلى النزول مَا يصير آخر أمري قَالَ الْحُسَيْن: فاصنع يرحمك اللَّه مَا بدا لك] فاستقدم أمام أَصْحَابه ثُمَّ قَالَ: أيها القوم، أَلا تقبلون من حُسَيْن خصلة من هَذِهِ الخصال الَّتِي عرض عَلَيْكُمْ فيعافيكم اللَّه من حربه وقتاله؟ قَالُوا: هَذَا الأمير عُمَر بن سَعْد فكلمه، فكلمه بمثل مَا كلمه بِهِ قبل، وبمثل ما كلم بِهِ أَصْحَابه، قَالَ عمر: قَدْ حرصت، لو وجدت إِلَى ذَلِكَ سبيلا فعلت، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم اسلمتموه، وزعمتم انكم قاتلو أنفسكم دونه، ثُمَّ عدوتم عَلَيْهِ لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم بِهِ من كل جانب، فمنعتموه التوجه فِي بلاد اللَّه العريضة حَتَّى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح فِي أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، وَلا يدفع ضرا، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأَصْحَابه عن ماء الفرات الجاري الَّذِي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرغ فِيهِ خنازير السواد وكلابه، وها هم أولاء قَدْ صرعهم العطش، بئسما خلفتم مُحَمَّدا فِي ذريته! لا سقاكم اللَّه يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عَلَيْهِ من يومكم هَذَا فِي ساعتكم هَذِهِ فحملت عَلَيْهِ رجالة

(5/428)


لَهُمْ ترميه بالنبل، فأقبل حَتَّى وقف أمام الْحُسَيْن.
قَالَ أَبُو مخنف، عن الصقعب بن زهير وسُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: وزحف عُمَر بن سَعْد نحوهم، ثم نادى: يا ذويد، أدن رايتك، قَالَ: فأدناها ثُمَّ وضع سهمه فِي كبد قوسه، ثُمَّ رمى فَقَالَ:
اشهدوا أني أول من رمى.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب، قَالَ: كَانَ منا رجل يدعى عَبْد اللَّهِ بن عمير، من بني عليم، كَانَ قَدْ نزل الْكُوفَة، واتخذ عِنْدَ بئر الجعد من همدان دارا، وكانت مَعَهُ امراه له من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد، فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ:
فسأل عَنْهُمْ، فقيل لَهُ: يسرحون إِلَى حُسَيْن بن فاطمة بنت رسول الله ص، فَقَالَ: وَاللَّهِ لقد كنت عَلَى جهاد أهل الشرك حريصا، وإني لأرجو أَلا يكون جهاد هَؤُلاءِ الَّذِينَ يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عِنْدَ اللَّه من ثوابه إياي فِي جهاد المشركين، فدخل إِلَى امرأته فأخبرها بِمَا سمع، وأعلمها بِمَا يريد، فَقَالَتْ: أصبت أصاب اللَّه بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك، قَالَ: فخرج بِهَا ليلا حَتَّى أتى حسينا، فأقام مَعَهُ، فلما دنا مِنْهُ عُمَر بن سَعْدٍ ورمى بسهم ارتمى الناس، فلما ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أَبِي سُفْيَانَ وسالم مولى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم، قَالَ: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير، فَقَالَ لهما حُسَيْن: اجلسا، فقام عَبْد اللَّهِ بن عمير الكلبي فَقَالَ: أبا عَبْد اللَّهِ، رحمك اللَّه! ائذن لي فلأخرج إليهما، فرأى حُسَيْن رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد مَا بين المنكبين، فَقَالَ حُسَيْن: إني لأحسبه للأقران قتالا، اخرج إن شئت، قَالَ: فخرج إليهما، فقالا لَهُ: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير، ويسار مستنتل أمام سَالم، فَقَالَ لَهُ الكلبى: يا بن الزانية، وبك رغبة عن مبارزة أحد مِنَ النَّاسِ، وما يخرج إليك أحد مِنَ النَّاسِ الا وهو

(5/429)


خير مِنْكَ، ثُمَّ شد عَلَيْهِ فضربه بسيفه حَتَّى برد، فإنه لمشتغل بِهِ يضربه بسيفه إذ شد عَلَيْهِ سَالم، فصاح بِهِ: قَدْ رهقك العبد، قَالَ: فلم يأبه لَهُ حَتَّى غشيه فبدره الضربة، فاتقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفه اليسرى، ثُمَّ مال عَلَيْهِ الكلبي فضربه حَتَّى قتله، وأقبل الكلبي مرتجزا وَهُوَ يقول، وَقَدْ قتلهما جميعا:
إن تنكروني فانا ابن كلب حسبي بيتى في عليم حسبي انى امرو ذو مرة وعصب ولست بالخوار عِنْدَ النكب إني زعيم لك أم وهب بالطعن فِيهِمْ مقدما والضرب ضرب غلام مؤمن بالرب.
فأخذت أم وهب امرأته عمودا، ثُمَّ أقبلت نحو زوجها تقول لَهُ: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية مُحَمَّد، فأقبل إِلَيْهَا يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثُمَّ قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، [فناداها حُسَيْن، فَقَالَ: جزيتم من أهل بيت خيرا، ارجعي رحمك اللَّه إِلَى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس عَلَى النساء قتال، فانصرفت إليهن] .
قَالَ: وحمل عَمْرو بن الحجاج وَهُوَ عَلَى ميمنة الناس فِي الميمنة، فلما أن دنا من حُسَيْن جثوا لَهُ عَلَى الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم عَلَى الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل، فصرعوا مِنْهُمْ رجالا، وجرحوا مِنْهُمْ آخرين.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي حُسَيْن أَبُو جَعْفَر، قَالَ: ثُمَّ إن رجلا من بني تميم- يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن حوزة- جَاءَ حَتَّى وقف أمام الْحُسَيْن، فَقَالَ:
يَا حُسَيْن، يَا حُسَيْن! فَقَالَ حُسَيْن: مَا تشاء؟ قَالَ: أبشر بالنار، [قَالَ:
كلا، إني أقدم عَلَى رب رحيم، وشفيع مطاع، من هَذَا؟ قَالَ لَهُ أَصْحَابه:
هَذَا ابن حوزة، قَالَ: رب حزه إِلَى النار،] قَالَ: فاضطرب بِهِ فرسه فِي

(5/430)


جدول فوقع فِيهِ، وتعلقت رجله بالركاب، ووقع راسه في الارض، ونفر الفرس، فاخذ يمر بِهِ فيضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حَتَّى مات.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما سويد بن حية، فزعم لي أن عَبْد اللَّهِ بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى فِي الركاب، وارتفعت اليمنى فطارت، وعدا بِهِ فرسه يضرب رأسه كل حجر وأصل شجرة حَتَّى مات قَالَ أَبُو مخنف عن عطاء بن السَّائِب، عن عبد الجبار بن وائل الحضرمي، عن أخيه مسروق بن وائل، قَالَ: كنت فِي أوائل الخيل ممن سار إِلَى الْحُسَيْن، فقلت: أكون فِي أوائلها لعلي أصيب رأس الْحُسَيْن، فأصيب بِهِ منزلة عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، قَالَ: فلما انتهينا إِلَى حُسَيْن تقدم رجل من القوم يقال لَهُ ابن حوزة، فَقَالَ: أفيكم حُسَيْن؟ قَالَ: فسكت حُسَيْن، فقالها ثانية، فأسكت حَتَّى إذا كَانَتِ الثالثة قَالَ: قولوا لَهُ: نعم، هَذَا حُسَيْن، فما حاجتك؟
قَالَ: يَا حُسَيْن، أبشر بالنار، قَالَ: كذبت، [بل أقدم عَلَى رب غفور وشفيع مطاع، فمن أنت؟] قَالَ: ابن حوزة، قَالَ، فرفع الْحُسَيْن يديه حَتَّى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حزه إِلَى النار، قَالَ:
فغضب ابن حوزة، فذهب ليقحم إِلَيْهِ الفرس وبينه وبينه نهر، قَالَ: فعلقت قدمه بالركاب، وجالت بِهِ الفرس فسقط عنها، قَالَ: فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب قَالَ: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه، قَالَ: فسألته، فَقَالَ: لقد رأيت من أهل هَذَا البيت شَيْئًا لا أقاتلهم أبدا، قَالَ: ونشب القتال.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس- وَكَانَ قَدْ شهد مقتل الْحُسَيْن- قَالَ: وخرج يَزِيد بن معقل من بني عميرة بن رَبِيعَة وَهُوَ حليف لبني سليمة من عبد القيس، فقال: يا برير ابن حضير، كيف ترى اللَّه صنع بك! قَالَ: صنع اللَّه وَاللَّهِ بي خيرا،

(5/431)


وصنع اللَّه بك شرا، قَالَ: كذبت، وقبل الْيَوْم مَا كنت كذابا، هل تذكر وأنا أماشيك فِي بني لوذان وأنت تقول: إن عُثْمَان بن عَفَّانَ كَانَ عَلَى نفسه مسرفا، وإن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق عَلِيّ بن أبي طالب؟ فَقَالَ لَهُ برير: أشهد أن هَذَا رأيي وقولي، فَقَالَ لَهُ يَزِيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين، فَقَالَ لَهُ برير بن حضير:
هل لك فلا باهلك، ولندع اللَّه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل، ثُمَّ اخرج فلأبارزك، قَالَ: فخرجا فرفعا أيديهما إِلَى اللَّهِ يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل، ثُمَّ برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يَزِيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضره شَيْئًا، وضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر، وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق، وان سيف ابن حضير لثابت فِي رأسه، فكأني أنظر إِلَيْهِ ينضنضه من رأسه، وحمل عَلَيْهِ رضي بن منقذ العبدي فاعتنق بريرا، فاعتركا ساعة ثُمَّ إن بريرا قعد عَلَى صدره فَقَالَ رضي: أين أهل المصاع والدفاع؟ قَالَ: فذهب كعب بن جابر بن عَمْرو الأَزْدِيّ ليحمل عَلَيْهِ، فقلت: إن هَذَا برير بن حضير القارئ الَّذِي كَانَ يقرئنا القرآن فِي المسجد، فحمل عَلَيْهِ بالرمح حَتَّى وضعه فِي ظهره، فلما وجد مس الرمح برك عَلَيْهِ فعض بوجهه، وقطع طرف انفه، فطعنه كعب ابن جابر حَتَّى ألقاه عنه، وَقَدْ غيب السنان فِي ظهره، ثُمَّ أقبل عَلَيْهِ يضربه بسيفه حَتَّى قتله، قَالَ عفيف: كأني أنظر إِلَى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه، ويقول: أنعمت علي يَا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبدا، قَالَ: فقلت: أنت رأيت هَذَا؟ قَالَ: نعم، رأي عيني وسمع أذني.
فلما رجع كعب بن جابر قالت لَهُ امرأته، أو أخته النوار بنت جابر:

(5/432)


أعنت عَلَى ابن فاطمة، وقتلت سيد القراء، لقد أتيت عظيما من الأمر، وَاللَّهِ لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا.
وَقَالَ كعب بن جابر:
سلي تخبري عني وأنت ذميمة ... غداة حُسَيْن والرماح شوارع
ألم آت أقصى مَا كرهت ولم يخل ... علي غداة الروع مَا أنا صانع
معي يزني لم تخنه كعوبه ... وأبيض مخشوب الغرارين قاطع
فجردته فِي عصبة ليس دينهم ... بديني وإني بابن حرب لقانع
ولم تر عيني مثلهم فِي زمانهم ... وَلا قبلهم فِي الناس إذ أنا يافع
أشد قراعا بالسيوف لدى الوغى ... أَلا كل من يحمي الذمار مقارع
وَقَدْ صبروا للطعن والضرب حسرا ... وَقَدْ نازلوا لو أن ذَلِكَ نافع
فأبلغ عُبَيْد اللَّهِ إما لقيته ... بأني مطيع للخليفة سامع
قتلت بريرا ثُمَّ حملت نعمة ... أبا منقذ لما دعا: من يماصع؟
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، قَالَ: سمعته فِي إمارة مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يقول: يَا رب إنا قَدْ وفينا، فلا تجعلنا يَا رب كمن قَدْ غدر، فَقَالَ لَهُ أبي: صدق، ولقد وفى وكرم، وكسبت لنفسك شرا، قَالَ: كلا، إني لم أكسب لنفسي شرا، ولكني كسبت لها خيرا.
قَالَ: وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد عَلَى كعب بن جابر جواب قوله، فَقَالَ:
لو شاء ربي مَا شهدت قتالهم ... وَلا جعل النعماء عندي ابن جابر
لقد كَانَ ذاك الْيَوْم عارا وسبة ... يعيره الأبناء بعد المعاشر
فيا ليت أني كنت من قبل قتله ... ويوم حُسَيْن كنت فِي رمس قابر

(5/433)


قَالَ: وخرج عَمْرو بن قرظة الأَنْصَارِيّ يقاتل دون حُسَيْن وَهُوَ يقول:
قَدْ علمت كتيبة الأنصار ... أني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلام غير نكس شاري ... دون حُسَيْن مهجتي وداري
قَالَ أَبُو مخنف: عن ثَابِت بن هبيرة، فقتل عَمْرو بن قرظة بن كعب، وَكَانَ مع الْحُسَيْن، وَكَانَ علي أخوه مع عُمَر بن سعد، فنادى على بن قريظة:
يَا حُسَيْن، يَا كذاب ابن الكذاب، أضللت أخي وغررته حتى قتله [قَالَ:
إن اللَّه لم يضل أخاك، ولكنه هدى أخاك وأضلك،] قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك أو أموت دونك، فحمل عَلَيْهِ، فاعترضه نافع بن هلال المرادي، فطعنه فصرعه، فحمله أَصْحَابه فاستنقذوه، فدووي بعد فبرأ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي النضر بن صالح أَبُو زهير العبسي أن الحر بن يَزِيدَ لما لحق بحسين قَالَ رجل من بني تميم من بني شقرة وهم بنو الْحَارِث بن تميم، يقال لَهُ يَزِيد بن سُفْيَان: أما وَاللَّهِ لو أني رأيت الحر بن يَزِيدَ حين خرج لأتبعته السنان، قَالَ: فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يَزِيدَ يحمل عَلَى القوم مقدما ويتمثل قول عنترة:
مَا زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حَتَّى تسربل بالدم
قَالَ: وإن فرسه لمضروب عَلَى أذنيه وحاجبه، وإن دماءه لتسيل، فَقَالَ الحصين بن تميم- وَكَانَ عَلَى شرطة عُبَيْد اللَّهِ، فبعثه إِلَى الْحُسَيْن، وَكَانَ مع عُمَر بن سَعْدٍ، فولاه عمر مع الشرطة المجففة- ليزيد بن سُفْيَان: هَذَا الحر بن يَزِيدَ الَّذِي كنت تتمنى، قَالَ: نعم فخرج إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: هل لك يَا حر بن يَزِيدَ فِي المبارزة؟ قَالَ: نعم قَدْ شئت، فبرز لَهُ، قَالَ: فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: وَاللَّهِ لأبرز لَهُ، فكأنما كَانَتْ نفسه فِي يده،

(5/434)


فما لبثه الحر حين خرج إِلَيْهِ أن قتله.
قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ هانئ بن عروة، أن نافع بن هلال كَانَ يقاتل يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يقول: أنا الْجَمَلِيّ، أنا عَلَى دين علي.
قَالَ: فخرج إِلَيْهِ رجل يقال لَهُ مزاحم بن حريث، فَقَالَ: أنا عَلَى دين عُثْمَان، فَقَالَ لَهُ: أنت عَلَى دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله، فصاح عمرو ابن الحجاج بِالنَّاسِ: يَا حمقى، أتدرون من تقاتلون! فرسان المصر، قوما مستميتين، لا يبرزن لَهُمْ منكم احد، فإنهم قليل، وقلما يبقون، وَاللَّهِ لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: صدقت، الرأي مَا رأيت، وأرسل إِلَى النَّاسِ يعزم عَلَيْهِم أَلا يبارز رجل مِنْكُمْ رجلا مِنْهُمْ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بن عُقْبَةَ المرادي، قَالَ: الزبيدي:
إنه سمع عَمْرو بن الحجاج حين دنا من أَصْحَاب الْحُسَيْن يقول: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، الزموا طاعتكم وجماعتكم، وَلا ترتابوا فِي قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: يَا عَمْرو بن الحجاج، أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا وَأَنْتُمْ ثبتم عَلَيْهِ؟ أما وَاللَّهِ لتعلمن لو قَدْ قبضت أرواحكم، ومتم عَلَى أعمالكم، أينا مرق من الدين، ومن هُوَ أولى بصلي النار! قَالَ: ثُمَّ إن عَمْرو بن الحجاج حمل عَلَى الْحُسَيْن فِي ميمنة عُمَر بن سَعْد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أَصْحَاب الْحُسَيْن، ثُمَّ انصرف عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم بِهِ صريع، فمشى إِلَيْهِ الْحُسَيْن فإذا بِهِ رمق، [فَقَالَ: رحمك ربك يَا مسلم بن عوسجة، «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] » .
ودنا مِنْهُ حبيب بن مظاهر فَقَالَ: عز علي مصرعك يَا مسلم، أبشر بالجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم قولا ضعيفا: بشرك اللَّه بخير! فَقَالَ لَهُ حبيب: لولا أني

(5/435)


أعلم أني فِي أثرك لاحق بك من ساعتي هَذِهِ لأحببت أن توصيني بكل مَا أهمك حَتَّى أحفظك فِي كل ذَلِكَ بِمَا أنت أهل لَهُ فِي القرابة والدين، قَالَ:
بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللَّه- وأهوى بيده إِلَى الْحُسَيْن- أن تموت دونه، قَالَ: أفعل ورب الكعبة، قَالَ: فما كَانَ بأسرع من أن مات فِي أيديهم، وصاحت جارية له فقالت: يا بن عوسجتاه! يَا سيداه! فتنادى أَصْحَاب عَمْرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي، فَقَالَ شبث لبعض من حوله من أَصْحَابه: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت لَهُ لرب موقف لَهُ قَدْ رأيته فِي الْمُسْلِمِينَ كريم! لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول الْمُسْلِمِينَ، أفيقتل مِنْكُمْ مثله وتفرحون! قَالَ: وَكَانَ الَّذِي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عَبْدِ اللَّهِ الضبابي وعبد الرَّحْمَن بن أبي خشكارة البجلي قَالَ: وحمل شمر بن ذي الجوشن فِي الميسرة عَلَى أهل الميسرة فثبتوا لَهُ، فطاعنوه وأَصْحَابه، وحمل عَلَى حُسَيْن وأَصْحَابه من كل جانب، فقتل الكلبي وَقَدْ قتل رجلين بعد الرجلين الأولين، وقاتل قتالا شديدا، فحمل عَلَيْهِ هانئ بن ثبيت الحضرمى وبكير ابن حي التيمي من تيم اللَّه بن ثعلبة، فقتلاه، وَكَانَ القتيل الثاني من أَصْحَاب الْحُسَيْن، وقاتلهم أَصْحَاب الْحُسَيْن قتالا شديدا، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا، وأخذت لا تحمل عَلَى جانب من خيل أهل الْكُوفَة إلا كشفته، فلما رَأَى ذَلِكَ عزرة بن قيس- وَهُوَ عَلَى خيل أهل الْكُوفَة- أن خيله تنكشف من كل جانب، بعث الى عمر بن سعد عبد الرحمن ابن حصن، فَقَالَ: أما ترى مَا تلقى خيلي مذ الْيَوْم من هَذِهِ العدة اليسيرة! أبعث إِلَيْهِم الرجال والرماة، فَقَالَ لشبث بن ربعي: أَلا تقدم إِلَيْهِم! فَقَالَ: سبحان اللَّه! أتعمد الى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه فِي الرماة! لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيري! قَالَ: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله قَالَ: وَقَالَ أَبُو زهير العبسي: فأنا سمعته فِي إمارة مصعب

(5/436)


يقول: لا يعطي اللَّه أهل هَذَا المصر خيرا أبدا، وَلا يسددهم لرشد، أَلا تعجبون أنا قاتلنا مع عَلِيّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سُفْيَان خمس سنين، ثُمَّ عدونا عَلَى ابنه وَهُوَ خير أهل الأرض نقاتله مع آل مُعَاوِيَة وابن سمية الزانية! ضلال يَا لك من ضلال! قَالَ: ودعا عُمَر بن سَعْد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فأقبلوا حَتَّى إذا دنوا من الْحُسَيْن وأَصْحَابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجالة كلهم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كَانَ يقول: أنا وَاللَّهِ عقرت بالحر بن يَزِيدَ فرسه، حشأته سهما، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحر كأنه ليث والسيف فِي يده وَهُوَ يقول:
إن تعقروا بي فأنا ابن الحر ... أشجع من ذي لبد هزبر
قَالَ: فما رأيت أحدا قط يفري فريه، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أشياخ من الحي:
أنت قتلته؟ قال: لا والله ما انا قتلته، ولكن قتله غيري، وما أحب أني قتلته، فَقَالَ لَهُ أَبُو الوداك: ولم؟ قَالَ: إنه كان زعموا من الصالحين، فو الله لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ إثما لأن ألقى اللَّه بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن ألقاه بإثم قتل أحد مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الوداك: مَا أراك إلا ستلقى اللَّه بإثم قتلهم أجمعين، أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا، ورميت آخر، ووقفت موقفا، وكررت عَلَيْهِم، وحرضت أَصْحَابك، وكثرت أَصْحَابك، وحمل عَلَيْك فكرهت أن تفر، وفعل آخر من أَصْحَابك كفعلك، وآخر وآخر، كَان هَذَا وأَصْحَابه يقتلون! أنتم شركاء كلكم فِي دمائهم، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الوداك، إنك لتقنطنا من رحمة اللَّه، إن كنت ولي حسابنا يوم الْقِيَامَة فلا غفر اللَّه لك إن غفرت لنا! قَالَ: هُوَ مَا أقول لك، قَالَ: وقاتلوهم حَتَّى انتصف

(5/437)


النهار أشد قتال خلقه اللَّه، وأخذوا لا يقدرون عَلَى أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض قَالَ: فلما رَأَى ذَلِكَ عُمَر بن سَعْد أرسل رجالا يقوضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم، قَالَ: فأخذ الثلاثة والأربعة من أَصْحَاب الْحُسَيْن يتخللون البيوت فيشدون عَلَى الرجل وَهُوَ يقوض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه فأمر بِهَا عُمَر بن سَعْد عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: أحرقوها بالنار، وَلا تدخلوا بيتا وَلا تقوضوه، فجاءوا بالنار، فأخذوا يحرقون، فَقَالَ حُسَيْن:
دعوهم فليحرقوها، فإنهم لو قَدْ حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها، وَكَانَ ذَلِكَ كذلك، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد قَالَ: وخرجت امرأة الكلبي تمشي إِلَى زوجها حَتَّى جلست عِنْدَ رأسه تمسح عنه التراب وتقول:
هنيئا لك الجنة! فَقَالَ شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود، فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها، قَالَ: وحمل شمر بن ذي الجوشن حَتَّى طعن فسطاط الْحُسَيْن برمحه، ونادى: علي بالنار حَتَّى أحرق هَذَا البيت عَلَى أهله، قَالَ: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، قَالَ: [وصاح به الحسين: يا بن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي عَلَى أهلي، حرقك اللَّه بالنار!] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان اللَّه! إن هَذَا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع عَلَى نفسك خصلتين تعذب بعذاب اللَّه، وتقتل الولدان والنساء! وَاللَّهِ إن فِي قتلك الرجال لما ترضي بِهِ أميرك، قَالَ: فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ:
قلت: لا أخبرك من أنا، قَالَ: وخشيت وَاللَّهِ أن لو عرفني أن يضرني عِنْدَ السلطان، قَالَ: فجاءه رجل كَانَ أطوع لَهُ مني، شبث بن ربعي فَقَالَ:
مَا رأيت مقالا أسوأ من قولك، وَلا موقفا أقبح من موقفك، أمرعبا للنساء صرت! قَالَ: فأشهد أنه استحيا، فذهب لينصرف وحمل عَلَيْهِ زهير ابن القين فِي رجال من أَصْحَابه عشرة، فشد عَلَى شمر بن ذي الجوشن

(5/438)


وأَصْحَابه، فكشفهم عن البيوت حَتَّى ارتفعوا عنها، فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه، فكان من أَصْحَاب شمر، وتعطف الناس عَلَيْهِم فكثروهم، فلا يزال الرجل من أَصْحَاب الْحُسَيْن قَدْ قتل، فإذا قتل مِنْهُمُ الرجل والرجلان تبين فِيهِمْ، وأولئك كثير لا يتبين فِيهِمْ مَا يقتل مِنْهُمْ، قَالَ: فلما رَأَى ذَلِكَ أَبُو ثمامة عَمْرو بن عَبْدِ اللَّهِ الصائدي قَالَ للحسين: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، نفسي لك الفداء! إني أَرَى هَؤُلاءِ قَدِ اقتربوا مِنْكَ، وَلا وَاللَّهِ لا تقتل حَتَّى أقتل دونك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وأحب أن ألقى ربي وَقَدْ صليت هَذِهِ الصَّلاة الَّتِي دنا وقتها، قَالَ: [فرفع الْحُسَيْن رأسه ثُمَّ قَالَ: ذكرت الصَّلاة، جعلك اللَّه من المصلين الذاكرين! نعم، هَذَا أول وقتها، ثُمَّ قَالَ: سلوهم أن يكفوا عنا حَتَّى نصلي،] فَقَالَ لَهُمُ الحصين بن تميم: إنها لا تقبل، فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت! الصَّلاة من آل رسول الله ص لا تقبل وتقبل مِنْكَ يَا حمار! قَالَ: فحمل عَلَيْهِم حصين بن تميم، وخرج إِلَيْهِ حبيب بن مظاهر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشب ووقع عنه، وحمله أَصْحَابه فاستنقذوه، وأخذ حبيب يقول:
أقسم لو كنا لكم أعدادا أو شطركم وليتم أكتادا يَا شر قوم حسبا وآدا.
قَالَ: وجعل يقول يَوْمَئِذٍ:
أنا حبيب وأبي مظاهر فارس هيجاء وحرب تسعر أنتم أعد عدة وأكثر ونحن أوفى مِنْكُمُ وأصبر ونحن أعلى حجة وأظهر حقا وأتقى مِنْكُمُ وأعذر وقاتل قتالا شديدا، فحمل عَلَيْهِ رجل من بني تميم فضربه بالسيف عَلَى رأسه فقتله- وَكَانَ يقال لَهُ: بديل بن صريم من بني عقفان- وحمل

(5/439)


عَلَيْهِ آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم عَلَى رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إِلَيْهِ التميمي فاحتز رأسه، فَقَالَ لَهُ الحصين:
إني لشريكك فِي قتله، فَقَالَ الآخر: وَاللَّهِ مَا قتله غيري، فَقَالَ الحصين:
أعطنيه أعلقه فِي عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت فِي قتله، ثُمَّ خذه أنت بعد فامض بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فلا حاجة لي فِيمَا تعطاه عَلَى قتلك إِيَّاهُ قَالَ: فأبى عَلَيْهِ، فأصلح قومه فِيمَا بينهما عَلَى هَذَا، فدفع إِلَيْهِ رأس حبيب بن مظاهر، فجال بِهِ فِي العسكر قَدْ علقه فِي عنق فرسه، ثُمَّ دفعه بعد ذَلِكَ إِلَيْهِ، فلما رجعوا إِلَى الْكُوفَةِ أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه فِي لبان فرسه، ثُمَّ أقبل بِهِ إِلَى ابن زياد فِي القصر فبصر بِهِ ابنه الْقَاسِم بن حبيب، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، كلما دخل القصر دخل مَعَهُ، وإذا خرج خرج مَعَهُ، فارتاب بِهِ، فَقَالَ: ما لك يَا بني تتبعني! قَالَ: لا شَيْء، قَالَ: بلى، يَا بني أَخْبِرْنِي، قَالَ لَهُ: إن هَذَا الرأس الَّذِي معك رأس أبي، أفتعطينيه حَتَّى أدفنه؟ قَالَ: يَا بني، لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير عَلَى قتله ثوابا حسنا، قَالَ لَهُ الغلام:
لكن اللَّه لا يثيبك عَلَى ذَلِكَ إلا أسوأ الثواب، أما وَاللَّهِ لقد قتلت خيرا مِنْكَ، وبكى فمكث الغلام حَتَّى إذا أدرك لَمْ يَكُنْ لَهُ همة إلا اتباع أثر قاتل أَبِيهِ ليجد مِنْهُ غرة فيقتله بأبيه، فلما كَانَ زمان مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ وغزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أَبِيهِ فِي فسطاطه، فأقبل يختلف فِي طلبه والتماس غرته، فدخل عَلَيْهِ وَهُوَ قائل نصف النهار فضربه بسيفه حَتَّى برد.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قيس، قَالَ: [لما قتل حبيب بن مظاهر هد ذَلِكَ حسينا وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: أحتسب نفسي وحماة أَصْحَابي،] قَالَ: فأخذ الحر يرتجز ويقول:
أليت لا أقتل حَتَّى أقتلا ولن أصاب الْيَوْم الا مقبلا

(5/440)


أضربهم بالسيف ضربا مقصلا لا ناكلا عَنْهُمْ وَلا مهللا وأخذ يقول أَيْضًا:
أضرب فِي أعراضهم بالسيف عن خير من حل منى والخيف فقاتل هُوَ وزهير بن القين قتالا شديدا، فكان إذا شد أحدهما، فإن استلحم شد الآخر حَتَّى يخلصه، ففعلا ذَلِكَ ساعة ثُمَّ إن رجالة شدت عَلَى الحر بن يَزِيدَ فقتل، وقتل أَبُو ثمامة الصائدي ابن عم لَهُ كَانَ عدوا لَهُ، ثُمَّ صلوا الظهر، صلى بهم الْحُسَيْن صلاة الخوف، ثُمَّ اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم، ووصل إِلَى الْحُسَيْن، فاستقدم الحنفي أمامه، فاستهدف لَهُمْ يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه، فما زال يرمى حَتَّى سقط وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا، وأخذ يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين أذودهم بالسيف عن حُسَيْن قَالَ: وأخذ يضرب عَلَى منكب حُسَيْن ويقول:
أقدم هديت هاديا مهديا فاليوم تلقى جدك النبيا وحسنا والمرتضى عَلِيًّا وذا الجناحين الفتى الكميا وأسد اللَّه الشهيد الحيا.
قَالَ: فشد عَلَيْهِ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ ومهاجر بن أوس فقتلاه، قَالَ: وَكَانَ نافع بن هلال الْجَمَلِيّ قَدْ كتب اسمه عَلَى أفواق نبله، فجعل يرمي بِهَا مسومة وَهُوَ يقول: أنا الْجَمَلِيّ، أنا عَلَى دين علي.
فقتل اثني عشر من أَصْحَاب عُمَر بن سَعْد سوى من جرح، قَالَ:
فضرب حَتَّى كسرت عضداه وأخذ أسيرا، قَالَ: فأخذه شمر بن ذي الجوشن

(5/441)


وَمَعَهُ أَصْحَاب لَهُ يسوقون نافعا حَتَّى أتي بِهِ عُمَر بن سَعْدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: ويحك يَا نافع! مَا حملك عَلَى مَا صنعت بنفسك! قَالَ: إن ربي يعلم مَا أردت، قَالَ: والدماء تسيل عَلَى لحيته وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لقد قتلت مِنْكُمُ اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي عَلَى الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد مَا أسرتموني، فَقَالَ لَهُ شمر: اقتله أصلحك اللَّه! قَالَ:
أنت جئت بِهِ، فإن شئت فاقتله، قَالَ: فانتضى شمر سيفه، فَقَالَ لَهُ نافع:
أما وَاللَّهِ إن لو كنت مِنَ الْمُسْلِمِينَ لعظم عَلَيْك أن تلقى اللَّه بدمائنا، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل منايانا عَلَى يدي شرار خلقه، فقتله.
قَالَ: ثُمَّ أقبل شمر يحمل عَلَيْهِم وَهُوَ يقول:
خلوا عداة اللَّه خلوا عن شمر يضربهم بسيفه وَلا يفر وَهْوَ لكم صاب وسم ومقر.
قَالَ: فلما رَأَى أَصْحَاب الْحُسَيْن أنَّهُمْ قَدْ كثروا، وأنهم لا يقدرون عَلَى أن يمنعوا حسينا وَلا أنفسهم، تنافسوا فِي أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عَبْد اللَّهِ وعبد الرَّحْمَن ابنا عزرة الغفاريان، فقالا: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، عَلَيْك السلام، حازنا العدو إليك، فأحببنا أن نقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك، قَالَ: مرحبا بكما! ادنوا مني، فدنوا مِنْهُ، فجعلا يقاتلان قريبا مِنْهُ، وأحدهما يقول:
قَدْ علمت حقا بنو غفار وخندف بعد بني نزار لنضربن معشر الفجار بكل عضب صارم بتار يَا قوم ذودوا عن بني الأحرار بالمشرفي والقنا الخطار قَالَ: وجَاءَ الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عم، وأخوان لأم، فأتيا حسينا فدنوا مِنْهُ وهما

(5/442)


يبكيان، فَقَالَ: أي ابني أخي، مَا يبكيكما؟ فو الله إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين، قَالا: جعلنا اللَّه فداك! لا وَاللَّهِ مَا عَلَى أنفسنا نبكي، ولكنا نبكي عَلَيْك، نراك قَدْ أحيط بك، وَلا نقدر عَلَى ان نمنعك، فقال: جزاكما الله يا بنى أخي بوحدكما من ذَلِكَ ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين، قَالَ: وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حُسَيْن، فأخذ ينادي: «يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» يا قوم تقتلوا حسينا فيسحتكم اللَّه بعذاب «وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» [فقال له حسين: يا بن اسعد، رحمك اللَّه، إِنَّهُمْ قَدِ استوجبوا العذاب حين ردوا عَلَيْك مَا دعوتهم إِلَيْهِ من الحق، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأَصْحَابك، فكيف بهم الآن وَقَدْ قتلوا إخوانك الصالحين! قَالَ: صدقت، جعلت فداك! أنت أفقه مني وأحق بِذَلِكَ، أفلا نروح إِلَى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فَقَالَ: رح إِلَى خير من الدُّنْيَا وما فِيهَا، وإلى ملك لا يبلى، فَقَالَ: السلام عَلَيْك أبا عَبْد اللَّهِ، صلى اللَّه عَلَيْك وعلى أهل بيتك، وعرف بيننا وبينك فِي جنته، فَقَالَ: آمين آمين، فاستقدم فقاتل حَتَّى قتل] .
قَالَ: ثُمَّ استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إِلَى حُسَيْن ويقولان: السلام عليك يا بن رَسُول اللَّهِ، فَقَالَ: وعَلَيْكُمَا السلام ورحمة اللَّه، فقاتلا حَتَّى قتلا، قَالَ: وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري وَمَعَهُ شوذب مولى شاكر، فَقَالَ: يَا شوذب، مَا فِي نفسك أن تصنع؟ قَالَ: مَا أصنع! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله ص حَتَّى أقتل، قَالَ: ذَلِكَ الظن بك، إما لا فتقدم بين يدي أبي عَبْد اللَّهِ حَتَّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أَصْحَابه، وحتى أحتسبك أنا، فإنه لو كَانَ معي الساعة أحد أنا أولى

(5/443)


بِهِ مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حَتَّى أحتسبه، فإن هَذَا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فِيهِ بكل مَا قدرنا عَلَيْهِ، فإنه لا عمل بعد الْيَوْم، وإنما هُوَ الحساب، قَالَ: فتقدم فسلم عَلَى الحسين، ثم مضى فقاتل حتى قتل ثُمَّ قَالَ عابس بن أبي شبيب: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، أما وَاللَّهِ مَا أمسى عَلَى ظهر الأرض قريب وَلا بعيد أعز علي وَلا أحب إلي مِنْكَ، ولو قدرت عَلَى أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عَلَيْك يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، أشهد اللَّه أني عَلَى هديك وهدي أبيك، ثُمَّ مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة عَلَى جبينه.
قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن رجل من بني عبد من همدان يقال لَهُ ربيع بن تميم شهد ذَلِكَ الْيَوْم، قَالَ: لما رأيته مقبلا عرفته وَقَدْ شاهدته فِي المغازي، وَكَانَ أشجع الناس، فقلت: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا الأسد الأسود، هَذَا ابن أبي شبيب، لا يخرجن إِلَيْهِ أحد مِنْكُمْ، فأخذ ينادي:
أَلا رجل لرجل! فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: أرضخوه بالحجارة، قَالَ: فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رَأَى ذَلِكَ ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، فو الله لرأيته يكرد أكثر من مائتين مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تعطفوا عَلَيْهِ من كل جانب، فقتل، قَالَ: فرأيت رأسه فِي أيدي رجال ذوي عدة، هَذَا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته، فأتوا عُمَر بن سَعْدٍ فَقَالَ:
لا تختصموا، هَذَا لم يقتله سنان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: لما رأيت أَصْحَاب الْحُسَيْن قَدْ أصيبوا، وَقَدْ خلص إِلَيْهِ وإلى أهل بيته، ولم يبق مَعَهُ غير سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع الخثعمى وبشير ابن عمرو الحضرمى، قلت له: يا بن رَسُول اللَّهِ، قَدْ علمت مَا كَانَ بيني وبينك، قلت لك: أقاتل عنك مَا رأيت مقاتلا، فإذا لم أر مقاتلا فأنا فِي حل من الانصراف، فقلت لي: نعم، قَالَ: فقال: صدقت، وكيف لك

(5/444)


بالتجاء! إن قدرت عَلَى ذَلِكَ فأنت فِي حل، قَالَ: فأقبلت إِلَى فرسي وَقَدْ كنت حَيْثُ رأيت خيل أَصْحَابنا تعقر، أقبلت بِهَا حَتَّى أدخلتها فسطاطا لأَصْحَابنا بين البيوت، وأقبلت أقاتل معهم راجلا، [فقتلت يَوْمَئِذٍ بين يدي الْحُسَيْن رجلين، وقطعت يد آخر، وَقَالَ لي الْحُسَيْن يَوْمَئِذٍ مرارا: لا تشلل، لا يقطع اللَّه يدك، جزاك اللَّه خيرا عن أهل بيت نبيك ص!] فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط، ثُمَّ استويت عَلَى متنها، ثُمَّ ضربتها حَتَّى إذا قامت عَلَى السنابك رميت بِهَا عرض القوم، فأفرجوا لي، واتبعني مِنْهُمْ خمسة عشر رجلا حَتَّى انتهيت إِلَى شفية، قرية قريبة من شاطئ الفرات، فلما لحقوني عطفت عَلَيْهِم، فعرفني كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ وأيوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عَبْدِ اللَّهِ الصائدي، فَقَالُوا:
هَذَا الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، هَذَا ابن عمنا، ننشدكم اللَّه لما كففتم عنه! فَقَالَ ثلاثة نفر من بني تميم كَانُوا معهم: بلى وَاللَّهِ لنجيبن إخواننا وأهل دعوتنا إِلَى مَا أحبوا من الكف عن صاحبهم، قَالَ: فلما تابع التميميون أَصْحَابي كف الآخرون، قَالَ: فنجاني اللَّه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي أن يَزِيد بن زياد، وَهُوَ أَبُو الشعثاء الكندي من بني بهدلة جثا عَلَى ركبتيه بين يدي الْحُسَيْن، فرمى بمائة سهم مَا سقط منها خمسة أسهم، وَكَانَ راميا، فكان كلما رمى قَالَ:
أنا ابن بهدلة، فرسان العرجلة، ويقول حُسَيْن: [اللَّهُمَّ سدد رميته، واجعل ثوابه الجنة، فلما رمى] بِهَا قام فَقَالَ: مَا سقط منها إلا خمسة أسهم، وَلَقَدْ تبين لي أني قَدْ قتلت خمسة نفر، وَكَانَ فِي أول من قتل، وَكَانَ رجزه يَوْمَئِذٍ:
أنا يَزِيد وأبي مهاصر أشجع من ليث بغيل خادر يَا رب إني للحسين ناصر ولابن سعد تارك وهاجر وَكَانَ يَزِيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عُمَر بن سَعْد إِلَى الْحُسَيْن،

(5/445)


فلما ردوا الشروط عَلَى الْحُسَيْن مال إِلَيْهِ فقاتل مَعَهُ حَتَّى قتل، فأما الصيداوي عُمَر بن خَالِدٍ، وجابر بن الْحَارِث السلماني، وسعد مولى عُمَر بن خَالِدٍ، ومجمع بن عَبْدِ اللَّهِ العائذي، فإنهم قاتلوا فِي أول القتال، فشدوا مقدمين بأسيافهم عَلَى الناس، فلما وغلوا عطف عَلَيْهِم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أَصْحَابهم غير بعيد، فحمل عَلَيْهِم العباس بن علي فاستنقذهم، فجاءوا قَدْ جرحوا، فلما دنا مِنْهُمْ عدوهم شدوا بأسيافهم فقاتلوا فِي أول الأمر حَتَّى قتلوا فِي مكان واحد قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زهير بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زهير الخثعمي، قَالَ:
كَانَ آخر من بقي مع الْحُسَيْن من أَصْحَابه سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع الخثعمي، قَالَ: وَكَانَ أول قتيل من بني أبي طالب يَوْمَئِذٍ علي الأكبر بن الْحُسَيْن بن علي، وأمه لَيْلَى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وَذَلِكَ أنه أخذ يشد عَلَى الناس وَهُوَ يقول:
أنا عَلِيّ بن حُسَيْن بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي.
قَالَ: ففعل ذَلِكَ مرارا، فبصر بِهِ مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ العبدي ثُمَّ اللَّيْثِيّ، فَقَالَ: علي آثام العرب إن مر بي يفعل مثل مَا كَانَ يفعل إن لم أثكله أباه، فمر يشد عَلَى الناس بسيفه، فاعترضه مرة بن منقذ، فطعنه فصرع، واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: [سماع أذني يَوْمَئِذٍ من الْحُسَيْن يقول: قتل اللَّه قوما قتلوك يَا بني! مَا أجرأهم عَلَى الرحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول! عَلَى الدُّنْيَا بعدك العفاء] .
قَالَ: وكأني أنظر إِلَى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعه تنادى:
يا اخياه! ويا بن أخياه! قَالَ: فسألت عَلَيْهَا، فقيل: هَذِهِ زينب ابنه فاطمه ابنه رسول الله ص، فجاءت حَتَّى أكبت عَلَيْهِ، فجاءها

(5/446)


الْحُسَيْن فأخذ بيدها فردها إِلَى الفسطاط، [وأقبل الْحُسَيْن إِلَى ابنه، وأقبل فتيانه إِلَيْهِ، فَقَالَ: احملوا أخاكم،] فحملوه من مصرعه حَتَّى وضعوه بين يدي الفسطاط الَّذِي كَانُوا يقاتلون أمامه قَالَ: ثُمَّ إن عَمْرو بن صبيح الصدائي رمى عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه عَلَى جبهته، فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه، ثُمَّ انتحى لَهُ بسهم آخر ففلق قلبه، فاعتورهم الناس من كل جانب، فحمل عَبْد اللَّهِ بن قطبة الطَّائِيّ ثُمَّ النبهاني عَلَى عون بن عَبْدِ الله ابن جَعْفَر بن أبي طالب فقتله، وحمل عَامِر بن نهشل التيمي عَلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فقتله، قال: وشد عثمان بن خالد ابن أسير الجهني، وبشر بن سوط الهمداني ثُمَّ القابضى على عبد الرحمن ابن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عَبْد الله بن عزره الخثعمى جعفر ابن عقيل بن أبي طالب فقتله.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر، فِي يده السيف، عَلَيْهِ قميص وإزار ونعلان قَدِ انقطع شسع أحدهما، مَا أنسى أنها اليسرى، فَقَالَ لي عمرو ابن سَعْدِ بْنِ نفيل الأَزْدِيّ: وَاللَّهِ لأشدن عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: سبحان اللَّه! وما تريد إِلَى ذَلِكَ! يكفيك قتل هَؤُلاءِ الَّذِينَ تراهم قَدِ احتولوهم، قَالَ: فَقَالَ:
وَاللَّهِ لأشدن عَلَيْهِ، فشد عَلَيْهِ فما ولى حَتَّى ضرب رأسه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه، فَقَالَ: يَا عماه! قَالَ: فجلى الْحُسَيْن كما يجلى الصقر، ثُمَّ شد شده ليث غضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فأطنها من لدن المرفق، فصاح، ثُمَّ تنحى عنه، وحملت خيل لأهل الْكُوفَة ليستنقذوا عمرا من حُسَيْن، فاستقبلت عمرا بصدورها، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه، فوطئته حَتَّى مات، وانجلت الغبرة، [فإذا أنا بالحسين قائم عَلَى رأس الغلام، والغلام يفحص برجليه، وحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم الْقِيَامَة فيك جدك! ثُمَّ قَالَ: عز وَاللَّهِ عَلَى عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثُمَّ لا ينفعك! صوت وَاللَّهِ كثر واتره، وقل ناصره] ثُمَّ احتمله فكأني أنظر إِلَى رجلي الغلام يخطان فِي الأرض،

(5/447)


وَقَدْ وضع حُسَيْن صدره عَلَى صدره، قَالَ: فقلت فِي نفسي: مَا يصنع بِهِ! فَجَاءَ بِهِ حَتَّى ألقاه مع ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن وقتلى قَدْ قتلت حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل: هُوَ الْقَاسِم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قَالَ: ومكث الْحُسَيْن طويلا من النهار كلما انتهى إِلَيْهِ رجل مِنَ النَّاسِ انصرف عنه، وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عَلَيْهِ، قَالَ: [وإن رجلا من كندة يقال لَهُ مالك بن النسير من بني بداء، أتاه فضربه عَلَى رأسه بالسيف، وعليه برنس لَهُ، فقطع البرنس، وأصاب السيف رأسه، فأدمى رأسه، فامتلأ البرنس دما، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا أكلت بِهَا وَلا شربت، وحشرك اللَّه مع الظالمين! قَالَ:] فألقى ذَلِكَ البرنس، ثُمَّ دعا بقلنسوة فلبسها، واعتم، وَقَدْ أعيا وبلد، وجاء الكندي حَتَّى أخذ البرنس- وَكَانَ من خز- فلما قدم بِهِ بعد ذَلِكَ عَلَى امرأته أم عَبْد اللَّهِ ابنة الحر أخت حُسَيْن بن الحر البدي، أقبل يغسل البرنس من الدم، فَقَالَتْ لَهُ امرأته: أسلب ابن بنت رسول الله ص تدخل بيتي! أخرجه عني، فذكر أَصْحَابه أنه لم يزل فقيرا بشر حَتَّى مات قَالَ: ولما قعد الْحُسَيْن أتى بصبي لَهُ فأجلسه فِي حجره زعموا أنه عَبْد اللَّهِ بن الْحُسَيْن.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ عقبة بن بشير الأسدي: [قَالَ لي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابن عَلِيّ بن الْحُسَيْن: إن لنا فيكم يَا بني أسد دما، قَالَ: قلت: فما ذنبي أنا فِي ذَلِكَ رحمك اللَّه يَا أَبَا جَعْفَر! وما ذَلِكَ؟ قَالَ: أتي الْحُسَيْن بصبي لَهُ، فهو فِي حجره، إذ رماه أحدكم يَا بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الْحُسَيْن دمه، فلما ملأ كفيه صبه فِي الأرض ثُمَّ قَالَ: رب إن تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذَلِكَ لما هُوَ خير، وانتقم لنا من هَؤُلاءِ الظالمين،] قَالَ:
ورمى عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي أبا بكر بن الْحُسَيْن بن علي بسهم فقتله، فلذلك يقول الشاعر، وَهُوَ ابن أبي عقب:
وعند غني قطرة من دمائنا ... وفي أسد أخرى تعد وتذكر
قَالَ: وزعموا أن العباس بن علي قَالَ لإخوته من أمه: عَبْد الله، وجعفر

(5/448)


وعثمان: يَا بني أمي، تقدموا حَتَّى أرثكم، فإنه لا ولد لكم، ففعلوا، فقتلوا.
وشد هانئ بن ثبيت الحضرمي عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ فقتله، ثُمَّ شد عَلَى جَعْفَر بن علي فقتله وجاء برأسه، ورمى خولي بن يَزِيدَ الأصبحي عُثْمَان بن عَلِيّ بن أبي طالب بسهم، ثُمَّ شد عَلَيْهِ رجل من بني أبان بن دارم فقتله، وجاء برأسه، ورمى رجل من بني أبان بن دارم مُحَمَّد بن عَلِيّ بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي أَبُو الهذيل- رجل من السكون- عن هانئ بن ثبيت الحضرمي، قَالَ: رأيته جالسا فِي مجلس الحضرميين فِي زمان خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ شيخ كبير، قَالَ: فسمعته وَهُوَ يقول: كنت ممن شهد قتل الحسين، قال: فو الله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا عَلَى فرس، وَقَدْ جالت الخيل وتصعصعت، إذ خرج غلام من آل الْحُسَيْن وَهُوَ ممسك بعود من تِلَكَ الأبنية، عَلَيْهِ إزار وقميص، وَهُوَ مذعور، يتلفت يمينا وشمالا، فكأني أنظر إِلَى درتين فِي أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض، حَتَّى إذا دنا مِنْهُ مال عن فرسه، ثُمَّ اقتصد الغلام فقطعه بالسيف.
قَالَ هِشَام: قَالَ السكوني: هانئ بن ثبيت هُوَ صاحب الغلام، فلما عتب عَلَيْهِ كنى عن نفسه.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عَمْرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قَالَ: عطش الْحُسَيْن حَتَّى اشتد عَلَيْهِ العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع فِي فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه، ويرمي بِهِ إِلَى السماء، ثُمَّ حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ جمع يديه فَقَالَ: اللَّهُمَّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، وَلا تذر عَلَى الأرض مِنْهُمْ أحدا.
قَالَ هِشَام، عن أَبِيهِ مُحَمَّد بن السَّائِب، عَنِ القاسم بن الأصبغ بن نباته، قَالَ: حَدَّثَنِي من شهد الْحُسَيْن فِي عسكره أن حسينا حين غلب عَلَى عسكره ركب المسناة يريد الفرات، قَالَ: فَقَالَ رجل من بنى ابان بن دارم: ويلكم! حولوا بينه وبين الماء لا تتام إِلَيْهِ شيعته، قَالَ: وضرب

(5/449)


فرسه، وأتبعه الناس حَتَّى حالوا بينه وبين الفرات، فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ أَظْمِهِ، قَالَ: وينتزع الأباني بسهم، فأثبته فِي حنك الْحُسَيْن، قَالَ:
[فانتزع الْحُسَيْن السهم، ثُمَّ بسط كفيه فامتلأت دما، ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ إني أشكو إليك مَا يفعل بابن بنت نبيك، قَالَ:] فو الله إن مكث الرجل إلا يسيرا حَتَّى صب اللَّه عَلَيْهِ الظمأ، فجعل لا يروى.
قَالَ الْقَاسِم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يبرد لَهُ فِيهِ السكر وعساس فِيهَا اللبن، وقلال فِيهَا الماء، وإنه ليقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ، فيعطى القلة أو العس كَانَ مرويا أهل البيت فيشربه، فإذا نزعه من فِيهِ اضطجع الهنيهة ثُمَّ يقول: ويلكم! اسقونى قتلني الظما، قال: فو الله مَا لبث إلا يسيرا حَتَّى انقد بطنه انقداد بطن البعير.
قَالَ أَبُو مخنف فِي حديثه: ثُمَّ إن شمر بن ذي الجوشن أقبل فِي نفر نحو من عشرة من رجالة أهل الْكُوفَة قبل منزل الْحُسَيْن الَّذِي فِيهِ ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله، [فَقَالَ الْحُسَيْن: ويلكم! إن لَمْ يَكُنْ لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا فِي أمر دُنْيَاكُمْ أحرارا ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهالكم، فقال ابن ذي الجوشن] :
ذلك لك يا بن فاطمة، قَالَ: وأقدم عَلَيْهِ بالرجالة، مِنْهُمْ أَبُو الجنوب- واسمه عبد الرَّحْمَن الجعفي- والقشعم بن عَمْرو بن يَزِيدَ الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، فجعل شمر ابن ذي الجوشن يحرضهم، فمر بأبي الجنوب وَهُوَ شاك فِي السلاح فَقَالَ لَهُ:
أقدم عَلَيْهِ، قَالَ: وما يمنعك أن تقدم عَلَيْهِ أنت! فَقَالَ لَهُ شمر: ألي تقول ذا! قَالَ: وأنت لي تقول ذا! فاستبا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الجنوب- وَكَانَ شجاعا:
وَاللَّهِ لهممت أن أخضخض السنان فِي عينك، قَالَ: فانصرف عنه شمر وَقَالَ:
وَاللَّهِ لَئِنْ قدرت عَلَى أن أضرك لأضرنك قَالَ: ثُمَّ إن شمر بن ذي الجوشن أقبل فِي الرجالة نحو الْحُسَيْن، فأخذ الْحُسَيْن يشد عَلَيْهِم فينكشفون عنه.
ثُمَّ إِنَّهُمْ أحاطوا بِهِ إحاطة، وأقبل إِلَى الْحُسَيْن غلام من أهله، فأخذته أخته

(5/450)


زينب ابنة علي لتحبسه، [فَقَالَ لها الْحُسَيْن: احبسيه، فأبى الغلام، وجاء يشتد إِلَى الْحُسَيْن، فقام إِلَى جنبه، قَالَ: وَقَدْ أهوى بحر بن كعب بن عُبَيْد اللَّهِ- من بني تيم اللَّه بن ثعلبة بن عكابة- إِلَى الحسين بالسيف، فقال الغلام:
يا بن الخبيثة، أتقتل عمي! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلا الجلدة، فإذا يده معلقة، فنادى الغلام: يَا أمتاه! فأخذه الْحُسَيْن فضمه الى صدره، وقال: يا بن أخي، اصبر عَلَى مَا نزل بك، واحتسب فِي ذَلِكَ الخير، فإن اللَّه يلحقك بآبائك الصالحين، برسول الله ص وعلي بن أَبِي طَالِبٍ وحمزة وجعفر والحسن بن علي، صلى اللَّه عَلَيْهِم أجمعين] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ:
سمعت الْحُسَيْن يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يقول: [اللَّهُمَّ أمسك عَنْهُمْ قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللَّهُمَّ فإن متعتهم إِلَى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، وَلا ترض عَنْهُمُ الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا] قَالَ: وضارب الرجالة حَتَّى انكشفوا عنه، [قَالَ: ولما بقي الْحُسَيْن فِي ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل محققة يلمع فِيهَا البصر، يماني محقق، ففزره ونكثه لكيلا يسلبه، فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه:
لو لبست تحته تبانا! قَالَ: ذَلِكَ ثوب مذلة، وَلا ينبغي لي أن ألبسه،] قَالَ: فلما قتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إِيَّاهُ فتركه مجردا.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَمْرو بن شعيب، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الرَّحْمَن أن يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء تنضحان الماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود.
قَالَ أَبُو مخنف: عن الحجاج، عن عَبْد اللَّهِ بن عمار بن عَبْدِ يغوث البارقى،

(5/451)


وعتب عَلَى عَبْد اللَّهِ بن عمار بعد ذَلِكَ مشهده قتل الْحُسَيْن، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن عمار: إن لي عِنْدَ بني هاشم ليدا، قلنا لَهُ: وما يدك عندهم؟ قَالَ:
حملت على حسين بالرمح فانتهيت اليه، فو الله لو شئت لطعنته، ثُمَّ انصرفت عنه غير بعيد، وقلت: مَا أصنع بأن أتولى قتله! يقتله غيري قَالَ: فشد عَلَيْهِ رجالة ممن عن يمينه وشماله، فحمل عَلَى من عن يمينه حَتَّى ابذعروا، وعلى من عن شماله حَتَّى ابذعروا، وعليه قميص لَهُ من خز وهو معتم، قال: فو الله مَا رأيت مكسورا قط قَدْ قتل ولده وأهل بيته وأَصْحَابه أربط جأشا، وَلا أمضى جنانا وَلا أجرأ مقدما مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا رأيت قبله ولا بعده مثله، ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، قال: فو الله إنه لكذلك إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته، وكأني أنظر إِلَى قرطها يجول بين أذنيها وعاتقها وَهِيَ تقول: ليت السماء تطابقت عَلَى الأرض! وَقَدْ دنا عُمَر بن سَعْد من حُسَيْن، فَقَالَتْ: يَا عُمَر بن سَعْدٍ، أيقتل أَبُو عَبْد اللَّهِ وأنت تنظر إِلَيْهِ! قَالَ: فكأني أنظر إِلَى دموع عمر وَهِيَ تسيل عَلَى خديه ولحيته، قَالَ: وصرف بوجهه عنها.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم، قَالَ: كَانَتْ عَلَيْهِ جبة من خز، وَكَانَ معتما، وَكَانَ مخضوبا بالوسمة، قَالَ: وسمعته يقول قبل أن يقتل، وَهُوَ يقاتل عَلَى رجليه قتال الفارس الشجاع يتقى الرميه، ويفترض العورة، ويشد عَلَى الخيل، [وَهُوَ يقول:
أعلى قتلي تحاثون! أما وَاللَّهِ لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله اللَّه أسخط عَلَيْكُمْ لقتله مني، وايم اللَّه إني لأرجو أن يكرمني اللَّه بهوانكم، ثُمَّ ينتقم لي مِنْكُمْ من حَيْثُ لا تشعرون، أما وَاللَّهِ أن لو قَدْ قتلتموني لقد ألقى اللَّه بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثُمَّ لا يرضى لكم حَتَّى يضاعف لكم العذاب الأليم] قَالَ: وَلَقَدْ مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كَانَ يتقي بعضهم ببعض، ويحب هَؤُلاءِ أن يكفيهم هَؤُلاءِ، قَالَ:

(5/452)


فنادى شمر فِي الناس: ويحكم، ماذا تنظرون بالرجل! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! قَالَ: فحمل عَلَيْهِ من كل جانب، فضربت كفه اليسرى ضربة، ضربها زرعة بن شريك التميمي، وضرب عَلَى عاتقه، ثُمَّ انصرفوا وَهُوَ ينوء ويكبو، قَالَ: وحمل عَلَيْهِ فِي تِلَكَ الحال سنان بن أنس بن عَمْرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثُمَّ قَالَ لخولي بن يَزِيدَ الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل، فضعف فأرعد، فَقَالَ لَهُ سنان بن أنس: فت اللَّه عضديك، وأبان يديك! فنزل إِلَيْهِ فذبحه واحتز رأسه، ثُمَّ دفع إِلَى خولي بن يَزِيدَ، وَقَدْ ضرب قبل ذَلِكَ بالسيوف.
قَالَ أَبُو مخنف، [عن جَعْفَر بن مُحَمَّدِ بْنِ علي، قَالَ: وجد بالحسين ع حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة،] قَالَ:
وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الْحُسَيْن إلا شد عَلَيْهِ مخافة أن يغلب عَلَى رأسه، حَتَّى أخذ رأس الْحُسَيْن فدفعه إِلَى خولي، قَالَ: وسلب الْحُسَيْن مَا كَانَ عَلَيْهِ، فأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته- وكانت من خز، وَكَانَ يسمى بعد قيس قطيفة- وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال لَهُ الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم، فوقع بعد ذَلِكَ إِلَى أهل حبيب بن بديل، قَالَ: ومال الناس عَلَى الورس والحلل والإبل وانتهبوها، قَالَ: ومال الناس عَلَى نساء الْحُسَيْن وثقله ومتاعه، فإن كَانَتِ المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حَتَّى تغلب عَلَيْهِ فيذهب بِهِ منها.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زهير بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الخثعمي، أن سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع كَانَ صرع فأثخن، فوقع بين القتلى مثخنا، فسمعهم يقولون: قتل الْحُسَيْن، فوجد إفاقة، فإذا مَعَهُ سكين وَقَدْ أخذ سيفه، فقاتلهم بسكينه ساعة، ثُمَّ إنه قتل، قتله عروة بن بطار التغلبي، وزَيْد بن رقاد الجنبي، وَكَانَ آخر قتيل.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم،

(5/453)


قَالَ، انتهيت إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن علي الأصغر وَهُوَ منبسط عَلَى فراش لَهُ، وَهُوَ مريض، وإذا شمر بن ذي الجوشن فِي رجالة مَعَهُ يقولون: أَلا نقتل هَذَا؟ قَالَ: فقلت: سبحان اللَّه! أنقتل الصبيان! إنما هَذَا صبي، قَالَ: فما زال ذَلِكَ دأبي أدفع عنه كل من جَاءَ حَتَّى جَاءَ عُمَر بن سَعْد، فَقَالَ:
أَلا لا يدخلن بيت هَؤُلاءِ النسوة أحد، وَلا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شَيْئًا فليرده عليهم قال: فو الله مَا رد أحد شَيْئًا، قَالَ: [فَقَالَ عَلِيّ بن الحسين: جزيت من رجل خيرا! فو الله لقد دفع اللَّه عني بمقالتك شرا،] قَالَ: فَقَالَ الناس لسنان بن أنس: قتلت حُسَيْن بن علي وابن فاطمة ابنة رَسُول اللَّهِ ص، قتلت أعظم العرب خطرا، جَاءَ إِلَى هَؤُلاءِ يريد أن يزيلهم عن ملكهم، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم فِي قتل الْحُسَيْن كَانَ قليلا، فأقبل عَلَى فرسه، وَكَانَ شجاعا شاعرا، وكانت بِهِ لوثة، فأقبل حَتَّى وقف عَلَى باب فسطاط عُمَر بن سَعْدٍ، ثُمَّ نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: أشهد إنك لمجنون مَا صححت قط، أدخلوه علي، فلما أدخل حذفه بالقضيب ثُمَّ قَالَ: يَا مجنون، أتتكلم بهذا الكلام! أما وَاللَّهِ لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك، قَالَ: وأخذ عُمَر بن سَعْد عقبة بن سمعان- وَكَانَ مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبية، وَهِيَ أم سكينة بنت الْحُسَيْن- فَقَالَ لَهُ: مَا أنت؟ قَالَ: أنا عبد مملوك، فخلي سبيله، فلم ينج مِنْهُمْ أحد غيره، إلا أن المرقع بن ثمامة الأسدي كَانَ قَدْ نثر نبله وجثا عَلَى ركبتيه، فقاتل، فجاءه نفر من قومه، فَقَالُوا لَهُ: أنت آمن، أخرج إلينا، فخرج إِلَيْهِم، فلما قدم بهم عُمَر بن سَعْد عَلَى ابن زياد وأخبره خبره سيره إِلَى الزارة قَالَ: ثُمَّ إن عُمَر بن سَعْد نادى فِي أَصْحَابه: من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة: مِنْهُمْ إِسْحَاق بن حيوة الحضرمي،

(5/454)


وَهُوَ الَّذِي سلب قميص الْحُسَيْن- فبرص بعد- واحبش بن مرثد بن علقمه ابن سلامة الحضرمي، فأتوا فداسوا الْحُسَيْن بخيولهم حَتَّى رضوا ظهره وصدره، فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذَلِكَ بزمان أتاه سهم غرب، وَهُوَ واقف فِي قتال ففلق قلبه، فمات، قال: فقتل من اصحاب الحسين ع اثنان وسبعون رجلا، ودفن الْحُسَيْن وأَصْحَابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم، وقتل من أَصْحَاب عُمَر بن سَعْد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلى عَلَيْهِم عُمَر بن سَعْد ودفنهم، قَالَ: وما هُوَ إلا أن قتل الْحُسَيْن، فسرح برأسه من يومه ذَلِكَ مع خولي بن يَزِيدَ وحميد بن مسلم الأَزْدِيّ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فأقبل بِهِ خولي فأراد القصر، فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت إجانة فِي منزله، وله امرأتان: امرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تِلَكَ الليلة ليلة الحضرمية قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي أبي، عن النوار بنت مالك، قالت: أقبل خولي برأس الْحُسَيْن فوضعه تحت إجانة فِي الدار، ثُمَّ دخل البيت، فأوى إِلَى فراشه، فقلت لَهُ: مَا الخبر؟ مَا عندك؟ قَالَ: جئتك بغنى الدهر، هَذَا رأس الْحُسَيْن معك فِي الدار، قالت: فقلت: ويلك- جَاءَ الناس بالذهب والفضه وجئت برأس ابن رسول الله ص! لا وَاللَّهِ لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدا، قالت: فقمت من فراشي، فخرجت إِلَى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إِلَيْهِ، وجلست أنظر، قالت: فو الله مَا زلت أنظر إِلَى نور يسطع مثل العمود من السماء إِلَى الإجانة، ورأيت طيرا بيضا ترفرف حولها.
قَالَ: فلما أصبح غدا بالرأس إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وأقام عُمَر بن سَعْد يومه ذَلِكَ والغد، ثُمَّ أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن فِي الناس بالرحيل إِلَى الْكُوفَةِ، وحمل مَعَهُ بنات الْحُسَيْن وأخواته ومن كَانَ مَعَهُ من الصبيان، وعلى ابن الْحُسَيْن مريض.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو زهير العبسي، عن قرة بن قيس التميمي،

(5/455)


قَالَ: نظرت إِلَى تِلَكَ النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن قَالَ: فاعترضتهن عَلَى فرس، فما رأيت منظرا من نسوة قط كَانَ أحسن من منظر رأيته منهن ذَلِكَ الْيَوْم، وَاللَّهِ لهن أحسن من مهايبرين.
قال: فما نسيت من الأشياء لا انس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الْحُسَيْن صريعا وَهِيَ تقول: يَا مُحَمَّداه، يَا مُحَمَّداه! صلى عَلَيْك ملائكة السماء، هَذَا الْحُسَيْن بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يَا مُحَمَّداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عَلَيْهَا الصبا قَالَ: فأبكت وَاللَّهِ كل عدو وصديق، قَالَ: وقطف رءوس الباقين، فسرح باثنين وسبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حَتَّى قدموا بِهَا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: دعاني عُمَر بن سَعْد فسرحني إِلَى أهله لأبشرهم بفتح اللَّه عَلَيْهِ وبعافيته، فأقبلت حَتَّى أتيت أهله، فأعلمتهم ذَلِكَ، ثُمَّ أقبلت حَتَّى أدخل فأجد ابن زياد قَدْ جلس لِلنَّاسِ، وأجد الوفد قَدْ قدموا عَلَيْهِ، فأدخلهم، وأذن لِلنَّاسِ، فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الْحُسَيْن موضوع بين يديه، وإذا هُوَ ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زَيْد بن أَرْقَمَ: لا ينجم عن نكته بالقضيب، قَالَ لَهُ: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الذى لا إله غيره لقد رأيت شفتي رَسُول الله ص عَلَى هاتين الشفتين يقبلهما، ثُمَّ انفضخ الشيخ يبكي، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أبكى اللَّه عينيك! فو الله لولا أنك شيخ قَدْ خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قَالَ: فنهض فخرج، فلما خرج سمعت الناس يقولون: وَاللَّهِ لقد قَالَ زَيْد بن أَرْقَمَ قولا لو سمعه ابن زياد لقتله، قَالَ: فقلت: مَا قَالَ؟ قَالُوا: مر بنا وَهُوَ يقول: ملك عبد عبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يَا معشر العرب العبيد بعد الْيَوْم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن رضي بالذل!

(5/456)


قَالَ: فلما دخل برأس حُسَيْن وصبيانه وأخواته ونسائه عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها، وتنكرت، وحفت بِهَا إماؤها، فلما دخلت جلست، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد: من هَذِهِ الجالسة؟ فلم تكلمه، فَقَالَ ذَلِكَ ثلاثا، كل ذَلِكَ لا تكلمه، فَقَالَ بعض إمائها: هَذِهِ زينب ابنة فاطمة، قَالَ: فَقَالَ لها عُبَيْد اللَّهِ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فَقَالَتِ: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد ص وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، قَالَ: فكيف رأيت صنع اللَّه بأهل بيتك! قالت: كتب عَلَيْهِم القتل، فبرزوا إِلَى مضاجعهم، وسيجمع اللَّه بينك وبينهم، فتحاجون إِلَيْهِ، وتخاصمون عنده، قَال: فغضب ابن زياد واستشاط، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَمْرو ابن حريث: أصلح اللَّه الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها! إنها لا تؤاخذ بقول، وَلا تلام عَلَى خطل، فَقَالَ لها ابن زياد:
قَدْ أشفى اللَّه نفسي من طاغيتك، والعصاة المردة من أهل بيتك، قَالَ:
فبكت ثُمَّ قالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هَذَا فقد اشتفيت، فَقَالَ لها عُبَيْد اللَّهِ:
هَذِهِ شجاعة، قَدْ لعمري كَانَ أبوك شاعرا شجاعا، قالت: مَا للمرأة والشجاعة! إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكن نفثي مَا أقول.
قَالَ أَبُو مخنف، عَنِ الْمُجَالِدِ بن سَعِيد: إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما نظر إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن قَالَ لشرطي: انظر هل أدرك مَا يدرك الرجال؟ فكشط إزاره عنه، فَقَالَ: نعم، قَالَ انطلقوا بِهِ فاضربوا عنقه، فَقَالَ لَهُ على: إن كَانَ بينك وبين هَؤُلاءِ النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: تعال أنت، فبعثه معهن.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما سُلَيْمَان بن أبي راشد، فَحَدَّثَنِي عن حميد بن مسلم

(5/457)


[قَالَ: إني لقائم عِنْدَ ابن زياد حين عرض عَلَيْهِ عَلِيّ بن الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ:
مَا اسمك؟ قَالَ: أنا عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قال: او لم يقتل اللَّه عَلِيّ بن الْحُسَيْن! فسكت، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: قَدْ كَانَ لي أخ يقال لَهُ أَيْضًا علي، فقتله الناس، قَالَ: إن اللَّه قَدْ قتله، قَالَ: فسكت علي، فَقَالَ لَهُ: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ، قَالَ: أنت وَاللَّهِ مِنْهُمْ، ويحك! انظروا هل أدرك؟ وَاللَّهِ إني لأحسبه رجلا، قَالَ: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري، فَقَالَ: نعم قَدْ أدرك، فَقَالَ: اقتله، فَقَالَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن:
من توكل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت بِهِ زينب عمته فقالت: يا بن زياد، حسبك منا، أما رويت من دمائنا! وهل أبقيت منا أحدا! قَالَ: فاعتنقته فَقَالَتْ: أسألك بِاللَّهِ إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتني مَعَهُ! قَالَ: وناداه علي فَقَالَ: يا بن زياد، إن كَانَتْ بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإِسْلام،] قَالَ: فنظر إِلَيْهَا ساعة، ثُمَّ نظر إِلَى القوم فَقَالَ: عجبا للرحم! وَاللَّهِ إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها مَعَهُ، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك.
قَالَ حميد بن مسلم: لما دخل عُبَيْد اللَّهِ القصر ودخل الناس، نودي:
الصَّلاة جامعة! فاجتمع الناس فِي المسجد الأعظم، فصعد الْمِنْبَر ابن زياد فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي أظهر الحق وأهله، ونصر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب، الْحُسَيْن بن علي وشيعته، فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حَتَّى وثب إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن عفيف الأَزْدِيّ ثُمَّ الغامدي، ثُمَّ أحد بني والبة- وَكَانَ من شيعة علي كرم اللَّه وجهه، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كَانَ يوم صفين ضرب عَلَى رأسه ضربة، وأخرى عَلَى حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فِيهِ إِلَى الليل ثُمَّ ينصرف- قَالَ: فلما سمع مقاله ابن زياد، قال:

(5/458)


يا بن مرجانة، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذى ولاك وأبوه، يا بن مرجانة، أتقتلون أبناء النبيين، وتكلمون بكلام الصديقين! فَقَالَ ابن زياد: علي بِهِ، قَالَ: فوثبت عَلَيْهِ الجلاوزة فأخذوه، قَالَ: فنادى بشعار الأزد: يَا مبرور- قَالَ: وعبد الرَّحْمَن بن مخنف الأَزْدِيّ جالس- فَقَالَ:
ويح غيرك! أهلكت نفسك، وأهلكت قومك، قَالَ: وحاضر الْكُوفَة يَوْمَئِذٍ من الأزد سبعمائة مقاتل، قَالَ: فوثب إِلَيْهِ فتية من الأزد فانتزعوه فأتوا بِهِ أهله، فأرسل إِلَيْهِ من أتاه بِهِ، فقتله وأمر بصلبه فِي السبخة، فصلب هنالك.
قَالَ أَبُو مخنف: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد نصب رأس الْحُسَيْن بالكوفة، فجعل يدار بِهِ فِي الْكُوفَة، ثُمَّ دعا زحر بن قيس فسرح مَعَهُ برأس الْحُسَيْن ورءوس أَصْحَابه إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ مع زحر أَبُو بردة بن عوف الأَزْدِيّ وطارق بن أبي ظبيان الأَزْدِيّ، فخرجوا حَتَّى قدموا بِهَا الشام عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة.
قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْن روح بْن زنباع الجذامي، عَنْ أَبِيهِ، عن الغاز بن رَبِيعَة الجرشي، من حمير، قال: والله انا لعند يزيد ابن مُعَاوِيَة بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حَتَّى دخل عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: ويلك! مَا وراءك؟ وما عندك؟ فَقَالَ: أبشر يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بفتح اللَّه ونصره، ورد علينا الْحُسَيْن بن علي فِي ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إِلَيْهِم، فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا عَلَى حكم الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال عَلَى الاستسلام، فعدونا عَلَيْهِم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حَتَّى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، يهربون إِلَى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمائم من صقر، فو الله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ إلا جزر

(5/459)


جزور أو نومة قائل حَتَّى أتينا عَلَى آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفى عَلَيْهِم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب قَالَ: فدمعت عين يَزِيد، وَقَالَ: قَدْ كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن، لعن اللَّه ابن سمية! أما وَاللَّهِ لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم اللَّه الْحُسَيْن! ولم يصله بشيء.
قَالَ: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ أمر بنساء الْحُسَيْن وصبيانه فجهزن، وامر بعلى ابن الْحُسَيْن فغل بغل إِلَى عنقه، ثُمَّ سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي، عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حَتَّى قدموا عَلَى يَزِيد، فلم يكن عَلِيّ بن الْحُسَيْن يكلم أحدا منهما فِي الطريق كلمة حَتَّى بلغوا، فلما انتهوا إِلَى باب يَزِيد رفع محفز بن ثعلبة صوته، فَقَالَ: هَذَا محفز بن ثعلبة أتى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ باللئام الفجرة، قَالَ: فأجابه يَزِيد بن مُعَاوِيَة: مَا ولدت أم محفز شر وألأم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عبد الرَّحْمَن مولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، قَالَ: لما وضعت الرءوس بين يدي يَزِيد- رأس الْحُسَيْن وأهل بيته وأَصْحَابه- قَالَ يَزِيد:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
أما وَاللَّهِ يَا حُسَيْن، لو أنا صاحبك مَا قتلتك.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر العبسي، عن أبي عمارة العبسي، قَالَ:
فَقَالَ يَحْيَى بن الحكم أخو مَرْوَان بن الحكم:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وبنت رسول الله ليس لها نسل

(5/460)


قَالَ: فضرب يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي صدر يَحْيَى بن الحكم وَقَالَ: اسكت.
[قَالَ: ولما جلس يَزِيد بن مُعَاوِيَة دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله، ثُمَّ دعا بعلي بن الْحُسَيْن وصبيان الْحُسَيْن ونسائه، فأدخلوا عَلَيْهِ والناس ينظرون، فَقَالَ يَزِيد لعلي: يَا علي، أبوك الَّذِي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع اللَّه بِهِ مَا قَدْ رأيت! قَالَ: فَقَالَ علي:
«مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» ، فَقَالَ يَزِيد لابنه خَالِد: اردد عَلَيْهِ، قَالَ: فما درى خَالِد مَا يرد عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: قل: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ، ثُمَّ سكت عنه،] قَالَ: ثُمَّ دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فَقَالَ: قبح اللَّه ابن مرجانة! لو كَانَتْ بينه وبينكم رحم أو قرابة مَا فعل هَذَا بكم، وَلا بعث بكم هكذا.
قَالَ أَبُو مخنف، عن الْحَارِث بن كعب، عن فاطمة بنت علي، قالت:
لما أجلسنا بين يدي يَزِيد بن مُعَاوِيَة رق لنا، وأمر لنا بشيء، وألطفنا، قالت: ثُمَّ إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إِلَى يَزِيد فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ- يعنيني، وكنت جارية وضيئة- فأرعدت وفرقت، وظننت أن ذَلِكَ جائز لَهُمْ، وأخذت بثياب أختي زينب، قالت: وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذَلِكَ لا يكون، فَقَالَتْ:
كذبت وَاللَّهِ ولؤمت! مَا ذَلِكَ لك وله، فغضب يَزِيد، فَقَالَ: كذبت وَاللَّهِ، إن ذَلِكَ لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت، قالت: كلا وَاللَّهِ، مَا جعل اللَّه ذَلِكَ لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا، قالت: فغضب يزيد واستطار، ثُمَّ قَالَ: إياي تستقبلين بهذا! إنما خرج من الدين ابوك

(5/461)


وأخوك، فَقَالَتْ زينب: بدين اللَّه ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك، قَالَ: كذبت يَا عدوة اللَّه، قالت: أنت أَمِير مسلط، تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك، قالت: فو الله لكأنه استحيا، فسكت، ثُمَّ عاد الشامي فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ الجارية، قَالَ: اعزب، وهب اللَّه لك حتفا قاضيا! قالت: ثُمَّ قَالَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة: يَا نعمان بن بشير:
جهزهم بِمَا يصلحهم، وابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا، وابعث مَعَهُ خيلا وأعوانا فيسير بهم إِلَى الْمَدِينَة، ثُمَّ أمر بالنسوة أن ينزلن فِي دار عَلَى حدة، معهن مَا يصلحهن، وأخوهن معهن عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فِي الدار الَّتِي هن فِيهَا قَالَ: فخرجن حَتَّى دخلن دار يَزِيد فلم تبق من آل مُعَاوِيَة امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح عَلَى الْحُسَيْن، فأقاموا عَلَيْهِ المناحة ثلاثا، وَكَانَ يَزِيد لا يتغدى وَلا يتعشى إلا دعا عَلِيّ بن الْحُسَيْن إِلَيْهِ، قال: فدعاه ذات يوم، ودعا عمر بن الْحَسَن بن علي وَهُوَ غلام صغير، فقال لعمر بن الْحَسَن: أتقاتل هَذَا الفتى؟ يعني خالدا ابنه، قَالَ: لا، ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا، ثُمَّ أقاتله، فَقَالَ لَهُ يَزِيد، وأخذه فضمه إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: شنشنة أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية! قَالَ: ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يَزِيد عَلِيّ بن الْحُسَيْن ثُمَّ قَالَ: لعن اللَّه ابن مرجانة، أما وَاللَّهِ لو أني صاحبه مَا سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إِيَّاهُ، ولدفعت الحتف عنه بكل مَا استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّه قضى مَا رأيت، كاتبني وأنه كل حاجة تكون لك، قَالَ: وكساهم وأوصى بهم ذَلِكَ الرسول، قَالَ: فخرج بهم وَكَانَ يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حَيْثُ لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عَنْهُمْ وتفرق هُوَ وأَصْحَابه حولهم كهيئة الحرس لَهُمْ، وينزل مِنْهُمْ بحيث إذا أراد إنسان مِنْهُمْ وضوءا أو قضاء حاجة لم يحتشم، فلم يزل ينازلهم فِي الطريق هكذا، ويسألهم عن حوائجهم، ويلطفهم حَتَّى دخلوا الْمَدِينَة.
وَقَالَ الْحَارِث بن كعب: فَقَالَتْ لي فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: يَا أخية، لقد أحسن هَذَا الرجل الشامي إلينا فِي صحبتنا، فهل لك أن نصله؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا معنا شَيْء نصله بِهِ إلا حلينا، قالت

(5/462)


لها: فنعطيه حلينا، قالت: فأخذت سواري ودملجي وأخذت أختي سوارها ودملجها، فبعثنا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، واعتذرنا إِلَيْهِ، وقلنا لَهُ: هَذَا جزاؤك بصحبتك إيانا بالحسن من الفعل، قَالَ: فَقَالَ: لو كَانَ الَّذِي صنعت إنما هُوَ للدنيا كَانَ فِي حليكن مَا يرضيني ودونه، ولكن وَاللَّهِ مَا فعلته إلا لِلَّهِ، ولقرابتكم مِنْ رَسُولِ الله ص قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي فإنه قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن وجيء بالأثقال والأسارى حَتَّى وردوا بهم الْكُوفَة إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر فِي السجن، مَعَهُ كتاب مربوط، وفي الكتاب خرج البريد بأمركم فِي يوم كذا وكذا إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَهُوَ سائر كذا وكذا يَوْمًا، وراجع فِي كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فلما كَانَ قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قَدْ ألقي فِي السجن، وَمَعَهُ كتاب مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنما ينتظر البريد يوم كذا وكذا فَجَاءَ البريد ولم يسمع التكبير، وجاء كتاب بأن سرح الأسارى إلي قَالَ: فدعا عُبَيْد الله ابن زياد محفز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن، فَقَالَ: انطلقوا بالثقل والرأس إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، قَالَ: فخرجوا حَتَّى قدموا عَلَى يَزِيد، فقام محفز بن ثعلبة فنادى بأعلى صوته: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم، فَقَالَ يَزِيد: مَا ولدت أم محفز ألأم وأحمق، ولكنه قاطع ظالم، قَالَ: فلما نظر يَزِيد إِلَى رأس الْحُسَيْن، قَالَ:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
ثُمَّ قَالَ: أتدرون من أين أتي هَذَا؟ قَالَ: أبي علي خير من أَبِيهِ، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير مِنْهُ وأحق

(5/463)


بهذا الأمر مِنْهُ، فأما قوله: أبوه خير من أبي، فقد حاج أبي أباه، وعلم الناس أيهما حكم لَهُ، وأما قوله: أمي خير من أمه، فلعمري فاطمة ابنة رَسُول الله ص خير من أمي، وأما قوله: جدي خير من جده، فلعمري مَا أحد يؤمن بِاللَّهِ واليوم الآخر يرى لرسول اللَّه فينا عدلا وَلا ندا، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ثُمَّ أدخل نساء الْحُسَيْن عَلَى يَزِيد، فصاح نساء آل يَزِيد وبنات مُعَاوِيَة وأهله وولولن.
ثُمَّ إنهن أدخلن عَلَى يَزِيد، فَقَالَتْ فاطمة بنت الْحُسَيْن- وكانت أكبر من سكينة: أبنات رَسُول اللَّهِ سبايا يَا يَزِيد! فَقَالَ يَزِيد: يَا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره، قالت: وَاللَّهِ مَا ترك لنا خرص، قَالَ: يا ابنه أخي ما آت إليك أعظم مما أخذ مِنْكَ، ثُمَّ أخرجن فأدخلن دار يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلم تبق امرأة من آل يَزِيد إلا أتتهن، وأقمن المأتم، وأرسل يَزِيد إِلَى كل امرأة: ماذا أخذ لك؟ وليس منهن امرأة تدعي شَيْئًا بالغا مَا بلغ إلا قَدْ أضعفه لها، فكانت سكينة تقول: مَا رأيت رجلا كافرا بالله خيرا من يزيد ابن مُعَاوِيَة [ثُمَّ أدخل الأسارى إِلَيْهِ وفيهم عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فَقَالَ لَهُ يَزِيد:
إيه يَا علي! فَقَالَ علي: «مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ] » فَقَالَ يَزِيد: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ثُمَّ جهزه وأعطاه مالا، وسرحه إِلَى الْمَدِينَة

(5/464)


قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حمزة الثمالي، عن عَبْد اللَّهِ الثمالي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بخيت، قَالَ: لما أقبل وفد أهل الْكُوفَة برأس الْحُسَيْن دخلوا مسجد دمشق، فَقَالَ لَهُمْ مَرْوَان بن الحكم: كيف صنعتم؟
قَالُوا: ورد علينا مِنْهُمْ ثمانية عشر رجلا، فأتينا وَاللَّهِ عَلَى آخرهم، وهذه الرءوس والسبايا، فوثب مَرْوَان فانصرف، وأتاهم أخوه يَحْيَى بن الحكم، فَقَالَ:
مَا صنعتم؟ فأعادوا عَلَيْهِ الكلام، فَقَالَ: حجبتم عن مُحَمَّد يوم الْقِيَامَة، لن أجامعكم عَلَى أمر أبدا ثُمَّ قام فانصرف، ودخلوا عَلَى يَزِيد فوضعوا الرأس بين يديه، وحدثوه الحديث قَالَ: فسمعت دور الحديث هند بنت عبد الله ابن عَامِر بن كريز- وكانت تحت يَزِيد بن مُعَاوِيَة- فتقنعت بثوبها، وخرجت فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أرأس الْحُسَيْن بن فاطمة بنت رَسُول اللَّهِ! قَالَ: نعم فأعولي عَلَيْهِ، وحدي عَلَى ابن بنت رسول الله ص وصريحة قريش، عجل عَلَيْهِ ابن زياد فقتله قتله اللَّه! ثُمَّ أذن لِلنَّاسِ فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يَزِيد قضيب فهو ينكت بِهِ فِي ثغره، ثُمَّ قَالَ:
إن هَذَا وإيانا كما قَالَ الحصين بن الحمام المري:
يفلقن هاما من رجال أحبة ... إلينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
قَالَ: فَقَالَ رجل من اصحاب رسول الله ص يقال لَهُ أَبُو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين! اما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا، لربما رأيت رَسُول الله ص يرشفه، أما إنك يَا يَزِيد تجيء يوم الْقِيَامَة وابن زياد شفيعك، ويجيء هَذَا يوم القيامه ومحمد ص شفيعه، ثُمَّ قام فولى.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة بن الحكم، قَالَ: لما قتل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْحُسَيْن بن علي وجيء برأسه إِلَيْهِ، دعا عَبْد الْمَلِكِ بن أبي الْحَارِث السلمي فَقَالَ: انطلق حَتَّى تقدم الْمَدِينَة عَلَى عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فبشره بقتل الْحُسَيْن- وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ أَمِير الْمَدِينَة يَوْمَئِذٍ- قَالَ: فذهب

(5/465)


ليعتل لَهُ، فزجره- وَكَانَ عُبَيْد اللَّهِ لا يصطلى بناره- فَقَالَ: انطلق حَتَّى تأتي الْمَدِينَة، وَلا يسبقك الخبر، وأعطاه دنانير، وَقَالَ: لا تعتل، وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: فقدمت الْمَدِينَة، فلقيني رجل من قريش، فَقَالَ: مَا الخبر؟ فقلت: الخبر عِنْدَ الأمير، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قتل الحسين بن على، فدخلت عَلَى عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ:
مَا وراءك؟ فقلت: مَا سر الأمير، قتل الْحُسَيْن بن علي، فَقَالَ: ناد بقتله، فناديت بقتله، فلم أسمع وَاللَّهِ واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم فِي دورهن عَلَى الْحُسَيْن، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد وضحك:
عجت نساء بني زياد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
والأرنب: وقعة كَانَتْ لبني زبيد عَلَى بني زياد من بني الْحَارِث بن كعب، من رهط عبد المدان، وهذا البيت لعمرو بن معديكرب، ثُمَّ قَالَ عَمْرو:
هَذِهِ واعية بواعية عُثْمَان بن عَفَّانَ، ثُمَّ صعد الْمِنْبَر فأعلم الناس قتله.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، قَالَ: لما بلغ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقتل ابنيه مع الْحُسَيْن، دخل عَلَيْهِ بعض مواليه والناس يعزونه- قَالَ: وَلا أظن مولاه ذَلِكَ إلا أبا اللسلاس- فَقَالَ: هَذَا مَا لقينا ودخل علينا من الْحُسَيْن! قَالَ: فحذفه عَبْد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا بن اللخناء، أللحسين تقول هَذَا! وَاللَّهِ لو شهدته لأحببت الا أفارقه حَتَّى أقتل مَعَهُ، وَاللَّهِ إنه لمما يسخي بنفسي عنهما، ويهون علي المصاب بهما، أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين لَهُ، صابرين مَعَهُ ثُمَّ أقبل عَلَى جلسائه فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مصرع الحسين، الا تكن آست حسينا يدي، فقد آساه ولدي قَالَ: ولما أتى أهل الْمَدِينَة مقتل الْحُسَيْن خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها وَهِيَ حاسرة تلوي بثوبها وَهِيَ تقول:

(5/466)


ماذا تقولون إن قَالَ النَّبِيّ لكم ... ماذا فعلتم وَأَنْتُمْ آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... مِنْهُمْ أسارى ومنهم ضرجوا بدم!
قَالَ هِشَام: عن عوانة، قَالَ: قَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لعمر بن سَعْد بعد قتله الْحُسَيْن: يَا عمر، أين الكتاب الَّذِي كتبت بِهِ إليك فِي قتل الْحُسَيْن؟
قَالَ: مضيت لأمرك وضاع الكتاب، قَالَ: لتجيئن بِهِ، قَالَ: ضاع، قَالَ: وَاللَّهِ لتجيئني بِهِ، قَالَ: ترك وَاللَّهِ يقرأ عَلَى عجائز قريش اعتذارا إليهن بِالْمَدِينَةِ، أما وَاللَّهِ لقد نصحتك فِي حُسَيْن نصيحه لو نصحتها ابى سعد ابن أَبِي وَقَّاص كنت قَدْ أديت حقه، قَالَ عُثْمَان بن زياد أخو عُبَيْد اللَّهِ:
صدق وَاللَّهِ، لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إِلَى يوم القيامه وان حسينا لم يقتل، قال: فو الله مَا أنكر ذَلِكَ عَلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنا، عن عَمْرو بن أبي المقدام، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَمْرو بن عِكْرِمَة، قَالَ: أصبحنا صبيحة قتل الْحُسَيْن بِالْمَدِينَةِ، فإذا مولى لنا يحدثنا، قَالَ: سمعت البارحة مناديا ينادي وَهُوَ يقول:
أيها القاتلون جهلا حسينا ... أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عَلَيْكُمْ ... من نبي وملاك وقبيل
قَدْ لعنتم عَلَى لسان ابن دَاوُد ... وموسى وحامل الإنجيل
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حيزوم الكلبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سمعت هَذَا الصوت.

ذكر أسماء من قتل من بني هاشم مع الحسين ع وعدد من قتل من كل قبيلة من القبائل الَّتِي قاتلته
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ولما قتل الحسين بن على ع جيء

(5/467)


برءوس من قتل مَعَهُ من أهل بيته وشيعته وأنصاره إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأسا.
قَالَ: وقتل الحسين- وأمه فاطمه بنت رسول الله ص قتله سنان بن أنس النخعي ثُمَّ الأصبحي وجاء برأسه خولي بن يَزِيدَ، وقتل العباس بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين ابنة حزام بن خَالِد بن رَبِيعَة بن الوحيد، قتله زَيْد بن رقاد الجنبي- وحكيم بن الطفيل السنبسي، وقتل جَعْفَر بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أيضا- وقتل عبد الله بن على ابن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أَيْضًا- وقتل عُثْمَان بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أَيْضًا- رماه خولي بن يَزِيدَ بسهم فقتله، وقتل مُحَمَّد بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله رجل من بني أبان بن دارم، وقتل أَبُو بَكْر بن عَلِيّ بن أبي طالب- وأمه لَيْلَى ابنة مسعود بن خَالِد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم، وَقَدْ شك فِي قتله- وقتل على ابن الْحُسَيْن بن علي- وأمه لَيْلَى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، وأمها مَيْمُونَة ابنة أبي سُفْيَان بن حرب- قتله مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ العبدي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الْحُسَيْن بن على- وأمه الرباب ابنه إمرئ القيس ابن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم من كلب- قتله هانئ ابن ثبيت الحضرمي، واستصغر عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن علي فلم يقتل، وقتل أَبُو بَكْر بن الْحَسَن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الْحَسَن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم، وقتل الْقَاسِم بن الْحَسَن بن علي- وأمه أم ولد- قتله سعد بن عَمْرو بن نفيل الأزدي، وقتل عون بن عبد الله

(5/468)


ابن جَعْفَر بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة بن رَبِيعَة بن رياح من بني فزارة- قتله عَبْد اللَّهِ بن قطبه الطائي ثم النبهاني، وقتل محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- وأمه الخوصاء ابنة خصفة بن ثقيف بن رَبِيعَة بن عائذ بن الْحَارِث بن تيم اللَّه بن ثعلبة من بكر بن وائل- قتله عامر ابن نهشل التيمي، وقتل جَعْفَر بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين ابنة الشقر بن الهضاب- قتله بشر بن حوط الهمداني، وقتل عبد الرحمن ابن عقيل- وأمه أم ولد- قتله عُثْمَان بن خَالِد بن أسير الجهني، وقتل عَبْد اللَّهِ بن عقيل بن أبي طالب- وأمه أم ولد- رماه عَمْرو بن صبيح الصدائي فقتله، وقتل مسلم بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد، ولد بالكوفة- وقتل عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه رقية ابنة عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وأمها أم ولد- قتله عَمْرو بن صبيح الصدائي، وقيل: قتله اسيد بن مالك الحضرمي، وقتل مُحَمَّد بن أبي سَعِيد بن عقيل- وأمه أم ولد- قتله لقيط بن ياسر الجهني، واستصغر الْحَسَن بن الْحَسَن بن علي، وأمه خولة ابنة منظور بن زبان بن سيار الفزارى، واستصغر عمر بن الحسن بن على فترك فلم يقتل- وأمه أم ولد- وقتل من الموالي سُلَيْمَان مولى الْحُسَيْن بن علي، قتله سُلَيْمَان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الْحُسَيْن بن علي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن بقطر رضيع الْحُسَيْن بن علي.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب الأَزْدِيّ، أن عُبَيْد الله ابن زياد بعد قتل الْحُسَيْن تفقد أشراف أهل الْكُوفَة، فلم ير عُبَيْد اللَّهِ بن الحر، ثُمَّ جاءه بعد أيام حَتَّى دخل عَلَيْهِ، فقال: اين كنت يا بن الحر؟ قَالَ:
كنت مريضا، قَالَ: مريض القلب، أو مريض البدن! قَالَ: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من اللَّه علي بالعافية، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا، قَالَ: لو كنت مع عدوك لرئى مكاني، وما كَانَ مثل مكاني يخفى، قَالَ: وغفل عنه ابن زياد غفلة، فخرج ابن الحر فقعد

(5/469)


عَلَى فرسه، فَقَالَ ابن زياد: أين ابن الحر؟ قَالُوا: خرج الساعة، قَالَ:
علي بِهِ، فأحضرت الشرط فَقَالُوا لَهُ: أجب الأمير، فدفع فرسه ثُمَّ قَالَ:
أبلغوه أني لا آتيه وَاللَّهِ طائعا أبدا، ثُمَّ خرج حَتَّى أتى منزل أحمر بن زياد الطَّائِيّ فاجتمع إِلَيْهِ فِي منزله أَصْحَابه، ثُمَّ خرج حَتَّى أتى كربلاء فنظر إِلَى مصارع القوم، فاستغفر لَهُمْ هُوَ وأَصْحَابه، ثُمَّ مضى حَتَّى نزل المدائن، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
يقول أَمِير غادر حق غادر: ... أَلا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه!
فيا ندمي أَلا أكون نصرته ... أَلا كل نفس لا تسدد نادمه
وإني لأني لم أكن من حماته ... لذو حسرة مَا إن تفارق لازمه
سقى اللَّه أرواح الَّذِينَ تأزروا ... عَلَى نصره سقيا من الغيث دائمه
وقفت على أجداثهم ومجالهم ... فكاد الحشا ينفض والعين ساجمه
لعمري لقد كَانُوا مصاليت فِي الوغى ... سراعا إِلَى الهيجا حماة خضارمه
تآسوا عَلَى نصر ابن بنت نبيهم ... بأسيافهم آساد غيل ضراغمه
فإن يقتلوا فكل نفس تقية ... عَلَى الأرض قَدْ أضحت لذلك واجمه
وما إن رَأَى الراءون أفضل مِنْهُمُ ... لدى الموت سادات وزهرا قماقمه
أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا ... فدع خطة ليست لنا بملائمه!
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم ... فكم ناقم منا عَلَيْكُمْ وناقمه
أهم مرارا أن أسير بجحفل ... إِلَى فئة زاغت عن الحق ظالمه
فكفوا وإلا ذدتكم فِي كتائب ... أشد عَلَيْكُمْ من زحوف الديالمة.

ذكر خبر مقتل مرداس بن عمرو بن حدير
وفي هَذِهِ السنة قتل أَبُو بلال مِرْدَاس بن عَمْرو بن حدير، من رَبِيعَة بن حنظله

(5/470)


ذكر سبب مقتله:
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: قَدْ تقدم ذكر سبب خروجه، وما كَانَ من توجيه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَيْهِ أسلم بن زرعة الكلابي فِي ألفي رجل، والتقائهم بآسك وهزيمة أسلم وجيشه مِنْهُ ومن أَصْحَابه فِيمَا مضى من كتابنا هَذَا.
ولما هزم مِرْدَاس أَبُو بلال أسلم بن زرعة، وبلغ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، سرح إِلَيْهِ- فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مخنف، قال: حدثنى ابو المخارق الراسبى- ثلاثة آلاف، عَلَيْهِم عباد بن الأخضر التميمي، فأتبعه عباد يطلبه حَتَّى لحقه بتوج، فصف لَهُ، فحمل عَلَيْهِم أَبُو بلال وأَصْحَابه، فثبتوا وتعطف الناس عَلَيْهِم فلم يكونوا شَيْئًا وَقَالَ أَبُو بلال لأَصْحَابه: من كَانَ مِنْكُمْ إنما خرج للدنيا فليذهب، ومن كَانَ مِنْكُمْ إنما أراد الآخرة ولقاء ربه فقد سبق ذَلِكَ إِلَيْهِ، وقرأ: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» ، فنزل ونزل أَصْحَابه مَعَهُ لم يفارقه مِنْهُمْ إنسان، فقتلوا من عِنْدَ آخرهم، ورجع عباد بن الأخضر، وَذَلِكَ الجيش الَّذِي كَانَ مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَة، وأقبل عبيدة بن هلال مَعَهُ ثلاثة نفر هُوَ رابعهم، فرصد عباد بن الأخضر، فأقبل يريد قصر الإمارة وَهُوَ مردف ابنا لَهُ غلاما، صغيرا، فَقَالُوا: يَا عَبْد اللَّهِ، قف حَتَّى نستفتيك، فوقف، فَقَالُوا: نحن إخوة أربعة، قتل أخونا، فما ترى؟ قَالَ: استعدوا الأمير، قَالُوا: قَدِ استعديناه فلم يعدنا، قَالَ: فاقتلوه، قتله اللَّه! فوثبوا عَلَيْهِ فحكموا، والقى ابنه فقتلوه
. ذكر خبر ولايه سلم بن زياد على خراسان وسجستان
وفي هَذِهِ السنة ولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة سلم بن زياد سجستان وخراسان.
ذكر سبب توليته إِيَّاهُ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، قال: حدثنا مسلمة بن

(5/471)


مُحَارِبِ بْنِ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: وَفَدَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَبَا حَرْبٍ، أُوَلِّيكَ عَمَلَ أَخَوَيْكَ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبَّادٍ؟ فَقَالَ: مَا أَحَبَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَوَجَّهَ سَلْمٌ الْحَارِثَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْحَارِثِيَّ جَدَّ عِيسَى بْنَ شَبِيبٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى خُرَاسَانَ، وقَدِمَ سَلْمٌ الْبَصْرَةَ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَخَذَ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيَّ فَحَبَسَهُ، وَضَرَبَ ابْنَهُ شَبِيبًا، وَأَقَامَهُ فِي سَرَاوِيلَ، وَوَجَّهَ أَخَاهُ يَزِيدَ بْنَ زِيَادٍ إِلَى سِجِسْتَانَ فَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى عَبَّادٍ أَخِيهِ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا- يُخْبِرُهُ بِوِلايَةِ سَلْمٍ، فَقَسَّمَ عَبَّادٌ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَبِيدِهِ، وَفَضَلَ فَضْلٌ فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ أَرَادَ سَلَفًا فَلْيَأْخُذْ، فَأَسْلَفَ كُلَّ مَنْ أَتَاهُ، وَخَرَجَ عَبَّادٌ عَنْ سِجِسْتَانَ فَلَمَّا كَانَ بِجِيرُفْتَ بَلَغَهُ مَكَانُ سَلْمٍ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا جَبَلٌ- فَعَدَلَ عَنْهُ، فَذَهَبَ لِعَبَّادٍ تِلَكَ اللَّيْلَةِ أَلْفُ مَمْلُوكٍ، أَقَلُّ مَا مَعَ أَحَدِهِمْ عَشَرَةُ آلافٍ قَالَ: فَأَخَذَ عَبَّادٌ عَلَى فَارِسَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَيْنَ الْمَالَ؟ قَالَ كُنْتُ صَاحِبَ ثَغْرٍ، فَقَسَّمْتُ مَا أَصَبْتُ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: وَلَمَّا شَخَصَ سَلْمٌ إِلَى خُرَاسَانَ شَخَصَ مَعَهُ عِمْرَانُ بْنُ الْفَصِيلِ الْبُرْجِمُيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وَالْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ عَرَادَةَ، وابو حزابه الْوَلِيدُ بْنُ نَهِيكٍ أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ الْعَدَوَانِيُّ حَلِيفُ هُذَيْلٍ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ فِرْسَانِ الْبَصْرَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، فَقَدِمَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ بِكِتَابِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِنُخْبَةِ أَلْفَيْ رَجُلٍ يَنْتَخِبُهُمْ- وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ نُخْبَةُ سِتَّةِ آلافٍ- قَالَ: فَكَانَ سَلْمٌ يَنْتَخِبُ الْوُجُوهَ وَالْفِرْسَانَ وَرَغِبَ قَوْمٌ فِي الْجِهَادِ فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَخْرَجَهُ سَلْمٌ حَنْظَلَةُ بْنُ عَرَادَةَ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ: دَعْهُ لِي، قَالَ: هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك، فَإِنِ اخْتَارَكَ فَهُوَ لَكَ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَهُوَ لِي، قَالَ: فَاخْتَارَ سَلْمًا، وَكَانَ النَّاسُ يُكَلِّمُونَ سَلْمًا وَيَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُمْ مَعَهُ، وَكَانَ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ الْعَدَوِيُّ يَأْتِي الدِّيوَانَ فَيَقُولُ لَهُ الْكَاتِبُ: يَا أَبَا الصَّهْبَاءِ، أَلا أُثْبِتُ اسمك، فانه وجه فيه جهاد وفضل؟ فَيَقُولُ لَهُ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ، فَلَمْ يَزَلْ يدافع حتى

(5/472)


فَرَغَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مُعَاذَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيَّةُ: أَلا تَكْتُبُ نَفْسَكَ؟ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ، ثُمَّ صَلَّى وَاسْتَخَارَ اللَّهَ، قَالَ: فَرَأَى فِي مَنَامِهِ آتِيًا أَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَإِنَّكَ تَرْبَحُ وَتُفْلِحُ وَتَنْجَحُ، فَأَتَى الْكَاتِبَ فَقَالَ لَهُ: أَثْبِتْنِي، قَالَ: قَدْ فَرَغْنَا وَلَنْ أَدَعَكَ، فَأَثْبَتَهُ وَابْنَهُ، فَخَرَجَ سَلْمٌ فَصَيَّرَهُ سَلْمٌ مَعَ يَزِيدَ بْنَ زِيَادٍ فَسَارَ إِلَى سِجِسْتَانَ.
قَالَ: وَخَرَجَ سَلْمٌ وَأَخْرَجَ مَعَهُ أُمَّ مُحَمَّدٍ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ قُطِعَ بِهَا النَّهْرُ.
قَالَ: وَذَكَرَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو حَفْصٍ الأَزْدِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَفْصٍ الْكِرْمَانِيِّ أَنَّ عُمَّالَ خُرَاسَانَ كَانُوا يَغْزُونَ، فَإِذَا دَخَلَ الشِّتَاءُ قَفَلُوا مِنْ مَغَازِيهِمْ إِلَى مَرْوَ الشَّاهِجَانَ، فَإِذَا انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ اجْتَمَعَ مُلُوكُ خُرَاسَانَ فِي مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ خراسان مما يلى خارزم، فيتعاقدون الا يَغْزُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلا يُهَيِّجُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَيَتَشَاوَرُونَ فِي أُمُورِهِمْ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ فِي غَزْوِ تِلَكَ الْمَدِينَةِ فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ غَزَا فَشَتَا فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَالَ: فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى تِلَكَ الْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَهُ فِي سِتَّةِ آلافٍ- وَيُقَالُ أَرْبَعَةِ آلافٍ- فَحَاصَرَهُمْ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُذْعِنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يُفْدُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَصَالَحُوهُ عَلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، قَالَ: وَكَانَ فِي صُلْحِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُرُوضًا، فَكَانَ يَأْخُذُ الرَّأْسَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ، وَالدَّابَةَ بِنِصْفِ ثَمَنِهَا، وَالْكَيْمَخْتَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَحَظِيَ بِهَا الْمُهَلَّبُ عِنْدَ سَلْمٍ، وَاصْطَفَى سَلْمٌ مِنْ ذَلِكَ مَا أَعْجَبَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى يَزِيدَ مَعَ مَرْزُبَانَ مَرْوَ، وَأَوْفَدَ فِي ذَلِكَ وَفْدًا.
قَالَ مَسْلَمَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ: غَزَا سَلْمٌ سَمَرْقَنْدَ بِامْرَأَتِهِ أُمِّ مُحَمَّدٍ ابْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَوَلَدَتْ لِسَلْمٍ ابْنًا، فَسَمَّاهُ صُغْدِي.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ رُشَيْدٍ الْجُوزْجَانِيُّ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ خُزَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ خُوَارَزْمَ،

(5/473)


فَصَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ عَبَرَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ فِي غَزَاتِهِ تِلَكَ ابْنًا، وَأَرْسَلَتْ إِلَى امْرَأَةِ صَاحِبِ الصُّغْدِ تَسْتَعِيرُ مِنْهَا حُلِيًّا، فَبَعَثَتْ إِلَيْهَا بِتَاجِهَا، وَقَفَلُوا، فَذَهَبَتْ بِالتَّاجِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلاهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: نزع يَزِيد بن مُعَاوِيَة عَمْرو بن سَعِيد، لهلال ذي الحجة، وأمر الْوَلِيد بن عتبة عَلَى الْمَدِينَة، فحج بِالنَّاسِ حجتين سنة إحدى وستين.
وسنة اثنتين وستين.
وَكَانَ عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْبَصْرَة والكوفة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى الْمَدِينَة فِي آخرها الْوَلِيد بن عتبة، وعلى خُرَاسَان وسجستان سلم بن زياد، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح.
وفيها أظهر ابن الزُّبَيْر الخلاف عَلَى يَزِيد وخلعه وفيها بويع لَهُ
. ذكر سبب عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وتوليته عَلَيْهَا الْوَلِيد بن عتبة
وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ وسبب إظهار عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الدعاء إِلَى نفسه- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل- قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، 4 قَالَ: لما قتل الحسين ع قام ابن الزُّبَيْر فِي أهل مكة وعظم مقتله، وعاب عَلَى أهل الْكُوفَة خاصة، ولام أهل العراق عامة، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ص: إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا، وإن أهل الْكُوفَة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولوه عَلَيْهِم، فلما قدم عَلَيْهِم ثاروا إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: إما أن تضع يدك فِي أيدينا فنبعث بك إِلَى ابن زياد بن سمية سلما فيمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب، فراى وَاللَّهِ أنه هُوَ وأَصْحَابه قليل فِي كثير، وان

(5/474)


كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يطلع عَلَى الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة عَلَى الحياة الذميمة، فرحم اللَّه حسينا، وأخزى قاتل حُسَيْن! لعمري لقد كَانَ من خلافهم إِيَّاهُ وعصيانهم مَا كَانَ فِي مثله واعظ وناه عَنْهُمْ، ولكنه مَا حم نازل، وإذا أراد اللَّه أمرا لن يدفع أفبعد الْحُسَيْن نطمئن إِلَى هَؤُلاءِ القوم ونصدق قولهم ونقبل لَهُمْ عهدا! لا، وَلا نراهم لذلك أهلا، أما وَاللَّهِ لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا فِي النهار صيامه، أحق بِمَا هم فِيهِ مِنْهُمْ وأولى بِهِ فِي الدين والفضل، أما وَاللَّهِ مَا كَانَ يبدل بالقرآن الغناء، وَلا بالبكاء من خشية اللَّه الحداء، وَلا بالصيام شرب الحرام، وَلا بالمجالس فِي حلق الذكر الركض فِي تطلاب الصيد- يعرض بيزيد- فسوف يلقون غيا.
فثار إِلَيْهِ أَصْحَابه فَقَالُوا لَهُ: أيها الرجل أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك حُسَيْن ينازعك هَذَا الأمر وَقَدْ كَانَ يبايع الناس سرا، ويظهر أنه عائذ بالبيت، فَقَالَ لَهُمْ: لا تعجلوا- وعمرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ يَوْمَئِذٍ عامل مكة، وَقَدْ كَانَ أشد شَيْء عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، وَكَانَ مع شدته عَلَيْهِم يداري ويرفق- فلما استقر عِنْدَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة مَا قَدْ جمع ابن الزُّبَيْر من الجموع بمكة، أعطى اللَّه عهدا ليوثقنه فِي سلسلة، فبعث بسلسلة من فضة، فمر بِهَا البريد على مروان بن الحكم بالمدينة، فاخبر خبر مَا قدم لَهُ وبالسلسلة الَّتِي مَعَهُ، فَقَالَ مَرْوَان:
خذها فليست للعزيز بخطة ... وفيها مقال لامرئ متضعف
ثُمَّ مضى من عنده حَتَّى قدم عَلَى ابن الزُّبَيْر، فأتى ابن الزُّبَيْر فأخبره بممر البريد عَلَى مَرْوَان، وتمثل مَرْوَان بهذا البيت، فَقَالَ ابن الزُّبَيْر: لا وَاللَّهِ لا أكون أنا ذَلِكَ المتضعف، ورد ذَلِكَ البريد ردا رقيقا.
وعلا أمر ابن الزُّبَيْر بمكة، وكاتبه أهل الْمَدِينَة، وَقَالَ الناس: أما إذ هلك الْحُسَيْن ع فليس أحد ينازع ابن الزُّبَيْر

(5/475)


حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ- وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ- قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ يَزِيدُ بن معاويه بن عَضَاهٍ الأَشْعَرِيَّ وَمَسْعَدَةَ وَأَصْحَابَهُمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ لِيُؤْتَى بِهِ فِي جَامِعَةٍ لِتُبَرَّ يَمِينُ يَزِيدَ، بَعَثَ مَعَهُمْ بِجَامِعَةٍ مِنْ وَرَقٍ وَبُرْنُسِ خَزٍّ، فَأَرْسَلَنِي أَبِي وَأَخِي مَعَهُمْ وَقَالَ: إِذَا بَلَّغَتْهُ رُسُلُ يَزِيدَ الرِّسَالَةَ فَتَعَرَّضَا لَهُ، ثُمَّ لِيَتَمَثَّلَ أَحَدُكُمَا:
فَخُذْهَا فَلَيْسَتْ لِلْعَزِيزِ بخطة ... وفيها مقال لامرئ متذلل
أعامر إن الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً ... وَذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ غَزْلٌ بِمَغْزَلِ
أَرَاكَ إِذًا مَا كُنْتَ لِلْقَوْمِ نَاصِحًا ... يُقَالُ لَهُ بِالدِّلْوِ أَدْبِرْ وَأَقْبِلِ
قَالَ: فَلَمَّا بلغته الرسل الرسالة تعرضنا، فقال لي أَخِي: اكْفِنِيهَا، فَسَمِّعْنِي، فَقَالَ: أَيِ ابْنَيْ مَرْوَانَ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتُمَا، وَعَلِمْتُ مَا سَتُقُولانِهِ، فَأَخْبِرَا أَبَاكُمَا:
إِنِّي لِمِنْ نَبَعَةٍ صُمٍّ مَكَاسِرُهَا ... إِذَا تَنَاوَحَتِ الْقَصْبَاءُ وَالْعُشَرَ
فَلا أَلْيَنَ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ ... حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرَ
قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَعْجَبُ! زَادَ عَبْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، قَالَ: فَذَاكَرْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُصْعَبَ بْنَ عَبْدِ الله بْن مصعب بْن ثابت بْن عبد اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ:
قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَهُ، وَلَمْ أَحْفَظْ إِسْنَادَهُ.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدِ اشْرَأَبُّوا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَدُّوا إِلَيْهِ أَعْنَاقَهُمْ، ظَنَّ أَنَّ تِلَكَ الأُمُورَ تَامَّةٌ لَهُ، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بن العاص-

(5/476)


وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ بِمِصْرَ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ كُتُبَ دَانْيَالَ هُنَالِكَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إِذْ ذَاكَ تَعُدُّهُ عَالِمًا- فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، أَتَرَى مَا يَطْلُبُ تَامًّا لَهُ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِي إِلَى مَا تَرَى أَمْرَهُ صَائِرًا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لا أَرَى صَاحِبُكَ إِلا أَحَدَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ تَتِمُّ لَهُمْ أُمُورُهُمْ حَتَّى يَمُوتُوا وَهُمْ مُلُوكٌ فَلَمْ يَزْدَدْ عِنْدَ ذَاكَ إِلا شِدَّةً عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْمُدَارَاةِ لَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ وَنَاسًا مَعَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ قَالُوا ليزيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
لَوْ شَاءَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لأَخَذَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَيْكَ، فَسَرَّحَ الوليد بن عتبة على الحجاز أميرا، وعزل عَمْرًا.
وَكَانَ عَزَلَ يَزِيدُ عَمْرًا عَنِ الْحِجَازِ وَتَأْمِيرِهِ عَلَيْهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، قَالَ أَبُو جَعْفَر: حدثت عن مُحَمَّد بن عُمَرَ قَالَ: نزع يَزِيد عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ لهلال ذي الحجة سنة إحدى وستين وولى الْوَلِيد بن عتبة، فأقام الحجة سنة إحدى وستين بِالنَّاسِ، وأعاد ابن رَبِيعَة العامري عَلَى قضائه.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، قَالَ: حدثت عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: حج بِالنَّاسِ فِي سنة إحدى وستين الْوَلِيد بن عتبة، وهذا مما لا اختلاف فِيهِ بين أهل السير.
وَكَانَ الوالي فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْكُوفَة والبصرة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى خُرَاسَان سلم بن زياد.

(5/477)


ثُمَّ دخلت

سنة اثنتين وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) فمن ذَلِكَ مقدم وفد أهل الْمَدِينَة عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة.
ذكر الخبر عن سبب مقدمهم عَلَيْهِ:
وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ- فِيمَا ذكر لوط بن يَحْيَى، عن عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل ابن مساحق، عن عَبْد اللَّهِ بن عروة- أن يزيد بن معاويه لما سرح الوليد ابن عتبة عَلَى الحجاز أميرا، وعزل عَمْرو بن سَعِيد، قدم الْوَلِيد الْمَدِينَة فأخذ غلمانا كثيرا لعمرو وموالي لَهُ، فحبسهم، فكلمه فِيهِمْ عَمْرو، فأبى أن يخليهم، وَقَالَ لَهُ: لا تجزع يَا عَمْرو، فَقَالَ أخوه أبان بن سَعِيد بن الْعَاصِ: أعمرو يجزع! وَاللَّهِ لو قبضتم عَلَى الجمر وقبض عَلَيْهِ مَا تركه حَتَّى تتركوه، وخرج عَمْرو سائرا حَتَّى نزل مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ليلتين، وكتب إِلَى غلمانه ومواليه وهم نحو من ثلاثمائة رجل: أني باعث إِلَى كل رجل مِنْكُمْ جملا وحقيبه وأداته، وتناخ لكم الإبل فِي السوق، فإذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن، ثُمَّ ليقم كل رجل مِنْكُمْ إِلَى جمله فليركبه، ثُمَّ أقبلوا علي حَتَّى تأتوني، فَجَاءَ رسوله حَتَّى اشترى الإبل، ثُمَّ جهزها بِمَا ينبغي لها، ثُمَّ أناخها فِي السوق، ثُمَّ أتاهم حَتَّى أعلمهم ذَلِكَ، فكسروا باب السجن، ثُمَّ خرجوا إِلَى الإبل فاستووا عَلَيْهَا، ثُمَّ أقبلوا حَتَّى انتهوا إِلَى عَمْرو بن سَعِيد فوجدوه حين قدم عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة فلما دخل عَلَيْهِ رحب بِهِ وأدنى مجلسه.
ثُمَّ إنه عاتبه فِي تقصيره فِي أشياء كَانَ يأمره بِهَا فِي ابن الزُّبَيْر، فلا ينفذ منها إلا مَا أراد، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جل أهل مكة وأهل الْمَدِينَة قَدْ كَانُوا مالوا إِلَيْهِ وهووه وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا سرا وعلانية، ولم يكن معي جند أقوى بهم عَلَيْهِ لو ناهضته، وَقَدْ كَانَ يحذرني ويتحرز مني، وكنت أرفق بِهِ وأداريه

(5/478)


لأستمكر مِنْهُ فأثب عَلَيْهِ، مع أني قَدْ ضيقت عَلَيْهِ، ومنعته من أشياء كثيرة لو تركته وإياها مَا كَانَتْ لَهُ إلا معونة، وجعلت عَلَى مكة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حَتَّى يكتبوا إلي باسمه واسم أَبِيهِ، ومن أي بلاد اللَّه هُوَ، وما جَاءَ بِهِ وما يريد، فإن كَانَ من أَصْحَابه أو ممن أَرَى أنه يريده رددته صاغرا، وإن كَانَ ممن لا أتهم، خليت سبيله وَقَدْ بعثت الْوَلِيد، وسيأتيك من عمله وأثره مَا لعلك تعرف بِهِ فضل مبالغتي فِي أمرك، ومناصحتي لك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهِ يصنع لك، ويكبت عدوك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ لَهُ يَزِيد: أنت أصدق ممن رقى هَذِهِ الأشياء عنك، وحملني بِهَا عَلَيْك، وأنت ممن أثق بِهِ، وأرجو معونته، وأدخره لرأب الصدع، وكفاية المهم، وكشف نوازل الأمور العظام، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: وما أَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أن أحدا أولى بالقيام بتشديد سلطانك، وتوهين عدوك، والشدة عَلَى من نابذك مني وأقام الْوَلِيد بن عتبة يريد ابن الزُّبَيْر فلا يجده إلا متحذرا متمنعا، وثار نجدة بن عَامِر الحنفي باليمامة حين قتل الْحُسَيْن 4، وثار ابن الزُّبَيْر، فكان الْوَلِيد يفيض من المعرف، وتفيض مَعَهُ عامة الناس، وابن الزُّبَيْر واقف وأَصْحَابه، ونجدة واقف فِي أَصْحَابه، ثُمَّ يفيض ابن الزُّبَيْر بأَصْحَابه ونجدة بأَصْحَابه، لا يفيض واحد مِنْهُمْ بإفاضة صاحبه.
وَكَانَ نجدة يلقى ابن الزُّبَيْر فيكثر حَتَّى ظن الناس أنه سيبايعه ثُمَّ إن ابن الزُّبَيْر عمل بالمكر فِي أمر الْوَلِيد بن عتبة، فكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة:
إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا يتجه لأمر رشد، وَلا يرعوي لعظة الحكيم، ولو بعثت إلينا رجلا سهل الخلق، لين الكتف، رجوت أن يسهل من الأمور مَا استوعر منها، وأن يجتمع مَا تفرق، فانظر فِي ذَلِكَ، فإن فِيهِ صلاح خواصنا وعوامنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام.
فبعث يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى الْوَلِيدِ فعزله وبعث عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ- فِيمَا ذكر أَبُو مخنف، عَنْ عبد الملك ابن نوفل بن مساحق، عن حميد ابن حمزة، مولى لبني أُمَيَّة- قَالَ: فقدم فتى غر حدث غمر لم يجرب

(5/479)


الأمور، ولم يحنكه السن، ولم تضرسه التجارب، وَكَانَ لا يكاد ينظر فِي شَيْءٍ من سلطانه وَلا عمله، وبعث إِلَى يَزِيد وفدا من أهل الْمَدِينَة فِيهِمْ عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل الأَنْصَارِيّ وعبد اللَّه بن أبي عَمْرو بن حفص بن الْمُغِيرَة المخزومي، والمنذر بن الزُّبَيْرِ، ورجالا كثيرا من أشراف أهل الْمَدِينَة، فقدموا عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأكرمهم، وأحسن إِلَيْهِم، وأعظم جوائزهم ثُمَّ انصرفوا من عنده، وقدموا المدينة كلهم الا المنذر ابن الزُّبَيْرِ فإنه قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بِالْبَصْرَةِ- وَكَانَ يَزِيد قَدْ أجازه بمائة ألف درهم- فلما قدم أُولَئِكَ النفر الوفد الْمَدِينَة قاموا فِيهِمْ فأظهروا شتم يَزِيد وعتبة، وَقَالُوا: إنا قدمنا من عِنْدَ رجل ليس لَهُ دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخراب والفتيان، وإنا نشهدكم أنا قَدْ خلعناه، فتابعهم الناس.
قَالَ لوط بن يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، أن الناس أتوا عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل فبايعوه وولوه عَلَيْهِم.
قَالَ لوط: وَحَدَّثَنِي أَيْضًا مُحَمَّد بن عَبْدِ الْعَزِيزِ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف:
ورجع المنذر من عِنْدَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فقدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْبَصْرَة، فأكرمه وأحسن ضيافته، وَكَانَ لزياد صديقا، إذ سقط إِلَيْهِ كتاب من يَزِيد بن مُعَاوِيَة حَيْثُ بلغه أمر أَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ أن أوثق المنذر بن الزُّبَيْرِ واحبسه عندك حَتَّى يأتيك فِيهِ امرى، فكره ذلك عبيد الله ابن زياد لأنه ضيفه، فدعاه فأخبره بالكتاب وأقرأه إِيَّاهُ، وَقَالَ لَهُ: إنك كنت لزياد ودا وَقَدْ أصبحت لي ضيفا، وَقَدْ آتيت إليك معروفا، فأنا أحب أن أسدي ذَلِكَ كله بإحسان، فإذا اجتمع الناس عندي فقم فقل:
ائذن لي فلأنصرف إِلَى بلادي، فإذا قلت: لا بل أقم عندي فإن لك الكرامة والمواساة والأثرة، فقل: لي ضيعة وشغل، لا أجد من الانصراف بدا فأذن لي، فإني آذن لك عِنْدَ ذَلِكَ، فالحق بأهلك.
فلما اجتمع الناس عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ قام إِلَيْهِ فاستأذنه فَقَالَ: لا بل أقم عندي فإني مكرمك ومواسيك ومؤثرك، فَقَالَ لَهُ: إن لي ضيعه وشغلا، ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جامع الاصول لابن الاثير

  روابط التحميل