روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الثلاثاء، 24 مايو 2022

مجلد 2. تاريخ الطبري

 

مجلد 2. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)

فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: فكان رسول الله ص- فِيمَا ذَكَرَ لِي يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ- إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: ذَاكَ خَطِيبُ الأَنْبِيَاءِ، لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمَهُ فِيمَا يُرَادُّهُمْ بِهِ.
فَلَمَّا طَالَ تَمَادِيهِمْ فِي غَيِّهِمْ وَضَلالِهِمْ، وَلَمْ يَرُدَّهُمْ تَذْكِيرُ شُعَيْبٍ إِيَّاهُمْ، وَتَحْذِيرُهُمْ عَذَابَ اللَّهِ لَهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعَالَى هَلاكَهُمْ، سَلَّطَ عَلَيْهِمْ- فِيمَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ اللَّهُ وبدة وَحَرًّا شَدِيدًا، فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ فَدَخَلُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ، فدخل عليهم أَجْوَافَ الْبُيُوتِ فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هِرَابًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَحَابَةً، فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، قَالَ عَبْدُ الله ابن عَبَّاسٍ: فَذَاكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، «إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن وهب، قال: حَدَّثَنِي جرير بن حازم أنه سمع قتادة يقول: بعث شعيب إلى أمتين: إلى قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلما أراد الله عز وجل أن يعذبهم بعث عليهم حرا شديدا، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها، فلما كانوا تحتها امطرت

(1/327)


عليهم نارا، قال: فذلك قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو سفيان، عن معمر بن راشد، قال: حَدَّثَنِي رجل من أصحابنا عن بعض العلماء، قال:
كانوا- يعني قوم شعيب- عطلوا حدا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدا فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلما عطلوا حدا وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد الله هلاكهم سلط عليهم حرا لا يستطيعون أن يتقاروا، ولا ينفعهم ظل ولا ماء، حتى ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظله فوجد روحا، فنادى أصحابه: هلموا إلى الروح، فذهبوا إليه سراعا، حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم نارا، فذلك عذاب يوم الظلة.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن زيد بن معاوية في قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: أصابهم حر قلقلهم في بيوتهم، فنشأت سحابة كهيئة الظلة فابتدروها، فلما ناموا تحتها أخذتهم الرجفة حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى.
وحدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: ظلال العذاب.
حَدَّثَنِي القاسم، قال: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» ، قال: أظل العذاب قوم شعيب قال ابن جريج: لما أنزل الله تعالى عليهم أول العذاب أخذهم منه حر شديد، فرفع الله لهم غمامة، فخرج إليها طائفة منهم ليستظلوا بها، فأصابهم منها برد وروح وريح طيبة، فصب الله عليهم من فوقهم من تلك الغمامة عذابا، فذلك قوله: «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»

(1/328)


حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
«فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ، قال: بعث الله عز وجل إليهم ظلة من سحاب، وبعث الله إلى الشمس فأحرقت ما على وجه الأرض، فخرجوا كلهم إلى تلك الظلة، حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى.
حَدَّثَنَا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا ابو ثميله، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: من حدثك من العلماء، ما عذاب يوم الظلة، فكذبه.
حدثنى محمود بن خداش، حَدَّثَنَا حماد بن خالد الخياط، قال، حَدَّثَنَا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قوله عز وجل: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» ، قال: كان مما ينهاهم عنه حذف الدراهم- أو قال: قطع الدراهم، الشك من حماد.
حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، عن أبي مودود قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني أن قوم شعيب عذبوا في قطع الدراهم، ثم وجدت ذلك في القرآن: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» .
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنَا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم، فقالوا:
«يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ ان نفعل في أموالنا ما نشاء» .
ونرجع الآن إلى:

(1/329)


ذكر يعقوب وأولاده
ذكروا والله أعلم أن إسحاق بن ابراهيم عاش بعد ما ولد له العيص ويعقوب مائة سنة، ثم توفي وله مائة وستون سنة فقبره ابناه: العيص ويعقوب عند قبر ابيه ابراهيم في مزرعه حبرون، وكان عمر يعقوب بن إسحاق كله مائة وسبعا وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قسم له ولأمه من الحسن ما لم يقسم لكثير من احد من الناس.
وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الرَّازِيَّانِ، قَالا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أخبرنا ثابت البناني عن انس [عن النبي ص، قَالَ: أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شَطْرَ الْحُسْنِ] .
وَإِنَّ أُمَّهُ رَاحِيلَ لَمَّا وَلَدَتْهُ دَفَعَهُ زَوْجُهَا يَعْقُوبُ إِلَى أُخْتِهِ تَحْضُنُهُ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَشَأْنِ عَمَّتِهِ الَّتِي كَانَتْ تَحْضُنُهُ ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها صارت منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، فكان من اختانها من وليها كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما شاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد كان حضنته عمته، فكان معها واليها، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء حبها إياه، حتى إذا ترعرع

(1/330)


وبلغ سنوات، ووقعت نفس يعقوب عليه، أتاها فقال: يا أخيه سلمى الى يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: والله ما انا بتاركته، قال: فو الله ما أنا بتاركه قالت: فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسليني عنه- أو كما قالت- فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت:
لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها ومن أصابها، فالتمست ثم قالت: كشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت قال: وأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها:
أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» .
قال أبو جعفر: فلما رأت إخوة يوسف شدة حب والدهم يعقوب إياه في صباه وطفولته وقلة صبره عنه حسدوه على مكانه منه وقال بعضهم لبعض: «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، يعنون بالعصبة الجماعة، وكانوا عشرة: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
ثم كان من أمره وأمر يعقوب ما قد قص الله تبارك وتعالى في كتابه من مسألتهم إياه إرساله إلى الصحراء معهم، ليسعى وينشط ويلعب، وضمانهم له حفظه، وإعلام يعقوب إياهم حزنه بمغيبه عنه، وخوفه عليه من الذئب، وخداعهم والدهم بالكذب من القول والزور عن يوسف، ثم إرساله معهم

(1/331)


وخروجهم به وعزمهم حين برزوا به إلى الصحراء على إلقائه في غيابة الجب، فكان من أمره حينئذ- فيما ذكر- ما حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد العنقزى، عن اسباط، عن السدى قال: ارسله- يعني يعقوب يوسف- معهم، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب! لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه! فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفيرها، فربطوا يديه، ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردوا علي قميصي أتوارى به في الجب! فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، قال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء، فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها، فقام عليها فلما ألقوه في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
ثم خبره تبارك وتعالى عن وحيه الى يوسف ع وهو في الجب لينبئن إخوته الذين فعلوا به ما فعلوا بفعلهم ذلك وهم لا يشعرون بالوحي الذي أوحى إلى يوسف كذلك روي ذلك عن قتادة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ قتادة:
«وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا، قال: أوحى إلى يوسف وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا به وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» بذلك الوحي

(1/332)


حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بنحوه، إلا أنه قال: أن سينبئهم.
وقيل معنى ذلك: وهم لا يشعرون أنه يوسف، وذلك قول يروى عن ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا صَدَقَةُ بْنُ عُبَادَةَ الأَسَدِيُّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ ذَاكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
ثُمَّ خَبَّرَهُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَمَجِيئِهِمْ إِلَى أَبِيهِ عَشَاءً يَبْكُونَ، يَذْكُرُونَ لَهُ أَنَّ يُوسُفَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَقَوْلُ وَالِدِهِمْ: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» .
ثُمَّ خَبَّرَهُ جَلَّ جَلالُهُ عَنْ مَجِيءِ السَّيَّارَةِ، وَإِرْسَالِهِمْ وَارِدَهُمْ وَإِخْرَاجِ الْوَارِدِ يُوسُفَ وَإِعْلامِهِ أَصْحَابَهُ به بقوله: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» يبشرهم.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة، قال: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» ، تباشروا به حين أخرجوه- وهي بئر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها.
وقد قيل: إنما نادى الذي أخرج يوسف من البئر صاحبا له يسمى بشرى، فناداه باسمه الذي هو اسمه كذلك ذكر عن السدي حَدَّثَنَا الحسن بن محمد، حَدَّثَنَا خلف بن هشام، قال: حَدَّثَنَا يحيى بن آدم، عن قيس بن الربيع، عن السدي في قوله: «يا بُشْرى» ، قال: كان اسم صاحبه بشرى

(1/333)


حَدَّثَنِي المثنى، قال: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حَدَّثَنَا الحكم بن ظهير، عن السدى في قوله: «يا بُشْرى هذا غُلامٌ» ، قال: اسم الغلام بشرى، كما تقول: يا زيد.
ثم خبره عز وجل عن السيارة وواردهم الذي استخرج يوسف من الجب إذ اشتروه من إخوته «بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» ، على زهد فيه وإسرارهم إياه بضاعة، خيفة ممن معهم من التجار مسألتهم الشركة فيه، إن هم علموا أنهم اشتروه.
كذلك قال في ذلك أهل التأويل:
حَدَّثَنِي محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» ، قال: صاحب الدلو ومن معه قالوا لأصحابهم: إنا استبضعناه خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا بثمنه، وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق، حتى وقفوه بمصر فقال: من يبتاعني ويبشر! فاشتراه الملك، والملك مسلم.
حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا شبابة، قَالَ: حَدَّثَنَا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، غير أنه قَالَ: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به، واتبعهم إخوته، يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قال، حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ:
«وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» ، قَالَ: لما اشتراه الرجلان فرقوا من الرفقة أن يقولوا:
اشتريناه فيسالونهم الشركة فيه فقالوا: إن سألونا: ما هذا؟ قلنا: بضاعة، استبضعناه أهل الماء، فذلك قوله: «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً»

(1/334)


فكان بيعهم إياه ممن باعوه منه بثمن بخس، وذلك الناقص القليل من الثمن الحرام.
وقيل إنهم باعوه بعشرين درهما، ثم اقتسموها- وهم عشرة- درهمين درهمين، وأخذوا العشرين معدودة بغير وزن، لأن الدراهم حينئذ- فيما قيل- إذا كانت أقل من أوقية وزنها أربعون درهما لم تكن توزن، لأن أقل أوزانهم يومئذ كانت أوقية.
وقد قيل: إنهم باعوه بأربعين درهما وقيل: باعوه باثنين وعشرين درهما.
وذكر أن بائعه الذي باعه بمصر كان مالك بن دعر بن يوبب ابن عفقان بن مديان بن ابراهيم الخليل ع حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهَا وَقَالَ: «لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ» ، فَإِنَّ اسْمَهُ- فِيمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قطفير حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ اسْمُ الَّذِي اشْتَرَاهُ قِطْفِيرَ.
وَقِيلَ إِنَّ اسْمَهُ أَطْفِيرُ، بْنُ رُوحَيْبٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ، وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَالْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ، رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ، كَذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
فَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ يَوْمَئِذٍ الْمَلِكُ بِمِصْرَ وَفِرْعُونُهَا الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ

(1/335)


وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ وَاتَّبَعَ يُوسُفَ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَيُوسُفُ بَعْدُ حَيٌّ، ثُمَّ مَلَكَ بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ كَافِرًا، فَدَعَاهُ يُوسُفَ إِلَى الإِسْلامِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَالْمَصِيرِ بِهِ إِلَى مِصْرَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّهُ أَقَامَ فِي مَنْزِلِ الْعَزِيزِ الَّذِي اشْتَرَاهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّهُ لَمَّا تَمَّتْ لَهُ ثَلاثُونَ سَنَةً اسْتَوْزَرَهُ فِرْعَوْنُ مِصْرَ، الْوَلِيدُ بْنُ الرَّيَّانِ، وَإِنَّهُ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ وَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ يَهُوذَا، وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ فِرَاقِهِ يَعْقُوبَ وَاجْتِمَاعِهِ مَعَهُ بِمِصْرَ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَإِنَّ مَقَامَ يَعْقُوبَ مَعَهُ بِمِصْرَ بَعْدَ مُوَافَاتِهِ بِأَهْلِهِ سبع عشره سنه، وان يعقوب ص اوصى الى يوسف ع.
وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانا مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا اشْتَرَى أطفيرُ يُوسُفَ، وَأَتَى بِهِ مَنْزِلَهُ، قَالَ لأَهْلِهِ وَاسْمُهَا- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ- راعيل: «أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا» فيكفينا إذا هو بلغ وفهم الأمور بعض ما نحن بسبيله من أمورنا:
«أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ، وذلك أنه كان- فيما حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عن ابن إسحاق- رجلا لا يأتي النساء، وكانت امرأته راعيل حسناء ناعمة في ملك ودنيا، فلما خلا من عمر يوسف ع ثلاث وثلاثون سنة أعطاه الله عز وجل الحكم والعلم.
حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» : قَالَ: العقل والعلم قبل النبوة

(1/336)


«وَراوَدَتْهُ حين بلغ من السن أشده الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ- وهي راعيل امرأة العزيز أطفير- وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ» عليه وعليها للذي أرادت منه، وجعلت- فيما ذكر- تذكر ليوسف محاسنه تشوقه بذلك إلى نفسها.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها» ، قَالَ: قالت له يا يوسف:
ما أحسن شعرك! قَالَ: هو أول ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينيك! قَالَ: هي أول ما يسيل إلى الأرض من جسدي، قالت:
يا يوسف ما أحسن وجهك! قَالَ: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطمعته فهمت به وهم بها، فدخلا البيت وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت قد عض على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها، فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتها مثله إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتد، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط وطرحه يوسف، واشتد نحو الباب.
وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ وَسَهْلُ بْنُ مُوسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سُئِلَ عَنْ هَمِّ يُوسُفَ مَا بَلَغَ؟ قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ، وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْحَائِزِ

(1/337)


حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَلَغَ مِنْ هَمِّ يُوسُفَ؟ قَالَ: اسْتَلْقَتْ لَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنَ السُّوءِ بِمَا رَأَى مِنَ الْبُرْهَانِ الَّذِي أَرَاهُ اللَّهُ، فَذَلِكَ- فِيمَا قَالَ بَعْضُهُمْ- صُورَةُ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبَعِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُودِيَ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ: أَتَزْنِي فَتَكُونُ كَالطَّيْرِ وَقَعَ رِيشُهُ، فَذَهَبَ يَطِيرُ وَلا رِيشَ لَهُ! وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَى فِي الْحَائِطِ مَكْتُوبًا: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا» فَقَامَ حِينَ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هَارِبًا يُرِيدُ باب البيت، فرارا مما ارادته، وَاتَّبَعَتْهُ رَاعِيلُ فَأَدْرَكَتْهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الْبَابِ، فَجَذَبَتْهُ بِقَمِيصِهِ مِنْ قِبَلِ ظَهْرِهِ، فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ وَأَلْفَى يُوسُفُ وَرَاعِيلُ سَيِّدَهَا- وَهُوَ زَوْجُهَا أطفيرُ- جَالِسًا عِنْدَ الْبَابِ، مَعَ ابْنِ عَمٍّ لِرَاعِيلَ.
كذلك حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عن أسباط، عن السدي،: «وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» قَالَ: كان جالسا عند الباب وابن عمها معه، فلما رأته قالت: «مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي فأبيت فشققت قميصه قال يوسف: بل هي راودتني عن نفسي، فأبيت وفررت منها، فأدركتني فشقت قميصي فقال ابن عمها: تبيان هذا في القميص، فإن كان القميص «قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ، وإن كان القميص قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، فأتي بالقميص، فوجده قد من دبر، قَالَ: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَ

(1/338)


عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» .
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا شيبان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي، قَالَ: ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: «مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فغضب وقالَ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» .
وقد اختلف في الشاهد الذي شهد من أهلها «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ، فقال بعضهم: ما ذكرت عن السدي.
وقال بعضهم: كان صبيا في المهد، وقد روي في ذلك عن رسول الله مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بن السائب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عن [النبي ص، قَالَ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ، فَذَكَرَ فِيهِمْ شَاهِدَ يُوسُفَ] حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مَرْيَمَ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الشَّاهِدَ كَانَ هُوَ الْقَمِيصُ وَقَدُّهُ مِنْ دُبُرِهِ.
ذكر بعض من قَالَ ذلك:
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن عمرو، قَالَ: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها»

(1/339)


قَالَ: قميصه مشقوق من دبره فتلك الشهادة، فلما رأى زوج المرأة قميص يوسف قد من دبر قَالَ لراعيل زوجته: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» ، ثم قَالَ ليوسف: أَعْرِضْ عَنْ ذكر ما كان منها من مراودتها إياك عن نفسها فلا تذكره لأحد، ثم قَالَ لزوجته: «اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» .
وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز بمصر ومراودتها إياه على نفسها فلم ينكتم، وقلن: «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا» ، قد وصل حب يوسف إلى شغاف قلبها فدخل تحته حتى غلب على قلبها وشغاف القلب: غلافه وحجابه.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدى: «قَدْ شَغَفَها حُبًّا» قال: والشغاف جلدة على القلب يقال لها لسان القلب، يقول: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، فلما سمعت امرأة العزيز بمكرهن وتحدثهن بينهن بشأنها وشأن يوسف، وبلغها ذلك أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ يتكئن عليه إذا حضرنها من وسائد وحضرنها فقدمت إليهن طعاما وشرابا وأترجا، وأعطت كل واحدة منهن سكينا تقطع به الأترج.
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً» ، قَالَ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُجًّا، وَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا.
فَلَمَّا فَعَلَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ذَلِكَ بِهِنَّ، وَقَدْ أَجْلَسَتْ يُوسُفَ فِي بَيْتٍ وَمَجْلِسٍ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي هُنَّ فِيهِ جُلُوسٌ، قَالَتْ لِيُوسُفَ: «اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ» ،

(1/340)


فَخَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَجْلَلْنَهُ وَأَكْبَرْنَهُ وَأَعْظَمْنَهُ، وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالسَّكَاكِينِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِنَّ، وَهُنَّ يَحْسَبْنَ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ بِهَا الأُتْرُجَّ، وَقُلْنَ:
مَعَاذَ اللَّهِ مَا هَذَا إِنْسٌ، «إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» فَلَمَّا حَلَّ بِهِنَّ مَا حَلَّ مِنْ قَطْعِ أَيْدِيهِنَّ مِنْ أَجْلِ نَظْرَةٍ نَظَرْنَهَا إِلَى يُوسُفَ وذهاب عقولهن، وعرفتهن خطا قيلهن: «امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ» ، وَإِنْكَارِهِنَّ مَا أَنْكَرْنَ مِنْ أَمْرِهَا أَقَرَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ لَهُنَّ بِمَا كَانَ مِنْ مُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: «فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» ، بَعْدَ مَا حَلَّ سَرَاوِيلَهُ.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ:
«قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» ، تقول: بعد ما حل السراويل استعصم، لا أدري ما بدا له! ثم قالت لهن:
«وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ» من إتيانها «لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» ، فاختار السجن على الزنا ومعصية ربه، فقال: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: «قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» من الزنا، واستغاث بربه عز وجل فقال: «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» فأخبر الله عز وجل أنه استجاب له دعاءه، فصرف عنه كيدهن ونجاه من ركوب الفاحشة، ثم بدا للعزيز من بعد ما رأى من الآيات ما رأى من قد القميص من الدبر، وخمش في الوجه، وقطع النسوة أيديهن وعلمه

(1/341)


ببراءة يوسف مما قرف به في ترك يوسف مطلقا وقد قيل: إن السبب الذي من أجله بدا له في ذلك، ما حَدَّثَنَا به ابن وكيع، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عن أسباط عن السدي: «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، قَالَ: قالت المرأة لزوجها:
إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فذلك قول الله عز وجل: «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، فذكر أنهم حبسوه سبع سنين.
ذِكْرُ مَنْ قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن داود، عن عكرمة: «لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» ، قَالَ: سبع سنين، فلما حبس يوسف في السجن صاحبه العزيز، أدخل معه السجن الذي حبس فيه فتيان من فتيان الملك صاحب مصر الأكبر، وهو الوليد بن الريان، أحدهما كان صاحب طعامه، والآخر كان صاحب شرابه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ:
حبسه الملك، وغضب على خبازه، بلغه أنه يريد أن يسمه فحبسه، وحبس صاحب شرابه، ظن أنه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعا، فذلك قول الله عز وجل: «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» .
فلما دخل يوسف قَالَ فيما حَدَّثَنِي به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لما دخل يوسف السجن، قَالَ: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، فقال الخباز: «إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ

(1/342)


فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وقال الآخر: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فقيل: كان إحسانه ما حَدَّثَنَا به إسحاق بن أبي إسرائيل، قَالَ: حَدَّثَنَا خلف بن خليفة، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قَالَ: سأل رجل الضحاك عن قوله: «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» : ما كان إحسانه؟ قَالَ: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وسع له، فقال لهما يوسف: «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في يومكما هذا إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ» في اليقظة فكره صلى الله عليه أن يعبر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير الذي سألا عنه لما في عبارة ما سألا عنه من المكروه على أحدهما فقال: «يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .
وكان اسم أحد الفتيين اللذين أدخلا السجن محلب- وهو الذي ذكر أنه رأى فوق رأسه خبرا- واسم الآخر نبو، وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرا، فلم يدعاه والعدول عن الجواب عما سألاه عنه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه فقال: «أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً» - وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ» .
فلما عبر لهما ما سألاه تعبيره، قالا: ما رأينا شيئا.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن فضيل، عن عمارة- يعني ابن القعقاع- عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، في الفتيين اللذين أتيا يوسف

(1/343)


في الرؤيا إنما كانا تحالما ليختبراه، فلما أول رؤياهما قالا: انما كنا نلعب، فقال: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ثم قَالَ لنبو- وهو الذي ظن يوسف أنه ناج منهما: «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني عند الملك، واخبره أني محبوس ظلما، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ» ، غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان.
فحَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن بسطام بن مسلم، عن مالك بن دينار، قَالَ: قَالَ يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قَالَ: قيل: يا يوسف، اتخذت من دوني وكيلا! لأطيلن حبسك قَالَ: فبكى يوسف وقال: يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي! حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس، قال: [قال النبي ص: لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ- يَعْنِي الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ- مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] .
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ، فيما حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قَالَ: أخبرنا عمران أبو الهذيل الصنعاني، قَالَ: سمعت وهبا يقول: أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فحول في السباع سبع سنين.
ثم إن ملك مصر رآى رؤيا هالته

(1/344)


فحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو بن مُحَمَّد، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: إن الله عز وجل أرى الملك في منامه رؤيا هالته، فرأى:
«سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» ، فجمع السحرة، والكهنة والحازة والقافة، فقصها عليهم، فقالوا:
«أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما من الفتيين وهو نبو، وَادَّكَرَ حاجة يوسف بَعْدَ أُمَّةٍ، يعني بعد نسيان:
أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» ، يقول: فأطلقون فأرسلوه فأتى يوسف فقال: «أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» ، فإن الملك رأى ذلك في نومه.
فَحَدَّثَنَا ابن وكيع، قال، حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنِ السِّجْنُ فِي الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ السَّاقِي إِلَى يُوسُفَ، فَقَالَ: «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ» الآيَاتِ.
فحَدَّثَنَا بشر بن معاذ، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة، «أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ» فالسمان المخاصيب، والبقرات العجاف هن السنون المحول الجدوب قوله: وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ» أما الخضر فهن السنون المخاصيب، وأما اليابسات فهن الجدوب المحول.
فلما أخبر يوسف نبو بتأويل ذلك، أتى نبو الملك، فأخبره بما قَالَ له يوسف، فعلم الملك أن الذي قَالَ يوسف من ذلك حق، قَالَ: ائتوني به.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا أَتَى الْمَلِكَ رَسُولُهُ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ وَدَعَاهُ إِلَى

(1/345)


الْمَلِكِ أَبَى يُوسُفُ الْخُرُوجَ مَعَهُ، وَقَالَ: «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» .
قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ خَرَجَ يُوسُفُ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْمَلِكُ بِشَأْنِهِ مَا زَالَتْ فِي نَفْسِ الْعَزِيزِ مِنْهُ حَاجَةٌ، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي رَاوَدَ امْرَأَتِي فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَلِكِ مِنْ عِنْدِ يُوسُفَ جَمَعَ الْمَلِكُ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ، فَقَالَ لَهُنَّ:
مَا خَطْبُكُنَّ إذ راودتن يوسف عن نفسه! قلن- فيما حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي قال: لما قَالَ الْمَلِكُ لَهُنَّ: «مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» ، ولكن امراه العزيز أخبرتنا انها راودته عن نفسه، ودخل معها البيت، ف قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ حينئذ: «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» فقال يوسف: ذلك هذا الفعل الذي فعلت من ترديدي رسول الملك بالرسالات التي أرسلت في شأن النسوة، ليعلم اطفير سيدي «أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ في زوجته راعيل، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» .
فلما قال ذلك يوسف قال له جبرئيل: مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
لَمَّا جَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ، فَسَأَلَهُنَّ: هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟ «قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ يُوسُفُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» قال: فقال له جبرئيل:

(1/346)


وَلا يَوْمَ هَمَمْتَ بِهَا؟ فَقَالَ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» .
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِلْمَلِكِ عُذْرُ يُوسُفَ وَأَمَانَتُهُ قَالَ: «ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا اتى به كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» فَقَالَ يُوسُفُ لِلْمَلِكِ:
«اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» .
فحَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زيد في قوله:
«اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» قَالَ: كان لفرعون خزائن كثيرة غير الطعام، فسلم سلطانه كله إليه، وجعل القضاء إليه أمره، وقضاؤه نافذ.
حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن المختار، عن شيبة الضبي في قوله:
«اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» ، قَالَ: على حفظ الطعام «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» يقول: إني حفيظ لما استودعتني، عليم بسني المجاعة، فولاه الملك ذلك.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ:
لما قَالَ يوسف للملك: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» قَالَ الملك: قد فعلت، فولاه- فيما يذكرون- عمل إطفير، وعزل إطفير عما كان عليه، يقول الله تبارك وتعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» قَالَ: فذكر لي- والله أعلم- أن إطفير هلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوج يوسف امرأة إطفير راعيل، وأنها حين دخلت عليه قَالَ: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين! قَالَ: فيزعمون أنها قالت:
أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة- كما ترى- حسناء جميلة ناعمة، في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي على ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء، وأصابها فولدت له رجلين: أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي:

(1/347)


«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» قَالَ:
استعمله الملك على مصر، وكان صاحب أمرها، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله، فذلك قوله: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» .
فلما ولي يوسف للملك خزائن أرضه واستقر به القرار في عمله، ومضت السنون السبع المخصبة التي كان يوسف أمر بترك ما في سنبل ما حصدوا من الزرع فيها فيه، ودخلت السنون المجدبة وقحط الناس، أجدبت بلاد فلسطين فيما أجدب من البلاد، ولحق مكروه ذلك آل يعقوب في موضعهم الذي كانوا فيه، فوجه يعقوب بنيه.
فحَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ، قَالَ:
أصاب الناس الجوع حتى أصاب بلاد يعقوب التي هو بها، فبعث بنيه إلى مصر، وأمسك أخا يوسف بنيامين، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، فلما نظر إليهم قَالَ: أخبروني: ما أمركم؟ فإني أنكر شأنكم! قَالُوا: نحن قوم من أرض الشام، قَالَ: فما جاء بكم؟ قَالُوا: جئنا نمتار طعاما، قَالَ: كذبتم، أنتم عيون! كم أنتم؟ قَالُوا: عشرة، قَالَ: أنتم عشرة آلاف، كل رجل منكم امير ألف فأخبروني خبركم، قَالُوا: إنا إخوة، بنو رجل صديق، وإنا كنا اثني عشر، وكان أبونا يحب أخا لنا، وإنه ذهب معنا الى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا قَالَ: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قَالُوا: إلى أخ لنا أصغر منه قَالَ: فكيف تخبرونني أن أباكم صديق وهو يحب الصغير منكم دون الكبير! ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه: «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ»

(1/348)


قَالَ: فضعوا بعضكم رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون وحَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كان يوسف حين راى ما أصاب الناس من الجهد قد آسى بينهم، فكان لا يحمل للرجل الا بعيرا واحدا، ولا يحمل الواحد بعيرين تقسيطا بين الناس، وتوسيعا عليهم، فقدم عليه إخوته فيمن قدم عليه من الناس يلتمسون الميرة من مصر، فعرفهم وهم له منكرون لما أراد الله تعالى أن يبلغ بيوسف فيما أراد ثم أمر يوسف بان يوقر لكل رجل من إخوته بعيره، فقال لهم: ائتوني بأخيكم من أبيكم، لأحمل لكم بعيرا آخر، فتزدادوا به حمل بعير: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ» فلا ابخسه أحدا، «وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» وأنا خير من أنزل ضيفا على نفسه من الناس بهذه البلدة، فأنا أضيفكم «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي» بأخيكم من أبيكم فلا طعام لكم عندي أكيله، ولا تقربوا بلادي.
وقال لفتيانه الذين يكيلون الطعام لهم: «اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ- وهي ثمن الطعام الذي اشتروه به- فِي رِحالِهِمْ» .
حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن قتادة: «اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ» ، أي ورقهم، فجعلوا ذلك في رحالهم وهم لا يعلمون.
فلما رجع بنو يعقوب إلى أبيهم، قَالُوا: ما حَدَّثَنَا به ابن وكيع، قال:
حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: فلما رجعوا إلى أبيهم قَالُوا: يا أبانا، إن ملك مصر أكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد

(1/349)


أخيكم الذي هلك، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوا بلادي أبدا.
قَالَ يعقوب: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» قَالَ: فقال لهم يعقوب:
إذا أتيتم ملك مصر فأقرءوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك بما أوليتنا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خرجوا حتى إذا قدموا على أبيهم، وكان منزلهم- فيما ذكر لي بعض أهل العلم- بالعربات من أرض فلسطين بغور الشام وبعضهم يقول: بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حسمي فلسطين، وكان صاحب بادية، له إبل وشاء فلما رجع إخوة يوسف إلى والدهم يعقوب قَالُوا له: يا أبانا منع منا الكيل فوق حمل أبا عرنا، ولم يكل لكل واحد منا إلا كيل بعير، فأرسل معنا أخانا بنيامين يكتل لنفسه، وإنا له لحافظون، فقال لهم يعقوب: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
ولما فتح ولد يعقوب الذين كانوا خرجوا إلى مصر للميرة متاعهم الذي قدموا به من مصر، وجدوا ثمن طعامهم الذي اشتروه به رد إليهم، فقالوا لوالدهم:
«يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» آخر على أحمال إبلنا.
وقد حَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن

(1/350)


ابن جريج، «وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» ، قَالَ: كان لكل رجل منهم حمل بعير، فقالوا: أرسل معنا أخانا نزدد حمل بعير قَالَ ابن جريج: قَالَ مجاهد: كيل بعير حمل حمار قَالَ: وهي لغة، قَالَ الحارث: قَالَ القاسم: يعني مجاهد أن الحمار يقال له في بعض اللغات بعير.
فقال يعقوب: «لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» يقول: إلا أن تهلكوا جميعا، فيكون حينئذ ذلك لكم عذرا عندي، فلما وثقوا له بالأيمان قَالَ يعقوب: «اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» .
ثم أوصاهم بعد ما إذن لأخيهم من أبيهم بالرحيل معهم، ألا تدخلوا من باب واحد من أبواب المدينة خوفا عليهم من العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، وجمال وهيئة، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، كما حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:
«وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» ، قَالَ: كانوا قد أوتوا صورة وجمالا، فخشي عليهم انفس الناس، فقال الله تبارك وتعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» ، وكانت الحاجة التي في نفس يعقوب فقضاها ما تخوف على أولاده أعين الناس لهيئتهم وجمالهم.
ولما دخل إخوة يوسف على يوسف ضم إليه أخاه لأبيه وأمه، فحَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ» ، قَالَ: عرف أخاه، وأنزلهم منزلا، وأجرى عليهم الطعام والشراب، فلما كان الليل جاءهم بمثل فقال: لينم كل أخوين

(1/351)


منكم على مثال، فلما بقي الغلام وحده قَالَ يوسف: هذا ينام معي على فراشي، فبات معه، فجعل يوسف يشم ريحه، ويضمه إليه حتى أصبح، وجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا إن نجونا منه.
وأما ابن إسحاق فإنه قَالَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: لما دخلوا- يعني ولد يعقوب- على يوسف قَالُوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فذكر لي أنه قَالَ لهم: قد أحسنتم وأصبتم، وستجدون جزاء ذلك عندي، أو كما قَالَ.
ثم قَالَ: إني أراكم رجالا، وقد أردت أن أكرمكم، فدعا صاحب ضيافته فقال: أنزل كل رجلين على حدة، ثم أكرمهما وأحسن ضيافتهما.
ثم قَالَ: إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان، فسأضمه إلي فيكون منزله معي، فأنزلهم رجلين رجلين في منازل شتى، وأنزل أخاه معه فآواه إليه، فلما خلا به قَالَ: إني أنا أخوك أنا يوسف فلا تبتئس بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا فلا تعلمهم مما أعلمتك، يقول الله عز وجل:
«وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ، يقول له: «فَلا تَبْتَئِسْ» ، فلا تحزن.
فلما حمل يوسف إبل إخوته ما حملها من الميرة وقضى حاجتهم ووفاهم كيلهم، جعل الإناء الذي كان يكيل به الطعام- وهو الصواع- في رحل أخيه بنيامين.
- حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الواحد، عن يونس، عن الحسن أنه كان يقول: الصواع والسقاية سواء، هما الإناء الذي يشرب فيه، وجعل ذلك في رحل أخيه، والأخ لا يشعر فيما ذكر.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، عن أسباط، عن السدي:
«فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» ، والأخ لا يشعر، فلما ارتحلوا أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قبل ان ترتحل العير: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ»

(1/352)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حمل لهم بعيرا بعيرا، وحمل لأخيه بنيامين بعيرا باسمه كما حمل لهم، ثم أمر بسقاية الملك- وهو الصواع- وزعموا أنها كانت من فضة، فجعلت في رحل أخيه بنيامين، ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية، أمر بهم فأدركوا واحتبسوا، ثم نادى مناد: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ، قفوا وانتهى إليهم رسوله فقال لهم- فيما يذكرون-: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفكم كيلكم، ونحسن منزلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم، وأدخلناكم علينا في بيوتنا، وصار لنا عليكم حرمة! أو كما قَالَ لهم قَالُوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك فقدناها، ولا يتهموا عليها غيركم قَالُوا: «تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» وكان مجاهد يقول كانت العير حميرا.
حَدَّثَنِي بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا سفيان، قَالَ: أخبرني رجل، عن مجاهد: وكان فيما نادى به منادي يوسف: من جاءَ بصواع الملك فله حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام، وَأَنَا بإيفائه ذلك زَعِيمٌ- يعني كفيل- وإنما قَالَ القوم: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» ، لأنهم ردوا ثمن الطعام الذي كان كيل لهم المرة الأولى في رحالهم فردوه إلى يوسف، فقالوا: لو كنا سارقين لم نردد ذلك إليك- وقيل إنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، فلذلك قَالُوا ذلك- فقيل لهم: فما جزاء من كان سرق ذلك؟ فقالوا: جزاؤه في حكمنا بأن يسلم لفعله ذلك إلى من سرقه حتى يسترقه.
حَدَّثَنَا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: «قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ

(1/353)


فَهُوَ جَزاؤُهُ» تأخذونه، فهو لكم فبدأ يوسف بأوعية القوم قبل وعاء أخيه بنيامين، ففتشها ثم استخرجها من وعاء أخيه لأنه أخر تفتيشه.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قال: ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قرفهم به، حتى بقي أخوه- وكان أصغر القوم- قَالَ: ما أرى هذا أخذ شيئا قَالُوا: بلى فاستبرئه، ألا وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم.
«ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» ، يعني في حكم الملك، ملك مصر، وقضائه لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يسترق السارق بما سرق، ولكنه أخذه بكيد الله له حتى أسلمه رفقاؤه وإخوته بحكمهم عليه وطيب أنفسهم بالتسليم.
حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا شبابة، قَالَ: حَدَّثَنَا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قوله «مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ» إلا بعلة كادها الله له، فاعتل بها يوسف، فقال اخوه يوسف حينئذ:
«إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» - يعنون بذلك يوسف وقد قيل إن يوسف كان سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره، فعيروه بذلك.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عمرو البصري، قَالَ: حَدَّثَنَا الفيض بن الفضل، قَالَ: حَدَّثَنَا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ، قَالَ: سرق يوسف صنما لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك

(1/354)


وقد حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سمعت أبي قَالَ: كان بنو يعقوب على طعام، إذ نظر يوسف إلى عرق فخبأه فعيروه بذلك «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ، فأسر في نفسه يوسف حين سمع ذلك منهم، فقال: «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» به أخا بنيامين من الكذب، ولم يبد ذلك لهم قولا.
فحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم، وقالوا: يا بني راحيل، ما يزال لنا منكم بلاء! متى أخذت هذا الصواع؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم فقالوا: لا تذكر الدراهم فتؤخذ بها فلما دخلوا على يوسف دعا بالصواع، فنقر فيه ثم أدناه من أذنه، ثم قَالَ: إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه فلما سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثم قَالَ: أيها الملك، سل صواعك هذا عن أخي أين هو؟ فنقره، ثم قَالَ: هو حي، وسوف تراه قَالَ: فاصنع بي ما شئت، فإنه إن علم بي فسوف يستنقذني قَالَ:
فدخل يوسف فبكى ثم توضأ، ثم خرج فقال بنيامين: ايها الملك، إني أريد أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحق من الذي سرقه فجعله في رحلي فنقره، فقال: إن صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسألني: من صاحبي؟
فقد رأيت مع من كنت! قَالُوا: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، فغضب روبيل وقال: أيها الملك، والله لتتركنا أو لأصيحن صيحة لا تبقي بمصر حامل إلا ألقت ما في بطنها، وقامت كل شعرة في جسد روبيل، فخرجت من ثيابه فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل فمسه- وكان بنو يعقوب إذا غضب أحدهم فمسه الآخر ذهب غضبه- فقال روبيل: من

(1/355)


هذا؟ إن في هذا البلد لبزرا من بزر يعقوب، فقال يوسف: من يعقوب؟
فغضب روبيل وقال: أيها الملك، لا تذكر يعقوب فإنه إسرائيل الله بن ذبيح الله بن خليل الله قال يوسف: أنت اذن كنت صادقا.
قَالَ: ولما احتبس يوسف أخاه بنيامين، فصار بحكم إخوته أولى به منهم، ورأوا أنه لا سبيل لهم إلى تخليصه صاروا إلى مسألته تخليته ببذل منهم يعطونه اياه، فقالوا: «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» في أفعالك فقال لهم يوسف: «مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ» أن نأخذ بريئا بسقيم! فلما يئس إخوة يوسف من إجابة يوسف إياهم إلى ما سألوا من إطلاق أخيه بنيامين وأخذ بعضهم مكانه، خلصوا نجيا لا يفترق منهم أحد، ولا يختلط بهم غيرهم فقال كبيرهم: - وهو روبيل، وقد قيل إنه شمعون-:
ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أن نأتيه بأخينا بنيامين إلا أن يحاط بنا أجمعين! ومن قبل هذه المرة ما فرطتم في يوسف «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ» التي أنا بها «حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» في الخروج منها وترك أخي بنيامين بها «أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» - وقد قيل معنى ذلك: أو يحكم الله لي بحرب من منعني من الانصراف بأخي- «ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ» ، فأسلمناه بجريرته، «وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا» ، لأن صواع الملك لم يوجد إلا في رحله، «وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ، يعنون بذلك أنا إنما ضمنا لك أن نحفظه مما لنا إلى حفظه

(1/356)


سبيل، ولم نكن نعلم أنه يسرق فيسترق بسرقته واسأل أهل القرية التي كنا فيها فسرق ابنك فيها، والقافلة التي كنا فيها مقبلة من مصر معنا عن خبر ابنك، فإنك تخبر بحقيقة ذلك.
فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه خبر بنيامين، وتخلف روبيل قَالَ لهم:
بل سولت لكم انفسكم امرا أردتموه، فصبر جميل لا جزع فيه على ما نالني من فقد ولدي، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا بيوسف وأخيه وروبيل.
ثم أعرض عنهم يعقوب وقال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» يقول الله عز وجل: «وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» ، مملوء من الحزن والغيظ.
فقال له بنوه الذين انصرفوا إليه من مصر حين سمعوا قوله ذلك: تالله لا تزال تذكر يوسف فلا تفتر من حبه وذكره حتى تكون دنف الجسم، مخبول العقل من حبه وذكره، هرما باليا او تموت! فأجابهم يعقوب فقال: «َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
لا إليكم» ، أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
من صدق رؤيا يوسف، أن تأويلها كائن، وأني وأنتم سنسجد له.
وَقَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عِيسَى بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قِيلَ: مَا بَلَغَ وَجْدُ يَعْقُوبَ عَلَى ابْنِهِ؟ قَالَ: وَجْدُ سَبْعِينَ ثَكْلَى، قَالَ: فَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ؟ قَالَ: أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ، قَالَ:
وَمَا سَاءَ ظَنُّهُ بِاللَّهِ سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلا نَهَارٍ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، عَنْ يُونُسَ، عن الحسن، عن النبي ص مثله.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن المبارك بن مجاهد، عن رجل من الأزد، عن طلحة بن مصرف اليامي، قَالَ: انبئت ان يعقوب ابن إسحاق دخل عليه جار له فقال: يا يعقوب، ما لي أراك قد انهشمت

(1/357)


وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قَالَ: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف وذكره فأوحى الله عز وجل إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي! قَالَ: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قَالَ: فإني قد غفرت لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: «َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
» حَدَّثَنَا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو أسامة، عن هشام عن الحسن، قَالَ: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى أن رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره قَالَ الحسن: والله ما على الأرض خليقة أكرم على الله من يعقوب.
ثم أمر يعقوب بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتحسس الخبر عن يوسف وأخيه، فقال لهم: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله يفرج به عنا وعنكم الغم الذي نحن فيه فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف فقالوا له حين دخلوا عليه: «أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ
» وكانت بضاعتهم المزجاة التي جاءوا بها معهم- فيما ذكر- دراهم ردية زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة وكان بعضهم يقول: كانت حلق الغرارة والحبل ونحو ذلك وقال بعضهم: كانت سمنا وصوفا وقال بعضهم: كانت صنوبرا وحبة الخضراء وقال بعضهم: كانت قليلة دون ما كانوا يشترون به قبل، فسألوا يوسف أن يتجاوز لهم ويوفيهم بذلك من كيل الطعام مثل الذي كان يعطيهم في المرتين قبل ذلك، ولا ينقصهم فقالوا له: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ»

(1/358)


حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن اسباط، عن السدى:
«وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا» ، قَالَ: بفضل ما بين الجياد والردية وقد قيل: إن معنى ذلك: وتصدق علينا برد أخينا إلينا «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
ذكر أنهم لما كلموه بهذا الكلام، غلبته نفسه فارفض دمعه باكيا، ثم باح لهم بالذي كان يكتم منهم، فقال: «هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه هو فيه حين أخذه، ولكن التفريق بينه وبين أخيه إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا فلما قَالَ لهم يوسف ذلك قَالُوا له: ها أنت يوسف! قَالَ: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأن جمع بيننا بعد تفريقكم بيننا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لما قَالَ لهم يوسف: «أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي اعتذروا وقالوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» قَالَ لهم يوسف: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عَنْ أَبِيهِ.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن اسباط، عن السدى، قال:
قال يوسف: ما فعل أبي بعدي؟ قَالُوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن فقال:
«اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ» عير بني يعقوب، قَالَ يعقوب:

(1/359)


«إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» .
فحَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أخبرنا ابن وهب، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن شريح، عن أبي أيوب الهوزني، حدثه، قَالَ: استأذنت الريح بأن تأتي يعقوب بريح يوسف حين بعث بالقميص إلى أبيه قبل أن يأتيه البشير، ففعلت، فقال يعقوب:
«إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» .
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إِسْرَائِيلَ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ فَجَاءَتْ بِرِيحِ يُوسُفَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِ لَيَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» .
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عن الحسن، قَالَ: ذكر لنا أنه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخا، يوسف بأرض مصر ويعقوب بأرض كنعان، وقد أتى لذلك زمان طويل.
حَدَّثَنَا القاسم، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قَالَ: حَدَّثَنَا حجاج، عن ابن جريج قوله: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» قال: بلغنا أنه كان بينهم يومئذ ثمانون فرسخا، وقال: «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» وقد كان فارقه قبل ذلك سبعا وسبعين سنة ويعني بقوله: «لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» لولا أن تسفهوني فتنسبوني إلى الهرم وذهاب العقل فقال له من حضره من ولده حينئذ: تَاللَّهِ إِنَّكَ من ذكر يوسف وحبه «لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» - يعنون في خطئك القديم.
«فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ» - يعني البريد الذي أبرده يوسف إلى يعقوب- يبشر بحياة يوسف وخبره، وذكر أن البشير كان يهوذا بن يعقوب.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال:

(1/360)


قَالَ يوسف: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» قَالَ يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره بأنه حي، فأقر عينه كما أحزنته، فهو كان البشير.
فلما أن جاء البشير يعقوب بقميص يوسف القاه على وجهه، فعاد بصيرا بعد العمى، فقال لأولاده: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ» .
وذلك أنه كان قد علم- من صدق تأويل رؤيا يوسف التي رآها أن الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدون- ما لم يكونوا يعلمون فقالوا ليعقوب:
«يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ فقال لهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» قيل: إنه أخر الدعاء لهم إلى السحر وقيل إنه أخر ذلك إلى ليلة الجمعة.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابن عباس، قال: [قال رسول الله ص: قال يعقوب: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» ، يَقُولُ: حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ] .
فَلَمَّا دَخَلَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ وَأَهَالِيهِمْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَكَانَ دُخُولُهُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ- فِيمَا قِيلَ- لأَنَّ يُوسُفَ تَلَقَّاهُمْ حَدَّثَنَا ابْنُ وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّيِّ، قَالَ: حملوا إليه أهليهم وعيالهم، فلما بلغوا مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه فخرج هو والملك يتلقونهم، فلما بلغوا مصر قَالَ: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» .
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه

(1/361)


حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان، عن فرقد السبخي، قَالَ: لما ألقي القميص على وجهه ارتد بصيرا، وقال: ائتوني بأهلكم أجمعين، فحمل يعقوب وإخوة يوسف، فلما دنا يعقوب أخبر يوسف أنه قد دنا منه، فخرج يتلقاه قَالَ: وركب معه أهل مصر- وكانوا يعظمونه- فلما دنا أحدهما من صاحبه- وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على رجل من ولده، يقال له يهوذا- قَالَ: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر، فقال: لا، هذا ابنك يوسف، قَالَ: فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فمنع ذلك، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، فلما أن دخلوا مصر رفع أبويه على السرير وأجلسهما عليه.
وقد اختلف في اللذين رفعهما يوسف على العرش، وأجلسهما عليه، فقال بعضهم: كان أحدهما أبوه يعقوب، والآخر أمه راحيل وقال آخرون: بل كان الآخر خالته ليا وكانت أمه راحيل قد كانت ماتت قبل ذلك وخر له يعقوب وأمه وولد يعقوب سجدا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الأعلى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ قتادة:
«وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» قَالَ: كانت تحية الناس أن يسجد بعضهم لبعض، وقال يوسف لأبيه: «يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» ، يعني بذلك: هذا السجود منكم، يدل على تأويل رؤياي التي رأيتها من قبل، صنع اخوتى بي ما صنعوا، وتلك الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر «قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» يقول: قد حقق الرؤيا بمجيء تأويلها.
وقيل كان بين أن أري يوسف رؤياه هذه ومجيء تأويلها أربعون سنة.
ذكر بعض من قال ذلك:

(1/362)


حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ إِلَى أَنْ رَأَى تَأْوِيلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ ثَمَانُونَ سَنَةً.
ذكر بعض من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ مُنْذُ فَارَقَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ إِلَى أَنِ الْتَقَيَا ثَمَانُونَ سَنَةً، لَمْ يُفَارِقِ الْحُزْنُ قَلْبَهُ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَمَا عَلَى الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ يَعْقُوبَ.
حَدَّثَنَا الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا داود بن مهران، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن، قَالَ: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان بين ذلك وبين لقائه يعقوب ثمانون سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حَدَّثَنَا مبارك بن فضالة، عن الحسن، قَالَ: ألقي يوسف في الجب، وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عَنْ أَبِيهِ ثمانين سنة، ثم عاش بعد ما جمع الله شمله، ورأى تأويل رؤياه ثلاثا وعشرين سنة، فمات وهو ابن عشرين ومائة سنة.
وقال بعض أهل الكتاب: دخل يوسف مصر وله سبع عشرة سنة، فأقام في منزل العزيز ثلاث عشرة سنة، فلما تمت له ثلاثون سنة استوزره فرعون ملك مصر، واسمه الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وأن هذا الملك آمن، ثم مات، ثم ملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن قاران بن عمرو ابن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان كافرا، فدعاه يوسف إلى الإيمان بالله فلم يستجب إليه، وأن يوسف أوصى إلى أخيه يهوذا، ومات وقد أتت له مائة وعشرون سنة، وأن فراق يعقوب إياه كان اثنتين وعشرين سنة، وأن

(1/363)


مقام يعقوب معه بمصر كان بعد موافاته بأهله سبع عشرة سنة، وأن يعقوب لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف- وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنسانا من أهله وتقدم إلى يوسف عند وفاته أن يحمل جسده حتى يدفنه بجنب أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك به ومضى به حتى دفنه بالشام، ثم انصرف إلى مصر، وأوصى يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن إلى جنب آبائه، فحمل موسى تابوت جسده عند خروجه من مصر معه.
وحَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
ذكر لي- والله أعلم- أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة.
قَالَ: وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأن يعقوب بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه قَالَ:
وقبر يوسف- كما ذكر لي في- صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء.
وقال بعضهم: عاش يوسف بعد موت أبيه ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة قَالَ: وفي التوراة أنه عاش مائة سنة وعشر سنين.
وولد ليوسف أفراييم بن يوسف ومنشا بن يوسف، فولد لإفراييم نون، فولد لنون بن إفراييم يوشع بن نون وهو فتى موسى، وولد لمنشا موسى بن منشا.
وقيل: ان موسى بن منشا نبى قبل موسى بن عمران.
ويزعم أهل التوراة أنه الذي طلب الخضر

(1/364)


قصة الخضر وخبره وخبر موسى وفتاه يوشع ع
قَالَ أبو جعفر: كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك بن أثفيان في قول عامة أهل الكتاب الأول، وقبل موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر، الذي كان أيام إبراهيم خليل الرحمن ص، وهو الذي قضى له ببئر السبع- وهي بئر كان إبراهيم احتفرها لماشيته في صحراء الأردن- وإن قوما من أهل الأردن ادعوا الأرض التي كان احتفر بها إبراهيم بئره، فحاكمهم إبراهيم إلى ذي القرنين الذي ذكر أن الخضر كان على مقدمته أيام سيره في البلاد، وأنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة، فشرب من مائه وهو لا يعلم، ولا يعلم به ذو القرنين ومن معه، فخلد، فهو حي عندهم إلى الآن.
وزعم بعضهم أنه من ولد من كان آمن بإبراهيم خليل الرحمن، واتبعه على دينه، وهاجر معه من أرض بابل حين هاجر إبراهيم منها وقال: اسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قَالَ:
وكان أبوه ملكا عظيما.
وقال آخرون: ذو القرنين الذى كان على عهد ابراهيم ص هو أفريدون بن أثفيان، قَالَ: وعلى مقدمته كان الخضر.
وقال عبد الله بن شوذب فيه، ما حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الحكم المصري قال: حدثنا مُحَمَّد بن المتوكل، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الله بن شوذب، قَالَ: الخضر من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل، يلتقيان في كل عام بالموسم.
وقال ابن إسحاق فيه ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال:
حدثني ابن إسحاق، قَالَ: بلغني أنه استخلف الله عز وجل في بني إسرائيل

(1/365)


رجلا منهم، يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله عز وجل لهم الخضر نبيا.
قَالَ: واسم الخضر- فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن خلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران وبين هذا الملك الذي ذكره ابن إسحاق وبين أفريدون أكثر من ألف عام.
وقول الذي قَالَ: إن الخضر كان في أيام افريدون وذي القرنين الاكبر وقبل موسى بن عمران أشبه بالحق إلا أن يكون الأمر كما قاله من قَالَ إنه كان على مقدمة ذي القرنين صاحب إبراهيم، فشرب ماء الحياة، فلم يبعث في أيام ابراهيم ص نبيا، وبعث أيام ناشية بن أموص، وذلك أن ناشية بن أموص الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان ملكا على بني إسرائيل، كان في عهد بشتاسب بن لهراسب، وبين بشتاسب وبين أفريدون من الدهور والأزمان ما لا يجهله ذو علم بأيام الناس وأخبارهم، وسأذكر مبلغ ذلك إذا انتهينا إلى خبر بشتاسب إن شاء الله تعالى.
وإنما قلنا: قول من قَالَ: كان الخضر قبل موسى بن عمران ص أشبه بالحق من القول الذي قاله ابن إسحاق وحكاه عن وهب بن منبه، للخبر الذى روى عن رسول الله ص أبي بن كعب، أن صاحب موسى بن عمران- وهو العالم الذي أمره الله تبارك تعالى بطلبه إذ ظن أنه لا أحد في الأرض أعلم منه- هو الخضر، ورسول الله ص كان أعلم خلق الله بالكائن من الأمور الماضية، والكائن منها الذي لم يكن بعد.
والذي روى أبي بن كعب في ذلك عنه ص مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ الخضر ليس

(1/366)


بِصَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ابى بن كعب عن [رسول الله ص قال: ان موسى قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا فَقِيلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: يَا رب، كيف به؟ قال: تأخذ حوتا فتجعله في مكتل فحيث تفقده فَهُوَ هُنَاكَ قَالَ: فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ: إِذَا فَقَدْتَ هَذَا الْحُوتَ فَأَخْبِرْنِي فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى أَتَيَا صَخْرَةً، فَرَقَدَ موسى فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي الْبَحْرِ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَكَانَ لَهُمَا عَجَبًا ثُمَّ انْطَلَقَا، فَلَمَّا كَانَ حِينُ الْغَدَاءِ قَالَ موسى لِفَتَاهُ: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ موسى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» قَالَ: فَقَالَ: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» قَالَ: يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا قَالَ: فَأَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ نَائِمٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ موسى فَقَالَ: وَأَنَّى بِأَرْضِنَا السَّلامُ! قَالَ: أَنَا موسى، قال: موسى بنى إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا موسى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.
«قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» .
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، فَإِذَا بِمَلاحٍ فِي سَفِينَةٍ، فَعَرَفَ الْخَضِرَ، فَحَمَلَهُ

(1/367)


بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِهَا فنقر- او فنقد- فِي الْمَاءِ، فَقَالَ الْخَضِرُ لِموسى: مَا يُنْقِصُ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلا مِقْدَارَ مَا نَقَرَ- أَوْ نَقَدَ- هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ] .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَنَا أَشُكُّ، وَهُوَ في كتابي هذا نقر قال: فبينما هُمْ فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ موسى إِلا وَهُوَ يَتِدُ وَتِدًا أَوْ يَنْزِعُ تَخْتًا مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ موسى:
حُمِلْنَا بِغَيْرِ نَوْلٍ وَتَخْرِقُهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» - قَالَ:
فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ موسى نِسْيَانًا- قَالَ: ثُمَّ خَرَجَا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ، فَأَبْصَرَا غُلامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ موسى: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهلها، فَلَمْ يَجِدَا أَحَدًا يُطْعِمُهُمْ وَلا يَسْقِيهِمْ، «فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» بيده- قَالَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ- فَقَالَ لَهُ موسى: لَمْ يُضَيِّفُونَا وَلَمْ يُنْزِلُونَا، «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» .
«قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» قال: [فقال رسول الله ص: لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا قَصَصَهُمْ] .
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ،

(1/368)


قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ موسى ع الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: [نَعَمْ إِنِّي سمعت رسول الله ص يقول: بينا موسى ع فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى:
لا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بلى عَبْدُنَا الْخَضِرُ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقَالَ لَهُ: إِذَا افْتَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ، فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» ، قَالَ موسى: «ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» ، فَوَجَدَا الْخَضِرَ، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِيهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ

(1/369)


لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» الآية، قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى مِصْرَ نَزَلَ قَوْمُهُ مِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: أَنْ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فَخَطَبَ قَوْمَهُ، فَذَكَرَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، وَذَكَّرَهُمْ إِذْ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَذَكَّرَهُمْ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ، وَمَا اسْتَخْلَفَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى نَبِيَّكُمْ تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَانِي لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ مَحَبَّةً مِنْهُ، وَآتَاكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، فَنَبِيُّكُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَنْتُمْ تَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ فَلَمْ يَتْرُكْ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا ذَكَرَهَا وَعَرَّفَهَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: هُوَ كَذَلِكَ يا نبى الله، وقد عَرَفْنَا الَّذِي تَقُولُ، فَهَلْ عَلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، فبعث الله عز وجل جبرئيل ع الى موسى ع فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا يُدْرِيكَ أَيْنَ أَضَعُ عِلْمِي؟ بَلَى إِنَّ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ رَجُلًا أَعْلَمُ مِنْكَ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخِضْرُ- فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ائْتِ الْبَحْرَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ حُوتًا فَخُذْهُ فَادْفَعْهُ إِلَى فَتَاكَ ثُمَّ الْزَمْ شَطَّ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَسِيتَ الْحُوتَ وَهَلَكَ مِنْكَ، فَثَمَّ تَجِدُ الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي تَطْلُبُ.
فَلَمَّا طَالَ سَفَرُ موسى نبى الله ص وَنَصِبَ فِيهَ، سَأَلَ فَتَاهُ عَنِ الْحُوتَ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ وَهُو غُلَامُهُ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لَكَ قَالَ الْفَتَى: لَقَدْ رَأَيْتُ الْحُوتَ حِينَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُوسَى فَرَجَعَ حَتَّى أَتَى الصَّخْرَةَ فَوَجَدَ الْحُوتَ، فَجَعَلَ الْحُوتُ يَضْرِبُ فِي الْبَحْرِ وَيَتْبَعُهُ مُوسَى، وَجَعَلَ مُوسَى يُقَدِّمُ عَصَاهُ يُفْرِجُ بِهَا عَنْهُ الْمَاءَ، يَتْبَعُ الْحُوتَ، وَجَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صخره، فجعل نبى الله ص يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْحُوتُ إِلَى جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَلَقِيَ الْخِضْرَ بها، فسلم

(1/370)


عَلَيْهِ، فَقَالَ الْخِضْرُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا السَّلَامُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ! وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: الْخِضْرُ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ، يَقُولُ: لا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ مُوسَى: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» .
قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ حَتَّى أُبَيِّنَ لَكَ شَأْنَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ يُرِيدَانِ أَنْ يَتَعَدَّيَا إِلَى الْبَرِّ، فَقَامَ الْخَضِرُ، فَخَرَقَ السَّفِينَةَ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [سال موسى ع رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ:
أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلا يَنْسَانِي، قَالَ:
فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقْضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلا يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ أَيْ رَبِّ، أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ: رَبِّ فَهَلْ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَظُنُّهُ قَالَ: أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: رَبِّ، فَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الْخَضِرُ، قَالَ: وَأَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ، عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ،] قَالَ: فَخَرَجَ موسى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَانْتَهَى موسى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ موسى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَسْتَصْحِبَنِي، قَالَ: لَنْ تَطِيقَ

(1/371)


صُحْبَتِي، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي «فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زاكية بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» ، الى قوله: «لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» .
قَالَ: فَكَانَ قَوْلُ موسى فِي الْجِدَارِ لِنَفْسِهِ وَلِطَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَانَ قَوْلُهُ فِي السَّفِينَةِ وَفِي الْغُلامِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ، فاخبره بما قال الله:
«أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ الآيَةَ، وَأَمَّا الْغُلامُ» الآيَةَ، «وَأَمَّا الْجِدارُ» الآيَةَ قَالَ: فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرَ مَاءً مِنْهُ، قَالَ:
وَبَعَثَ رَبُّكَ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِموسى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ! قَالَ: يَا موسى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هذا الماء وكان موسى ع قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:
جَلَسْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ إِنَّ نَوْفًا ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبٍ، ذَكَرَ عَنْ كَعْبٍ ان موسى النبي ع

(1/372)


الَّذِي طَلَبَ الْعَالِمَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ منشا قَالَ سَعِيدٌ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَنَوْفٌ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ سَعِيدٌ: فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، أَنَا سَمِعْتُ نَوْفًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بن كعب عن رسول الله ص ان موسى بنى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، إِنْ كَانَ فِي عِبَادِكَ أَحَدٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ فِي عِبَادِي مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكَانَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي لِقَائِهِ، فخرج موسى ع وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ حُوتٌ مَلِيحٌ قَدْ قِيلَ لَهُ: إِذَا حَيِيَ هَذَا الْحُوتُ فِي مَكَانٍ فَصَاحِبُكَ هُنَالِكَ، وَقَدْ أَدْرَكْتَ حَاجَتَكَ فَخَرَجَ مُوسَى ومعه فتاه، ومعه ذلك الْحُوتُ يَحْمِلانِهِ، فَسَارَ حَتَّى جَهَدَهُ السَّيْرُ، وَانْتَهَى إِلَى الصَّخْرَةِ وَإِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَذَلِكَ الْمَاءُ، مَاءُ الْحَيَاةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خُلِّدَ، وَلا يُقَارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إِلا أَدْرَكَتْهُ الْحَيَاةُ وَحَيِيَ فَلَمَّا نَزَلا مَنْزِلا وَمَسَّ الْحُوتُ الْمَاءَ حَيِيَ، فاتخذ سبيله في البحر سربا، فانطلق فلما جاوزا بِمِنْقَلَةٍ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» قَالَ الْفَتَى وَذَكَرَ: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَظَهَرَ مُوسَى عَلَى الصَّخْرَةِ حتى انتهيا اليه، فإذا رجل متلفف فِي كِسَاءٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَرَدَّ ع، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا موسى ابن عِمْرَانَ، قَالَ: صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنَا ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا جَاءَ بِكَ إِلَى هذه الارض، ان لك في قومك لشغل! قَالَ لَهُ مُوسَى: جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَانَ رَجُلا يَعْمَلُ عَلَى الْغَيْبِ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَقَالَ مُوسَى: بَلَى، قَالَ: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ

(1/373)


خُبْراً» ، أَيْ إِنَّمَا تَعْرِفُ ظَاهِرَ مَا تَرَى مِنَ الْعَدْلِ وَلَمْ تُحِطْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ بِمَا أَعْلَمُ «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» وَإِنْ رَأَيْتُ مَا يُخَالِفُنِي.
قَالَ: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» ، أَيْ فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ وَإِنْ أَنْكَرْتَهُ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، أَيْ خَبَرًا.
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يَتَعَرَّضَانِ النَّاسَ، يَلْتَمِسَانِ مَنْ يَحْمِلُهُمَا حَتَّى مَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ جَدِيدَةٌ وَثِيقَةٌ، لَمْ يَمُرَّ بِهِمَا شَيْءٌ مِنَ السفن احسن ولا اجمل وَلا أَوْثَقُ مِنْهَا، فَسَأَلا أَهْلَهَا أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَحَمَلُوهُمَا، فَلَمَّا اطْمَأَنَّا فِيهَا، وَلَجَّجَتْ بِهِمَا مَعَ أَهْلِهَا، أَخْرَجَ مِنْقَارًا لَهُ وَمِطْرَقَةً، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا فَضَرَبَ فِيهَا بِالْمِنْقَارِ حَتَّى خَرَقَهَا، ثُمَّ أَخَذَ لَوْحًا فَطَبَّقَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهَا يُرَقِّعُهَا، قَالَ لَهُ مُوسَى: فَأَيُّ أَمْرٍ أَفْظَعُ مِنْ هَذَا! «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ! حَمَلُونَا وَآوَوْنَا إِلَى سَفِينَتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الْبَحْرِ سَفِينَةٌ مِثْلُهَا، فَلِمَ خَرَقْتَهَا! قَالَ: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» ، أَيْ بِمَا تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ «وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ، فَإِذَا غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ، فِيهِمْ غُلامٌ لَيْسَ فِي الْغِلْمَانِ غُلامٌ أَظْرَفُ وَلا أَتْرَفُ وَلا أَوْضَأُ مِنْهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَخَذَ حَجَرًا فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى دَمَغَهُ فَقَتَلَهُ قَالَ: فَرَأَى مُوسَى أَمْرًا فَظِيعًا لا صَبْرَ عَلَيْهِ، صبى صغير قَتَلَهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَلا ذَنْبٍ لَهُ! فَقَالَ: «أَقَتَلْتَ نَفْساً زاكية بِغَيْرِ نَفْسٍ» ، أَيْ صَغِيرَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» ، أَيْ قَدْ أُعْذِرْتَ فِي شَأْنِي «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» ، فَهَدَمَهُ ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ،

(1/374)


فَضَجَرَ مُوسَى مِمَّا رَآهُ يَصْنَعُ مِنَ التَّكَلُّفِ لِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَبْرٌ، فَقَالَ: «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» أَيْ قَدِ اسْتَطْعَمْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَاسْتَضَفْنَاهُمْ فَلَمْ يضيفونا، ثم قعدت تعمل في غير صنيعه، ولو شئت لأعطيت عليه اجرا في عمله «قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ- وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:
كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ- غَصْباً» ، وَإِنَّمَا عِبْتُهَا لأَرُدَّهُ عَنْهَا، فَسَلِمَتْ مِنْهُ حِينَ رَأَى الْعَيْبَ الَّذِي صَنَعْتُ بِهَا «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» - الى- «ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا كَانَ الْكَنْزُ إِلَّا عِلْمًا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ نَسْمَعْ لِفَتَى مُوسَى بِذِكْرٍ مِنْ حَدِيثٍ وَقَدْ كَانَ مَعَهُ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حَدِيثِ الْفَتَى، قَالَ: شَرِبَ الْفَتَى مِنْ مَاءِ الْخُلْدِ فَخُلِّدَ، فَأَخَذَهُ الْعَالِمُ فَطَابَقَ بِهِ سَفِينَةً، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهَا لَتَمُوجُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ فَشَرِبَ.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عن شعبة، عن قتادة، قوله:
«فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» ، ذكر لنا ان نبى الله موسى لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل فخطبهم فقال:

(1/375)


أنتم خير أهل الأرض وأعلمهم قد أهلك الله عدوكم، وأقطعكم البحر وأنزل عليكم التوراة، قال: فقيل له: ان هاهنا رجلا هو أعلم منك قَالَ: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، فتزودا مملوحة في مكتل لهما، وقيل لهما: إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلا عالما يقال له الخضر، فلما أتيا ذلك المكان، رد الله إلى الحوت روحه فسرب له من الجد حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا، قَالَ: ومضى موسى وفتاه، يقول الله عز وجل: «فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً- الى قوله-: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» ، فلقيا رجلا عالما يقال له الخضر، فذكر لنا ان نبى الله قَالَ: إنما سمي الخضر خضرا لأنه قعد على فروة بيضاء فاهتزت به خضراء.
فهذه الاخبار التي ذكرناها عن رسول الله ص وعن السلف من أهل العلم تنبئ عن أن الخضر كان قبل موسى وفي أيامه، ويدل على خطإ قول من قَالَ: إنه أورميا بن خلقيا، لأن أورميا كان في ايام بختنصر، وبين عهدي موسى وبختنصر من المدة ما لا يشكل قدرها على أهل العلم بأيام الناس وأخبارهم، وإنما قدمنا ذكره وذكر خبره لأنه كان في عهد أفريدون فيما قيل، وإن كان قد أدرك على هذه الأخبار التي ذكرت من أمره وأمر موسى وفتاه أيام منوشهر وملكه، وذلك ان موسى انما نبئ في عهد منوشهر، وكان ملك منوشهر بعد ما ملك جده أفريدون، فكل ما ذكرنا من أخبار من ذكرنا أخباره من عهد ابراهيم الى الخبر عن الخضر ع، فإن ذلك كله- فيما ذكر- كان في ملك بيوراسب وأفريدون، وقد ذكرنا فيما مضى قبل أخبار أعمارهما ومبلغهما ومدة كل واحد منهما.
ونرجع الآن إلى الخبر عن:

(1/376)


منوشهر وأسبابه والحوادث الكائنة في زمانه
ثم ملك بعد أفريدون بن أثفيان بركاو منوشهر، وهو من ولد إيرج بن أفريدون.
وقد زعم بعضهم أن فارس سميت فارس بمنوشهر هذا، وهو منوشهر كيازيه- فيما يقول نسابة الفرس- بن منشخورنر بن منشخواربغ ابن ويرك بن سروشنك بن ابوك بن بتك بن فرزشك بن زشك ابن فركوزك بن كوزك بن إيرج بن أفريدون بن أثفيان بركاو.
وقد ينطق بهذه الأسماء بخلاف هذه الألفاظ.
وقد يزعم بعض المجوس ان افريدون وطيء ابنة لابنه إيرج، يقال لها كوشك، فولدت له جاريه يقال لها فركوشك، ثم وطيء فركوشك هذه فولدت له جارية يقال لها زوشك، ثم وطيء زوشك هذه، فولدت له جارية يقال لها فرزوشك، ثم وطيء فرزوشك هذه فولدت له جارية يقال لها بيتك،

(1/377)


ثم وطيء بيتك هذه فولدت له جارية يقال لها ايرك، ثم وطيء ايرك فولدت له ايزك، ثم وطيء ايزك فولدت له ويرك، ثم وطيء ويرك فولدت له منشخرفاغ.
ويقول بعضهم: منشخواربغ وجاريه يقال لها: منشجرك، وان منشخرفاغ وطيء منشجرك فولدت له منشخرنر، وجاريه يقال لها منشراروك، وان منشخرنر وطيء منشراروك فولدت له منوشهر.
فيقول بعضهم كان مولده بدنباوند.
ويقول بعض: كان مولده بالري، وإن منشخرنر ومنشراروك لما ولد لهما منوشهر أسرا أمره خوفا من طوج وسلم عليه، وإن منوشهر لما كبر صار إلى جده أفريدون، فلما دخل عليه توسم فيه الخير، وجعل له ما كان جعل لجده إيرج من المملكة، وتوجه بتاجه.
وقد زعم بعض أهل الأخبار أن منوشهر هذا هو منوشهر بن منشخرنر ابن أفريقيس بن إسحاق بن إبراهيم، وأنه انتقل إليه الملك بعد أفريدون وبعد أن مضى الف سنه وتسعمائة سنة واثنتان وعشرون سنة، من عهد جيومرت، واستشهد لحقيقة ذلك بأبيات لجرير بن عطية، وهو قوله.
وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موت لابسين السنورا
إذا انتسبوا عدوا الصبهبذ منهم ... وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا
وكان كتاب فيهم ونبوة ... وكانوا بإصطخر الملوك وتسترا

(1/378)


فيجمعنا والغر أبناء فارس ... أب لا نبالي بعده من تأخرا
أبونا خليل الله، والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدرا
وأما الفرس فإنها تنكر هذا النسب، ولا تعرف لها ملكا إلا في أولاد أفريدون، ولا تقر بالملك لغيرهم، وترى أن داخلا إن كان دخل عليهم في ذلك من غيرهم في قديم الأيام قبل الإسلام، فإنه دخل فيه بغير حق.
وحدثت عن هشام ابن مُحَمَّد، قَالَ: ملك طوج وسلم الأرض بينهما بعد قتلهما اخاهما ايرج ثلاثمائة سنة، ثم ملك منوشهر بن إيرج بن أفريدون مائة وعشرين سنة، ثم إنه وثب به ابن لابن طوج التركى على راس ثمانين سنه فنفاه عن بلاد العراق ثنتي عشرة سنة، ثم أديل منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانيا وعشرين سنة.
قَالَ: وكان منوشهر يوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خندق الخنادق، وجمع آلة الحرب، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا، وجعل أهلها له خولا وعبيدا، وألبسهم لباس المذلة، وأمرهم بطاعته.
قَالَ: ويقال ان موسى النبي ص ظهر في سنة ستين من ملكه.
وذكر غير هشام أن منوشهر لما ملك توج بتاج الملك وقال يوم ملك:
نحن مقوون مقاتلينا، ومعدوهم للانتقام لأسلافنا، ودفع العدو عن بلادنا.
وأنه سار نحو بلاد الترك طالبا بدم جده إيرج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون وأخاه سلما، وأدرك ثأره وانصرف، وأن فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك- الذي تنسب إليه الأتراك، بن شهراسب ويقال: ابن

(1/379)


إرشسب بن طوج بن أفريدون الملك وقد يقال لفشك فشنج بن زاشمين- حارب منوشهر، بعد أن مضى لقتله طوجا وسلما ستون سنه، وحاصره بطبرستان.
ثم ان منوشهر وفراسياب اصطلحا على أن يجعلا حد ما بين مملكتيهما منتهى رمية سهم رجل من أصحاب منوشهر يدعى ارشباطير- وربما خفف اسمه بعضهم فيقول: إيرش- فحيث ما وقع سهمه من موضع رميته تلك مما يلي بلاد الترك فهو الحد بينهما لا يجاوز ذلك واحد منهما إلى الناحية الاخرى وان ارشباطير نزع بسهم في قوسه، ثم أرسله- وكان قد أعطي قوة وشدة- فبلغت رميته من طبرستان إلى نهر بلخ ووقع السهم هنالك، فصار نهر بلخ حد ما بين الترك وولد طوج وولد إيرج وعمل الفرس، فانقطع بذلك من رميه ارشباطير حروب ما بين فراسياب ومنوشهر.
وذكروا أن منوشهر اشتق من الصراة ودجلة ونهر بلخ أنهارا عظاما.
وقيل إنه هو الذي كرا الفرات الأكبر، وأمر الناس بحراثة الأرض وعمارتها، وزاد في مهنة المقاتلة الرمى، وجعل الرياسة في ذلك لارشباطير لرميته التي رماها وقالوا: إن منوشهر لما مضى من ملكه خمس وثلاثون سنة تناولت الترك من أطراف رعيته، فوبخ قومه وقال لهم: أيها الناس، إنكم لم تلدوا الناس كلهم، وإنما الناس ناس ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدو عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم، وليس ذلك إلا من ترككم جهاد عدوكم، وقلة المبالاة، وإن الله تبارك وتعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا! ونحن اهل بيت عز ومعدن الملك لله، فإذا كان غدا فاحضروا، قَالُوا: نعم واعتذروا، فقال: انصرفوا، فلما كان من الغد أرسل إلى أهل المملكة وأشراف

(1/380)


الأساورة، فدعاهم وأدخل الرؤساء من الناس، ودعا موبذ موبذان، فأقعد على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره، وقام أشراف أهل بيت المملكة وأشراف الأساورة على أرجلهم، فقال: اجلسوا فإني إنما قمت لأسمعكم كلامي فجلسوا فقال: أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحاق بالأول، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله! وإن الله عز وجل أعطانا هذا الملك فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإن للملك على أهل مملكته حقا، ولأهل مملكته عليه حقا، فحق الملك على أهل المملكة أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوه، وحقهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنها تجارتهم وحق الرعية على الملك أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبه تنقص من ثمارهم من آفة من السماء أو الأرض أن يسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقويهم على عماراتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، وأمر الجند للملك بمنزلة جناحي الطائر، فهم أجنحة الملك متى قص من الجناح ريشة كان ذلك نقصانا منه، فكذلك الملك إنما هو بجناحه وريشه ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أولها أن يكون صدوقا لا يكذب، وأن يكون سخيا لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنه مسلط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فينبغي ألا يستأثر عن جنده ورعيته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو، فإنه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة ألا

(1/381)


وإن المرء إن يخطئ في العفو فيعفو، خير من أن يخطئ في العقوبة فينبغي للملك أن يتثبت في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة فلا ينبغي له أن يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلم، فإن صح عليه للمظلوم حق خرج اليه منه، وان عجز عنه أدى عنه الملك ورده إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد، فهذا لكم علينا.
ألا ومن سفك دما بغير حق، أو قطع يدا بغير حق، فإني لا أعفو عن ذلك إلا أن يعفو عنه صاحبه فخذوا هذا عني وإن الترك قد طمعت فيكم فاكفونا، فإنما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في الرأي، وإنما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم ألا وإن الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف فذلك مملوك ليس بملك ومهما بلغنا من الخلاف فإنا لا نقبله من المبلغ له حتى نتيقنه، فإذا صحت معرفة ذلك وإلا أنزلناه منزلة المخالف ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخذ بالصبر والراحة إلى اليقين، فمن قتل في مجاهدة العدو رجوت له الفوز برضوان الله وأفضل الأمور التسليم لأمر الله والراحة إلى اليقين والرضا بقضائه، وأين المهرب مما هو كائن! وإنما يتقلب في كف الطالب، وإنما هذه الدنيا سفر لأهلها لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها، وإنما بلغتهم فيها بالعواري، فما أحسن الشكر للمنعم والتسليم لمن القضاء له! ومن أحق بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلا إليه، ولا معولا إلا عليه! فثقوا بالغلبة إذا كانت نياتكم أن النصر من الله، وكونوا على ثقة من درك الطلبة إذا صحت نياتكم واعلموا أن هذا الملك لا يقوم إلا بالاستقامة وحسن الطاعة وقمع العدو وسد الثغور والعدل للرعية وإنصاف المظلوم، فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة، والأمر بالخير والنهى عن الشر، ولا قوه الا بالله انظروا للرعية فإنها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيها رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبين في زيادة أرزاقكم، وإذا خفتم على الرعية زهدوا في العمارة، وعطلوا أكثر الأرض فنقص ذلك

(1/382)


من خراجكم، وتبين في نقص أرزاقكم، فتعاهدوا الرعية بالإنصاف، وما كان من الأنهار والبثوق مما نفقة ذلك من السلطان فأسرعوا فيه قبل أن يكثر، وما كان من ذلك على الرعية فعجزوا عنه فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا حان أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غلاتهم على قدر ما لا يجحف ذلك بهم، ربع في كل سنة أو ثلث أو نصف، لكيلا يشق ذلك عليهم هذا قولي وامرى يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وخذ في هذا الذي سمعت في يومك، أسمعتم أيها الناس! فقالوا: نعم، قد قلت فأحسنت، ونحن فاعلون إن شاء الله: ثم أمر بالطعام فوضع فأكلوا وشربوا، ثم خرجوا وهم له شاكرون.
وكان ملكه مائة وعشرين سنة.
وقد زعم هشام بن الكلبى فيما حدثت عنه أن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان كان من ملوك اليمن بعد يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ وإخوته، وأن الرائش كان ملكه باليمن أيام ملك منوشهر، وأنه إنما سمي الرائش- واسمه الحارث بن ابى شدد- لغنيمة غنمها من قوم غزاهم فأدخلها اليمن، فسمي لذلك الرائش، وأنه غزا الهند فقتل بها وسبى وغنم الأموال، ورجع إلى اليمن ثم سار منها، فخرج على جبلي طيّئ ثم على الأنبار، ثم على الموصل، وأنه وجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه، يقال له: شمر بن العطاف، فدخل على الترك أرض أذربيجان وهي في أيديهم يومئذ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وزبر ما كان من مسيره في حجرين، فهما معروفان ببلاد أذربيجان قَالَ: وفي ذلك يقول امرؤ القيس:
ألم يخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتقم الرجالا

(1/383)


أزال عن المصانع ذا رياش ... وقد ملك السهولة والجبالا
وأنشب في المخالب ذا منار ... وللزراد قد نصب الحبالا
قَالَ: وذو منار الذي ذكره الشاعر هو ذو منار بن رائش، الملك بعد أبيه، واسمه أبرهة بن الرائش، قَالَ: وإنما سمي ذا منار لأنه غزا بلاد المغرب فوغل فيها برا وبحرا، وخاف على جيشه الضلال عند قفوله، فبنى المنار ليهتدوا بها.
قَالَ: ويزعم أهل اليمن أنه كان وجه ابنه العبد بن أبرهة في غزوته هذه إلى ناحية من أقاصي بلاد المغرب، فغنم وأصاب مالا وقدم عليه بنسناس لهم خلق وحشيه منكرة، فذعر الناس منهم، فسموه ذا الأذعار.
قَالَ: فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغلوا في الأرض، وإنما ذكرت من ذكرت من ملوك اليمن في هذا الموضع لما ذكرت من قول من زعم أن الرائش كان ملكا باليمن أيام منوشهر، وأن ملوك اليمن كانوا عمالا لملوك فارس بها، ومن قبلهم كانت ولايتهم بها

(1/384)


ذكر نسب موسى بن عمران وأخباره
وما كان في عهده وعهد منوشهر بن منشخورنر الملك من الأحداث قد ذكرنا أولاد يعقوب إسرائيل الله وعددهم وموالدهم فحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ لاوى بن يعقوب نكح نابتة ابنة ماري بن يشخر، فولدت له عرشون بن لاوى ومرزى بن لاوى ومردى بن لاوى وقاهث ابن لاوى فنكح قاهث بن لاوى فاهى ابنة مسين بن بتويل بن إلياس.
فولدت له يصهر بن قاهث فتزوج يصهر شميث ابنه بناديت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر، وقارون بن يصهر، فنكح عمران يحيب ابنة شمويل بن بركيا بن يقسان بن إبراهيم فولدت له هارون بن عمران وموسى بن عمران.
وقال غير ابن إسحاق: كان عمر يعقوب بن إسحاق مائة وسبعا وأربعين سنة، وولد لاوي له، وقد مضى من عمره تسع وثمانون سنة، وولد للاوي قاهث بعد أن مضى من عمر لاوي ست وأربعون سنة، ثم ولد لقاهث يصهر، ثم ولد ليصهر عمرم- وهو عمران- وكان عمر يصهر مائة وسبعا وأربعين سنة، وولد له عمران بعد أن مضى من عمره ستون سنة، ثم ولد لعمران موسى، وكانت أمه يوخابد- وقيل: كان اسمها باختة- وامرأته صفورا ابنة يترون، وهو

(1/385)


شعيب النبي ص وولد موسى جرشون وإيليعازر، وخرج إلى مدين خائفا وله إحدى وأربعون سنة، وكان يدعو الى دين ابراهيم، وتراءى الله بطور سيناء، وله ثمانون سنة.
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد، فرعون يوسف الأول فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من قابوس وأكفر وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وأخوه هارون بالرسالة.
قَالَ: ويقال إن الوليد تزوج آسية ابنة مزاحم بعد أخيه وكان عمر عمران مائة سنة وسبعا وثلاثين سنة، وولد موسى وقد مضى من عمر عمران سبعون سنة، ثم صار موسى إلى فرعون رسولا مع هارون، وكان من مولد موسى إلى أن خرج ببني إسرائيل عن مصر ثمانون سنة، ثم صار إلى التيه بعد أن عبر البحر، فكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته في التيه مائة وعشرين سنة.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: قبض الله يوسف، وهلك الملك الذي كان معه الريان بن الوليد، وتوارثت الفراعنة من العماليق ملك مصر، فنشر الله بها بني إسرائيل، وقبر يوسف حين قبض- كما ذكر لي- في صندوق من مرمر في ناحية من النيل في جوف الماء، فلم يزل بنو إسرائيل تحت أيدي الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم

(1/386)


من الإسلام، متمسكين، به حتى كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله ولا أعظم قولا ولا أطول عمرا في ملكه منه.
وكان اسمه- فيما ذكروا لي- الوليد بن مصعب، ولم يكن من الفراعنة فرعون أشد غلظة، ولا أقسى قلبا، ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل منه، يعذبهم فيجعلهم خدما وخولا، وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قَالَ الله: «سُوءَ الْعَذابِ*» ، وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقه، وقد استنكح منهم امرأة يقال لها آسيه ابنه مزاحم، من خيار النساء المعدودات، فعمر فيهم وهم تحت يديه عمرا طويلا يسومهم سوء العذاب، فلما أراد الله أن يفرج عنهم وبلغ موسى الأشد أعطي الرسالة.
قَالَ: وذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه، فقالوا: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه، يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدل دينك فلما قَالُوا له ذلك أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان وأمر بالنساء يستحيين، فجمع القوابل من نساء أهل مملكته فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتموه، فكن يفعلن ذلك، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قَالَ: لقد ذكر لي أنه كان يأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصف بعضه إلى بعض، ثم يأتي بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحز أقدامهن، حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع بين رجليها، فتظل تطؤه تتقي به حز القصب عن رجليها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك، وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت

(1/387)


الناس، وقطعت النسل، وإنهم خولك وعمالك فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما، فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون، فكان هارون أكبر منه بسنة وَأَمَّا السُّدِّيُّ فَإِنَّهُ قَالَ مَا حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ص أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا فِي مَنَامِهِ أَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى بُيُوتِ مِصْرَ، فَأَحْرَقَتِ الْقِبْطَ وَتَرَكَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَبَتْ بُيُوتَ مِصْرَ، فَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْقَافَةَ وَالْحَازَةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ فَقَالُوا لَهُ: يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ الَّذِي جَاءَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْهُ- يَعْنُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ- رَجُلٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ هَلاكُ مِصْرَ فَأَمَرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا يُولَدَ لَهُمْ غُلامٌ إِلا ذَبَحُوهُ، وَلا يُولَدَ لَهُمْ جَارِيَةٌ إِلا تُرِكَتْ وَقَالَ لِلْقِبْطِ:
انْظُرُوا مَمْلُوكِيكُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ خَارِجًا فَأَدْخِلُوهُمْ وَاجْعَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلُونَ تِلْكَ الأَعْمَالَ الْقَذِرَةَ فَجَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَعْمَالِ غِلْمَانِهِمْ وَأَدْخَلُوا غِلْمَانَهُمْ.
فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ الله: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ» يَقُولُ: تَجَبَّرَ فِي الأَرْضِ، «وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً» - يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ جَعَلَهُمْ فِي الأَعْمَالِ القذره- «يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ» ، فَجَعَلَ لا يُولَدُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْلُودٌ إِلا ذُبِحَ، فَلا يَكْبُرُ الصَّغِيرُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي مَشْيَخَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَوْتَ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ، فَدَخَلَ رُءُوسُ الْقِبْطِ عَلَى فِرْعَوْنَ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ الْعَمَلُ عَلَى غِلْمَانِنَا نُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ فلا يبلغ الصغار، ويفنى الْكِبَارَ، فَلَوْ أَنَّكَ تُبْقِي مِنْ أَوْلادِهِمْ! فَأَمَرَ أَنْ يُذْبَحُوا سَنَةً وَيُتْرَكُوا سَنَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي لا يُذْبَحُونَ فِيهَا وُلِدَ هَارُونُ فَتُرِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُذْبَحُونَ فِيهَا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِمُوسَى فَلَمَّا ارادت وضعه

(1/388)


حَزِنَتْ مِنْ شَأْنِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: «أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَهُوَ النِّيلُ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أَرْضَعَتْهُ، ثُمَّ دَعَتْ لَهُ نَجَّارًا فَجَعَلَ لَهُ تَابُوتًا، وَجَعَلَ مِفْتَاحَ التَّابُوتِ مِنْ دَاخِلٍ، وَجَعَلَتْهُ فِيهِ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ، «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» تَعْنِي قُصِّي أَثَرَهُ «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ، أَنَّهَا أُخْتُهُ فَأَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالتَّابُوتِ يَرْفَعُهُ مَرَّةً، وَيَخْفِضُهُ أُخْرَى، حَتَّى أَدْخَلَهُ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يغتسلن، فوجدن التابوت فادخلنه الى آسيه، وظننن أَنَّ فِيهِ مَالا، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ آسِيَةُ وَقَعَتْ عَلَيْهِ رَحْمَتُهَا وَأَحَبَّتْهُ فَلَمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ فِرْعَوْنَ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ، فَلَمْ تَزَلْ آسِيَةُ تُكَلِّمُهُ حَتَّى تَرَكَهُ لَهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي عَلَى يَدَيْهِ هَلاكُنَا، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» فَأَرَادُوا لَهُ الْمُرْضِعَاتِ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَجَعَلَ النِّسَاءُ يَطْلُبْنَ ذَلِكَ لِيَنْزِلْنَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي الرَّضَاعِ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ» أُخْتُهُ «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» ، فَأَخَذُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّكِ قَدْ عَرَفْتِ هَذَا الْغُلامَ فَدُلِّينَا عَلَى أَهْلِهِ فَقَالَتْ:
مَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ: هُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ.
وَلَمَّا جَاءَتْ أُمُّهُ أَخَذَ مِنْهَا ثَدْيَهَا فَكَادَتْ أَنْ تَقُولَ: هُوَ ابْنِي! فَعَصَمَهَا

(1/389)


اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ موسى لأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ فِي مَاءٍ وشجر، والماء بالقبطية مو والشجر شا فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
«فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ» فَاتَّخَذَهُ فِرْعَوْنُ وَلَدًا فَدُعِيَ ابْنَ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْغُلامُ أَرَتْهُ أُمُّهُ آسِيَةُ صَبِيًّا، فَبَيْنَمَا هِيَ تُرَقِّصُهُ وَتَلْعَبُ بِهِ إِذْ نَاوَلَتْهُ فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ: خُذْهُ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، قَالَ فِرْعَوْنُ:
هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ لَكِ وَلا لِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ لِي قُرَّةُ عَيْنٍ إِذًا لآمَنَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَبَى، فَلَمَّا أَخَذَهُ إِلَيْهِ أَخَذَ موسى بِلِحْيَتِهِ فَنَتَفَهَا، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: عَلَيَّ بِالذَّبَّاحِينَ، هَذَا هُوَ! قَالَتْ آسِيَةُ: «لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ، انما هُوَ صَبِيٌّ لا يَعْقِلُ، وَإِنَّمَا صَنَعَ هَذَا مِنْ صِبَاهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَهْلِ مِصْرَ امْرَأَةٌ أَحْلَى مِنِّي، أَنَا أَضَعُ له حليا مِنَ الْيَاقُوتِ، وَأَضَعُ لَهُ جَمْرًا، فَإِنْ أَخَذَ الْيَاقُوتَ فَهُوَ يَعْقِلُ فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَمْرَ فَإِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ يَاقُوتَهَا فَوَضَعَتْ له طستا من جمر، فجاء جبرئيل فَطَرَحَ فِي يَدِهِ جَمْرَةً فَطَرَحَهَا موسى فِي فِيهِ فَأَحْرَقَ لِسَانَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» فَزَالَتْ عَنْ مُوسَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَكَبُرَ مُوسَى فَكَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ فِرْعَوْنَ، وَيَلْبَسُ مِثْلَ ما يلبس، وكان انما يدعى موسى بن فِرْعَوْنَ ثَمَّ إِنَّ فِرْعَوْنَ رَكِبَ مَرْكَبًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى قِيلَ لَهُ: إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ رَكِبَ، فَرَكِبَ فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ الْمَقِيلُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مَنْفُ، فَدَخَلَهَا نصف النهار،

(1/390)


وقد تعلقت أَسْوَاقُهَا وَلَيْسَ فِي طُرُقِهَا أَحَدٌ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ يَقُولُ: هَذَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يقول: من القبط فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ» خَائِفًا أَنْ يُؤْخَذَ، «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» يَقُولُ: يَسْتَغِيثُهُ «قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى لِيَنْصُرَهُ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى مُوسَى قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ لِيَبْطِشَ بِالرَّجُلِ الَّذِي يُقَاتِلُ الإِسْرَائِيلِيَّ، قَالَ الإِسْرَائِيلِيُّ- وَفَرَقَ مِنْ مُوسَى أَنْ يَبْطِشَ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَغْلَظَ الْكَلامَ- يَا مُوسَى «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» .
فَتَرَكَهُ وَذَهَبَ الْقِبْطِيُّ، فَأَفْشَى عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ الرَّجُلَ، فَطَلَبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَالَ: خُذُوهُ فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا، وَقَالَ لِلَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ: اطْلُبُوهُ فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ مُوسَى غُلامٌ لا يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ، وَأَخَذَ مُوسَى فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ وَجَاءَهُ الرَّجُلُ وَأَخْبَرَهُ «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» فَلَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ جَاءَهُ مَلَكٌ عَلَى فَرَسٍ بِيَدِهِ عَنَزَةٌ، فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى سَجَدَ لَهُ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ: لا تَسْجُدْ لِي، وَلَكِنِ اتَّبِعْنِي، فَاتَّبَعَهُ فَهَدَاهُ نَحْوَ مَدْيَنَ، وَقَالَ مُوسَى وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ مَدْيَنَ:
«عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» ، فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَلَكُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مدين

(1/391)


حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ الْجُهَنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عن قول الله موسى: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا هِيَ؟ فَقَالَ لِي: استأنف النهار يا بن جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لأَنْتَجِزَ مِنْهُ ما وعدني قال: فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ مَا يَشُكُّونَ، وَلَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ؟
قَالَ: فَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ، يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَأَنَّ الصِّغَارَ يُذْبَحُونَ قَالُوا: تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ الَّتِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ، فَيَقِلَّ أَبْنَاؤُهُمْ، وَدَعُوا عَامًا لَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَيَشِبَّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ، وَلَنْ يَقِلُّوا بِمَنْ تَقْتُلُونَ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَمَلَتْ بِمُوسَى فَوَقَعَ فِي قلبها الهم والحزن- وذلك من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مما يراد به، فاوحى الله إليها:
«الا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» وَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْهُ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ، ثُمَّ تُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ فَلَمَّا وَلَدَتْهُ فَعَلَتْ مَا أُمِرَتْ بِهِ، حَتَّى إِذَا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا صَنَعْتُ بِابْنِي؟
لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ بِيَدِي الى حيتان

(1/392)


الْبَحْرِ ودَوَابِّهِ فَانْطَلَقَ بِهِ الْمَاءُ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عِنْدَ فُرْضَةِ مُسْتَقَى جَوَارِي آلِ فِرْعَوْنَ، فَرَأَيْنَهُ فَأَخَذْنَهُ، فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: إِنَّ فِي هَذَا مَالًا، وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بِمَا وَجَدْنَا فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُحَرِّكْنَ مِنْهُ شيئا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رَأَتْ فِيهِ الْغُلَامَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةً لَمْ يُلْقَ مِثْلُهَا مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الناس، «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى.
فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ بِشِفَارِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْبَحُوهُ- وَذَلِكَ من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- فَقَالَتْ: لِلذَّبَّاحِينَ: انْصَرِفُوا، فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَآتِي فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبُهُ إِيَّاهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ فلما أتت به فرعون قالت: «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ» ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، فَأَمَّا أَنَا فَلَا حَاجَةَ لِي فيه، [فقال رسول الله ص: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ، لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتْ بِهِ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ، كَمَا هَدَى بِهِ امْرَأَتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذَلِكَ] .
فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ كُلِّ أُنْثَى لَهَا لَبَنٌ لِتَخْتَارَ لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَهَا، حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَحَزَّنَهَا ذَلِكَ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ،

(1/393)


مَجْمَعِ النَّاسِ تَرْجُو أَنْ تُصِيبَ لَهُ ظِئْرًا يَأْخُذُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ وَاطْلُبِيهِ هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا! أَحِيٌّ ابْنِي أَمْ قَدْ أَكَلَتْهُ دَوَابُّ الْبَحْرِ وَحِيتَانُهُ؟ وَنَسِيَتِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ أَعْيَاهُمُ الظُّئُورَاتُ:
«هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: وَمَا يُدْرِيكِ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ! هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ- وَذَلِكَ من الفتون يا بن جبير- فقالت: نصحهم له، وشفقتهم عَلَيْهِ، وَرَغْبَتُهُمْ فِي ظُئُورَةِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ فَتَرَكُوهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ، فَانْطَلَقَ الْبُشَرَاءُ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَنْ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكَ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأُتِيَتْ بِهَا وَبِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتِ: امْكُثِي عِنْدِي تُرْضِعِينَ ابْنِي هَذَا فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ حُبَّهُ شَيْئًا قَطُّ قَالَ: فَقَالَتْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي، فَيَكُونَ مَعِي لا آلُوهُ خَيْرًا فَعَلْتِ، وَإِلَّا فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، فَرَجَعَتْ بِابْنِهَا إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَضَى فِيهِ، فَلَمْ تَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالسُّخْرِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِأُمِّ مُوسَى: أُرِيدُ أَنْ تُرِينِي مُوسَى، فَوَعَدَتْهَا يَوْمًا تُرِيهَا إِيَّاهُ فِيهِ، فَقَالَتْ لِحَوَاضِنِهَا وَظُئُورِهَا وَقَهَارِمَتِهَا: لا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ، لِيَرَى ذَلِكَ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينَةً تُحْصِي مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ فَلَمْ تَزَلِ الْهَدِيَّةُ وَالْكَرَامَةُ وَالتُّحَفُ تَسْتَقْبِلُهُ

(1/394)


مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا بَجَّلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ وَأَعْجَبَهَا مَا رَأَتْ مِنْ حُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، وَقَالَتِ:
انْطَلِقْنَ بِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلْيُبَجِّلْهُ وَلْيُكْرِمْهُ فَلَمَّا دَخَلْنَ بِهِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَضَعْنَهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ حَتَّى مَدَّهَا، فَقَالَ: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ! أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سَيَصْرَعُكَ وَيَعْلُوكَ! فَأَرْسَلَ إِلَى الذباحين ليذبحوه- وذلك من الفتون يا بن جُبَيْرٍ- بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ بِهِ فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْعَى إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي وَهَبْتَهُ لِي؟ قَالَ:
أَلَا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَيَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي! فَقَالَتِ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا يُعْرَفُ فِيهِ الْحَقُّ، ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ بَطَشَ بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَعْقِلُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ يَعْقِلُ، فَقَرَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ فَنَزَعُوهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ تُحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَا تَرَى! فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ امْتِنَاعٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالآخَرُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَاسْتَغَاثَهُ الإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَغَضِبَ مُوسَى وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَةَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّمَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الرَّضَاعَةِ غَيْرَ أُمِّ مُوسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذلك على ما لم يُطْلِعُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: «هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ

(1/395)


إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» ، ثُمَّ قَالَ: «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فاصبح في المدينة خائفا يترقب الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا، وَلَا تُرَخِّصْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ، وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَقْضِيَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ فَطَلَبُوا لَهُ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ لَا يَجِدُونَ بَيِّنَةً، إِذْ مَرَّ مُوسَى مِنَ الْغَدِ، فَرَأَى ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ فِرْعَوْنِيًّا، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَصَادَفَ مُوسَى وَقَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ بِالْأَمْسِ، وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ مُوسَى فَمَدَّ يَدَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَقَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فعل بالأمس واليوم: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» .
فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ، أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ- وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ- فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ فَحَاجَزَ الْفِرْعَوْنِيَّ، وقال: يَا مُوسَى «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» ! وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ، فَتَتَارَكَا، فَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ إِلَى قَوْمِهِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ، حِينَ يَقُولُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ» ! فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ، وَسَلَكَ مُوسَى الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ وَطَلَبُوهُ وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا قَرِيبًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا بن جُبَيْرٍ.
ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ قال: «فلما وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ

(1/396)


عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ» يَقُولُ: كَثْرَةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ.
وقد حَدَّثَنَا أبو عمار المروزي، قَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قَالَ: خرج موسى من مصر إلى مدين، وبينهما مسيرة ثمان ليال- قَالَ: وكان يقال نحو من الكوفة إلى البصرة- ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، فخرج حافيا، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا عثام، قَالَ: حَدَّثَنَا الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بنحوه.
رجع الحديث إلى حديث السدي «وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ» يقول: تحبسان غنمهما، فسألهما: «مَا خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة على البئر، كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلوا فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعا، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، ثم تولى موسى إلى ظل شجرة من السمر فقال:
«رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لقد قَالَ موسى، ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع ما يسأل الله إلا أكلة.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» ، قَالَ: وَرَدَ الْمَاءَ وَإِنَّهُ لَيَتَرَاءَى خَضِرَةَ الْبَقْلِ فِي بَطْنِهِ مِنَ

(1/397)


الْهُزَالِ فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» قَالَ: شُبْعَةٌ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ فَلَمَّا رَجَعَتِ الْجَارِيَتَانِ إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعًا، سَأَلَهُمَا فَأَخْبَرَتَاهُ خَبَرَ مُوسَى، فَأَرْسَلَ إِحْدَاهُمَا فَأَتَتْهُ «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ وَهِيَ تَسْتَحْيِي مِنْهُ، قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» فَقَامَ مَعَهَا، وَقَالَ لَهَا: امْضِي، فَمَشَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَتْهَا الرِّيَاحُ فَنَظَرَ إِلَى عَجِيزَتِهَا، فَقَالَ لَهَا مُوسَى: امْشِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ إِنْ أَخْطَأْتُ، فَلَمَّا أَتَى الشَّيْخَ «وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .
وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُ قَالَ الشَّيْخُ: هَذِهِ الْقُوَّةُ قَدْ رَأَيْتِ حِينَ اقْتَلَعَ الصَّخْرَةَ، أَرَأَيْتِ أَمَانَتَهُ مَا يُدْرِيكِ مَا هِيَ؟ قَالَتْ: إِنِّي مَشَيْتُ قُدَّامَهُ فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُخَوِّنَنِي فِي نَفْسِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْشِيَ خَلْفَهُ، قَالَ لَهُ الشَّيْخُ: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي» - إلى- «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ» ، إِمَّا ثَمَانِيًا وَإِمَّا عَشْرًا، «وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَارِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُ هِيَ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا فَأَمَرَ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِعَصًا فَأَتَتْهُ بِعَصًا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْعَصَا عَصًا اسْتَوْدَعَهَا إِيَّاهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَدَخَلَتِ الْجَارِيَةُ فَأَخَذَتِ الْعَصَا فَأَتَتْهُ بِهَا، فَلَمَّا رَآهَا الشَّيْخُ قَالَ لَهَا: لا، ايتيه بِغَيْرِهَا، فَأَلْقَتْهَا، فَأَخَذَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَهَا فَلا يَقَعُ فِي يَدِهَا إِلَّا هِيَ، وَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ فِي يَدِهَا غَيْرَهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَخْرَجَهَا معه، فرعى بها ثم ان الشيخ قدم وَقَالَ:
كَانَتْ وَدِيعَةً فَخَرَجَ يَتَلَقَّى مُوسَى فَلَمَّا لقيه قال: أعطني العصا، فقال موسى:

(1/398)


هِيَ عَصَاي، فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ، فَاخْتَصَمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ تَرَاضِيَا أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا أَوَّلَ رَجُلٍ يَلْقَاهُمَا، فَأَتَاهُمَا مَلَكٌ يَمْشِي فَقَضَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: ضَعَاهَا فِي الْأَرْضِ فَمَنْ حَمَلَهَا فَهِيَ لَهُ، فَعَالَجَهَا الشَّيْخُ فَلَمْ يُطِقْهَا، وَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا، فَتَرَكَهَا لَهُ الشَّيْخُ، فَرَعَى لَهُ عَشْرَ سِنِينَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مُوسَى أَحَقَّ بِالْوَفَاءِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطوسى، قال: حدثنا الحميدى عبد الله ابن الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [أَنَّ رَسُولَ الله ص قال: سالت جبرئيل: أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا] .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي يَهُودِيٌّ بِالْكُوفَةِ- وَأَنَا أَتَجَهَّزُ لِلْحَجِّ-: إِنِّي أَرَاكَ رَجُلا يَتْبَعُ الْعِلْمَ، أَخْبِرْنِي أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لا أَعْلَمُ وَأَنَا الْآنَ قَادِمٌ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ- يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ- فَسَأَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ النَّبِيَّ إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ قَالَ سَعِيدٌ: فَقَدِمْتُ الْعِرَاقَ فَلَقِيتُ الْيَهُودِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى هَذَا وَاللَّهُ الْعَالِمُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ لَا أَعْلَمُ- فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ النَّصْرَانِيُّ، فَقَالَ: أَمَا كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ثَمَانِيًا وَاجِبَةً عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ لِيَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا، وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدَّتَهُ الَّتِي وَعَدَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ

(1/399)


حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان الذماري، عن شعيب الجبائي قَالَ: اسم الجاريتين ليا وصفورة، وامرأة موسى صفورة ابنة يترون، كاهن مدين، والكاهن حبر.
حَدَّثَنِي أبو السائب، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو معاويه، عن الاعمش، عن عمرو ابن مرة، عن أبي عبيدة، قَالَ: كان الذي استأجر موسى يترون، ابن أخي شعيب النبي.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى اسْمُهُ يَثْرَى صَاحِبُ مَدْيَنَ.
حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو قتيبة، عن حماد ابْنَ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اسْمُ أَبِي امْرَأَةِ مُوسَى يثرَى.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ السُّدِّيِّ «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ» فَضَلَّ الطَّرِيقَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي الشِّتَاءِ، وَرُفِعَتْ لَهُ نَارٌ، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهَا نَارٌ- وَكَانَتْ مِنْ نُورِ اللَّهِ- «قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» ، فَإِنْ لَمْ أَجِدْ خَبَرًا أَتَيْتُكُمْ مِنْهَا بِشِهَابٍ قبس، «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» - قَالَ: مِنَ الْبَرْدِ- «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ» «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها» فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى النِّدَاءَ فَزِعَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَنُودِيَ: «يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي» ، يقول

(1/400)


اضْرِبْ بِهَا الْوَرَقَ، فَيَقَعُ لِلْغَنَمِ مِنَ الشَّجَرِ «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، يَقُولُ:
حَوَائِجُ أُخْرَى أَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمِزْوَدَ وَالسِّقَاءَ، فَقَالَ لَهُ: «أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ، يَقُولُ: لَمْ يَنْتَظِرْ فَنُودِيَ: «يَا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» «أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ، «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ» الْعَصَا وَالْيَدُ آيَتَانِ، فَذَلِكَ حِينَ يَدْعُو مُوسَى رَبَّهُ، فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» ، يَقُولُ: كَيْمَا يُصَدِّقُنِي «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» قَالَ: «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» - يَعْنِي بِالْقَتِيلِ- «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» - وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ- «فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» ، «ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» ، خرج- فيما ذكر لي ابن إسحاق، عن وهب بن منبه اليماني- فيما ذكر له- عنه، ومعه غنم له، ومعه زند له وعصاه في يده يهش بها على غنمه نهاره، فإذا أمسى اقتدح بزنده نارا، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بأهله وبغنمه يتوكأ على عصاه، وكانت- كما وصف لي عن وهب بن منبه- ذات شعبتين في رأسها، ومحجن في طرفها.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم من أصحابه، أن كعب الأحبار قدم مكة وبها عبد الله بن عمرو بن العاص،

(1/401)


فقال كعب: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم فإنه عالم، سلوه عن شيء من الجنة وضعه الله للناس في الأرض، وسلوه ما أول ما وضع في الأرض؟ وما أول شجرة غرست في الأرض؟ فسئل عبد الله عنها فقال: أما الشيء الذي وضعه الله للناس في الأرض من الجنة فهو هذا الركن الأسود، وأما أول ما وضع في الأرض فبرهوت باليمن يرده هام الكفار، وأما أول شجرة غرسها الله في الأرض فالعوسجة التي اقتطع منها موسى عصاه فلما بلغ ذلك كعبا قَالَ:
صدق الرجل، عالم والله! قَالَ: فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامته، وابتدأه فيها بنبوته وكلامه، أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده ليقدح نارا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد عليه زنده فلا يوري له نارا، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها، «فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» ، بقبس تصطلون، وهدى: عن علم الطريق الذي أضللنا بنعت من خبير فخرج نحوها، فإذا هي في شجرة من العليق وبعض أهل الكتاب يقول:
في عوسجة، فلما دنا استأخرت عنه، فلما رأى استئخارها رجع عنها، وأوجس في نفسه منها خيفة، فلما أراد الرجعة دنت منه، ثم كلم من الشجرة، فلما سمع الصوت استأنس، وقال الله: يا موسى «اخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» فالقاهما ثم قال: «ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ، أي منافع أخرى، «قالَ أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» قد صار شعبتاها فمها وصار محجنها عرفا لها، في ظهر تهتز، لها أنياب، فهي كما شاء الله أن تكون فرأى

(1/402)


أمرا فظيعا فولى مدبرا ولم يعقب، فناداه ربه: أن يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ، «سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى» ، أي سيرتها عصا كما كانت قَالَ: فلما اقبل قال: «خُذْها وَلا تَخَفْ» ، أدخل يدك في فمها، وعلى موسى جبة من صوف، فلف يده بكمه وهو لها هائب، فنودي أن ألق كمك عن يدك، فألقاه عنها، ثم أدخل يده بين لحييها، فلما أدخلها قبض عليها فإذا هي عصاه في يده، ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها، ومحجنها بموضعه الذي كان لا ينكر منها شيئا ثم قيل: «أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» اى من غير برص- وكان موسى ع رجلا آدم أقنى جعدا طوالا- فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها في جيبه، فخرجت كما كانت على لونه، ثم قَالَ: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» ، أي يبين لهم عني ما أكلمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» .
رجع الحديث إلى حديث السدي فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا، فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم، فأتاهم في ليلة كانوا يأكلون فيها الطفيشل، فنزل في جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف، فدعاه فأكل معه، فلما أن قعدا تحدثا، فسأله هارون: من أنت؟ قَالَ: أنا موسى، فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه، فلما أن تعارفا قَالَ له موسى: يا هارون

(1/403)


انطلق معي إلى فرعون، إن الله قد أرسلنا إليه، فقال هارون:
سمع وطاعة، فقامت أمهما فصاحت وقالت: أنشدكما الله ألا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا فانطلقا إليه ليلا، فأتيا الباب فضرباه ففزع فرعون، وفزع البواب، وقال فرعون: من هذا الذي يضرب بابي في هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب، فكلمهما، فقال له موسى: «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» ففزع البواب فأتى فرعون فأخبره فقال: إن هاهنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين، قَالَ: أدخله، فدخل فقال: إني رسول رب العالمين، أن أرسل معي بني إسرائيل، فعرفه فرعون فقال: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» .
معنا على ديننا هذا الذي تعيب! «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» - والحكم النبوة- «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» وربيتني قبل وليدا! «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» «فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» يَقُولُ: أَعْطَى كُلَّ دَابَّةٍ زَوْجَهَا ثُمَّ هَدَى لِلنِّكَاحِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مِنَ الْكَلامِ ما ذكر الله تعالى قَالَ مُوسَى: «أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» - وَالثُّعْبَانُ الذَّكَرُ مِنَ الْحَيَّاتِ- فَاتِحَةً

(1/404)


فَاهَا، وَاضِعَةً لَحْيَهَا الأَسْفَلَ فِي الأَرْضِ وَالأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهُ، فَلَمَّا رَآهَا ذُعِرَ مِنْهَا وَوَثَبَ، فأحدث- ولم يكن يحدث قبل ذلك- وصاح: يَا موسى خذها وانا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا ثم نزع يده وأخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء للناظرين فخرج موسى من عنده على ذلك، وأبى فرعون أن يؤمن به، او يرسل معه بنى إسرائيل، وقال لقومه: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» فلما بنى له الصرح ارتقى فوقه، فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه، وهي ملطخة دما، فقال: قد قتلت إله موسى.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ» ، قَالَ: كان أول من طبخ الآجُرَّ يبني به الصرح.
وأما ابن إسحاق، فإنه قَالَ ما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خرج موسى لما بعثه الله عز وجل حتى قدم مصر على فرعون هو وأخوه هارون، حتى وقفا على باب فرعون يلتمسان الإذن عليه، وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين، فآذنوا بنا هذا الرجل فمكثا- فيما بلغنا- سنتين يغدوان على بابه، ويروحان لا يعلم بهما، ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما، حتى دخل عليه بطال له يلعبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك، إن على الباب رجلا يقول قولا عجيبا، يزعم أن له إلها غيرك، قَالَ:
أدخلوه، فدخل ومعه هارون أخوه، وبيده عصاه، فلما وقف على فرعون قَالَ له: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون فقال: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ

(1/405)


مِنَ الْكافِرِينَ قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» أي خطأ لا أريد ذلك ثم أقبل عليه موسى ينكر عليه ما ذكر من يده عنده، فقال: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ! أي اتخذتهم عبيدا تنزع أبناءهم من أيديهم، فتسترق من شئت، وتقتل من شئت إني إنما صيرني إلى بيتك وإليك ذلك «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ، أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، أي ما الهك هذا! «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ» من ملئه «أَلا تَسْتَمِعُونَ» أي إنكارا لما قَالَ: ليس له إله غيرى «قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» الذي خلق آباءكم الأولين وخلفكم من آبائكم قَالَ فرعون: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ، أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن لكم إلها غيري، «قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» أي خالق المشرق والمغرب وما بينهما من الخلق إن كنتم تعقلون «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي» لتعبد غيري وتترك عبادتي «لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ» ، أي بما تعرف بها صدقي وكذبك وحقي وباطلك! «لَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
» ، فملأت ما بين سماطي فرعون، فاتحة فاها، قد صار محجنها عرفا على ظهرها فارفض عنها الناس، وحال فرعون عن سريره ينشده بربه.
ثم أدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء مثل الثلج، ثم ردها كهيئتها، وأدخل موسى يده في جيبه فصارت عصا في يده، يده بين شعبتيها، ومحجنها في أسفلها كما كانت، وأخذ فرعون بطنه، وكان فيما يزعمون يمكث الخمس والست ما يلتمس المذهب- يريد الخلاء- كما يلتمسه الناس، وكان ذلك مما زين له أن

(1/406)


يقول ما يقول: إنه ليس من الناس بشبه فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ:
حدثت عن وهب بن منبه اليماني، قَالَ: فمشى بضعا وعشرين ليلة، حتى كادت نفسه أن تخرج، ثم استمسك فقال لملئه: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» اى ما ساحر اسحر منه، «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ» أقتله؟ فقال مؤمن من آل فرعون- العبد الصالح وكان اسمه فيما يزعمون حبرك: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» بعصاه ويده! ثم خوفهم عقاب الله وحذرهم ما أصاب الأمم قبلهم، وقال: «يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» وقال الملا من قومه- وقد وهنهم من سلطان الله ما وهنهم:
«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» ، أي كاثره بالسحرة لعلك أن تجد في السحرة من جاء بمثل ما جاء به وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم، وبعث فرعون مكانه في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أُتي به، فذكر لي- والله أعلم- أنه جمع له خمسة عشر ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه أمرهم أمره، فقال لهم: قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله قط، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم وقربتكم على أهل مملكتي، قَالُوا: إن لنا ذلك عليك إن

(1/407)


غلبناه! قَالَ: نعم، قَالُوا: فعد لنا موعدا نجتمع نحن وهو، فكان رءوس السحرة الذين جمع فرعون لموسى: ساتور، وعادور، وحطحط، ومصفى، أربعة، وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله، فآمنت السحرة جميعا وقالوا لفرعون حين توعدهم القتل والصلب: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ» فبعث فرعون الى موسى: ان اجعل «بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» ، يَوم عيد كان فرعون يخرج إليه، «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» ، حتى يحضروا أمري وأمرك، فجمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال: «ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» ، أي قد أفلح من استعلى اليوم على صاحبه فصف خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى ومعه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه ومعه أشراف أهل مملكته، وقد استكف له الناس، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» ، فتراد السحره بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، ثم قالوا واشار بعضهم الى بعض بتناج: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى» ثم قَالُوا: «يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ

(1/408)


وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصي والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» ، وقال: والله إن كانت لعصيا في أيديهم، ولقد عادت حيات، وما تعدو عصاي هذه- أو كما حدث نفسه- فأوحى الله إليه: «وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» وفرج عن موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم- وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى- فجعلت تلقفها، تبتلعها حية حية، حتى ما يرى في الوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصاه في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدا «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» ، لو كان هذا سحرا ما غلبنا قَالَ لهم فرعون- وأسف ورأى الغلبة البينة: «آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» ، أي لعظيم السحار الذي علمكم «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» - إلى قوله- «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ» ، اى لن نؤثرك على الله وعلى ما جاءنا من الحجج مع نبيه فاقض ما أنت قاض، أي فاصنع ما بدا لك، «إِنَّما تَقْضِي هذِهِ

(1/409)


الْحَياةَ الدُّنْيا» التي ليس لك سلطان إلا فيها، ثم لا سلطان لك بعدها، «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» ، أي خير منك ثوابا، وأبقى عقابا فرجع عدو الله مغلوبا ملعونا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان.
رجع الحديث إلى حديث السدي وأما السدي فإنه قَالَ في خبره: ذكر أن الآيات التي ابتلى الله بها قوم فرعون كانت قبل اجتماع موسى والسحرة، وقال:
لما رجع اليه السهم ملطخا بالدم قَالَ: قد قتلنا إله موسى ثم إن الله أرسل عليهم الطوفان- وهو المطر- فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا، ونحن نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فكشفه الله عنهم، ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرنا أنا لم نمطر فبعث الله عليهم الجراد فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشفه ويؤمنوا به، فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لن نؤمن وقد بقي لنا من زروعنا بقية، فبعث الله عليهم الدبا- وهو القمل-، فلحس الأرض كلها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضه، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ دبا حتى إن أحدهم ليبني الأسطوانة بالجص والآجر، فيزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء من الذباب، ثم يرفع فوقها الطعام، فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دبا، فلم يصبهم بلاء كان أشد عليهم من الدبا، وهو الرجز الذي ذكره الله في القرآن أنه وقع عليهم فسألوا موسى أن يدعو ربه فيكشفه عنهم ويؤمنوا به، فلما كشف عنهم أبوا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان الاسرائيلى

(1/410)


ياتى هو والقبطى فيستقيان من ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دما، ويخرج للإسرائيلي ماء فلما اشتد ذلك عليهم سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به فكشف ذلك عنهم، فأبوا أن يؤمنوا، فذلك حين يقول الله: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» ما أعطوا من العهود، وهو حين يقول:
«وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ» - وهو الجوع- «وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» .
ثم ان الله عز وجل اوحى الى موسى وهارون أن: «قولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» ، فأتياه فقال له موسى: هل لك يا فرعون في أن أعطيك شبابك ولا تهرم، وملكك لا ينزع منك، ويرد إليك لذة المناكح والمشارب والركوب، فإذا مت دخلت الجنة؟ تؤمن بي! فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينة، فقال: كما أنت حتى يأتي هامان فلما جاء هامان قال له: اشعرت إن ذلك الرجل أتاني؟ قَالَ: من هو؟ - وكان قبل ذلك إنما يسميه الساحر، فلما كان ذلك اليوم لم يسمه الساحر- قَالَ فرعون: موسى، قَالَ: وما قَالَ لك؟ قَالَ: قال لي: كذا وكذا، قَالَ هامان: وما رددت عليه؟ قَالَ: قلت: حتى يأتي هامان فأستشيره، فعجزه هامان وقال: قد كان ظني بك خيرا من هذا، تصير عبدا يعبد بعد أن كنت ربا يعبد! فذلك حين خرج عليهم فقال لقومه وجمعهم فقال: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» وكان بين كلمته «مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» وبين قوله:

(1/411)


«أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» أربعون سنة وقال لقومه: «إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» قَالَ فرعون: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» - يقول: عدلا، قَالَ موسى: «مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» - وذلك يوم عيد لهم- «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى» وأرسل فرعون في المدائن حاشرين، فحشروا عليه السحرة، وحشروا الناس ينظرون، يقول: «هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» - الى قوله: «أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» - يقول: عطية تعطينا- «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» فقال لهم موسى: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» ، يقول: يهلككم بعذاب «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى» من دون موسى وهارون، وقالوا في نجواهم: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى» ، يقول: يذهبا بأشراف قومكم.
فالتقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ قَالَ: نعم، قَالَ الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فو الله لئن غلبتني لأومنن بك، ولأشهدن أنك على حق- وفرعون ينظر إليهما- وهو قول فرعون: «إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ» ،

(1/412)


إذ التقيتما لتتظاهرا «لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» فقالوا: «يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» ، قال لهم موسى: القوا فألقوا حبالهم وعصيهم- وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم رجل إلا ومعه حبل وعصا- «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ» يقول: فرقوهم.
«فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» ، فأوحى الله إليه: ألا تخف، «وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا» فألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ*» .
قَالَ فرعون: «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» فقتلهم وقطعهم- كما قَالَ عبد الله بن عباس- حين قَالُوا:
«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» قَالَ: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء.
ثم أقبل على بني إسرائيل فقال له قومه: «أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» ، وآلهته- فيما زعم ابْنُ عَبَّاسٍ- كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلا بقرة.
ثم إن الله تعالى ذكره أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال: «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» لَيْلا «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم

(1/413)


أن يستعيروا الحلي من القبط، وأمر ألا ينادي إنسان صاحبه، وأن يسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأن من خرج إذا قَالَ: موسى، قَالَ: عمرو وأمر من خرج يلطخ بابه بكف من دم حتى يعلم أنه قد خرج وإن الله أخرج كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كل ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، حتى أتوا آباءهم.
ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلا والقبط لا يعلمون، وقد دعوا قبل ذلك على القبط، فقال موسى: «رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» الى قوله: «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ، فقال الله تعالى: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» فزعم السدي أن موسى هو الذي دعا وامن هارون، فذلك حين يقول الله: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» .
وقوله: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» فذكر أن طمس الأموال أنه جعل دراهمهم ودنانيرهم حجارة، ثم قَالَ لهما استقيما، فخرجا في قومهما، وألقي على القبط الموت، فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، فذلك حين يقول الله:
«فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» .
وكان موسى على ساقة بني إسرائيل، وكان هارون أمامهم يقدمهم، فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمرت؟ قَالَ: البحر، فأراد أن يقتحم فمنعه موسى وخرج موسى في ستمائه ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية، وتبعهم فرعون، وعلى مقدمته هامان، في الف الف وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذيانة، وذلك حين يقول الله: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ» - يعنى بنى إسرائيل- «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» ، يقول: قد حذرنا فاجمعنا امرنا،

(1/414)


«فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ» ، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا:
«إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» قَالُوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قَالَ موسى: «كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ، يقول: سيكفيني، «قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال:
من هذا الجبار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط، وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان، فنظر آخرهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا، ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قَالَ: ألا ترون البحر فرق مني، وقد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله: «وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ» ، يقول: قربنا ثم الآخرين، هم آل فرعون.
فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله ان تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانه، فشمت الحصن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم،

(1/415)


وتفرد جبرئيل بفرعون بمقلة من مقل البحر، فجعل يدسها في فيه، فقال حين أدركه الغرق: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ، فبعث الله اليه ميكائيل يعيره، قال: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» فقال جبرئيل: يا مُحَمَّد، ما أبغضت أحدا من الخلق ما أبغضت رجلين: أما أحدهما فمن الجن وهو إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الآخر فهو فرعون حين قَالَ: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ، ولو رأيتني يا مُحَمَّد، وأنا آخذ مقل البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل: لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فاخرج فرعون في ستمائه ألف وعشرين ألفا، عليهم الحديد فأخذته بنو إسرائيل يمثلون به، وذلك قول الله لفرعون: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» ، يقول: لبنى إسرائيل آيه فلما أرادوا أن يسيروا ضرب عليهم تيه، فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل فسألهم: ما بالنا؟ فقالوا له: إن يوسف لما مات بمصر أخذ على إخوته عهدا ألا تخرجوا من مصر حتى تخرجوني معكم، فذلك هذا الأمر، فسألهم: أين موضع قبره؟ فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشد الله كل من كان يعلم أين موضع قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمت أذناه عن قولي! وكان يمر بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز لهم فقالت:
أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربي، فأمره الله عز وجل أن يعطيها، فأتاها فأعطاها، فقالت: إني أريد ألا تنزل غرفة من الجنة إلا نزلتها معك، قَالَ: نعم، قالت:
إني عجوز كبيرة لا أستطيع أن أمشي فاحملني، فحملها، فلما دنا من النيل، قالت: إنه في جوف الماء، فادع الله أن يحسر عنه الماء، فدعا الله فحسر الماء عن القبر، فقالت: احفره، ففعل فحمل عظامه، ففتح

(1/416)


لهم الطريق، فساروا، «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ» - يقول: مهلك ما هم فيه- «وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ» فأما ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة عنه- فتابع الله عليه بالآيات- يعني على فرعون- وأخذه بالسنين إذ أبى أن يؤمن بعد ما كان من أمره وأمر السحرة ما كان، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصلات، أي آية بعد آية، يتبع بعضها بعضا، فأرسل الطوفان وهو الماء، ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعا فلما بلغهم ذلك قَالُوا: يَا مُوسَى ادْعُ لنا ربك، «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فدعا موسى ربه فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر- فيما بلغني حتى إنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى أمر أن يمشي إلى كثيب فيضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قَالُوا له مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد منهم ثوبا ولا طعاما ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه، فلما جهدهم ذلك قَالُوا له مثل ما قَالُوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قَالُوا، فأرسل الله

(1/417)


عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما، لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عادت دما عبيطا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن إسحاق، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعب القرظي أنه حدث أن المرأة من آل فرعون كانت تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتغرف لها من جرتها أو تصب لها من قربتها، فيعود في الإناء دما، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجيه في في، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجته في فيها صار دما، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ولم يفوا بشيء مما قَالُوا، فأمر الله موسى أن يسير، وأخبره أنه منجيه ومن معه، ومهلك فرعون وجنوده، وقد دعا موسى عليهم بالطمسة، فقال: «رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» - إلى- «وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» فمسخ الله أموالهم حجارة: النخل والرقيق والأطعمة، فكانت احدى الآيات التي اراهن الله فرعون.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بريده ابن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، قَالَ: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع الآيات التي أراهن الله فرعون، فقلت: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وعصاه، ويده، والطمسة، والبحر.
فقال عمر: فأنى عرفت أن الطمسة إحداهن؟ قلت: دعا عليهم موسى وأمن هارون، فمسخ الله أموالهم حجارة، فقال: كيف يكون الفقه إلا هكذا! ثم

(1/418)


دعا بخريطة فيها أشياء مما كان أصيب لعبد العزيز بن مروان بمصر، إذ كان عليها من بقايا أموال آل فرعون، فأخرج البيضة مقشورة نصفين، وإنها لحجر، والجوزة مقشورة وإنها لحجر، والحمصة، والعدسة.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدٍ، عن رجل من أهل الشام كان بمصر، قَالَ: قد رأيت النخلة مصروعة، وإنها لحجر، وقد رأيت إنسانا ما شككت أنه إنسان وإنه لحجر، من رقيقهم، فيقول الله عز وجل:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» إلى قوله «مَثْبُوراً» يقول: شقيا.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عروة بْن الزبير، عَنْ أَبِيهِ، أن الله حين أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يحتمل يوسف معه حتى يضعه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمن يعرف موضع قبره، فما وجد إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت: يا نبي الله، أنا أعرف مكانه إن أنت أخرجتني معك، ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه قَالَ: أفعل، وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقا من مرمر، فاحتمله معه قَالَ عروة: فمن ذلك تحمل اليهود موتاها من كل أرض إلى الأرض المقدسة.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان- فيما ذكر لي- أن موسى قَالَ لبني إسرائيل فيما أمره الله به: استعيروا منهم الأمتعة والحلي والثياب فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم، فلما أذن فرعون في الناس كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قَالَ حين ساروا: لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم

(1/419)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قَالَ: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دهم الخيل سوى ما في جنده من شيات الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف طلع فرعون في جنده من خلفهم، «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ، أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خلف لموعوده.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق قَالَ: فأوحى الله تبارك وتعالى- فيما ذكر لي- إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله وانتظارا لأمره، فأوحى الله عز وجل الى موسى: ان اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ، أي كالجبل على نشز من الأرض يقول الله لموسى ع: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» فلما استقر له البحر على طريق قائمة يبس سلك فيه موسى ببني إسرائيل، واتبعه فرعون بجنوده.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي، قَالَ:
حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل فلم يبق منهم أحد أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر وهو قائم على حاله، فهاب الحصان ان يتقدم، فعرض له جبرئيل على فرس أنثى وديق، فقربها منه

(1/420)


فشمها الفحل، ولما شمها قدمها، فتقدم معه الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون ان فرعون قد دخل دخلوا معه، وجبرئيل أمامه، فهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم يقول: الحقوا بصاحبكم، حتى إذا فصل جبرئيل من البحر ليس أمامه أحد ووقف ميكائيل على الناحية الأخرى ليس خلفه أحد، طبق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى، وعرف ذله وخذلته نفسه، نادى: أن لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا مِنَ المسلمين.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابن عباس، قال: جاء جبرئيل الى النبي ع فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا أَدُسُّ مِنْ حَمَإِ الْبَحْرِ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ ان تدركه الرحمه! يقول الله: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» ، اى سواء لَمْ يَذْهَبْ مِنْكَ شَيْءٌ، «لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» أَيْ عِبْرَةً وَبَيِّنَةً فَكَانَ يُقَالُ:
لَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى عَرَفُوهُ لَشَكَّ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ.
وَلَمَّا جَاوَزَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، «قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» وَوَعَدَ اللَّهُ مُوسَى حِينَ أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَنَجَّاهُ وَقَوْمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حديث السدى ثم ان جبرئيل أَتَى مُوسَى يَذْهَبُ بِهِ إِلَى

(1/421)


اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهُ السَّامِرِيُّ فَأَنْكَرَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ فَرَسُ الْحَيَاةِ، فَقَالَ حِينَ رَآهُ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا، فَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةِ الْحَافِرِ حَافِرِ الْفَرَسِ، فَانْطَلَقَ مُوسَى وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا قوم، إِنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ إِنَّمَا هُوَ غَنِيمَةٌ، فَاجْمَعُوهَا جَمِيعًا فَاحْفِرُوا لَهَا حُفْرَةً فَادْفِنُوهَا فِيهَا، فَإِنْ جَاءَ مُوسَى فَأَحَلَّهَا أَخَذْتُمُوهَا، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ تَأْكُلُوهُ، فَجَمَعُوا ذَلِكَ الْحُلِيَّ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ، وَجَاءَ السامرى بتلك القبضه فقذفها، فاخرج الله مِنَ الْحُلِيِّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَعَدَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَوْعِدَ مُوسَى، فَعَدُّوا اللَّيْلَةَ يَوْمًا واليوم يوما، فلما كان العشر خرج لهم العجل فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: «هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» يقول: ترك موسى إلهه هاهنا، وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» يَقُولُ: إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، يَقُولُ: بِالْعِجْلِ، «وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي» ، فَأَقَامَ هَارُونُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ، وَانْطَلَقَ مُوسَى إِلَى إِلَهِهِ يُكَلِّمُهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ لَهُ: «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ هَذَا السَّامِرِيُّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْعِجْلَ، أَرَأَيْتَ الرُّوحَ مَنْ نَفَخَهَا فِيهِ؟ قَالَ الرَّبُّ: أَنَا قَالَ: رَبِّ أَنْتَ إِذًا أَضْلَلْتَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ موسى لما كلمه ربه أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ

(1/422)


فَسَوْفَ تَرانِي» ، فحف حَوْلَ الْجَبَلِ الْمَلَائِكَةَ، وَحَفَّ حَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، وَحَفَّ حَوْلَ النَّارِ بِمَلَائِكَةٍ، وَحَوْلَ الْمَلَائِكَةِ بِنَارٍ، ثُمَّ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي السُّدِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:
تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلُ طَرَفِ الْخِنْصَرِ، فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فَلَمْ يَزَلْ صَعِقًا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَنَّهُ أَفَاقَ فَقَالَ: «سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» ، يَعْنِي أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: «يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» من الحلال والحرام «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» ، يَعْنِي بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» أَيْ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُونَ فِيهَا فَكَانَ مُوسَى بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ يَلْبِسُ وَجْهَهُ بِحَرِيرَةٍ، فَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ «غَضْبانَ أَسِفاً» يَقُولُ: حَزِينًا «قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» - إلى- «قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا» يَقُولُونَ: بِطَاقَتِنَا، «وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» يَقُولُ: مِنْ حَلِيِّ الْقِبْطِ «فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ» ، ذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: احْفِرُوا لِهَذَا الْحُلِيِّ حُفْرَةً، وَاطْرَحُوهُ فِيهَا، فَطَرَحُوهُ فَقَذَفَ السَّامِرِيُّ تُرْبَتَهُ، فَأَلْقَى مُوسَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره اليه، «لَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
» فَتَرَكَ مُوسَى هَارُونَ، وَمَالَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَقَالَ:

(1/423)


«فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ» ، قَالَ السَّامِرِيُّ: «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» الى: «فِي الْيَمِّ نَسْفاً» ثُمَّ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَّفَهُ بِالْمِبْرَدِ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَبْقَ بَحْرٌ يَجْرِي إِلَّا وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى:
اشْرَبُوا مِنْهُ فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شَارِبِهِ الذَّهَبُ، فَذَلِكَ حِينَ يقول: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ» فَلَمَّا سَقَطَ فِي أَيْدِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ جَاءَ مُوسَى «وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا بِالْحَالِ الَّتِي كَرِهُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى:
«يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» ، فَاجْتَلَدَ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ بِالسِّيُوفِ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ شَهِيدًا، حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلُ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلَكُوا، حَتَّى قُتِلَ بَيْنَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، حَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ: رَبَّنَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ! رَبَّنَا الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ! فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضَعُوا السِّلَاحَ، وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا، وَمَنْ بَقِيَ كَانَ مُكَفَّرًا عَنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَاجَرْمَا، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، فَكَانَ حب عباده

(1/424)


الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا فَصَلَ هَارُونُ فِي بنى إسرائيل، وفصل موسى معهم إِلَى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ لَهُمْ هَارُونُ:
انكم قد تحملتم أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمْتِعَةً وَحُلِيًّا، فَتَطَهَّرُوا مِنْهَا فَإِنَّهَا نَجِسٌ، وَأَوْقَدَ لَهُمْ نَارًا، وَقَالَ: اقْذِفُوا مَا كَانَ مَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا، قَالُوا: نَعَمْ، فَجَعَلُوا يَأْتُونَ بِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْحُلِيِّ وَتِلْكَ الْأَمْتِعَةِ فَيَقْذِفُونَ بِهِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا انْكَسَرَتِ الْحُلِيُّ فيها، راى السامرى اثر فرس جبرئيل، فَأَخَذَ تُرَابًا مِنْ أَثَرِ حَافِرِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْحُفْرَةِ فَقَالَ لِهَارُونَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أُلْقِي مَا فِي يَدِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلا يَظُنُّ هَارُونُ إِلَّا أَنَّهُ كَبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْتِعَةِ وَالْحُلِيِّ، فَقَذَفَهُ فِيهَا، وَقَالَ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، فَكَانَ لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَقَالَ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا مِثْلَهُ شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَنَسِيَ» ، أَيْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، - يَعْنِي السَّامِرِيَّ- «أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» .
قَالَ: وَكَانَ اسْمُ السَّامِرِيِّ مُوسَى بْنُ ظُفْرٍ، وَقَعَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَدَخَلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا رَأَى هَارُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ قَالَ: «يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» - إلى قوله- «حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» فَأَقَامَ هَارُونُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُفْتَتَنْ، وَأَقَامَ مَنْ يَعْبُدُ الْعِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَخَوَّفَ هَارُونُ إِنْ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُ مُوسَى: «َّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
» ، وَكَانَ لَهُ هَائِبًا مُطِيعًا، وَمَضَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الطُّورِ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَنْجَاهُمْ وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَكَانَ مُوسَى حِينَ سَارَ ببني إسرائيل

(1/425)


مِنَ الْبَحْرِ قَدِ احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ، فَاسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَأُمِرَ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا قَدْ عَرَفُوهَا، فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى طَمِعَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ:
إِنَّكَ «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» إِلَى قَوْلِهِ: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ» إِلَى قوله: «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ» وَقَالَ لَهُ:
«وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى» إِلَى قَوْلِهِ: «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» ، وَمَعَهُ عَهْدُ اللَّهِ فِي أَلْوَاحِهِ.
وَلَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ فَرَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَتْ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- مِنْ زَبَرْجَدٍ أَخْضَرَ، ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وَلِحْيَتِهِ وَيَقُولُ: «مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ» الى قوله: «لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
» فقال: «يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ، فَارْعَوَى مُوسَى وَقَالَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .
وَأَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: «يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» الى قوله:
«عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» واقبل عَلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ: «فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» إِلَى قوله: «وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ثم

(1/426)


أَخَذَ الْأَلْوَاحَ، يَقُولُ اللَّهُ: «أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقه ابن يَسَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ كَتَبَ لِمُوسَى فِيهَا مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً، فَلَمَّا أَلْقَاهَا رَفَعَ اللَّهُ سِتَّةَ أَسْبَاعِهَا وَأَبْقَى سُبُعًا، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» ، ثُمَّ أَمَرَ مُوسَى بِالْعِجْلِ فَأُحْرِقَ، حَتَّى رَجَعَ رَمَادًا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي الْبَحْرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ أَحْرَقَهُ ثُمَّ سَحَلَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَارَ مُوسَى مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا: الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ وسلوه التوبة عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكِمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبُّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَقَالَ لَهُ السَّبْعُونَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- حِينَ صَنَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَخَرَجُوا مَعَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: اطْلُبْ لَنَا نَسْمَعْ كَلَامَ رَبِّنَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلُ كُلُّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِيهِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا، وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، فَلَمَّا فَرِغَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ انْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لِمُوسَى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» ، «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ*» ، وَهِيَ الصَّاعِقَةُ، فَانْفَلَتَتْ أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعا،

(1/427)


وَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» قد سفهوا، افتهلك مَنْ وَرَائِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ السفهاء منا! ان هذا هلاك لهم اخْتَرْتُ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعِي رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَمَا الَّذِي يُصَدِّقُونَنِي بِهِ! فَلَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ، وَيَسْأَلُهُ وَيَطْلَبُ إِلَيْهِ حَتَّى رَدَّ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ التَّوْبَةَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَقَالَ: لا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: نَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ مُوسَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبَدَ الْعِجْلَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ عَبَدَهُ، فَجَلَسُوا بِالأَفْنِيَةِ، وَأَصْلَتَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ السُّيُوفَ، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ، وَبَكَى مُوسَى وَبَهَشَ إِلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ عَنْهُمْ، فَتَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَأَمَرَ مُوسَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ السَّيْفَ.
وَأَمَّا السُّدِّيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي خَبَرِهِ الَّذِي ذَكَرْتُ إِسْنَادَهُ قَبْلُ أَنَّ مَصِيرَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ بِالسَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ مَا تَابَ اللَّهُ عَلَى عَبَدَةِ الْعِجْلِ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ الْقِصَّةِ الَّتِي قَدْ ذَكَرْتُهَا عَنْهُ بعد قوله: «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» قَالَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَوَعَدَهُمْ مَوْعِدًا، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى عَيْنِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمْ لِيَعْتَذِرُوا، فَلَمَّا أَتَوْا ذَلِكَ الْمَكَانَ قَالُوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» ، فَإِنَّكَ قَدْ كَلَّمْتَهُ فَأَرِنَاهُ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا، فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللَّهَ وَيَقُولُ: رَبِّ مَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَيْتُهُمْ وَقَدْ أَهْلَكْتُ خِيَارَهُمْ! رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا! فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ مِمَّنِ اتَّخَذَ الْعِجْلَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ مُوسَى: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» إلى قوله: «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» ، يقول:

(1/428)


تُبْنَا إِلَيْكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» ، وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ، فَقَامُوا وَعَاشُوا رَجُلًا رَجُلًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: كَيْفَ يَحْيَوْنَ؟ فَقَالُوا:
يَا مُوسَى، أَنْتَ تَدْعُو اللَّهَ فَلَا تَسْأَلُهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ، فَادْعُهُ يَجْعَلْنَا أَنْبِيَاءَ، فَدَعَا اللَّهُ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ، فَذَلِكَ قوله: «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ» ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ حَرْفًا وَأَخَّرَ حَرْفًا.
ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالسَّيْرِ إِلَى أَرِيحَا، وَهِيَ أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا قَرِيبًا مِنْهَا بَعَثَ مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسَارُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْتُوهُ بِخَبَرِ الْجَبَّارِينَ، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ يُقَالُ لَهُ عَاج، فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ فَجَعَلَهُمْ فِي حُجْزَتِهِ وَعَلَى رَأْسِهِ حَمْلَةُ حَطَبٍ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: انْظُرِي إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُقَاتِلُونَا، فَطَرَحَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ: أَلَا أَطْحَنُهُمْ بِرِجْلِي! فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ:
لَا، بَلْ خَلِّ عَنْهُمْ حَتَّى يُخْبِرُوا قَوْمَهُمْ بِمَا رَأَوْا، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْقَوْمُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ، إِنَّكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِخَبَرِ الْقَوْمِ ارْتَدُّوا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ، وَلَكِنِ اكْتُمُوهُمْ وَأَخْبِرُوا نَبِيَّ اللَّهِ، فَيَكُونَانِ هُمَا يُرِيَانِ رَأْيَهُمَا، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ لِيَكْتُمُوهُ، ثُمَّ رَجَعُوا فَانْطَلَقَ عَشَرَةٌ فَنَكَثُوا الْعَهْدَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُخْبِرُ أَخَاهُ وَأَبَاهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ أَمْرِ عَاج، وَكَتَمَ رَجُلانِ مِنْهُمْ، فَأَتَوْا مُوسَى وَهَارُونَ فَأَخْبَرُوهُمَا الْخَبَرَ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهِ: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» فقال لهم موسى: «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً» ، يَمْلِكُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ «يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» ، يَقُولُ: الَّتِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهَا

(1/429)


«وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا» مِمَّا سَمِعُوا مِنَ الْعَشَرَةِ: «إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا» ، وَهُمَا اللَّذَانِ كَتَمَا، وَهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَى مُوسَى وَكَالُوبُ بْنُ يوفنَةَ- وَقِيلَ: كِلَابُ بْنُ يوفنَةَ خَتَنُ مُوسَى- فَقَالَا:
يَا قَوْمِ «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ» «قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» فَغَضِبَ مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وَكَانَتْ عَجَلَةً مِنْ مُوسَى عَجَلَهَا، فَقَالَ اللَّهُ:
«فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» فَلَمَّا ضُرِبَ عَلَيْهِمُ التِّيهُ، نَدِمَ مُوسَى وَأَتَاهُ قَوْمُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُطِيعُونَهُ، فَقَالُوا لَهُ: مَا صَنَعْتَ بِنَا يَا مُوسَى؟ فَلَمَّا نَدِمَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: أَلَا تَأْسَ، أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ فَاسِقِينَ فَلَمْ يَحْزَنْ، فَقَالُوا: يَا مُوسَى، فكيف لنا بماء هاهنا؟ أَيْنَ الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَكَانَ يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ التَّرَنْجَبِينُ وَالسَّلْوَى- وَهُوَ طَيْرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى- فَكَانَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ، فَإِنْ كَانَ سَمِينًا ذَبَحَهُ وَإِلَّا أَرْسَلَهُ، فَإِذَا سَمِنَ أَتَاهُ، فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ فَأَيْنَ الشَّرَابُ؟ فَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، يَشْرَبُ كُلُّ سِبْطٍ مِنْ عَيْنٍ فَقَالُوا: هَذَا الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، فَأَيْنَ الظِّلُّ؟ فَظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، فَقَالُوا: هَذَا الظِّلُّ، فَأَيْنَ

(1/430)


اللِّبَاسُ؟ فَكَانَتْ ثِيَابُهُمْ تَطُولُ مَعَهُمْ كَمَا تَطُولُ الصِّبْيَانُ، وَلَا يَتَخَرَّقُ لَهُمْ ثَوْبٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» .
وَقَوْلُهُ: «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» ، فَأَجْمَعُوا ذَلِكَ، فَقَالُوا:
«يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها» - وهي الحنطة- «وَعَدَسِها وَبَصَلِها» .
قال: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً» من الأمصار، «فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ التِّيهِ رُفِعَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَأَكَلُوا الْبُقُولَ، وَالْتَقَى مُوسَى وَعَاج فَنَزَا مُوسَى فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَتْ عَصَاهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَكَانَ طُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عَاجٍ فَقَتَلَهُ.
حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف، قال: كان طول عوج ثمانمائه ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ثم وثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجا فأصاب كعبه فسقط ميتا، فكان جسرا للناس يمرون عليه.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ عَصَا مُوسَى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَوَثْبَتُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَطُولُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَأَصَابَ كَعْبَ عوجَ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ جسرا لأهل النيل وقيل ان عوجَ عَاشَ ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ

(1/431)


ذكر وفاه موسى وهارون ابنى عمران ع
حدثنا موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى، أَنِّي مُتَوَفِّ هَارُونَ، فَأْتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَانْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونَ نَحْوَ ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَإِذَا هُمَا بِشَجَرَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَإِذَا هُمَا بِبَيْتٍ مَبْنِيٍّ، وَإِذَا هُمَا فِيهِ بِسَرِيرٍ عَلَيْهِ فرْشٌ، وَإِذَا فِيهِ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا فِيهِ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنَامَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ، قَالَ لَهُ مُوسَى: فَنَمْ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنِّي أَخَافَ أَنْ يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ، قَالَ لَهُ مُوسَى: لَا تَرْهَبْ أَنَا أَكْفِيكَ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ فَنَمْ، قَالَ:
يَا مُوسَى بَلْ نَمْ مَعِي، فَإِنْ جَاءَ رَبُّ الْبَيْتِ غَضِبَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا، فَلَمَّا نَامَا أَخَذَ هارون الموت، فلما وَجَدَ حِسَّهُ قَالَ: يَا مُوسَى خَدَعْتَنِي، فَلَمَّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ وَرُفِعَ السَّرِيرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَ مَعَهُ هَارُونُ قَالُوا: فان مُوسَى قَتَلَ هَارُونَ وَحَسَدَهُ لِحُبِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ، وَكَانَ هَارُونُ أَكَفَّ عَنْهُمْ وَأَلْيَنَ لَهُمْ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ فِي مُوسَى بَعْضُ الْغِلَظِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: وَيْحَكُمْ! كَانَ أَخِي، أَفَتَرَوْنَنِي أَقْتُلُهُ! فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَزَلَ بِالسَّرِيرِ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَصَدَّقُوهُ ثُمَّ إِنَّ مُوسَى بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي وَيُوشَعُ فَتَاهُ إِذَا أَقْبَلَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ وَالْتَزَمَ مُوسَى، وَقَالَ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمُ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ، فَاسْتَلَّ مُوسَى مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ وَتَرَكَ الْقَمِيصَ فِي يَدِ يُوشَعَ، فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ أَخَذَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ! قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَلَّ مِنِّي، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: فَإِذَا لَمْ تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَدَعَا اللَّهَ فَأُتِيَ كُلُّ

(1/432)


رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَحْرُسُهُ فِي الْمَنَامِ، فَأُخْبِرَ أَنْ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى، وَأَنَّا قَدْ رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا، فَتَرَكُوهُ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ مَعَ مُوسَى إِلَّا مَاتَ، وَلَمْ يَشْهَدِ الْفَتْحَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: كان صفي الله قد كره الموت وأعظمه، فلما كرهه أراد الله تعالى أن يجب إليه الموت ويكره إليه الحياة، فحولت النبوة إلى يوشع بن نون، فكان يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبي الله، ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع بن نون: يا نبي الله، ألم أصحبك كذا وكذا سنة، فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ فلا يذكر له شيئا، فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت.
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ: قَالَ ابْنُ إسحاق: وكان صفي الله- فيما ذكر لي وهب بن منبه- انما يستظل في عريش ويأكل ويشرب في نقير من حجر، إذا أراد أن يشرب بعد أن أكل كرع كما تكرع الدابة في ذلك النقير، تواضعا لله حين أكرمه الله بما أكرمه به من كلامه.
قَالَ وهب: فذكر لي أنه كان من أمر وفاته أن صفي الله خرج يوما من عريشه ذلك لبعض حاجته لا يعلم به أحد من خلق الله، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا فعرفهم وأقبل إليهم، حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه، ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قَالُوا: نحفره لعبد كريم على ربه، قَالَ: إن هذا العبد من الله لبمنزل! ما رأيت كاليوم مضجعا ولا مدخلا! وذلك حين حضر من أمر الله ما حضر من قبضه، فقالت له الملائكة: يا صفي الله، أتحب أن يكون لك؟ قَالَ: وددت قَالُوا:
فانزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ثم تنفس أسهل تنفس تنفسته قط

(1/433)


فنزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربه، ثم تنفس فقبض الله تعالى روحه، ثم سوت عليه الملائكة، وكان صفي الله زاهدا في الدنيا راغبا فيما عند الله.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: [قال رسول الله ص: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ كَانَ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا حَتَّى أَتَى موسى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، قَالَ: فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ عَبْدَكَ موسى فَقَأَ عَيْنِي، وَلَوْلا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ائْتِ عَبْدِي موسى، فَقُلْ لَهُ: فَلْيَضَعْ كَفَّهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، وَخَيِّرْهُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَمُوتَ الآنَ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَخَيَّرَهُ، فَقَالَ لَهُ موسى: فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ إِذًا، قَالَ: فَشَمَّهُ شَمَّةً قَبَضَ رُوحَهُ.
قَالَ: فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّاسِ خفيه] .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قَالَ: مات موسى وهارون جميعا في التيه، مات هارون قبل موسى، وكانا خرجا جميعا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف موسى إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قَالَ: مات، قَالُوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا إياه، وكان محببا في بني إسرائيل، فتضرع موسى إلى ربه، وشكا ما لقي من بني إسرائيل، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى موضع قبره، فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله قَالَ: فانطلق بهم إلى قبر هارون، فنادى: يا هارون، فخرج من قبره ينفض رأسه، فقال: أنا قتلتك؟ قَالَ: لا والله، ولكني مت، قَالَ: فعد إلى مضجعك، وانصرفوا.
فكان جميع مده عمر موسى ع كلها مائة وعشرين سنة، عشرون من ذلك في ملك أفريدون، ومائة منها في ملك منوشهر، وكان ابتداء أمره من لدن بعثه الله نبيا إلى أن قبضه إليه في ملك منوشهر

(1/434)


ذكر يوشع بن نون ع
ثم ابتعث الله عز وجل بعد موسى ع يوشع بن نون بن افراييم ابن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيا، وأمره بالمسير إلى أريحا لحرب من فيها من الجبارين فاختلف السلف من أهل العلم في ذلك، وعلى يد من كان ذلك؟ ومتى سار يوشع إليها؟ في حياة موسى بن عمران كان مسيره إليها أم بعد وفاته؟
فقال بعضهم: لم يسر يوشع إلى أريحا، ولا أمر بالمسير إليها إلا بعد موت موسى، وبعد هلاك جميع من كان أبى المسير إليها مع موسى بن عمران، حين أمرهم الله تعالى بقتال من فيها من الجبارين، وقالوا: مات موسى وهارون جميعا في التيه قبل خروجهما منه.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
لَمَّا دَعَا مُوسَى- يَعْنِي بِدُعَائِهِ قَوْلِهِ: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» قَالَ: فَدَخَلُوا التِّيهَ، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ التِّيهَ مِمَّنْ جَاوَزَ الْعِشْرِينَ سَنَةً مَاتَ فِي التِّيهِ، قَالَ: فَمَاتَ مُوسَى فِي التِّيهِ، وَمَاتَ هَارُونُ قَبْلَهُ قَالَ:
فَلَبِثُوا فِي تِيهِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَنَاهَضَ يُوشَعُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مَدِينَةَ الْجَبَّارِينَ فَافْتَتَحَ يُوشَعُ الْمَدِينَةَ

(1/435)


حدثنا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد عن قتادة قَالَ: قَالَ الله تعالى: «انها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً» الآية، حرمت عليهم القرى، فكانوا لا يهبطون قرية، ولا يقدرون على ذلك أربعين سنة.
وذكر لنا أن موسى مات في الأربعين سنة، ولم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم، والرجلان اللذان قالا ما قالا.
حَدَّثَنِي موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو، قَالَ: حَدَّثَنَا أسباط، عن السدي في الخبر الذي ذكرت إسناده فيما مضى: لم يبق أحد ممن أبى أن يدخل مدينة الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح.
ثم إن الله عز وجل لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيا فأخبرهم أنه نبي وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، فهزم الجبارين، واقتحموا عليهم، فقتلوهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها.
حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا سليمان بن حرب، عن هلال، عن قتادة في قول الله تعالى: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ» ، قَالَ: أبدا.
حَدَّثَنِي المثنى قَالَ: حَدَّثَنَا مسلم بن إبراهيم، عن هارون النحوي، عن الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» ، قَالَ: التحريم التيه.
وقال آخرون: إنما فتح أريحا موسى، ولكن يوشع كان على مقدمة موسى حين سار إليهم.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذلك:

(1/436)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما نشأت النواشي من ذراريهم- يعني من ذراري الذين أبوا قتال الجبارين مع موسى- وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهُوا فيها، سار بهم موسى ومعه يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، فكان لهم صهرا، فلما انتهوا إلى أرض كنعان، وبها بلعم بن باعور العروف، وكان رجلا قد آتاه الله علما، وكان فيما أوتي من العلم اسم الله الأعظم- فيما يذكرون- الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق، عن سالم أبي النضر، أنه حدث أن موسى لما نزل أرض بني كنعان من أرض الشام، وكان بلعم ببالعة- قرية من قرى البلقاء- فلما نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل، أتى قوم بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، ويسكنها، وإنا قومك وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم، فقال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون! كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم! قَالُوا: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرققونه، ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسبان، فما سار عليها غير قليل، حتى ربضت به، فنزل عنها فضربها حتى اذلقها فقامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم! أين تذهب! ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا! أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو

(1/437)


عليهم! فلم ينزع عنها يضربها، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك، فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه:
أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قَالَ: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنه إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستي ابنة صور- رأس أمته وبني أبيه من كان منهم في مدين، هو كان كبيرهم- برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمرى بن شلوم، رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل حتى وقف بها على موسى، فقال: إني أظنك ستقول:
هذه حرام عليك! قَالَ: أجل هي حرام عليك لا تقربها، قَالَ: فو الله لا نطيعك في هذا، ثم دخل بها قبته فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق، وقوة في البطش، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته- وكانت من حديد كلها- ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته- وكان بكر العيزار- فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك! ورفع الطاعون فحسب من يهلك من بني إسرائيل في الطاعون- فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله

(1/438)


فنحاص- فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا، والمقلل لهم يقول: عشرون ألفا، في ساعة من النهار، فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار، ففي بلعم بن باعور، أنزل الله تعالى على مُحَمَّد ص: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها» - يعنى بلعم بن باعور، «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» الى قوله: «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» يعني بني إسرائيل، إني قد جئتهم بخبر ما كان فيهم مما يخفون عليك لعلهم يتفكرون فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلا نبي يأتيه خبر من السماء.
ثم إن موسى قدم يوشع بن نون إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، وأصاب من أصاب منهم، وبقيت منهم بقية في اليوم الذي أصابهم فيه، وجنح عليهم الليل، وخشي إن لبسهم الليل أن يعجزوه، فاستوقف الشمس، ودعا الله أن يحبسها، ففعل عز وجل حتى استأصلهم، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم بقبره أحد من الخلائق.
فأما السدي في الخبر الذي ذكرت عنه إسناده فيما مضى، فإنه ذكر في خبره ذلك أن الذي قاتل الجبارين يوشع بن نون بعد موت موسى وهارون، وقص من أمره وأمرهم ما أنا ذاكره، وهو أنه ذكر فيه أن الله بعث يوشع نبيا بعد أن انقضت الأربعون سنة، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم- وكان عالما، يعلم الاسم الأعظم المكتوم- فكفر

(1/439)


وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون، فكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء من عظمهن، فكان ينكح أتانا له، وهو الذي يقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ:
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» أي فبصر «فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» إلى قوله: «وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» ، فكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب، فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس، وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه، وهو يريد أن يلعن بني إسرائيل، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل جاء على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنما تدعو علينا، فيقول: إنما أردت بني إسرائيل، فلما بلغ باب المدينة أخذ ملك بذنب الأتان فأمسكها، وجعل يحركها فلا تتحرك، فلما أكثر ضربها تكلمت، فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار! ويلي منك! ولو أني أطقت الخروج لخرجت بك، ولكن هذا الملك يحبسني، فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتى أمسوا وغربت الشمس، ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله، اللهم اردد علي الشمس، فردت عليه الشمس، فزيد له في النهار يومئذ ساعة، فهزم الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها وجمعوا غنائمهم، وأمرهم يوشع أن يقربوا الغنيمه فقربوها، فلم تزل النار تأكلها، فقال يوشع: يا بني إسرائيل ان لله عز وجل عندكم طلبة، هلموا فبايعوني، فبايعوه فلصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلم ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجوهر، كان قد غله، فجعله في القربان، وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان

(1/440)


وأما أهل التوراة، فإنهم يقولون: هلك هارون وموسى في التيه، وإن الله أوحى إلى يوشع بعد موسى، وأمره أن يعبر الأردن إلى الأرض التي أعطاها بني إسرائيل، ووعدها إياهم، وأن يوشع جد في ذلك ووجه إلى أريحا من تعرف خبرها، ثم سار ومعه تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن، وصار له ولأصحابه فيه طريق، فأحاط بمدينة أريحا سته أشهر، فلما كان السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فأباحوها وأحرقوها، وما كان فيها ما خلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، فإنهم أدخلوه بيت المال ثم إن رجلا من بني إسرائيل غل شيئا، فغضب الله عليهم وانهزموا، فجزع يوشع جزعا شديدا، فأوحى الله إلى يوشع أن يقرع بين الأسباط، ففعل حتى انتهت القرعة إلى الرجل الذي غل، فاستخرج غلوله من بيته، فرجمه يوشع وأحرق كل ما كان له بالنار، وسموا الموضع باسم صاحب الغلول، وهو عاجر فالموضع الى هذا اليوم غور عاجر ثم نهض بهم يوشع إلى ملك عايي وشعبه، فأرشدهم الله إلى حربه، وأمر يوشع أن يكمن لهم كمينا ففعل، وغلب على عايي وصلب ملكها على خشبة، وأحرق المدينة وقتل من أهلها اثني عشر ألفا من الرجال والنساء، واحتال اهل عماق وجيعون ليوشع حتى جعل لهم أمانا، فلما ظهر على خديعتهم دعا الله عليهم أن يكونوا حطابين وسقائين، فكانوا كذلك، وأن يكون بازق ملك أورشليم يتصدق، ثم أرسل ملوك الأرمانيين، وكانوا خمسه بعضهم الى بعض، وجمعوا كلمتهم على جيعون، فاستنجد اهل جيعون يوشع، فأنجدهم وهزموا أولئك الملوك حتى حدروهم إلى هبطة حوران، ورماهم الله بأحجار البرد، فكان من قتله البرد أكثر ممن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وسأل يوشع الشمس أن تقف والقمر أن يقوم حتى ينتقم من أعدائه قبل دخول السبت، ففعلا ذلك وهرب الخمسة ملوك فاختفوا في غار، فأمر يوشع فسد باب الغار حتى فرغ من الانتقام

(1/441)


من أعدائه، ثم أمر بهم فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم من الخشب، وطرحهم في الغار الذي كانوا فيه، وتتبع سائر الملوك بالشام، فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا، وفرق الأرض التي غلب عليها ثم مات يوشع، فلما مات دفن في جبل أفراييم، وقام بعده سبط يهوذا وسبط شمعون بحرب الكنعانيين، فاستباحوا حريمهم، وقتلوا منهم عشرة آلاف ببازق، وأخذوا ملك بازق فقطعوا إبهامي يديه ورجليه، فقال عند ذلك ملك بازق: قد كان يلقط الخبز من تحت مائدتي سبعون ملكا مقطعي الأباهيم، فقد جزاني الله بصنيعي، وأدخلوا ملك بازق أورشليم، فمات بها وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم، وكان عمر يوشع مائة سنة وستا وعشرين سنة وتدبيره أمر بني إسرائيل منذ توفي موسى إلى أن توفي يوشع بن نون سبعا وعشرين سنة.
وقد قيل إن أول من ملك من ملوك اليمن، ملك كان لهم في عهد موسى بن عمران من حمير، يقال له: شمير بن الأملول، وهو الذي بنى مدينة ظفار باليمن، وأخرج من كان بها من العماليق، وإن شمير بن الأملول الحميري هذا كان من عمال ملك الفرس يومئذ على اليمن ونواحيها.
وزعم هشام بن مُحَمَّد الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد ما قتل يوشع من قتل منهم، وأن إفريقيس بن قيس بن صيفي بن سبا بن كعب ابن زيد بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجها إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم معه من سواحل الشام قَالَ: فهم البرابرة، قَالَ: وإنما سموا بربرا، لأن إفريقيس قَالَ لهم: ما أكثر بربرتكم! فسموا لذلك بربرا، وذكر أن إفريقيس قَالَ في ذلك من أمرهم شعرا، وهو قوله:
بربرت كنعان لما سقتها ... من أراضي الهلك للعيش العجب
قَالَ: وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة، فهم فيهم إلى اليوم

(1/442)


ذكر أمر قارون بن يصهر بن قاهث
وكان قارون ابن عم موسى ع حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قال: ابن عمه، أخي ابيه فان: قارون ابن يصفر- هكذا قَالَ القاسم، وإنما هو يصهر- بن قاهث، وموسى بن عرمر بن قاهث، وعرمر بالعربية عمران، هكذا قَالَ القاسم، وإنما هو عمرم.
وأما ابن إسحاق فإنه قَالَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عنه: تزوج يصهر بن قاهث شميت ابنه تباويت بن بركيا ابن يقسان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فقارون- على ما قَالَ ابن إسحاق- عم موسى أخو أبيه لأبيه وأمه.
واما أهل العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قَالَ ابن جريج.
ذكر من حضرنا ذكره ممن قَالَ ذلك من علمائنا الماضين:
حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: أخبرنا اسماعيل ابن أبي خالد، عن إبراهيم في قوله: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قال:
كان ابن عم موسى.
حدثنا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قَالَ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، كان قارون ابن عم موسى

(1/443)


حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ سفيان، عن سماك، عن ابراهيم: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كان ابن عمه فبغى عليه.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يحيى بن سعيد القطان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قَالَ: كان قارون ابن عم موسى.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو معاوية، عن ابن أبي خالد، عن إبراهيم، قَالَ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كان ابن عمه.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
«إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي.
حَدَّثَنِي بشر بن هلال الصواف، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، عن مالك بن دينار، قَالَ: بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عم قارون، وكان الله قد آتاه مالا كثيرا، كما وصفه الله عز وجل، فقال: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» ، يعني بقوله: «تنوء» تثقل.
وذكر أن مفاتيح خزائنه كانت كالذي حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن منصور، عن خيثمة في قوله: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» قَالَ: نجد مكتوبا في الإنجيل: مفاتيح قارون وقر ستين بغلا غرا محجلة، ما يزيد مفتاح منها على إصبع، لكل مفتاح منها كنز.
حَدَّثَنِي أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا هشيم، قَالَ: أخبرنا إسماعيل بن

(1/444)


سالم، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» ، قَالَ: كانت مفاتيح خزائنه تحمل على أربعين بغلا.
حَدَّثَنَا أبو كريب، قَالَ: حَدَّثَنَا جابر بن نوح، قال: أخبرنا الأعمش عن خيثمة، قَالَ: كانت مفاتيح قارون تحمل على ستين بغلا، كل مفتاح منها لباب كنز معلوم، مثل الإصبع، من جلود.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأعمش، عن خيثمة، قَالَ:
كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلا أغر محجل.
فبغى عدو الله لما أراد الله به من الشقاء والبلاء على قومه بكثرة ماله.
وقيل إن بغيه عليهم كان بأن زاد عليهم في الثياب شبرا كذلك حدثنى علي بن سعيد الكندي وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا حفص ابن غياث، عن ليث، عن شهر بن حوشب.
فوعظه قومه على ما كان من بغيه ونهوه عنه، وأمروه بإنفاق ما أعطاه الله في سبيله والعمل فيه بطاعته، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قَالُوا له فقال: «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» وعنى بقوله: «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» : لا تنس في دنياك أن تأخذ نصيبك فيها لآخرتك، فكان جوابه إياهم جهلا منه، واغترارا بحلم الله عنه، ما ذكر الله تعالى في كتابه أن قَالَ لهم: إنما أوتيت ما أوتيت من هذه الدنيا عَلَى علم عندي فقيل: معنى ذلك: على خير عندي، كذلك روي ذلك عن قتادة.
وقال غيره: عنى بذلك: لولا رضاء الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني

(1/445)


هذا، قَالَ الله عز وجل مكذبا قيله: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً» للأموال ولو كان الله إنما يعطي الأموال والدنيا من يعطيه إياها لرضاه عنه، وفضله عنده، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال الكثيرة قبله، مع كثرة ما كان أعطاهم منها، فلم يردعه عن جهله، وبغيه على قومه بكثرة ماله عظة من وعظه، وتذكير من ذكره بالله ونصيحته إياه، ولكنه تمادى في غيه وخسارته، حتى خرج على قومه في زينته راكبا برذونا أبيض مسرجا بسرج الأرجوان، قد لبس ثيابا معصفرة، قد حمل معه من الجواري بمثل هيئته وزينته على مثل برذونه ثلاثمائة جارية وأربعة آلاف من أصحابه.
وقال بعضهم: كان الذين حملهم على مثل هيئته وزينته من أصحابه.
سبعين ألفا.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو خالد الأحمر، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» ، قَالَ: على براذين بيض، عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرة فتمنى أهل الخسار من الذين خرج عليهم في زينته مثل الذي أوتيه، فقالوا: «يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» ، فأنكر ذلك من قوله عليهم أهل العلم بالله فقالوا لهم: ويلكم أيها المتمنون مثل ما أوتي قارون! اتقوا الله، واعملوا بما أمركم الله به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإن ثواب الله وجزاءه أهل طاعته خير لمن آمن به وبرسله، وعمل بما أمره به من صالح الأعمال، يقول الله: «وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» ، يقول: لا يلقى مثل هذه الكلمة إلا الذين صبروا عن طلب زينة الحياة الدنيا، وآثروا جزيل ثواب الله على صالح الأعمال على لذات الدنيا وشهواتها، فعملوا له بما يوجب لهم ذلك

(1/446)


فلما عتا الخبيث وتمادى في غيه، وبطر نعمة ربه ابتلاه الله عز وجل من الفريضة في ماله والحق الذي ألزمه فيه ما ساق إليه شحه به أليم عقابه، وصار به عبرة للغابرين وعظة للباقين.
فَحَدَّثَنَا أَبُو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ أَتَى قَارُونَ مُوسَى فَصَالَحَهُ عَنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ دِينَارًا، وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا، وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ شَيْءٍ شَيْئًا، أَوْ قَالَ: وَكُلِّ أَلْفِ شَاةٍ شاه- قال ابو جعفر الطبرى: انا أشد- قَالَ: ثُمَّ أَتَى بَيْتَهُ فَحَسَبَهُ فَوَجَدَهُ كَثِيرًا فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّ مُوسَى قَدْ أَمَرَكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ فَأَطَعْتُمُوهُ، وَهُوَ الآنَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَكُمْ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ: آمُرُكُمْ أَنْ تَجِيئُوا بِفُلَانَةَ الْبَغِيِّ فَتَجْعَلُوا لَهَا جُعْلًا فَتَقْذِفُهُ بِنَفْسِهَا فَدَعَوْهَا فَجَعَلُوا لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَقْذِفَهُ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ أَتَى موسى فقال: إِنَّ قَوْمَكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لِتَأْمُرَهُمْ وَتَنْهَاهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي بَرَاحٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَا يَدَهُ، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليس له امراه جلدناه مائه، ومن زنا وَلَهُ امْرَأَةٌ جَلَدْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ- أَوْ قَالَ: رَجَمْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرَ أَنَا أَشُكُّ- فَقَالَ لَهُ قَارُونُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا قَالَ:
وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ، فَقَالَ: ادْعُوهَا، فَإِنْ قَالَتْ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ قَالَ لَهَا مُوسَى: يَا فُلَانَةُ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ! قَالَ:
أَنَا فَعَلْتُ بِكِ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: لَا، وَكَذَبُوا، وَلَكِنْ جَعَلُوا إِلَيَّ جُعْلًا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ بِنَفْسِي، فَوَثَبَ فَسَجَدَ وَهُوَ بَيْنَهُمْ، فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: مُرِ الْأَرْضَ بِمَا شِئْتَ، قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ،

(1/447)


قال: فجعلوا يقولون: يَا مُوسَى، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: يَا أَرْضُ خذيهم، فاطبقت عليهم، فاوحى الله اليه: يا موسى يَقُولُ لَكَ عِبَادِي: يَا مُوسَى يَا مُوسَى، فَلا تَرْحَمُهُمْ، أَمَا لَوْ إِيَّايَ دَعُوا لَوَجَدُونِي قَرِيبًا مُجِيبًا، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
«فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» ، وَكَانَتْ زِينَتُهُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى دَوَابٍّ شَقِرٍ عَلَيْهَا سُرُوجُ أَرْجِوَانٍ، عَلَيْهَا ثِيَابٌ مُصْبَغَةٌ بِالْبَهْرَمَانِ،: «قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ» إِلَى قَوْلِهِ: «لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» يا مُحَمَّدُ «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ، وَزَادَنِي فِيهِ: قَالَ: فَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ شِدَّةٌ وَجُوعٌ شَدِيدٌ، فَأَتَوْا مُوسَى فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، قَالَ: فَدَعَا لَهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، أَتُكَلِّمُنِي فِي قَوْمٍ قَدْ أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مِنْ خَطَايَاهُمْ، وَقَدْ دَعَوكَ فَلَمْ تُجِبْهُمْ أَمَا لَوْ إِيَّايَ دَعَوْا لَأَجَبْتُهُمْ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ ابْنُ الْبُرَيْدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى» ، قَالَ: كَانَ ابْنَ عَمِّهِ، وَكَانَ مُوسَى يَقْضِي فِي نَاحِيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَارُونُ فِي نَاحِيَةٍ، قَالَ: فَدَعَا بَغِيَّةً كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَرْمِيَ مُوسَى بِنَفْسِهَا، فَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى أَتَاهُ قَارُونُ فَقَالَ: يَا مُوسَى، مَا حَدُّ مَنْ سَرَقَ؟ قَالَ: أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَدُّ مَنْ زنا؟ قَالَ: أَنْ يُرْجَمَ، قَالَ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قال: نعم،

(1/448)


قَالَ: فَإِنَّكَ قَدْ فَعَلَتْ، قَالَ: وَيْلَكَ! بِمَنْ؟ قَالَ: بِفُلَانَةَ، فَدَعَاهَا مُوسَى فَقَالَ:
أَنْشُدُكِ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، أَصَدَقَ قَارُونُ؟ قَالَتِ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنِي، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ بَرِيءٌ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَارُونَ جَعَلَ لِي جُعْلًا عَلَى أَنْ أَرْمِيَكَ بِنَفْسِي، قَالَ: فَوَثَبَ مُوسَى فَخَرَّ سَاجِدًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ، فَقَالَ مُوسَى: خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الْحِقْوَ، قَالَ: يَا مُوسَى، قَالَ: خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الصُّدُورَ، قَالَ: يَا مُوسَى، قَالَ: خُذِيهِمْ، قَالَ: فَذَهَبُوا، قَالَ:
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، اسْتَغَاثَ بِكَ فَلَمْ تُغِثْهُ، أَمَا لَوِ استغاث بي، لأجبته ولأغثته.
حَدَّثَنَا بشر بن هلال الصواف، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان الضبعي، قَالَ: حَدَّثَنَا علي بن زيد بن جدعان، قَالَ: خرج عبد الله بن الحارث من الدار، ودخل المقصورة فلما خرج منها جلس وتساند عليها وجلسنا اليه، فذكر سليمان بن داود و «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» الى قوله: «فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» قَالَ: ثم سكت عن حديث سليمان، فقال: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ» ، وكان قد أوتي من الكنوز ما ذكره الله في كتابه: «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» فقال: انما أوتيته على علم عندي قَالَ: وعاد موسى وكان مؤذيا له، فكان موسى يصفح عنه، ويعفو للقرابة حتى بنى دارا، وجعل باب داره من ذهب، وضرب على جدر داره صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون عليه ويروحون، فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضحكونه، فلم تدعه شقوته والبلاء حتى أرسل إلى امرأة من بني إسرائيل مشهورة بالخنا مشهورة بالسب، فجاءت قال لها: هل لك أن أمولك وأعطيك وأخلطك

(1/449)


بنسائي، على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! قالت: بلى، فلما جلس قارون، وجاءه الملأ من بني إسرائيل أرسل إليها فجاءت، فقامت بين يديه، فقلب الله قلبها، وأحدث لها توبة، فقالت في نفسها: لا أجد اليوم توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله وأعذب عدو الله، فقالت: إن قارون قَالَ لي: هل لك أن أمولك وأعطيك وأخلطك بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي، فتقولي: يا قارون ألا تنهى عني موسى! فلم أجد توبة أفضل من ألا أوذي رسول الله، وأعذب عدو الله فلما تكلمت بهذا الكلام سقط في يدي قارون، ونكس رأسه، وسكت عن الملأ، وعرف انه قد وقع في هلكة، فشاع كلامها في الناس، حتى بلغ موسى، فلما بلغ موسى اشتد غضبه فتوضأ من الماء وصلى وبكى، وقال:
يا رب عدوك لي مؤذ، أراد فضيحتي وشيني، يا رب سلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجه موسى له، فقال له: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، قال: فاضطربت داره، وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره وساخت، وخسف بقارون وأصحابه إلى ركبهم وهو يتضرع إلى موسي:
يا موسي، ارحمني! قَالَ: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره، وساخت وخسف بقارون وأصحابه إلى سررهم، وهو يتضرع إلى موسي: يا موسي، ارحمني! قال: يا أرض خذيهم، فخسف به وبداره وأصحابه، قَالَ:
وقيل لموسى: يا موسى، ما أفظك، أما وعزتي لو إياي نادى لأجبته! حَدَّثَنَا بشر بْنُ هِلالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عن أبي عمران الجوني، قَالَ: بلغني أنه قيل لموسى: لا أعبد الأرض لأحد بعدك أبدا.
حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد عن قتادة، «فَخَسَفْنا

(1/450)


بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» ، ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها الى يوم القيامه.
قال ابو جعفر: فلما نزلت نقمة الله بقارون حمد الله على ما أنعم به عليهم المؤمنون الذين وعظوه وأنذروه بأمر الله، ونصحوا له من المعرفة بحقه والعمل بطاعته، وندم الذين كانوا يتمنون ما هو فيه من كثرة المال، والسعة في العيش على أمنيتهم، وعرفوا خطأ أنفسهم في أمنيتها، فقالوا ما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه:
«وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» ، فصرف عنا ما ابتلى به قارون وأصحابه مما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا كما خسف به وبهم فنجى الله تعالى من كل هول وبلاء نبيه موسى والمؤمنين به المتمسكين بعهده من بني إسرائيل، وفتاه يوشع بن نون المتبعين له بطاعتهم ربهم، واهلك اعدائه واعدائهم: فرعون وهامان وقارون والكنعانيين بكفرهم وتمردهم عليه وعتوهم، بالغرق بعضا، وبالخسف بعضا، وبالسيف بعضا، وجعلهم عبرا لمن اعتبر بهم، وعظة لمن اتعظ بهم، مع كثرة أموالهم وكثرة عدد جنودهم، وشدة بطشهم، وعظم خلقهم وأجسامهم، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أجسامهم ولا قواهم ولا جنودهم وأنصارهم عنهم من الله شيئا، إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويسعون في الأرض فسادا، ويتخذون عباد الله لأنفسهم خولا، وحاق بهم ما كانوا منه آمنين، نعوذ بالله من عمل يقرب من سخطه، ونرغب إليه في التوفيق لما يدني من محبته، ويزلف الى رحمته! وروى عن النبي ص مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَاضِي بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ ابى ذر، قال: [قال رسول الله ص: أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ موسى وَآخِرُهُمْ عِيسَى

(1/451)


قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ فِي صُحُفِ موسى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ!] وَكَانَ تَدْبِيرُ يُوشَعَ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ لَدُنْ مَاتَ مُوسَى، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يُوشَعُ، كُلُّهُ فِي زَمَانِ منُوشهرَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي زَمَانِ فراسياب سَبْعَ سِنِينَ.
ونرجع الآن إلى:

(1/452)


ذكر القائم بالملك ببابل من الفرس بعد منوشهر إذ كان التاريخ إنما تدرك صحته على سياق مدة أعمار ملوكهم.
ولما هلك منوشهر الملك بن منشخورنر، قهر فراسياب بن فشنج ابن رستم بن ترك على خنيارث ومملكة أهل فارس، وصار- فيما قيل- إلى أرض بابل، فكان يكثر المقام ببابل وبمهرجان قذق، فأكثر الفساد في مملكة أهل فارس.
وقيل: إنه قَالَ حين غلب على مملكتهم: نحن مسرعون في إهلاك البرية، وإنه عظم جوره وظلمه، وخرب ما كان عامرا من بلاد خنيارث، ودفن الأنهار والقني، وقحط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن خرج عن مملكة أهل فارس، ورد إلى بلاد الترك، فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة.
ولم يزل الناس منه في أعظم البلية، إلى أن ظهر زو بن طهماسب وقد يلفظ باسم زو بغير ذلك فيقول بعضهم: زاب بن طهماسفان، ويقول بعضهم: زاغ، ويقول بعضهم: راسب بن طهماسب بن كانجو بن زاب بن أرفس بن هراسف بن ونديج بن اريج بن نوذوجوش ابن منسوا- بن نوذر بن منوشهر.
وأم زو ما دول ابنة وامن بن واذرجا بن قود بن سلم بن أفريدون.
وقيل: إن منوشهر كان وجد في أيام ملكه على طهماسب بسبب جناية جناها، وهو مقيم في حدود الترك لحرب فراسياب، فأراد منوشهر قتله بسبب ذلك، فكلمه في الصفح عنه عظماء أهل مملكته وكان من عدل

(1/453)


منوشهر- فيما ذكر- أنه قد كان يسوي بين الشريف والوضيع، والقريب والبعيد في العقوبة، إذا استوجبها بعض رعيته على ذنب أتاه- فأبى إجابتهم إلى ما سألوه من ذلك، وقال لهم: هذا في الدين وهن، ولكنكم إذ أبيتم علي، فإنه لا يسكن في شيء من مملكتي، ولا يقيم به، فنفاه عن مملكته فشخص إلى بلاد الترك، فوقع إلى ناحية وامن، فاحتال لابنته وهي محبوسة في قصر من أجل أن المنجمين كانوا ذكروا لوامن أبيها أنها تلد ولدا يقتله، حتى أخرجها من القصر الذي كانت محبوسة فيه، بعد أن حملت منه بزو.
ثم ان منوشهر اذن طهماسب بعد أن انقضت أيام عقوبته في العود الى خينارث مملكة فارس، فأخرج مادول ابنة وامن بالحيلة منها ومنه في إخراجها من قصرها من بلاد الترك إلى مملكة أهل فارس، فولدت له زوا بعد العود إلى بلاد إيرانكرد، ثم إن زوا- فيما ذكر- قتل جده، وامن في بعض مغازيه الترك، وطرد فراسياب عن مملكة أهل فارس، حتى رده إلى الترك بعد حروب جرت بينه وبينه وقتال، فكانت غلبه فراسياب اهل فارس على إقليم بابل اثنتى عشره سنة، من لدن توفي منوشهر إلى أن طرده عنه، وأخرجه زو بن طهماسب إلى تركستان.
وذكر أن طرد زو فراسياب عما كان عليه من مملكة أهل فارس في روز ابان من شهر آبانماه، فاتخذ العجم هذا اليوم عيدا لما رفع عنهم فيه من شر فراسياب وعسفه وجعلوه الثالث من أعيادهم النوروز والمهرجان.
وكان زو محمودا في ملكه، محسنا إلى رعيته، فأمر بإصلاح ما كان فراسياب أفسد من بلاد خنيارث، ومملكة بابل وبناء ما كان هدم من حصون ذلك، ونثل ما كان طم وغور من الأنهار والقنى، وكرى ما كان اندفن من المياه حتى أعاد كل ذلك- فيما ذكر- الى احسن ما كان عليه، ووضع

(1/454)


عن الناس الخراج سبع سنين، ودفعه عنهم، فعمرت بلاد فارس في ملكه، وكثرت المياه فيها، ودرت معايش أهلها، واستخرج بالسواد نهرا وسماه الزاب، وأمر فبنيت على حافتيه مدينة وهي التي تسمى المدينة العتيقة، وكورها كورة، وسماها الزوابي، وجعل لها ثلاثة طساسيج: منها طسوج الزاب الأعلى، ومنها طسوج الزاب الأوسط، ومنها طسوج الزاب الأسفل، وأمر بحمل بزور الرياحين من الجبال إليها وأصول الأشجار، وبذر ما يبذر من ذلك، وغرس ما يغرس منه، وكان أول من اتخذ له ألوان الطبيخ وأمر بها وبأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم من الخيل والركاب، مما أوجف عليه من أموال الترك وغيرهم وقال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن متقدمون في عماره ما اخر به الساحر فراسياب.
وكان له كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان بن طورك بن شيراسب بن أروشسب بن طوج بن أفريدون الملك.
وقد نسبه بعض نسابي الفرس غير هذا النسب فيقول: هو كرشاسف بن أشناس بن طهموس بن اشك بن ترس بن رحر بن دودسرو بن منوشهر الملك- مؤازرا له على ملكه.
ويقول بعضهم: كان زو وكرشاسب مشتركين في الملك، والمعروف من أمرهما أن الملك كان لزو بن طهماسب وأن كرشاسب كان له مؤازرا وله معينا

(1/455)


وكان كرشاسب عظيم الشأن في أهل فارس، غير أنه لم يملك، فكان جميع ملك زو إلى أن انقضى ومات- فيما قيل- ثلاث سنين.
ثم ملك بعد زو كيقباذ، وهو كيقباذ بن زاغ بن نوحياه بن منشو بن نوذر بن منوشهر وكان متزوجا بفرتك ابنه تدرسا التركى، وكان تدرسا من رءوس الأتراك وعظمائهم، فولدت له كي إفنه، وكي كاوس، وكي أرش، وكيبه أرش، وكيفاشين وكيبية، وهؤلاء هم الملوك الجبابرة وآباء الملوك الجبابرة.
وقيل إن كيقباذ قَالَ يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن مدوخون بلاد الترك ومجتهدون في إصلاح بلادنا، حدبون عليها، وأنه قدر مياه الأنهار والعيون لشرب الأرضين، وسمى البلاد بأسمائها، وحدها بحدودها، وكور الكور، وبين حير كل كورة منها وحريمها، وأمر الناس باتخاذ الأرض، وأخذ العشر من غلاتها لأرزاق الجند، وكان- فيما ذكر- كيقباذ يشبه في حرصه على العمارة، ومنعه البلاد من العدو، وتكبره في نفسه بفرعون.
وقيل ان الملوك الكييه وأولادهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك وغيرهم حروب كثيرة، وكان مقيما في حد ما بين مملكة الفرس والترك بالقرب من نهر بلخ، لمنع الترك من تطرق شيء من حدود فارس، وكان ملكه مائة سنة، والله أعلم.
ونرجع الآن إلى:

(1/456)


ذكر أمر بني إسرائيل والقوام الذين كانوا بأمرهم بعد يوشع ابن نون والأحداث التي كانت في عهد زو وكيقباذ
ولا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور الأمم السالفين من أمتنا وغيرهم أن القيم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان كالب بن يوفنا، ثم حزقيل بن بوذى من بعده، وهو الذي يقال له ابن العجوز.
فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: إنما سمي حزقيل بن بوزي ابن العجوز، أنها سألت الله الولد، وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فبذلك قيل له: ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب عليه السلام كما بلغنا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» .
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قدمتنا فاسترحنا مما نحن فيه! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت! أيظنون أني لا أقدر على أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى جبانة كذا كذا فإن فيها أربعة آلاف- قَالَ وهب: وهم الذين قَالَ الله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» - فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع، فناداها حزقيل، فقال: يا أيتها العظام النخرة، إن الله عز وجل

(1/457)


يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا، ثم نادى ثانية حزقيل فقال: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا، ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: أيتها الارواح، ان الله يأمرك ان تعودي في أجسادك فقاموا بإذن الله، وكبروا تكبيرة واحدة.
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ» كَانَتْ قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا دَاوِرْدَانَ قَبْلَ وَاسِطَ، فَوَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنْهَا، فَهَلَكَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الآخَرُونَ، فَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ الَّذِينَ بَقَوْا: أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا! وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ فَوَقَعَ فِي قَابِلَ فَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلاثُونَ أَلْفًا، حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ، فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا، فَمَاتُوا حَتَّى هَلَكُوا، وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ نبى يقال له هزقيل، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ، يَلْوِي شِدْقَهُ وَأَصَابِعَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا هزقيل، أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَفَكُّرُهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: نَادِ، فنادى يا أيتها الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ أَنْ ناد: يأتيها الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهُ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا فَاكْتَسَتْ لَحْمًا وَدَمًا وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا، وَهِيَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: نَادِ،

(1/458)


فنادى: يا أيتها الْأَجْسَادُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي، فَقَامُوا حَدَّثَنِي موسى، قَالَ: حَدَّثَنَا عمرو، قَالَ: حَدَّثَنَا أسباط، قَالَ: فزعم منصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قَالُوا حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا حكام، عن عنبسة، عن أشعث، عن سالم النصري، قَالَ: بينما عمر بن الخطاب يصلي ويهوديان خلفه، وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قَالَ:
فلما انفتل عمر قَالَ: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا: إنا نجد في كتابنا قرنا من حديد يعطى ما أعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن الله، فقال عمر: ما نجد في كتابنا حزقيل، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى ابن مريم، فقالا: أما تجد في كتاب الله «وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» ، فقال عمر: بلى، قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك إن بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم، فقال: ما شاء الله! فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» ، الآيَةَ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق،

(1/459)


عن وهب بن منبه: أن كالب بن يوفنا لما قبضه الله بعد يوشع، خلف فيهم- يعني في بني إسرائيل- حزقيل بن بوذى، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمُحَمَّد ص كما بلغنا:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ» الآية.
قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ: قَالَ سَلَمَةُ قَالَ ابْنُ إسحاق: فبلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قَالَ الله لهم: موتوا، فماتوا جميعا، فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا، فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوذى، فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم، ودخلته رحمة لهم، فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم، فقيل له: فقل: أيتها العظام الرميم، التي قد رمت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تتواثب يأخذ بعضها بعضا، ثم قيل له: قل أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك، قَالَ فنظر إليها والعصب يأخذ العظام، ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح، ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كربه، حتى غشي عليه منه، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: سبحان الله فقد أحياهم الله! فلم يذكر لنا مدة مكث حزقيل في بنى إسرائيل

(1/460)


الياس واليسع عليهما السلام
ولما قبض الله حزقيل كثرت الأحداث- فيما ذكر- في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله الذي عهد إليهم في التوراة، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم فيما قيل: إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.
فحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق:
ثم إن الله عز وجل قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا، وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان اسم امرأته أزبل، وكان يسمع منه ويصدقه، وكان إلياس يقيم له أمره، وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله، يقال له: بعل قَالَ ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله يقول الله لمحمد «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ» - الى قوله:
«اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» - فجعل الياس يدعوهم الى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا إلا ما كان من ذلك الملك، والملوك متفرقة بالشام، كل ملك له ناحية منها يأكلها، فقال ذلك الملك، الذي كان إلياس معه، يقوم له بأمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما يا إلياس، والله

(1/461)


ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا فعد ملوكا من ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان من دون الله إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون، مملكين، ما ينقص دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل.
فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، والعبادة لغيرك، فغير ما بهم من نعمتك أو كما قال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن إسحاق، قَالَ: ذكر لي أنه أوحي إليه: إنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك، حتى تكون أنت الذي تأمر في ذلك فقال إلياس: اللهم فأمسك عنهم المطر فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر، وجهد الناس جهدا شديدا.
وكان إلياس- فيما يذكرون- حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقا على نفسه منهم، وكان حيث ما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قَالُوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه، ولقي أهل ذلك المنزل منهم شرا ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل، لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب، به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا إلياس لابنها فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع فآمن به وصدقه ولزمه، فكان يذهب معه حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسن وكبر، وكان اليسع غلاما شابا فيزعمون- والله أعلم- أن الله أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص، سوى بني إسرائيل ممن لم أكن أريد هلاكه بخطايا

(1/462)


بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر، بحبس المطر عن بني إسرائيل فيزعمون- والله أعلم- أن إلياس قَالَ: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك قيل له نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهدا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور- أو كما قَالَ لهم- فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك وتعلموا أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، وأن الذي أدعوكم إليه الحق، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تعبدون وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قَالُوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم التي لا يرضى، فدعوها فلم تستجب لهم، ولم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، حتى عرفوا ما هم فيه من الضلالة والباطل، - ثم قَالُوا لإلياس: يا إلياس، إنا قد هلكنا، فادع الله لنا، فدعا لهم إلياس بالفرج مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر، وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدجنت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييت بلادهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا ولم يرجعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم دعا ربه أن يقبضه إليه فيريحه منهم، فقيل له- فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى بلد كذا وكذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس، وخرج معه اليسع بن أخطوب حتى إذا كان بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرس من نار، حتى وقف بين يديه فوثب عليه، فانطلق به فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس، ما تأمرني؟
فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة

(1/463)


المطعم، والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسيا ملكيا أرضيا سمائيا.
ثم قام بعد إلياس بأمر بني إسرائيل- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال:
حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، قال: كما ذكر لي عن وهب بن منبه قَالَ:
ثم نبئ فيهم- يعني في بني إسرائيل- بعده يعني بعد إلياس- اليسع، فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم إلا هزم الله ذلك العدو.
والسكينة فيما ذكر ابن إسحاق عن وهب بن منبه عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل رأس هرة ميتة، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر، وجاءهم الفتح.
ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاف، وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره، فكان أحدهم- فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل منه سنه وهو وعياله، ويكون لأحدهم الزيتونة فيعتصر منها ما يأكل، هو وعياله سنة، فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به فقوتلوا حتى استلب من أيديهم، فأتى ملكهم إيلاف، فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه فمات كمدا عليه، فمرج أمرهم بينهم واختلف ووطئهم عدوهم حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم، فمكثوا على اضطراب من أمرهم، واختلاف من أحوالهم يتمادون أحيانا في غيهم وضلالهم، فسلط الله عليهم من ينتقم به منهم، ويراجعون التوبة أحيانا فيكفيهم الله عند

(1/464)


ذلك شر من بغاهم سوءا، حتى بعث الله فيهم طالوت ملكا، ورد عليهم تابوت الميثاق.
وكانت مدة ما بين وفاة يوشع بن نون- التي كان أمر بني إسرائيل في بعضها إلى القضاة منهم والساسة، وفي بعضها إلى غيرهم ممن يقهرهم فيتملك عليهم من غيرهم إلى أن ثبت الملك فيهم، ورجعت النبوه اليهم بشمويل بن بالي- أربعمائة سنة وستين سنة فكان أول من سلط عليهم فيما قيل رجل من نسل لوط، يقال له: كوشان، فقهرهم وأذلهم ثماني سنين، ثم تنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل بن قيس- فقام بأمرهم فيما قيل- اربعين سنه، سلط عليهم ملك يقال له جعلون فملكهم ثماني عشرة سنة، ثم تنقذهم منه- فيما قيل- رجل من سبط بنيامين يقال له أهود بن جيرا الأشل اليمنى، فقام بأمرهم ثمانين سنة، ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيين يقال له يافين، فملكهم عشرين سنة، ثم تنقذهم- فيما قيل- امرأة نبية من أنبيائهم يقال لها دبورا فدبر أمرهم- فيما قيل- رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة، ثم سلط عليهم قوم من نسل لوط كانت منازلهم في تخوم الحجاز فملكوهم سبع سنين، ثم تنقذهم منهم رجل من ولد نفثالي بن يعقوب يقال له جدعون بن يواش، فدبر أمرهم أربعين سنة، ثم دبر أمرهم من بعد جدعون ابنه أبيملك بن جدعون ثلاث سنين، ثم دبرهم من بعد ابيملك تولغ بن فوا بن خال أبيملك وقيل إنه ابن عمه- ثلاثا وعشرين سنة، ثم دبر

(1/465)


أمرهم بعد تولغ رجل من بني إسرائيل يقال له: يائير اثنتين وعشرين سنة، ثم ملكهم بنو عمون، وهم قوم من أهل فلسطين ثماني عشرة سنة، ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبرهم من بعده يجشون، وهو رجل من بني إسرائيل سبع سنين، ثم دبرهم بعده الون عشر سنين، ثم من بعده كيرون- ويسميه بعضهم عكرون- ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملوكهم أربعين سنة، ثم وليهم شمسون وهو من بني إسرائيل عشرين سنة، ثم بقوا بغير رئيس ولا مدبر لأمرهم بعد شمسون- فيما قيل- عشر سنين، ثم دبر أمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل غزة وعسقلان على تابوت الميثاق، فلما مضى من وقت قيامه بامرهم اربعين سنه، بعث سمويل نبيا فدبر شمويل أمرهم- فيما ذكر- عشر سنين ثم سألوا شمويل حين نالهم بالذل والهوان بمعصيتهم ربهم أعداؤهم، أن يبعث لهم ملكا يجاهدون معه في سبيل الله، فقال لهم شمويل ما قد قص الله في كتابه العزيز

(1/466)


ذكر خبر شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو ابن تهو بن صوف، وطالوت وجالوت
كان من خبر شمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وأذلتهم الملوك من غيرهم، ووطئت بلادهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا ذراريهم، وغلبوهم على التابوت الذي فيه السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وبه كانوا ينصرون إذا لقوا العدو، ورغبوا إلى الله عز وجل في أن يبعث لهم نبيا يقيم أمرهم.
فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في خبر ذكره عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَعَنْ ناس من اصحاب رسول الله ص: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُقَاتِلُونَ الْعَمَالِقَةَ، وَكَانَ مَلِكَ الْعَمَالِقَةِ جَالُوتُ، وَأَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، فَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى فَأَخَذُوهَا فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ، رَهْبَةً أَنْ تَلِدَ جَارِيَةً فتبدله بِغُلَامٍ، لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي وَلَدِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته سمعون، تَقُولُ: اللَّهُ سَمِعَ دُعَائِيَ فَكَبُرَ الْغُلَامُ، فَأَسْلَمَتْهُ يَتَعَلَّمُ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَّلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْغُلَامُ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَالْغُلَامُ نَائِمٌ الى جنب الشيخ، وكان لا يامن عَلَيْهِ أَحَدًا غَيْرَهُ فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ: يَا شَمُوِيلُ، فَقَامَ الْغُلَامُ فَزِعًا إِلَى الشَّيْخِ، فَقَالَ: يا أبتاه،

(1/467)


دَعَوْتَنِي! فَكَرِهَ الشَّيْخُ أَنْ يَقُولَ: لَا فَيُفْزَعَ الْغُلامُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، ارْجِعْ فَنَمْ، فَرَجَعَ الْغُلَامُ فَنَامَ ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَلَبَّاهُ الْغُلَامُ أَيْضًا، فَقَالَ: دَعَوْتَنِي! فَقَالَ ارْجِعْ فَنَمْ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلا تُجِبْنِي، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةَ ظهر له جبرئيل ع فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، فان الله قد بعثك فِيهِمْ نَبِيًّا فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُوا: اسْتَعْجَلْتَ بالنبوة ولم يألك وَقَالُوا: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، قال لهم سمعون: عَسَى إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا.
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَدَعَا اللَّهَ فَأُتِيَ بِعَصًا، تَكُونُ مِقْدَارًا عَلَى طُولِ الرَّجُلِ الَّذِي يُبْعَثُ فِيهِمْ مَلِكًا، فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَكُونُ طُولُهُ طُولَ هَذِهِ الْعَصَا، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَا، فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ طَالُوتُ رَجُلًا سَقَّاءً يَسْتَقِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ، فَضَلَّ حِمَارَهُ، فَانْطَلَقَ يَطْلُبُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ دَعَوْهُ فَقَاسُوهُ بِهَا فَكَانَ مِثْلَهَا، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً» قَالَ الْقَوْمُ: مَا كُنْتَ قَطُّ أَكْذَبَ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سِبْطِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَمْ يُؤْتَ أَيْضًا سَعَةً مِنَ الْمَالِ فَنَتَّبِعَهُ لِذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» ، فَقَالُوا: فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِنَا بِآيَةِ أَنَّ هَذَا مَلِكٌ، قَالَ: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ» .
وَالسَّكِينَةُ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ يُغْسَلُ فِيهَا قُلُوبُ الأنبياء، أعطاها الله مُوسَى، وَفِيهَا وَضَعَ الْأَلْوَاحَ، وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ- فِيمَا بَلَغَنَا- مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتَ وَزَبَرْجَدٍ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَإِنَّهَا عَصَا مُوسَى وَرُضَاضَةُ الْأَلْوَاحِ، فَأَصْبَحَ التَّابُوتُ وَمَا فِيهِ فِي دَارِ

(1/468)


طالوت، فآمنوا بنبوة سمعون، وَسَلَّمُوا الْمُلْكَ لِطَالُوتَ.
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ.
حَدَّثَنِي يونس، قَالَ: أخبرنا ابن وهب، قَالَ: قَالَ ابن زيد: نزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، قَالَ:
فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين.
رجع الحديث إلى حديث السدي فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا، وكان جالوت من اعظم الناس واشدهم بأسا، يخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي، فلما خرجوا قَالَ لهم طالوت:
«إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» وهو نهر فلسطين، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر معه منهم أربعة آلاف ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضا وقالوا: «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ» ، الذين يستيقنون «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمائه وبضعه وثمانون، وخلص في ثلاثمائة وتسعة عشر عدة أهل بدر حَدَّثَنِي المثنى، قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان لعيلى الذي ربى شمويل ابنان شابان، أحدثا في القربان

(1/469)


شيئا لم يكن فيه كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين، فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، فجعله ابناه كلاليب، وكانا إذا جاءت النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن فبينما أشمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلى إذ سمع صوتا يقول: أشمويل! فوثب إلى عيلى فقال: لبيك، فقال: مالك دعوتني؟ قَالَ: لا! ارجع، فنم فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول:
أشمويل! فوثب إلى عيلى أيضا، فقال: لبيك، ما لك دعوتني؟ فقال:
لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل: لبيك مكانك، مرني فافعل، فرجع فنام فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل، فقال: لبيك، أنا هذا فمرني أفعل، قَالَ: انطلق إلى عيلى، فقل له: منعه حب الولد من أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما، فلما أصبح سأله عيلى فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا، فسار إليهم عدو ممن حوله فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدو، فخرجا وأخرجا معهم التابوت الذي فيه الألواح وعصا موسى لينتصروا به فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: أن ابنيك قد قتلا، وأن الناس قد انهزموا، قَالَ: فما فعل التابوت؟ قَالَ: ذهب به العدو قال فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات، وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم والصنم من فوقه، فأصبح من الغد الصنم تحته، وهو فوق الصنم، ثم أخذوه فوضعوه فوقه، وسمروا قدميه في التابوت.
فأصبح من الغد قد قطعت يد الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت،.
فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء! فأخرجوه من بيت آلهتكم فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا:
ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سني بني إسرائيل: لا تزالون

(1/470)


ترون ما تكرهون! ما كان هذا التابوت فيكم، فأخرجوه من قريتكم قَالُوا:
كذبت، قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين، لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهما العجل، ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما، ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم، ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل، كسرتا نيرهما وأقبلتا إلى أولادهما، ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، ففزع إليه بنو إسرائيل، وأقبلوا إليه فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات، فقال لهم نبيهم اشمويل اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه، فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد على أن يدنو منه، إلا رجلان من بني إسرائيل، أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة، فكان في بيت أمهما، حتى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل فقالت بنو إسرائيل: لأشمويل: ابعث لنا ملكا يقاتل في سبيل الله، قَالَ: قد كفاكم الله القتال، قَالُوا إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه، فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا وادهنه بدهن القدس، فضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبانها فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، فقال إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل، قَالَ: انا! قال: نعم، قال اوما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل! قَالَ: بلى، قَالَ أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي! قَالَ: بلى، قَالَ: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فبأية آية؟
قَالَ: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت في مكان كذا وكذا نزل عليك الوحي فدهنه بدهن القدس، وقال لبني إسرائيل: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُ

(1/471)


بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ» رجع الحديث إلى حديث السدي «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» فعبر يومئذ أبو داود فيمن عبر في ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه وإنه أتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته، قَالَ: أبشر يا بني، إن الله قد جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم يهجني، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير يعطيكه الله، ثم أتاه يوما آخر، فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي، فقال: أبشر يا بني، فإن هذا خير أعطاكه الله- وكان داود راعيا، وكان أبوه خلفه يأتي إلى أبيه وإلى اخوته بالطعام- فاتى النبي ع بقرن فيه دهن وتنور من حديد، فبعث به الى طالوت، قال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي حتى يدهن منه ولا يسيل على وجهه، ويكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملأه فدعا طالوت بني إسرائيل، فجربهم به فلم يوافقه منهم أحد، فلما فرغوا قَالَ طالوت لأبي داود: هل بقي لك ولد لم يشهدنا؟ قَالَ: نعم، بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام، فلما أتاه داود مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، قَالَ: فأخذهن وجعلهن في مخلاته، وكان طالوت قد قَالَ: من قتل جالوت زوجته ابنتي، وأجريت خاتمه في ملكي، فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه، وكان رجلا مسقاما مصفارا، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه، فلما لبسه داود تضايق التنور عليه حتى تنقض، ثم مشى إلى جالوت، وكان جالوت من أجسم الناس واشدهم،

(1/472)


فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى، ارجع فإني أرحمك أن أقتلك، فقال داود: لا بل أنا أقتلك فأخرج الحجارة فوضعها في القذافة، كلما رفع منها حجرا سماه، فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل، ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت فنقبت رأسه، ثم قتلته، فلم تزل تقتل كل إنسان تصيبه تنفذ فيه، حتى لم يكن بحيالها أحد، فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه.
فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وجسده، وأراد قتله، فعلم داود أنه يريده بذلك، فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطره من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود، ما كان أكثر شربه للخمر! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نزل فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود، هو خير، مني، ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية، وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود- وكان داود إذا فزع لم يدرك- فركض على أثره طالوت، ففزع داود، فاشتد فدخل غارا، فأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا، فلما انتهى طالوت إلى الغار نظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت، فخيل إليه فتركه.
وطعن العلماء على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن داود إلا قتله، وأغراه الله بالعلماء يقتلهم، فلم يكن يقدر في بني إسرائيل على عالم يطيق قتله إلا قتله، حتى أتي بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فامر الخباز ان يقتلها،

(1/473)


فرحمها الخباز، وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي، وينادي: أنشد الله عبدا علم أن لي توبة إلا أخبرني بها! فلما أكثر عليهم ليالي ناداه مناد من القبور: أن يا طالوت، أما ترضى أن قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتا! فازداد بكاء وحزنا، فرحمه الخباز فكلمه فقال: مالك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله: هل لي من توبة؟
فقال له الخباز: هل تدري ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك، فتطير منه فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قَالَ: إذا صاح الديك فأيقظونا حتى ندلج، فقالوا له: وهل تركت ديكا يسمع صوته! ولكن هل تركت عالما في الأرض! فازداد حزنا وبكاء، فلما راى الخباز منه الجد، قَالَ: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله! قَالَ: لا، فتوثق عليه الخباز، فاخبره ان المرأة العالمه عنده، قال:
انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنما يعلم ذلك الاسم أهل بيت، إذا فنيت رجالهم علمت النساء، فقال: إنها إن رأتك غشي عليها، وفزعت منك، فلما بلغ الباب خلفه خلفه، ثم دخل عليها الخباز، فقال لها: ألست أعظم الناس منة عليك؟ أنجيتك من القتل، وآويتك عندي قالت: بلى، قَالَ: فإن لي إليك حاجة، هذا طالوت يسألك: هل له من توبة؟ فغشي عليها من الفرق، فقال لها: إنه لا يريد قتلك، ولكن يسألك: هل له من توبة؟
قالت: لا، والله ما أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟
قَالُوا: نعم، هذا قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهما معها إليه، فدعت، فخرج يوشع بن نون ينفض رأسه من التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم قَالَ: ما لكم؟
أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك: هل له من توبة؟ قَالَ يوشع: ما أعلم لطالوت من توبة إلا أن يتخلى من ملكه، ويخرج هو وولده فيقاتلون بين يديه في سبيل الله، حتى إذا قتلوا شد هو فقتل، فعسى أن يكون

(1/474)


ذلك له توبة، ثم سقط ميتا في القبر.
ورجع طالوت أحزن ما كان، رهبة ألا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه، فدخل عليه بنوه وهم ثلاثة عشر رجلا فكلموه وسألوه عن حاله، فأخبرهم خبره، وما قيل له في توبته، فسألهم أن يغزوا معه، فجهزهم فخرجوا معه، فشدوا بين يديه حتى قتلوا، ثم شد بعدهم هو فقتل، وملك داود بعد ذلك، وجعله الله نبيا، فذلك قوله عز وجل:
«وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» ، قيل: هي النبوة، آتاه نبوة شمعون وملك طالوت.
واسم طالوت بالسريانية شاول بن قيس بن أبيال بن ضرار بن بحرت بن أفيح بن أيش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقال ابن إسحاق: كان النبي الذي بعث لطالوت من قبره حتى أخبره بتوبته اليسع بن أخطوب، حَدَّثَنَا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ.
وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت من أولها إلى أن قتل في الحرب مع ولده كانت أربعين سنة

(1/475)


ذكر خبر داود بن إيشى بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمي نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم
وكان داود ع- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه- قصيرا أزرق قليل الشعر، طاهر القلب نقيه.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وهب، قال: حَدَّثَنِي ابن زيد في قول الله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» إلى قوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» قَالَ: أوحى الله إلى نبيهم أن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن يضعه على رأسه فيفيض ماء، فأتاه فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي أن في ولدك رجلا يقتل الله به جالوت فقال: نعم يا نبي الله، قَالَ: فأخرج له اثني عشر رجلا امثال السواري، وفيهم رجل بارع عليهم، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيردده عليه، فأوحى الله إليه:
إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، قَالَ: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربي قد كذبك، وقال: إن لك ولدا غيرهم قَالَ: قد صدق يا نبي الله، إن لي ولدا قصيرا استحييت أن يراه الناس فجعلته في الغنم، قَالَ: فأين هو؟ قَالَ: في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا، فخرج إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها قَالَ: ووجده يحمل شاتين شاتين، يجيز بهما السيل ولا يخوض بهما السيل فلما رآه قَالَ: هذا هو، لا شك فيه، هذا

(1/476)


يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قَالَ: فوضع القرن على رأسه ففاض.
حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق، قَالَ، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قَالَ:
لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى الله إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت: فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا إلا قتله، فإني سأظهره عليهم، فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل من كان فيها، إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم، فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، فجاء بملكهم أسيرا، وساق مواشيهم! فالقه فقل له: لأنزعن الملك من بيته، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم من أطاعني، وأهين من هان عليه أمري.
فلقيه فقال له: ما صنعت! لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقت مواشيهم؟
قَالَ: إنما سقت المواشي لأقربها، قَالَ له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك الملك ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فأوحى الله إلى أشمويل: انطلق إلى إيشى فيعرض عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا على بني إسرائيل فانطلق حتى أتى إيشى، فقال: اعرض علي بنيك، فدعا إيشى أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه، فقال: الحمد لله، إن الله بصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك تبصران ما ظهر، وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، اعرض علي غيره فعرض عليه ستة، في كل ذلك يقول:
ليس بهذا، اعرض علي غيره، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال:
بلى، لي غلام أمغر وهو راع في الغنم قَالَ: أرسل إليه، فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر، فدهنه بدهن القدس، وقال لأبيه: اكتم هذا،

(1/477)


فإن طالوت لو يطلع عليه قتله فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلى طالوت:
لم يقتل قومي وقومك؟ ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك فأرسل طالوت في عسكره صائحا:
من يبرز جالوت! ثم ذكر قصة طالوت وجالوت وقتل داود إياه، وما كان من طالوت إلى داود.
قَالَ أبو جعفر: وفي هذا الخبر بيان أن داود قد كان الله حول الملك له قبل قتله جالوت، وقبل أن يكون من طالوت إليه ما كان من محاولته قتله، وأما سائر من روينا عنه قولا في ذلك، فإنهم قَالُوا: إنما ملك داود بعد ما قتل طالوت وولده.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال، حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ- فيما ذكر لي بعض أهل العلم- عن وهب بن منبه قَالَ: لما قتل داود جالوت، وانهزم جنده قَالَ الناس: قتل داود جالوت وخلع طالوت، وأقبل الناس على داود مكانه حتى لم يسمع لطالوت بذكر.
قَالَ: ولما اجتمعت بنو إسرائيل على داود أنزل الله عليه الزبور، وعلمه صنعة الحديد، وألانه له، وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح، ولم يعط الله- فيما يذكرون- أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور- فيما يذكرون- ترنو له الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وإنها لمصيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، كثير البكاء، وكان كما وصفه الله عز وجل لنبيه محمد ع فقال: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ

(1/478)


ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ» ، يعني بذلك ذا القوة.
وقد حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ، قَالَ: أعطي قوة في العبادة، وفقها في الاسلام وقد ذكر لنا ان داود ع كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر وكان يحرسه- فيما ذكر- في كل يوم وليلة أربعة آلاف.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قوله: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» ، قَالَ: كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف.
وذكر أنه تمنى يوما من الأيام على ربه منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه بنحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن المفضل، قَالَ:
حَدَّثَنَا أسباط، قَالَ: قَالَ السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام:
يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلو فيه لعبادة ربه، ويوما يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قَالَ: يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم قَالَ: فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلايا لم تبتل بها، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على ابنه يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء قَالَ: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما اعطيتهم قال:

(1/479)


فأوحى إليه إنك مبتلى فاحترس قَالَ: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي، قَالَ: فمد يده ليأخذه فتنحى فتبعه، فتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر: أين يقع فيبعث في أثره، قَالَ: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به، قَالَ: فزاده ذلك فيها رغبة، قَالَ: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجا، وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا، قَالَ: فبعث إلى صاحب المسلحة يأمره أن يبعث أهريا إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه ففتح له، قَالَ: وكتب إليه بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم بأسا.
قَالَ: فبعثه ففتح له أيضا، قَالَ: فكتب إلى داود بذلك، قَالَ: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا قَالَ: فبعثه، قَالَ: فقتل المرة الثالثة، قَالَ: وتزوج داود امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيرا حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا عليه المحراب، قَالَ:
فما شعر وهو يصلي إذا هو بهما بين يديه جالسين، قَالَ: ففزع منهما، فقالا: لا تخف، إنما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ» يقول: لا تحف، «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» إلى عدل القضاء قَالَ: قصا علي قصتكما، قَالَ: فقال أحدهما:
«إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» .
فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمل بها نعاجه مائة، قَالَ: فقال للآخر:

(1/480)


ما تقول؟ فقال: إن لي تسعا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمل بها نعاجي مائة، قَالَ: وهو كاره! قَالَ:
وهو كاره، قَالَ: إذا لا ندعك وذاك، قَالَ: ما أنت على ذلك بقادر! قَالَ: فإن ذهبت تروم ذلك أو تريد ذلك، ضربنا منك هذا وهذا- وفسر أسباط طرف الأنف والجبهة- فقال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة، ولم يكن لاهريا إلا امرأة واحدة فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتل، وتزوجت امرأته قَالَ: فنظر فلم ير شيئا، قَالَ: فعرف ما قد وقع فيه، وما ابتلي به، قَالَ: فخر ساجدا فبكى، قَالَ: فمكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يقع ساجدا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه، قَالَ: فأوحى الله عز وجل إليه بعد اربعين يوما: يا داود، ارفع راسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب، كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاء اهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما في قبل عرشك: يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني! قَالَ: فأوحى الله اليه: إذا كان ذلك دعوت اهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي فأثيبه بذلك الجنة قَالَ: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قَالَ: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن سهل، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن مسلم، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، قَالَ: حَدَّثَنِي عطاء الخراساني، قَالَ: نقش داود خطيئته في كفه لكيلا ينساها، فكان إذا رآها خفقت يده واضطربت.
وقد قيل: إن سبب المحنة بما امتحن به، أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم من الأيام بغير مقارفة سوء، فكان اليوم الذي عرض له فيه ما عرض، اليوم الذي ظن أنه يقطعه بغير اقتراف سوء

(1/481)


ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا بشر، قَالَ: حَدَّثَنَا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد، عن مطر، عن الحسن، أن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما لعبادته، ويوما لقضاء بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل، يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه فلما كان يوم بني إسرائيل، ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصبب فيه ذنبا! فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة، فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، قَالَ: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤيسه من نفسها، قَالَ: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها وحسنها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضا إعجابا بها، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا مكان إذا سار إليه لم يرجع قَالَ: ففعل فأصيب، فخطبها فتزوجها- قَالَ: وقال قتادة بلغنا أنها أم سليمان- قَالَ: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه، وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فَقَالُوا: «لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» حتى بلغ «وَلا تُشْطِطْ» أي ولا تمل «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» أي أعدله وخيره، «إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» - وكان لداود تسع وتسعون امرأة- «وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» قَالَ: وإنما كان للرجل امرأة واحدة «فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» ، أي ظلمني وقهرني «قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» - الى «وَظَنَّ داوُدُ» ، فعلم أنما أضمر له، أي عني بذلك، «ف خَرَّ راكِعاً وَأَنابَ»

(1/482)


حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إدريس، قَالَ: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد، قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة، خر لله ساجدا أربعين يوما، حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه، ثم نادى: يا رب قرح الجبين، وجمدت العين! وداود لم يرجع إليه في خطيئته شيء فنودي:
أجائع فتطعم؟ أم مريض فتشفى؟ أم مظلوم فينتصر لك! قَالَ: فنحب نحبة هاج كل شيء كان نبت، فعند ذلك غفر له وكانت خطيئته مكتوبة بكفه يقرؤها، وكان يؤتى بالإناء ليشرب فلا يشرب إلا ثلثه أو نصفه، وكان يذكر خطيئته فينتحب النحبه تكاد مفاصله يزول بعضها عن بعض، ثم ما يتم شربه حتى يملأ الإناء من دموعه وكان يقال: إن دمعة داود تعدل دمعة الخلائق، ودمعة آدم تعدل دمعة داود ودمعة الخلائق قَالَ: وهو يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة بكفه فيقول: رب ذنبي قدمني! قَالَ:
فيقدم فلا يأمن، فيقول: رب أخرني، قَالَ: فيؤخر فلا يأمن.
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابن وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك يقول:
[سمعت رسول الله ص يقول: ان داود النبي ع حين نظر الى المرأة فَأُهِمَّ، قَطَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْثًا، فَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ: إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ فَقَرِّبْ فُلانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ مَنْ قَدِمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ، فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ، فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا، حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ-

(1/483)


فَلَمْ أُحْصِ مِنَ الرَّقَاشِيِّ إِلا هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ! رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ، وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الخلوف من بعده فجاءه جبرئيل مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ:
يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِيَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لا يَمِيلُ، فَكَيْفَ بِفُلانٍ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ دَمِي الَّذِي عند داود! فقال جبرئيل: مَا سَأَلْتُ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَئِنْ شِئْتَ لافعلن، قال: نعم، قال: فعرج جبرئيل وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ يَا دَاوُدُ عَنِ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي فِيهِ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَا شِئْتَ وَمَا اشْتَهَيْتَ عِوَضًا] .
وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا بِالْمُلْكِ بَعْدَ طَالُوتَ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ امْرَأَةِ أُورِيَا مَا كَانَ، فَلَمَّا وَاقَعَ مَا وَاقَعَ مِنَ الْخَطِيئَةِ اشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا- فِيمَا زَعَمُوا- وَاسْتَخَفَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ له ايشى، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الزَّيْغِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالُوا: فَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ ثَابَتْ إِلَيْهِ ثَائِبَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَحَارَبَ ابْنَهُ حَتَّى هَزَمَهُ، وَوَجَّهَ فِي طَلَبِهِ قَائِدًا مِنْ قُوَّادِهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى حَتْفَهُ، وَيَتَلَطَّفَ لأَسْرِهِ، فَطَلَبَهُ الْقَائِدُ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ، فَاضْطَرَّهُ إِلَى شَجَرَةٍ فَرَكَضَ فِيهَا- وَكَانَ ذَا جُمَّةٍ- فَتَعَلَّقَ بَعْضُ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ بِشَعْرِهِ فَحَبَسَهُ، وَلَحِقَهُ الْقَائِدُ فَقَتَلَهُ مُخَالِفًا لأَمْرِ دَاوُدَ، فَحَزِنَ دَاوُدُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَنَكَّرَ لِلْقَائِدِ، وَأَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ طَاعُونٌ جَارِفٌ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْأَلُونَهُ كَشْفَ ذَلِكَ الْبَلاءِ عَنْهُمْ، فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، فَاتَّخَذُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَسْجِدًا، وَكَانَ ذَلِكَ- فِيمَا قِيلَ- لإِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً مَضَتْ مِنْ مُلْكِهِ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَّ بِنَاءَهُ، فَأَوْصَى

(1/484)


إِلَى سُلَيْمَانَ بِاسْتِتْمَامِهِ، وَقَتْلِ الْقَائِدِ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ، فَلَمَّا دَفَنَهُ سُلَيْمَانُ نَفَّذَ لأَمْرِهِ فِي الْقَائِدِ وَقَتَلَهُ، وَاسْتَتَمَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ فِي بِنَاءِ دَاوُدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ما حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سهل بن عسكر، قَالَ: حَدَّثَنِي إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل:
أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن داود أراد أن يعلم عدد بني إسرائيل كم هم؟
فبعث لذلك عرفاء ونقباء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بلغ عددهم، فعتب الله عليه ذلك، وقال: قد علمت أني وعدت إبراهيم أن أبارك فيه وفي ذريته حتى أجعلهم كعدد نجوم السماء، وأجعلهم لا يحصى عددهم، فأردت أن تعلم عدد ما قلت: إنه لا يحصى عددهم، فاختاروا بين أن أبتليكم بالجوع ثلاث سنين، أو أسلط عليكم العدو ثلاثة أشهر، أو الموت ثلاثة أيام! فاستشار داود في ذلك بني إسرائيل فقالوا: ما لنا بالجوع ثلاث سنين صبر، ولا بالعدو ثلاثة أشهر، فليس لهم بقية، فإن كان لا بد فالموت بيده لا بيد غيره فذكر وهب بن منبه أنه مات منهم في ساعة من نهار ألوف كبيره، لا يدرى ما عددهم، فلما رأى ذلك داود، شق عليه ما بلغه من كثرة الموت، فتبتل إلى الله ودعاه فقال: يا رب، أنا آكل الحماض وبنو إسرائيل يضرسون! أنا طلبت ذلك فأمرت به بني إسرائيل، فما كان من شيء فبي واعف عن بني إسرائيل فاستجاب الله له ورفع عنهم الموت، فرأى داود الملائكة سالين سيوفهم يغمدونها، يرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء، فقال داود: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد، فأراد داود أن يأخذ في بنائه، فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس، وإنك قد صبغت يديك في الدماء، فلست ببانيه، ولكن ابن لك أملكه بعدك أسميه سليمان، أسلمه من الدماء.
فلما ملك سليمان بناءه وشرفه، وكان عمر داود- فيما وردت به الاخبار عن رسول الله ص- مائة سنة.
وأما بعض أهل الكتب، فإنه زعم أن عمره كان سبعا وسبعين سنة، وأن مدة ملكه كانت أربعين سنة

(1/485)


ذكر خبر سليمان بن داود ع
ثم ملك سليمان بن داود بعد أبيه داود أمر بني إسرائيل، وسخر الله له الجن والإنس والطير والريح، وآتاه مع ذلك النبوة، وسأل ربه أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له فاعطاه ذلك.
كان فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره، وكان- فيما يزعمون- أبيض جسيما وضيئا، كثير الشعر يلبس من الثياب البياض، وكان أبوه في أيام ملكه بعد أن بلغ سليمان مبلغ الرجال يشاوره- فيما ذكر- في أموره.
وكان من شأنه وشأن أبيه داود الحكم في الغنم التي نفشت في حرث القوم، الذين قص الله في كتابه خبرهم وخبرهما فقال: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» .
فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَهَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ:
«وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» ، قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ، قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرَ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتَدْفَعُ الْغَنَمِ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ، دَفَعْتَ الْكَرْمَ الى

(1/486)


صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ الْغَنَمِ إِلَى صَاحِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» وَكَانَ رَجُلًا غَزَّاءً لَا يَكَادُ يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ، وَكَانَ لَا يَسْمَعُ بِمَلِكٍ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يُذِلَّهُ وكان فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ- فيما يزعمون- إذا اراد الغز وامر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمر به شهرا في روحته، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد يقول الله عز وجل: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» ، اى حيث اراد، وقال: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» .
قَالَ: وذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه: كتاب كتبه بعض أصحاب سليمان، إما من الجن، وإما من الإنس: نحن نزلناه وما بيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله، فبائتون بالشام.
قَالَ: وكان- فيما بلغني- لتمر بعسكره الريح، والرخاء تهوي به إلى ما أراد، وإنها لتمر بالمزرعة فما تحركها.
وقد حَدَّثَنَا القاسم بن الحسن، قَالَ: حَدَّثَنِي الحسين، قَالَ: حَدَّثَنِي حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، قَالَ: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحه، وسبعمائة سريه، فامر الريح العاصف

(1/487)


فرفعته وامر الرخاء فسيرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض:
إني قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق إلا جاءت به الريح وأخبرتك.
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: كان سليمان ابن داود يوضع له ستمائه كُرْسِيٍّ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْإِنْسِ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَجِيءُ أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي الْإِنْسَ، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ، قَالَ: فَتَسِيرُ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ

(1/488)


ذكر ما انتهى إلينا من مغازي سليمان ع
فمن ذلك غزوته التي راسل فيها بلقيس- وهي فيما يقول أهل الأنساب- يلمقة ابنة اليشرح- ويقول بعضهم: ابنة إيلي شرح، ويقول بعضهم: ابنة ذي شرح- بن ذي جدن بن أيلي شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبا ابن يشجب بن يعرب بن قحطان ثم صارت إليه سلما بغير حرب ولا قتال.
وكان سبب مراسلته إياها- فيما ذكر- أنه فقد الهدهد يوما في مسير كان يسيره، واحتاج إلى الماء فلم يعلم من حضره بعده، وقيل له علم ذلك عند الهدهد، فسأل عن الهدهد فلم يجده وقال بعضهم: بل إنما سأل سليمان عن الهدهد لإخلاله بالنبوة.
فكان من حديثه وحديث مسيره ذلك وحديث بلقيس، ما حدثنى العباس ابن الْوَلِيدِ الآمُلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِذَا سَافَرَ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا قَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَوُضِعَتِ الْكَرَاسِيُّ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَأْذَنُ لِلإِنْسِ، ثُمَّ يَأْذَنُ لِلْجِنِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِنْسِ، فَيَكُونُونَ خَلْفَ الْإِنْسِ، ثُمَّ يَأْذَنُ لِلشَّيَاطِينِ بَعْدَ الْجِنِّ فَيَكُونُونَ خَلْفَ الْجِنِّ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الطَّيْرِ فَتُظِلُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الرِّيحِ فَتَحْمِلُهُمْ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَالنَّاسُ عَلَى الْكَرَاسِيِّ فَتَسِيرُ بِهِمْ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شهر، رَخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، لَيْسَ بِالْعَاصِفِ وَلا اللَّيِّنِ، وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ يَسِيرُ- وَكَانَ سُلَيْمَانُ اخْتَارَ مِنْ كُلِّ طَيْرٍ طَيْرًا، فَجَعَلَهُ رَأْسَ تِلْكَ الطَّيْرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَائِلَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الطَّيْرِ عَنْ شَيْءٍ سَأَلَ رَأْسَهَا- فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ يَسِيرُ إِذْ نَزَلَ مَفَازَةً فسال عن بعد الماء هاهنا، فَقَالَ الْإِنْسُ: لَا نَدْرِي، فَسَأَلَ الْجِنَّ فَقَالُوا: لا تدرى، فَسَأَلَ الشَّيَاطِينَ، فَقَالُوا: لا نَدْرِي فَغَضِبَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ كَمْ بُعْدُ مسافة الماء هاهنا! قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَغْضَبْ، فَإِنْ يَكُ شَيْئًا يُعْلَمُ فَالْهُدْهُدُ يَعْلَمُهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَلَيَّ بِالْهُدْهُدِ، فَلَمْ يُوجَدْ، فغضب

(1/489)


سُلَيْمَانُ فَقَالَ: «مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ، يَقُولُ: بِعُذْرٍ مُبِينٍ لِمَ غَابَ عَنْ مَسِيرِي هَذَا؟ وَكَانَ عِقَابُهُ لِلطَّيْرِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَيُشَمِّسَهُ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَطِيرَ، وَيَكُونُ مِنْ هَوَامِ الْأَرْضِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، أَوْ يَذْبَحَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَذَابَهُ.
قَالَ: وَمَرَّ الْهُدْهُدُ عَلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ، فَرَأَى بُسْتَانًا لَهَا خَلْفَ قَصْرِهَا، فَمَالَ إِلَى الْخَضِرَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَإِذَا هُوَ بِهُدْهُدٍ لَهَا فِي الْبُسْتَانِ، فَقَالَ هُدْهُدُ سُلَيْمَانَ:
اين أنت عن سليمان؟ وما تصنع هاهنا؟ قَالَ لَهُ هُدْهُدُ بِلْقِيسَ: وَمَنْ سُلَيْمَانُ؟
فَقَالَ: بَعَثَ اللَّهُ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سُلَيْمَانُ رَسُولًا، وَسَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ قَالَ: فَقَالَ لَهُ هُدْهُدُ بِلْقِيسَ: أَيَّ شَيْءٍ تَقُولُ! قَالَ: أَقُولُ لَكَ مَا تَسْمَعُ، قَالَ: إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَاكَ أَنَّ كَثْرَةَ هؤلاء القوم تملكهم امراه، «أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ» ، جَعَلُوا الشُّكْرَ لِلَّهِ أَنْ يَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: وَذَكَرَ الْهُدْهُدُ سُلَيْمَانَ فَنَهَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعَسْكَرِ تَلَقَتْهُ الطَّيْرُ وَقَالُوا: تَوَعَّدَكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ قَالَ: وَكَانَ عَذَابُ سُلَيْمَانَ لِلطَّيْرِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَيُشَمِّسَهُ فَلَا يَطِيرُ أَبَدًا، فَيَصِيرُ مِنْ هَوَامِ الْأَرْضِ، أَوْ يَذْبَحَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ نسل ابدا قال: فقال الهدهد:
او ما اسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: بَلْ قَالَ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِعُذْرٍ مُبِينٍ، قَالَ:
فَلَمَّا أَتَى سُلَيْمَانُ، قَالَ: مَا غَيَّبَكَ عَنْ مَسِيرِي؟ قَالَ: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» حتى بلغ «فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» .
قَالَ: فَاعْتَلَّ لَهُ بِشَيْءٍ، وَأَخْبَرَهُ عَنْ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا مَا أَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: قَدِ اعْتَلَلْتَ، «سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ» ، قَالَ: فَوَافَقَهَا وَهِيَ فِي قَصْرِهَا، فَأَلْقَى إِلَيْهَا

(1/490)


الْكِتَابَ فَسَقَطَ فِي حِجْرِهَا أَنَّهُ كِتَابٌ كَرِيمٌ، وَأَشْفَقَتْ مِنْهُ، فَأَخَذَتْهُ وَأَلْقَتْ عَلَيْهِ ثِيَابَهَا، وَأَمَرَتْ بِسَرِيرِهَا فَأُخْرِجَ، فَخَرَجَتْ فَقَعَدَتْ عَلَيْهِ، وَنَادَتْ فِي قومها، فقالت لهم: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» وَلَمْ أَكُنْ لِأَقْطَعَ أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ، «قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ» - الى- «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ» ، فَإِنْ قَبِلَهَا فَهَذَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا وَأَنَا أَعَزُّ مِنْهُ وَأَقْوَى، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهَذَا شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ.
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ الْهَدِيَّةُ قَالَ لَهُمْ سُلَيْمَانُ: «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» - إِلَى قَوْلِهِ: «وَهُمْ صاغِرُونَ» ، يَقُولُ: وَهُمْ غَيْرُ مَحْمُودِينَ قَالَ: بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِخَرَزَةٍ غَيْرِ مَثْقُوبَةٍ، فَقَالَتِ: اثْقُبْ هَذِهِ، قَالَ:
فَسَأَلَ سُلَيْمَانُ الْإِنْسَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ ذَاكَ، ثُمَّ سَأَلَ الْجِنَّ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ ذَاكَ، قَالَ: فَسَأَلَ الشَّيَاطِينَ، فَقَالُوا: تُرْسِلُ إِلَى الْأَرَضَةِ، فَجَاءَتِ الْأَرَضَةُ فَأَخَذَتْ شَعْرَةً فِي فِيهَا فَدَخَلَتْ فِيهَا فَنَقَبَتْهَا بَعْدَ حِينٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا رَسُولُهَا خَرَجَتْ فَزِعَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ قَوْمِهَا وَتَبِعَهَا قَوْمُهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مَعَهَا أَلْفُ قَيْلٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الْقَائِدَ قَيْلًا، مَعَ كُلِّ قَيْلٍ عَشَرَةُ آلافٍ قَالَ العباس: قَالَ عَلِيٌّ: عَشَرَةُ آلافِ أَلْفٍ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: قَالَ عَلِيٌّ: فَأَخْبَرَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قال: فاقبلت بلقيس الى سليمان ومعها ثلاثمائة قَيْلٍ وَاثْنَا عَشَرَ قَيْلًا، مَعَ كُلِّ قَيْلٍ عَشَرَةُ آلافٍ.
قَالَ عَطَاءٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكَانَ سُلَيْمَانُ رَجُلًا مَهِيبًا لا يبتدأ بِشَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْهُ، فَخَرَجَ يَوْمَئِذٍ فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ،

(1/491)


فَرَأَى رَهْجًا قَرِيبًا مِنْهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بِلْقِيسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَقَدْ نَزَلَتْ مِنَّا بِهَذَا الْمَكَانِ! قَالَ مُجَاهِدٌ: فَوَصَفَ لَنَا ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَحَزَرْتُهُ مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ قَدْرَ فَرْسَخٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى جُنُودِهِ فقال:
«أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ» الَّذِي أَنْتَ فِيهِ إِلَى الْحِينِ الَّذِي تَقُومُ إِلَى غَدَائِكَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ: مَنْ يَأْتِينِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؟
«قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا قَطَعَ كَلَامَهُ رَدَّ سُلَيْمَانُ بَصَرَهُ عَلَى الْعَرْشِ، فَرَأَى سَرِيرَهَا قَدْ خَرَجَ وَنَبَعَ مِنْ تَحْتِ كُرْسِيِّهِ، «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ» إِذْ أَتَانِي بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيَّ طرفي «أَمْ أَكْفُرُ» إِذْ جَعَلَ مَنْ تَحْتَ يَدَيَّ أَقْدَرَ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ مِنِّي قَالَ:
فَوَضَعُوا لَهَا عَرْشَهَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَتْ قَعَدَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ، قِيلَ لها:
«أَهكَذا عَرْشُكِ» ؟ فنظرت اليه فقالت: «كَأَنَّهُ هُوَ» ! ثُمَّ قَالَتْ:
لَقَدْ تَرَكْتُهُ فِي حُصُونِي، وَتَرَكْتُ الْجُنُودَ مُحِيطَةً بِهِ، فَكَيْفَ جِيءَ بِهَذَا يَا سُلَيْمَانُ! إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ فَأَخْبِرْنِيهِ، قَالَ: سَلِي، قَالَتْ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، لا مِنْ سَمَاءٍ وَلا مِنْ أَرْضٍ- قَالَ: وَكَانَ إِذَا جَاءَ سُلَيْمَانَ شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ بَدَأَ فَسَأَلَ الْإِنْسَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْإِنْسِ فِيهِ عِلْمٌ وَإِلَّا سَأَلَ الْجِنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجِنِّ عِلْمٌ بِهِ سَأَلَ الشَّيَاطِينَ- قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ: مَا أَهْوَنَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرِ الْخَيْلَ فَلْتَجْرِ ثُمَّ تَمْلَأِ الآنِيَةَ مِنْ عَرَقِهَا، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: عَرَقُ الْخَيْلِ، قَالَتْ: صَدَقْتَ قَالَتْ: أَخْبِرْنِي عَنْ لَوْنِ الرَّبِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَثَبَ سُلَيْمَانُ عَنْ سَرِيرِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا قال العباس: قال على: فأخبرني عمر بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: صُعِقَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَخَرَّ عَنْ سَرِيرِهِ.
ثُمَّ رَجَعَ، إِلَى حَدِيثِهِ قَالَ: فَقَامَتْ عَنْهُ، وَتَفَرَّقَتْ عَنْهُ جُنُودُهُ، وجاءه

(1/492)


الرَّسُولُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ، يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: سَأَلْتِنِي عَنْ أَمْرٍ يُكَابِرُنِي- أَوْ يُكَابِدُنِي- أَنْ أُعِيدَهُ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَى سَرِيرِكَ فَتَقْعُدَ عَلَيْهِ، وَتُرْسِلَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَنْ حَضَرَهَا مِنْ جُنُودِهَا، وَتُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ جُنُودِكَ الَّذِينَ حَضَرُوا فَيَدْخُلُوا عَلَيْكَ فَتَسْأَلَهَا وَتَسْأَلَهُمْ عَمَّا سَأَلَتْكَ عَنْهُ قَالَ:
ففعل، فلما دخلوا عَلَيْهِ جَمِيعًا، قَالَ لَهَا: عَمَّ سَأَلْتِنِي؟ قَالَتْ: سَأَلْتُكَ عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، لا مِنْ سَمَاءٍ وَلا مِنْ أَرْضٍ، قَالَ: قُلْتُ لَكِ: عَرَقُ الْخَيْلِ، قَالَتْ: صَدَقْتَ، قَالَ: وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ سَأَلْتِنِي؟ قَالَتْ: مَا سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ غَيْرَ هَذَا قَالَ: قَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَرَرْتُ عَنْ سَرِيرِي؟
قَالَتْ: قَدْ كَانَ ذَاكَ لِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ- قَالَ الْعَبَّاسُ: قَالَ عَلِيٌّ: نُسِّيَتْهُ- قَالَ: فَسَأَلَ جُنُودَهَا فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتْ، قَالَ: فَسَأَلَ جُنُودَهُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ وَكُلِّ شَيْءٍ كَانَ حَضَرَهُ مِنْ جُنُودِهِ، فَقَالُوا: مَا سَأَلَتْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا عَنْ مَاءٍ رَوَاءٍ، قَالَ- وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ: يَقُولُ اللَّهُ لَكَ: عُدْ إِلَى مَكَانِكَ فَإِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَهُمْ- قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ: لِلشَّيَاطِينِ: ابْنُوا لِي صَرْحًا تَدْخُلُ عَلَيَّ فِيهِ بِلْقِيسُ، قَالَ: فَرَجَعَ الشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا:
سُلَيْمَانُ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا سَخَّرَ، وَبِلْقِيسُ مَلِكَةُ سَبَأَ يَنْكِحُهَا فَتَلِدُ لَهُ غُلَامًا، فَلا نَنْفَكُّ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ أَبَدًا.
قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةً شَعْرَاءَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ: ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا لِيَرَى ذَلِكَ مِنْهَا، فَلا يَتَزَوَّجُهَا، فَبَنَوْا لَهُ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ أَخْضَرَ، وَجَعَلُوا لَهُ طَوَابِيقَ مِنْ قَوَارِيرَ كَأَنَّهُ الْمَاءُ، وَجَعَلُوا فِي بَاطِنِ الطَّوَابِيقِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْبَحْرِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَطْبَقُوهُ، ثُمَّ قَالُوا لِسُلَيْمَانَ: ادْخُلِ الصَّرْحَ، قَالَ: فَأُلْقِيَ لِسُلَيْمَانَ كُرْسِيٌّ فِي أَقْصَى الصَّرْحِ، فَلَمَّا دَخَلَهُ وَرَأَى مَا رَأَى أَتَى الْكُرْسِيَّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَدْخِلُوا عَلَيَّ بِلْقِيسَ، فَقِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا ذَهَبَتْ تَدْخُلُهُ رَأَتْ صُورَةَ السَّمَكِ وَمَا يَكُونُ فِي الْمَاءِ مِنَ الدَّوَابِّ، فَحَسِبَتْهُ لُجَّةً حسبته ماء وكشفت عن ساقيها لِتَدْخُلَ، وَكَانَ شَعْرُ سَاقَيْهَا مُلْتَوِيًا عَلَى سَاقَيْهَا، فَلَمَّا رَآهَا سُلَيْمَانُ، نَادَاهَا- وَصَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهَا: انه صرح ممرد من

(1/493)


قوارير، فالقت ثوبها فقالت: «ِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
» قَالَ: فَدَعَا سُلَيْمَانُ الْإِنْسَ فَقَالَ: مَا أَقْبَحَ هَذَا! مَا يُذْهِبُ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُوسَى قَالَ: الْمَوَاسِي تَقْطَعُ سَاقَيِ الْمَرْأَةِ قَالَ: ثُمَّ دَعَا الْجِنَّ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لا نَدْرِي، ثُمَّ دَعَا الشَّيَاطِينَ فَقَالَ:
مَا يُذْهِبُ هذا؟ قالوا مثل ذلك: الموسى، فقال: الْمَوَاسِي تَقْطَعُ سَاقَيِ الْمَرْأَةِ قَالَ: فَتَلَكَّئُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ النُّورَةَ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ رُئِيَتْ فِيهِ النُّورَةُ- فَاسْتَنْكَحَهَا سُلَيْمَانُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد: قَالَ، حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب ابن منبه، قَالَ: لما رجعت الرسل إلى بلقيس بما قَالَ سليمان، قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، وبعثت إليه أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه- وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ- فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض، ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما تخدمها النساء، معها ستمائه امرأة تخدمها ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل معها من ملوك اليمن، تحت يد كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يديه، فقال: «يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
» .
قَالَ: وأسلمت فحسن إسلامها قَالَ: فزعم أن سليمان قَالَ لها حين أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلا من قومك أزوجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال، وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان لي! قَالَ: نعم، إنه

(1/494)


لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت: زوجني إن كان لا بد ذا تبع ملك همدان، فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذى تبع ما استعملك لقومه قال: فصنع لذى تبع الصنائع باليمن، ثم لم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد، حتى مات سليمان ابن داود ع.
فلما حال الحول وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم، فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن، إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم قَالَ: فعمدت الشياطين إلى حجرين عظيمين، فكتبوا فيهما كتابا بالمسند: نحن بنينا سلحين، سبعة وسبعين خريفا دائبين، وبنينا صرواح ومراح وبينون برحاضه ايدين، وهنده وهنيدة، وسبعة أمجلة بقاعة، وتلثوم بريدة، ولولا صارخ بتهامة، لتركنا بالبون إمارة قَالَ: وسلحين وصرواح ومراح وبينون وهنده وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن، عملتها الشياطين لذى تبع، ثم رفعوا أيديهم، ثم انطلقوا، وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان بن داود ع

(1/495)


ذكر غزوته أبا زوجته جرادة وخبر الشيطان الذي أخذ خاتمه
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض العلماء، قَالَ: قَالَ وهب بن منبه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها صيدون، بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس اليه سبيل، لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع منه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه إذا ركب على الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستفاء ما فيها، وأصاب فيما أصاب ابنة لذلك الملك لم ير مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، ووقعت نفسه عليها، فكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى: ويحك، ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قَالَ: فقد ابد لك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك لكذلك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما قد ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوروا صورة أبي في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثلوا لها صوره أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئا، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها في نفسه،

(1/496)


إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه لها فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، مثل ما كان يكون فيه من هيئة، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له، كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، لا يعلم سليمان بشيء من ذلك أربعين صباحا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا- وكان صديقا، وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضرا كان سليمان أو غائبا- فأتاه فقال: يا نبي الله، كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان منى ذهاب! وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال:
افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضله الله به، حتى انتهى الى سليمان وذكره، فقال: ما كان احملك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك! ثم انصرف فوجد سليمان في نفسه حتى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه، فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قَالَ: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال: في دارى! فقال: في دارك، قَالَ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! لقد عرفت أنك ما قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهرة فأتي بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها الا

(1/497)


الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، ولا تمسها امرأة قد رأت الدم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد، فتمعك فيه بثيابه تذللا لله جل وعز وتضرعا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره، ويقول فيما يقول- فيما ذكر لي والله أعلم: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك، وأن يقروا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك! فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، يبكي إلى الله ويتضرع إليه ويستغفره، ثم رجع إلى داره- وكانت أم ولد له يقال لها:
الأمينة، كان إذا دخل مذهبه، أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر، وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، وأتاها الشيطان صاحب البحر- وكان اسمه صخرا- في صورة سليمان لا تنكر منه شيئا، فقال: خاتمي يا أمينة! فناولته إياه، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حالته وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة، خاتمي! فقالت: ومن أنت؟ قَالَ: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبت، لست بسليمان بن داود، وقد جاء سليمان فأخذ خاتمه، وهو ذاك جالس على سريره في ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول:
أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبونه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، أي شيء يقول! يزعم أنه سليمان بن داود، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى، فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحا، عدة ما عبد ذلك الوثن في داره،

(1/498)


فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين صباحا، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت! قَالُوا: نعم، قَالَ: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن: هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرنا في عامة أمر الناس وعلانيته؟ فدخل على نسائه فقال: ويحكن! هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: اشده ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا اليه راجعون! ان هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل، فقال ما في الخاصة أعظم مما في العامة، فلما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، وبصر بعض الصيادين فأخذها وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك، حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه، فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، ثم خرج سليمان بسمكتيه فيبيع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه فجعله في يده ووقع ساجدا لله، وعكف عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين فقال: ائتوني به، فطلبته له الشياطين حتى أخذوه، فأتى به، فجاب له صخرة، فأدخله فيها، ثم سد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به فقذف في البحر.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ في قوله: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» ، قَالَ: الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما، قال:

(1/499)


كان لسليمان مائة امرأة، وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وآمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولا يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي فأعطاها خاتمه، ودخل المحرج فخرج الشيطان في صورته، فقال: هاتي الخاتم، فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قَالَ: لا، وخرج من مكانه تائها، قَالَ: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما.
قَالَ: فأنكر الناس أحكامه، فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم، وجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان، فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه! قَالَ: فبكى النساء عند ذلك، قَالَ: فأقبلوا يمشون حتى أتوه، فأحدقوا به ثم نشروا فقرءوا التوراة، قَالَ: فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر، قَالَ: وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع، وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: انى انا سليمان، فقام اليه بعضهم فضربه بعضا فشجه، قَالَ: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه وقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته! قَالَ: انه زعم انه سليمان، قال: فأعطوه سمكتين مما قد ضرب عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتى قام على شط البحر، فشق بطونهما، وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فأخذه فلبسه، فرد الله عليه بهاءه وملكه، وجاءت الطير حتى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على

(1/500)


عذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه.
قَالَ: فجاء حتى أتى ملكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به، وسخرت له الريح والشياطين يومئذ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك، وهو قوله:
«وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» .
وبعث إلى الشيطان فأتى به، فأمر به فجعل في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقفل، وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة، وكان اسمه حبقيق.
قال ابو جعفر: ثم لبث سليمان بن داود في ملكه بعد أن رده الله إليه، تعمل له الجن مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وغير ذلك من أعماله، ويعذب من الشياطين من شاء، ويطلق من أحب منهم إطلاقه، حتى إذا دنا أجله، وأراد الله قبضه إليه، كان من أمره- فيما بلغني- ما حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [عن النبي ص قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ لَهَا: ما اسمك؟ فيقول: كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ:
لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَإِنْ كانت لغرس غرست، ان كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتِ:
الْخَرُّوبُ، قَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى يَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَنَحَتَهَا عَصًا، فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا مَيِّتًا، وَالْجِنُّ تعمل، فأكلتها الأرضة فسقط، ف تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ] .
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ قَالَ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ الْأَرَضَةَ، فَكَانَتْ تأتيها بالماء

(1/501)


حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ص قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ، فَيَأْتِيهَا، فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ الشَّجَرَةُ:
اسْمِي كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ لَهَا: لِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ فَتَقُولُ: نَبَتُّ لِكَذَا وَكَذَا فَيَأْمُرُ بِهَا فَتُقْطَعُ، فَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ دَوَاءً قَالَتْ:
نَبَتُّ دَوَاءً لِكَذَا وَكَذَا، فَيَجْعَلُهَا لِذَلِكَ، حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الْخَرُّوبَةُ فَسَأَلَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْخَرُّوبَةُ، قَالَ: وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ؟ قَالَتْ:
نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ، وَلا تَعْلَمُ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ فَيُعَاقِبَهُمْ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ، وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ: أَلَسْت جَلِيدًا إِنْ دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ؟
فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الآخِرِ، فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ أُولَئِكَ، فَمَرَّ- وَلَمْ يَكُنْ شَيْطَانٌ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي الْمِحْرَابِ إِلَّا احْتَرَقَ- وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَفَ فِي الْبَيْتِ فَلَمْ يَحْتَرِقْ، وَنَظَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا، فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ، فَفَتَحُوا عَنْهُ فَأَخْرَجُوهُ، وَوَجَدُوا مِنْسَأَتَهُ- وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ- قَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مُنْذُ كَمْ مَاتَ، فَوَضَعُوا الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا، فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مسعود: فمكثوا يدينون لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَوْلًا كَامِلًا، فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا مَوْتَ

(1/502)


سُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ سَنَةً يَعْمَلُونَ لَهُ، وَذَاكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
«مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ» - إِلَى قوله- «فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» يَقُولُ: بُيِّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ:
لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ أَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ إِلَيْكِ الْمَاءَ وَالطِّينَ قَالَ: فَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ فَهُوَ مَا يَأْتِيهَا بِهِ الشَّيَاطِينُ شُكْرًا لَهَا! وَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فِيمَا ذُكِرَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنْ مُلْكِهِ ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيمَا ذُكِرَ

(1/503)


ذكر من ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ
قَالَ أبو جعفر: ونرجع الآن إلى الخبر عمن ملك إقليم بابل والمشرق من ملوك الفرس بعد كيقباذ.
وملك بعد كيقباذ بن زاغ بن يوجياه كيقاوس بن كيبية بن كيقباذ الملك.
فذكر أنه قَالَ يوم ملك: إن الله تعالى إنما خولنا الأرض وما فيها لنسعى فيها بطاعته، وأنه قتل جماعة من عظماء البلاد التي حوله، وحمى بلاده ورعيته ممن حواليهم من الأعداء أن يتناولوا منها شيئا، وأنه كان يسكن بلخ، وأنه ولد له ابن لم ير مثله في عصره في جماله وكماله وتمام خلقه، فسماه سياوخش، وضمه إلى رستم الشديد بن دستان بن نريمان بن جودنك ابن كرشاسب بن أثرط بن سهم بن نريمان.
وكان اصبهبذ سجستان وما يليه من قبله يربيه ويكفله، وأوصاه به فأخذه منه رستم، فمضى به معه إلى موضع عمله سجستان، فرباه رستم ولم يزل في حجره يجمع له وهو طفل الحواضن والمرضعات، ويتخيرهن له،

(1/504)


حتى إذا ترعرع جمع له المعلمين، فتخير له منهم من اختاره لتعليمه، حتى إذا قدر على الركوب علمه الفروسية حتى إذا تكاملت فيه فنون الآداب، وفاق في الفروسية قدم به على والده رجلا كاملا، فامتحنه والده كيقاوس، فوجده نافذا في كل ما أراد بارعا، فسر به، وكان كيقاوس تزوج- فيما ذكر- ابنه فراسياب ملك الترك، وقيل: بل إنها بنت ملك اليمن، وكان يقال لها سوذابة، وكانت ساحرة، فهويت سياوخش، ودعته إلى نفسها، وأنه امتنع عليها، وذكرت لها ولسياوخش قصة يطول بذكرها الكتاب، غير أن آخر أمرهما صار في ذلك- فيما ذكر لي- أن سوذابة لم تزل لما رأت من امتناع سياوخش عليها فيما أرادت منه من الفاحشة بأبيه كيقاوس حتى أفسدته عليه، وتغير لابنه سياوخش، فسأل سياوخش رستم أن يسأل أباه كيقاوس توجيهه لحرب فراسياب لسبب منعه بعض ما كان ضمن له عند إنكاحه ابنته إياه، وصلح جرى بينه وبينه، مريدا بذلك سياوخش البعد عن والده كيقاوس، والتنحى عما تكيد به عنده زوجته سوذابة، ففعل ذلك رستم، واستأذن له أباه فيما سأله، وضم إليه جندا كثيفا، فشخص إلى بلاد الترك للقاء فراسياب، فلما صار إليه سياوخش، جرى بينهما صلح، وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين فراسياب من الصلح، فكتب اليه والده يأمره بمناهضه فراسياب ومناجزته الحرب، إن هو لم يذعن له بالوفاء بما كان فارقه عليه فرأى سياوخش أن في فعله ما كتب به إليه أبوه من محاربه فراسياب بعد الذي جرى بينه وبينه من الصلح والهدنة من غير نقض فراسياب شيئا من أسباب ذلك عليه عارا ومنقصة ومأثما، فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك، ورأى في نفسه أنه يؤتى في كل ذلك من زوجة أبيه التي دعته إلى نفسها فامتنع عليها، ومال إلى الهرب

(1/505)


من ابيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به، وترك والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك- وكان السفير بينهما في ذلك- فيما قيل- رجلا من الترك من عظمائهم يقال له: فيران بن ويسغان- فلما فعل ذلك سياوخش انصرف عنه من كان معه من جند أبيه كيقاوس.
فلما صار سياوخش الى فراسياب بوأه وأكرمه وزوجه ابنة له يقال لها:
وسفافريد، وهي أم كيخسرونة، ثم لم يزل له مكرما حتى ظهر له أدب سياوخش وعقله وكماله وفروسيته ونجدته ما أشفق على ملكه منه، فأفسده ذلك عنده، وزاده فسادا عليه سعي ابنين له وأخ يقال له: كندر بن فشنجان عليه بإفساد أمر سياوخش عنده، حسدا منهم له، وحذرا على ملكهم منه، حتى مكنهم من قتله، فذكر في سبب وصولهم إلى قتله أمر يطول بشرحه الخطب، إلا أنهم قتلوه ومثلوا به وامرأته ابنة فراسياب حامل منه بابنه كيخسرونة، فطلبوا الحيلة لإسقاطها ما في بطنها فلم يسقط، وأن فيران الذى سعى في عقد الصلح بين فراسياب وسياوخش لما صح عنده ما فعل فراسياب من قتله سياوخش، أنكر ذلك من فعله، وخوفه عاقبة الغدر، وحذره الطلب بالثأر من والده كيقاوس ومن رستم، وسأله دفع ابنته وسفافريد إليه لتكون عنده إلى أن تضع ما في بطنها ثم يقتله.
ففعل ذلك فراسياب، فلما وضعت رق فيران لها وللمولود، فترك قتله وستر أمره، حتى بلغ المولود، فوجه- فيما ذكر- كيقاوس إلى بلاد الترك بي بن جوذرز، وأمره بالبحث عن المولود الذي ولدته زوجة ابنه سياوخش، والتأتي لإخراجه إليه، إذا وقف على خبره مع أمه، وأن بيا شخص لذلك، فلم يزل يفحص عن أمر ذلك المولود، متنكرا حينا من الزمان فلا يعرف له خبر، ولا يدله عليه أحد.
ثم وقف بعد ذلك على خبره، فاحتال فيه وفي أمه حتى أخرجهما من أرض الترك إلى كيقاوس، وقد كان كيقاوس- فيما ذكر- حين اتصل به

(1/506)


قتل ابنه أشخص جماعة من رؤساء قواده، منهم رستم بن دستان الشديد، وطوس بن نوذران، وكانا ذوي بأس ونجدة، فأثخنا الترك قتلا واسرا، وحاربا فراسياب حربا شديدة وأن رستم قتل بيده شهر وشهره ابنى فراسياب وان طوسا قتل بيده كندر أخا فراسياب.
وذكر أن الشياطين كانت مسخرة لكيقاوس، فزعم بعض أهل العلم بأخبار المتقدمين أن الشياطين الذين كانوا سخروا له إنما كانوا يطيعونه عن أمر سليمان بن داود إياهم بطاعته، وأن كيقاوس أمر الشياطين فبنوا له مدينة سماها كنكدر، ويقال: قيقذون، وكان طولها- فيما زعموا- ثمانمائه فرسخ، وأمرهم فضربوا عليها سورا من صفر، وسورا من شبه، وسورا من نحاس، وسورا من فخار، وسورا من فضة، وسورا من ذهب وكانت الشياطين تنقلها ما بين السماء والأرض وما فيها من الدواب والخزائن والأموال والناس وذكروا أن كيقاوس كان لا يحدث وهو يأكل ويشرب.
ثم إن الله تعالى بعث إلى المدينة التي بناها كذلك من يخربها فأمر كيقاوس شياطينه بمنع من قصد لتخريبها، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأى كيقاوس الشياطين لا تطيق الدفع عنها، عطف عليها، فقتل رؤساءها وكان كيقاوس- فيما ذكر- مظفرا لا يناوئه أحد من الملوك إلا ظفر عليه وقهره، ولم يزل ذلك أمره حتى حدثته نفسه- لما كان أتي من العز والملك، وأنه لا يتناول شيئا إلا وصل إليه- بالصعود إلى السماء.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد أنه شخص من خراسان حتى نزل بابل، وقال: ما بقي شيء من الأرض إلا وقد ملكته، ولا بد من أن أعرف أمر السماء والكواكب وما فوقها، وأن الله أعطاه قوة ارتفع بها ومن معه في الهواء حتى انتهوا إلى السحاب، ثم إن الله سلبهم تلك القوة فسقطوا فهلكوا، وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ، وفسد عليه ملكه، وتمزقت الأرض، وكثرت الملوك في النواحي، فصار يغزوهم ويغزونه، فيظفر مرة وينكب اخرى

(1/507)


قَالَ: فغزا بلاد اليمن- والملك بها يومئذ ذو الاذعار بن أبرهة ذي المنار ابن الرائش- فلما ورد بلاد اليمن خرج عليه ذو الأذعار بن أبرهة وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو قبل ذلك بنفسه قال: فلما اظله كيقاوس ووطيء بلاده في جموعه خرج بنفسه في جموع حمير وولد قحطان، فظفر بكيقاوس، فأسره، واستباح عسكره، وحبسه في بئر، وأطبق عليه طبقا قَالَ: وخرج من سجستان رجل يقال له رستم، كان جبارا قويا فيمن أطاعه من الناس قال: فزعمت الفرس انه دخل بلاد اليمن، واستخرج قبوس من محبسه وهو كيقاوس قَالَ: وزعم أهل اليمن أنه لما بلغ ذا الأذعار إقبال رستم خرج اليه في جنوده وعدده، وخندق كل واحد منهما على عسكره، وأنهما أشفقا على جنديهما من البوار، وتخوفا ان تزاحفا ألا تكون لهما بقية، فاصطلحا على دفع كيقاوس إلى رستم، ووضع الحرب، فانصرف رستم بكيقوس إلى بابل، وكتب كيقاوس لرستم عتقا من عبودة الملك، وأقطعه سجستان وزابلستان، وأعطاه قلنسوة منسوجة بالذهب وتوجه، وأمره أن يجلس على سرير من فضة، قوائمه من ذهب، فلم تزل تلك البلاد بيد رستم حتى هلك كيقاوس وبعده دهرا طويلا.
قَالَ: وكان ملكه مائة وخمسين سنة.
وزعم علماء الفرس أن أول من سود لباسه على وجه الحداد شادوس بن جودرز على سياوخش، وأنه فعل ذلك يوم ورد على كيقاوس نعي ابنه سياوخش وقتل فراسياب إياه، وغدره به، وأنه دخل على كيقاوس، وقد لبس السواد، فاعلمه أنه فعل ذلك لأن يومه يوم إظلام وسواد.
وقد حقق ما ذكر ابن الكلبي من أسر صاحب اليمن قابوس الحسن بن هانئ في شعر له فقال:

(1/508)


وقاظ قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعا وفت لحاسبها
ثم ملك من بعد كيقاوس ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس ابن كيبية بن كيقباذ.
وكان كيقاوس حين صار به وبامه وسفافريد ابنه فراسياب- وربما قيل وسففره- بي بن جوذرز إليه من بلاد الترك ملكه، فلما قام بالملك بعد جده كيقاوس، وعقد التاج على رأسه خطب رعيته خطبة بليغه، أعلمهم فيها أنه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب التركي، ثم كتب إلى جوذرز الأصبهبذ- كان- بأصبهان ونواحي خراسان- يأمره بالمصير إليه، فلما صار إليه أعلمه ما عزم عليه من الطلب بثأره من قتل والده، وأمره بعرض جنده، وانتخاب ثلاثين الف جل منهم، وضمهم إلى طوس بن نوذران، ليتوجه بهم إلى بلاد الترك، ففعل ذلك جوذرز، وضمهم إلى طوس، وكان فيمن أشخص معه برزافره بن كيقاوس، عم كيخسرو وبي بن جوذرز،

(1/509)


وجماعه كثيره من اخوته، وتقدم كيخسرو الى طوس، ان يكون قصده لفراسياب وطراخنته، وألا يمر بناحية من بلاد الترك، وكان فيها أخ له يقال له فروذ بن سياوخش، من امرأة يقال لها برزا فريد، كان سياوخش تزوجها في بعض مدائن الترك ايام سار الى فراسياب، ثم شخص عنها وهي حبلى، فولدت فروذ فأقام بموضعه، إلى أن شب فغلط طوس في أمر فروذ- فيما قيل- وذلك أنه لما صار بحذاء المدينة التي كان فيها فروذ هاج بينه وبينه حرب ببعض الأسباب، فهلك فروذ فيها، فلما اتصل خبره بكيخسرو كتب إلى برزافره عمه كتابا غليظا، يعلمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس ابن نوذران ومحاربته فروذ أخاه، وأمره بتوجيه طوس إليه مقيدا مغلولا، وتقدم إليه في القيام بأمر العسكر والنفوذ به لوجهه، فلما وصل الكتاب إلى برزافره، جمع رؤساء الأجناد والمقاتلة فقرأه عليهم، وأمر بغل طوس وتقييده، ووجهه مع ثقات من رسله إلى كيخسرو، وتولى امر العسكر، وعبر النهر المعروف بكاسبروذ، وانتهى الخبر الى فراسياب، فوجه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته محاربته، فالتقوا بموضع من بلاد الترك يقال له واشن، وفيهم فيران بن ويسغان واخوته طراسيف بن جوذرز صهر فراسياب، وهماسف ابن فشنجان، وقاتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشل لما رأى من شدة الأمر وكثرة القتلى، حتى انحاز بالعلم إلى رءوس الجبال واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة في وقعة واحدة سبعون رجلا، وقتل من الفريقين بشر كثير، وانصرف برزافره ومن كان معه إلى كيخسرو، وبهم من الغم والمصيبة ما تمنوا معه الموت، فكان خوفهم من سطوة كيخسرو أشد، فلما دخلوا على كيخسرو أقبل على برزافره بلائمة شديدة، وقال: أتيتم في وجهكم لترككم وصيتي ومخالفة وصية الملوك، تورد مورد السوء، وتورث الندامة، وبلغ ما أصيبوا به من كيخسرو حتى رئيت الكآبة في وجهه، ولم يلتذ طعاما ولا نوما فلما مضت لموافاتهم أيام أرسل إلى جوذرز فلما دخل عليه أظهر التوجع له، فشكا إليه جوذرز برزافره، وأعلمه أنه كان

(1/510)


السبب للهزيمة بالعلم وخذلانه ولده، فقال له كيخسرو: إن حقك بخدمتك لآبائنا لازم لنا، وهذه جنودنا وخزائننا مبذولة لك في مطالبة ترتك، وامره بالتهيؤ والاستعداد والتوجه الى فراسياب، والعمل في قتله وتخريب بلاده، فلما سمع جوذرز مقالة كيخسرو نهض مبادرا فقبل يده، وقال: أيها الملك المظفر، نحن رعيتك وعبيدك، فإن كانت آفة أو نازلة، فلتكن بالعبيد دون ملوكها، وأولادي المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من مملكة الترك، فلا يغمن الملك ما كان، ولا يدعن لهوه، فإن الحرب دول، وأعلمه أنه على النفوذ لأمره وخرج من عنده مسرورا.
فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل مملكته، فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب إلى عماله في الآفاق يعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تعرف بشاه أسطون، من كورة بلخ، في وقت وقته لهم فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم، وفيهم برزافره عمه وأهل بيته، وجوذرز وبقية ولده فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت المرازبة، تولى كيخسرو بنفسه عرض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا بجوذرز بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان- وأغص ابن وصيفة كانت لسياوخش، يقال لها: شوماهان- فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على الترك من أربعة أوجه، حتى يحيطوا بهم برا وبحرا، وأنه قد قود على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، وصير مدخله من ناحية خراسان، وجعل فيمن ضم إليه برزافره عمه وبي بن جوذرز وجماعة من الأصبهبذين كثيرة، ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه درفش كابيان، وزعموا أن ذلك العلم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القواد قبل ذلك، وإنما كانوا يسيرونه مع أولاد الملوك إذا وجهوهم في

(1/511)


الأمور العظام وأمر ميلاذ بالدخول مما يلي الصين، وضم إليه جماعة كثيرة دون من ضم إلى جوذرز، وأمر أغص بالدخول من ناحية الخزر في مثل من ضم إلى ميلاذ، وضم إلى شومهان إخوتها وبني عمها وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز وميلاذ.
ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت نذرت أن تطالب بدمه فمضى جميع هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلاد الترك من ناحية خراسان، وبدأ بفيران بن ويسغان، فالتحمت بينهما حرب شديدة مذكورة، وهي الحرب التي قتل فيها بيزن بن بي خمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز فيران أيضا، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحت عليه العساكر الثلاثة، كل عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو بنفسه، وجعل قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصير مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس اصبهبذى فراسياب، والمرشح للملك من بعده، وجماعة كثيرة من أخوته، مثل خمان، واوستهن، وجلباد، وسيامق، وبهرام، وفرشخاذ، وفرخلاد.
ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعه من اخوه فراسياب، مثل: رتدراى، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست.
وأسر بروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى، وما غنم من الكراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألف رجل، ومن الكراع والورق والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر كيخسرو إلى ذلك عند موافاته.
فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفت له الرجال، وتلقاه جوذرز وسائر الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمر بعلم علم، فكان أول قتيل رآه جثة فيران عند علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال:

(1/512)


أيها الجبل الصعب الذرا المنيع الأركان! ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصب نفسك لنا دون فراسياب في هذه المطالبة! ألم أبذل لك نفسي، وأعرض عليك ملكي فلم تحسن الاختيار! ألست الصدوق اللسان، الحافظ للإخوان، الكاتم للأسرار! ألم اعلمك مكر فراسياب وقلة وفائه فلم تفعل ما أمرتك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من مقاتلتنا وأبناء مملكتنا! ما اغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا وأفنيت آل ويسغان! فويل لحلمك وفهمك! وويل لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم لموجعون! ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علم بي بن جوذرز، فلما وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيا أسيرا في يدي بي، فسأل عنه فأخبر أنه بروا قاتل سياوخش الماثل به عند قتله إياه فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسه بالسجود شكرا لربه، ثم قَالَ: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا! أنت الذي قتلت سياوخش، ومثلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلفت من بين الأتراك إبارته، فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيجت بيننا هذه المحاربة، وأشعلت في كلا الفريقين نارا موقدة! أنت الذي جرى على يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيبت أيها التركي جماله! ألا أبقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتك وقوتك اليوم! وأين أخوك الساحر عن نصرتك! لست أقتلك لقتلك إياه، بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحا لك ألا تتولاه، وسأقتل من قتله ببغيه وجرمه.
ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حيا ثم يذبح ففعل ذلك به بي، ولم يزل كيخسرو يمر بعلم علم، وأصبهبذ أصبهبذ، فإذا صار إلى الواحد منهم قَالَ له نحو ما ذكرنا، ثم صار إلى مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرزافره عمه، فلما دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأظهر له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة، ثم أجزل جائزته وملكه على كرمان ومكران ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما

(1/513)


دخل عليه قَالَ له: أيها الأصبهبذ الرشيد، والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز وجل، وعن غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك مذخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها بزرجفرمذار، وهي الوزارة، وجعلنا لك أصبهان وجرجان وجبالهما، فأحسن رعاية أهلها فشكر جوذرز ذلك، وخرج من عنده بهجا مسرورا، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد فشنجان وويسغان، مثل جرجين بن ميلاذان، وبي، وشادوس ولخام، وجدمير بن جوذرز، وبيزن بن بي، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان وزنده بن شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان فدخلوا عليه رجلا رجلا، فمنهم من ملكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصه بأعمال من أعمال حضرته، ثم لم يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص وشومهان بإثخانهم في بلاد الترك، وأنهم قد هزموا فراسياب عسكرا بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه بموضع سماه لهم من بلاد الترك.
فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه من قتل من قتل، وأسر من أسر، وخراب ما خرب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من ولده إلا شيده- وكان ساحرا- فوجهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته وتقدم إليهم في الاحتراس من غيلته.
وقيل: ان كيخسرو واشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن القتال اتصل بينهما أربعة أيام، وإن رجلا من خاصة كيخسرو يقال له جرد بن جرهمان عبى يومئذ أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم واستماتت رجال خنيارث وجدت، وايقن شيده الا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على هامته بالعمود ضربة خر منها ميتا، ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنعة، وغنم كيخسرو ما كان من عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فاقبل بجميع

(1/514)


طراخنته، فلما التقى وكيخسرو، ونشبت بينهما حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال خنيارث برجال الترك، وامتد الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على الدماء، والاسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد وبسطام، ونظر فراسياب وهم يحمون كيخسرو كأنهم اسود ضاربه، فانهزم موليا على وجهه هاربا، فأحصيت القتلى فيما ذكر يومئذ، فبلغت عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو واصحابه في طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى أتى أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظفر به، فلما أتى كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضعه ثلاثة أيام، ثم دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حجة، فأمر بقتله، فقام إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو بدمه، فغمس فيه يده، وقال هذا بترة سياوخش، وظلمكم اياه واعتدائكم عليه ثم انصرف من أذربيجان ظافرا غانما بهجا.
وذكر أن عدة من أولاد كيبيه جد كيخسرو الأكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو في حرب الترك، وأن ممن كان معه كي أرش بن كيبيه، وكان مملكا على خوزستان وما يليها من بابل وكي به أرش، وكان مملكا على كرمان ونواحيها، وكي أوجي بن كيمنوش بن كيفاشين بن كيبيه، وكان مملكا على فارس، وكي أوجي هذا هو ابو كي لهراسف الملك، ويقال ان أخا لفراسياب كان يقال له: كي شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه، فاستولى على ملكها، وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جبارا عاتيا، وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن أرس بن وندح بن رعر بن نودراحاه بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر.
فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوتره، واستقر في مملكته زهد في الملك، وتنسك، وأعلم الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر، فاشتد

(1/515)


لذلك جزعهم، وعظمت له وحشتهم، واستغاثوا إليه، وطلبوا وتضرعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا عنده في ذلك شيئا، فلما يئسوا قَالُوا بأجمعهم: فإذا قمت على ما أنت عليه فسم للملك رجلا نقلده إياه، وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنه خاصته ووصيه، فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قبوله الوصية وفقد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب للنسك فلا يدرى أين مات، ولا كيف كانت ميتته، وبعض يقول غير ذلك.
وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو:
جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين.
وكان ملك كيخسرو ستين سنه

(1/516)


امر إسرائيل بعد سليمان بن داود ع
رجع الحديث الى الخبر عن امر بنى إسرائيل بعد سليمان بن داود ع.
ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه- فيما قيل- سبع عشرة سنة ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رحبعم، فكان أبيا بن رحبعم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط، وذلك أن سائر الأسباط ملكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان قربته في داره، وكانت قربت فيها جرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعض الملك عن ولده، فكان ملك رحبعم إلى أن توفي- فيما ذكر- ثلاث سنين.
ثم ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملك أمرهما- وهما سبط يهوذا وسبط بنيامين- إلى أن توفي، إحدى وأربعين سنة
. ذكر خبر أسا بن أبيا وزرح الهندي
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن ملكا من ملوك بنى إسرائيل يقال له أسا بن أبيا، كان رجلا صالحا، وكان أعرج، وكان ملك من ملوك الهند يقال له زرح، وكان ملكا جبارا فاسقا يدعو الناس

(1/517)


إلى عبادته، وكان أبيا عابد أصنام، له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناس إلى عبادتهما، حتى أضل عامة بني إسرائيل، وكان يعبد الأصنام حتى توفي ثم ملك ابنه أسا من بعده، فلما ملكهم بعث فيهم مناديا ينادي:
ألا إن الكفر قد مات وأهله، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتها، وظهرت طاعة الله وأعمالها، فليس كافر من بني إسرائيل يطلع رأسه بعد اليوم بكفر في ولايتي ودهري، إلا أني قاتله فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته، فمن أجل ذلك ينبغي لنا ألا نقر لله معصية يعمل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدنا، حتى نطهر الأرض من نجسها، وننقيها من دنسها، ونجاهد من خالفنا في ذلك بالحرب والنفي من بلادنا.
فلما سمع ذلك قومه ضجوا وكرهوا، فأتوا أم أسا الملك فشكوا إليها فعل ابنها بهم وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربهم، فتحملت لهم أمه أن تكلمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده، فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورءوسهم وذوو طاعتهم، إذ اقبلت أم الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرها أن تجلس فيه، معرفة بحقها، وتوقيرا لها فأبت عليه وقالت:
لست ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر، إن أطعتني فيه رشدت وأخذت بحظك، وإن عصيتني فحظك بخست، ونفسك ظلمت إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم، دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفر بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنة، وأظهرت فيهم بدعة، أردت بذلك- فيما زعمت- تعظيما لوقارك، ومعرفة بمكانك، وتشديدا لسلطانك، وفي التقصير يا بني دخلت، وبالشين أخذت ودعوت جميع الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك، أردت بذلك أن تعيد الأحرار لك عبيدا، والضعيف

(1/518)


لك شديدا، سفهت بذلك رأي العلماء، وخالفت الحكماء، واتبعت رأي السفهاء ولعمري ما حملك على ذلك يا بني إلا كثرة طيشك، وحداثة سنك، وقلة علمك، فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلست من نسل والدك، ولا ينبغي الملك لمثلك يا بني بأي شيء تدل على قومك؟
لعلك أوتيت من الحروف مثل ما اتى موسى إلى فرعون، أن غرقه وأنجى قومه من الظلمة أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود، أن قتل الأسد لقومه، ولحق الذئب فشق شدقه، وقتل جالوت الجبار وحده أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضل مما أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء، إذ صارت حكمته مثلا للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتك من حسنة فأنا أحظى الناس بها، وإن تكن الأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك.
فلما سمعها الملك اشتد غضبه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمه! إنه لا ينبغي أن آكل على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي هلمي إلى أمر إن أطعتني فيه رشدت، وإن تركته غويت، أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس أحد يرد هذا علي إلا هو لله عدو، وأنا ناصره لأني عبده.
قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دين آبائي وقومي ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الرب الذي تدعوني إليه.
فقال لها الملك: حينئذ يا أمه، إن قولك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحمي.
وأمر بها الملك عند ذلك فأخرجوها وغربوها، ثم أوصى إلى صاحب شرطته وبابه أن يقتلها إن هي ألمت بمكانه.
فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة،

(1/519)


فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت فيما بينهم وبينه كل حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا في أمره، ولم نجبه إلى دينه! فاحتالوا له كل حيلة، فحفظه الله وأباد مكرهم فلما لم يكن لهم عن ذلك صبر، ولا على فراق دينهم قوام، ائتمروا بأن يهربوا من بلاده، ويسكنوا بلادا غيرها، فخرجوا متوجهين الى زرح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه على أسا ومن اتبعه، فلما دخلوا على زرح سجدوا له، فقال لهم: من أنتم؟ قَالُوا: نحن عبيدك، قَالَ: وأي عبيدي أنتم؟ قَالُوا: نحن من أرضك أرض الشام، وأنا كنا نعتز بملك، حتى ظهر فينا ملك صبي حديث السن سفيه، فغير ديننا، وسفه رأينا، وكفر آباءنا، وهان عليه سخطنا، فأتيناك لنعلمك ذلك، فتكون أنت أولى بملكنا، ونحن رءوسهم، وهي أرض كثير مالها، ضعيف أهلها، طيبة معيشتها، كثيرة أنضارها، وفيهم الكنوز وملك ثلاثين ملكا، وهم الذين كان يوشع بن نون خليفة موسى سار بهم في البحر هو وقومه، فنحن وأرضنا لك، وبلادنا بلادك، وليس أحد فيها يناصبك، هم دافعون أيديهم إليك بغير قتال، بأموالهم وانفسهم مسالمه.
قال: لهم زرح: لعمري، ما كنت لأجيبكم إلى ما دعوتموني إليه، ولا أستجيب إلى مقاتلة قوم لعلهم أطوع لي منكم، حتى أبعث إليهم من قومي أمناء، فإن وقع الأمر على ما تكلمتم به قدامي نفعكم ذلك عندي، وجعلتكم عليها ملوكا، وإن كان كلامكم كذبا فإني منزل بكم العقوبة التي تنبغي لمن كذبني.
قَالَ القوم: تكلمت بالعدل، وحكمت بالقسط، ونحن به راضون.
فأمر عند ذلك بالأرزاق فأجريت عليهم، واختار من قومه أمناء ليبعثهم جواسيس، فأوصاهم بوصيته، وخوفهم وحذرهم بطشه إن هم كذبوه،

(1/520)


ووعدهم المعروف ان هم صدقوه وقال زرح: إني مرسلكم لأمانتكم، وشحكم على دينكم، وحسن رأيكم في قومكم، لتطالعوا لي أرضا من أرضي، وتبحثوا لي عن شأنها، وتعلموني علم أهلها وملكها وجنودها وعددها وعدد مياهها، وفجاجها وطرقها، ومداخلها ومخارجها، وسهولتها وصعوبتها، حتى كأني شاهد ذلك وعالمه، وحاضر ذلك وخابره وخذوا معكم من الخزائن من الياقوت والمرجان والكسوة ما يفرغون إليه إذا رأوه، ويشترون منكم إذا نظروا إليه.
فأمكنهم من خزائنه حتى أخذوا منها، فجهزهم لبرهم وبحرهم، ووصف لهم القوم الذين أتوهم الطرق، ودلوهم على مقاصدها، فساروا كالتجار، حتى نزلوا ساحل البحر، ثم ركبوا منه حتى ارسوا على ساحل إيلياء، ثم ساروا حتى دخلوها، فخلفوا أثقالهم فيها، وأظهروا أمتعتهم وبضاعتهم، ودعوا الناس إلى أن يشتروا منهم، فلم يفرغوا لبضاعتهم، وكسدت تجارتهم، فجعلوا يعطون بالشيء القليل الشيء الكثير، لكيلا يخرجوهم من قريتهم، حتى يعلموا أخبارهم، ويحقوا شأنهم ويستخرجوا ما أمرهم به ملكهم من أخبارهم.
وكان أسا الملك قد تقدم إلى نساء بني إسرائيل ألا يقدر على امرأة لا زوج لها بهيئة امرأة لها زوج إلا قتلها أو نفاها من بلاده إلى جزائر البحار، فإن إبليس لم يدخل على أهل الدين في دينهم بمكيدة هي أشد من النساء، فكانت المرأة التي لا زوج لها لا تخرج إلا منتقبة في رثة الثياب لئلا تعرف، فلما بذل هؤلاء الأمناء بضاعتهم ما ثمنه مائة درهم بدرهم، جعل نساء بني إسرائيل يشترين خفية بالليل سرا، لا يعلم بهن أحد من أهل دينهن، حتى أنفقوا بضاعتهم واشتروا بها حاجتهم، واستوعبوا خبر مدينتهم وحصونهم، وعدد مياههم، وكانوا قد كتموا رءوس بضاعتهم ومحاسنها من اللؤلؤ والمرجان والياقوت هدية للملك، وجعل الأمناء يسألون من رأوا من أهل القرية عن خبر الملك

(1/521)


وشأنه إذ لم يشتر منهم شيئا، وقالوا: ما شأن الملك لا يشتري منا شيئا! ان كان غنيا فان عندنا من طرائف البضاعات فنعطيه ما شاء مما لم يدخل مثله في خزائنه، وإن كان محتاجا فما يمنعه أن يشهدنا فنعطيه ما شاء بغير ثمن! قَالَ لهم من حضرهم من أهل القرية: ان له من الغنى والخزائن وفنون المتاع ما لم يقدر على مثله، إنه استفرغ الخزائن التي كان موسى سار بها من مصر، والحلي الذي كان بنو إسرائيل أخذوا، وما جمع يوشع بن نون خليفة موسى، وما جمع سليمان رأس الحكماء والملوك، من الغنى الكثير والآنية التي لا يقدر على مثلها قَالَ الأمناء: فما قتاله؟ وبأي شيء عظمته؟ وما جنوده؟ أرأيتم لو أن ملكا انحرف عليه ففتق ملكه ما كان إذا قتاله إياه؟ وما عدته وعدد جنوده؟ أم بأي الخيل والفرسان غلبته؟ أم من أجل كثرة جمعه وخزائنه وقعت في قلوب الرجال هيبته! فأجابهم القوم وقالوا: إن أسا الملك قليلة عدته، ضعيفة قوته، غير أن له صديقا لو دعاه واستعان به على أن يزيل الجبال أزالها، فإذا كان معه صديقه فليس شيء من الخلق يطيقه.
قَالَ لهم الأمناء: ومن صديق أسا؟ وكم عدد جنوده؟ وكيف مواجهته وقتاله؟ وكم عدد عساكره ومراكبه؟ وأين قراره ومسكنه؟
فأجابهم القوم: أما مسكنه ففوق السموات العلا، مستو على عرشه، لا يحصى عدد جنوده، وكل شيء من الخلق له عبد، لو أمر البحر لطم على البر، ولو أمر الأنهار لغارت في عنصرها، لا يرى ولا يعرف قراره، وهو صديق أسا وناصره

(1/522)


فجعل الأمناء يكتبون كل شيء أخبروا به من أمر أسا وقضية أمره، فدخل بعض هؤلاء الأمناء عليه فقالوا: يا ايها الملك، إن معنا هدية نريد أن نهديها لك من طرائف بلادنا، أو تشتري منا فنرخصه عليك.
قَالَ لهم: ائتوني بذلك حتى أنظر إليه، فلما أتوه به قَالَ لهم: هل يبقى هذا لأهله ويبقون له؟ قَالُوا: بل يفنى هذا ويفنى أهله قَالَ لهم أسا:
لا حاجة لي فيه، إنما طلبتي ما تبقى بهجته لأهله، لا تزول ولا يزولون عنه.
فخرجوا من عنده، ورد عليهم هديتهم، فساروا من بيت المقدس متوجهين إلى زرح الهندي ملكهم فلما أتوه نشروا له كتاب خبرهم وأنبئوه بما انتهى إليهم من أمر ملكهم، وأخبروه بصديق اسا فلما سمع زرح كلامهم استحلفهم بعزته، وبالشمس والقمر اللذين يعبدونهما ولهما يصلون ألا يكتموه من خبر ما رأوا في بني إسرائيل شيئا فصدقوه.
فلما فرغوا من خبرهم وخبر أسا ملكهم وصديقه، قال لهم زرح: إن بني إسرائيل لما علموا أنكم جواسيس، وأنكم قد اطلعتم على عوراتهم ذكروا لكم صديق أسا وهم كاذبون، أرادوا بذلك ترهيبكم إن صديق أسا لا يطيق أن يأتي بأكثر من جندي، ولا بأكمل من عدتي، ولا بأقسى قلوبا ولا أجرأ على القتال من قومي، إن لقيني بألف لقيته بأكثر من ذلك.
ثم عمد زرح عند ذلك فكتب إلى كل من في طاعته أن يجهزوا من كل مخلاف جندا بعدتهم حتى استمد يأجوج ومأجوج والترك وفارس مع

(1/523)


من سواهم من الأمم ممن جرت عليه لزرح طاعه، كتب:
من زرح الجبار الهندي ملك الأرضين، إلى من بلغته كتبي: أما بعد فإن لي أرضا قد دنا حصادها وأينع ثمرها، وأردت أن تبعثوا إلي بعمال أغنمهم ما حصدوا منها، وهم قوم قصوا عني، وغلبوا على أطراف من أرضي وقهروا من تحت أيديهم من رقيقي، وقد منحتهم من نهض إليهم معي، فإن قصرت بكم قوة فعندي قوتكم، فإنه لا تتعطل خزائني.
فاجتمعوا إليه من كل ناحية، وأمدوه بالخيل والفرسان والرجالة والعدة، فلما اجتمعوا عنده أمكنهم من السلاح والجهاز من خزائنه، ثم أمر بإحصاء عددهم وتعبيتهم، فبلغ عددهم الف الف ومائه الف سوى اهل بلادهم.
وأمر بمائة مركب، فقرن له البغال، كل أربعة أبغل جميعا عليها سرير وقبة، وفي كل قبة منها جارية، ومع كل مركب عشرة من الخدم، وخمسة أفيال من فيلته، فبلغ في كل عسكر من عساكره مائة ألف، وجعل خاصته الذين يركبون معه مائة من رءوسهم، وجعل في كل عسكر عرفاء، وخطبهم وحرضهم على القتال، فلما نظر إليهم وسار فيهم تعزز وتعظم شأنه في قلوب من حضره، ثم قال زرح: أين صديق أسا؟ هل يستطيع أن يعصمه مني؟ أو من يطيق غلبتي؟ فلو أن أسا وصديقه ينظران إلي وإلى جندي ما اجترءا على قتالي، لأن عندي بكل واحد من جنده ألفا من جنودي، ليدخلن أسا أرضي أسيرا، ولأقدمن بقومه سبيا في جنودي.
فجعل زرح ينتقص اسا ويقول فيه ما لا ينبغى، فبلغ اسا صنيع زرح وجمعه عليه، فدعا ربه فقال: اللهم أنت الذي بقوتك خلقت السموات والأرض ومن فيهن حتى صار جميع ذلك في قبضتك، أنت ذو الاناه

(1/524)


الرفيقة والغضب الشديد، أسألك ألا تذكرنا بخطايانا فيما بيننا وبينك، ولا تعمدنا ولا تجزينا على معصيتك، ولكن تذكرنا برحمتك التي جعلتها للخلائق، فانظر إلى ضعفنا وقوة عدونا، وانظر إلى قلتنا وكثرة عدونا، وانظر إلى ما نحن فيه من الضيق والغم، وانظر إلى ما فيه عدونا من الفرح والراحة، فغرق زرحا وجنوده في اليم بالقدرة التي غرقت بها فرعون وجنوده، وأنجيت موسى وقومه وأسألك أن تحل على زرح وقومه عذابك بغتة! فأري أسا في المنام- والله أعلم- أني قد سمعت كلامك، ووصل الى جوارك، وانى على عرشي، وانى ان غرقت زرحا الهندي وقومه، لم يعلم بنو إسرائيل ولا من كان بحضرتهم كيف صنعت بهم، ولكن ساظهر في زرح وقومه لك ولمن اتبعك قدرة من قدرتي، حتى اكفيك مؤنتهم، وأهب لك غنيمتهم، وأضع في أيديكم عساكرهم، حتى يعلم أعداؤك أن صديق أسا لا يطاق وليه، ولا يهزم جنده، ولا يخيب مطيعه، فأنا أتمهل له حتى يفرغ من حاجته، ثم أسوقه إليك عبدا، وعساكره لك ولقومك خولا.
فسار زرح ومن معه حتى حلوا على ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلة يوم حتى دفنوا أنهارها، ومحوا مروجها، حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم، فساروا حتى كانوا على مرحلتين من إيلياء، ففرق زرح عساكره منها الى إيلياء، وامتلأت منهم تلك الأرض: جبالها وسهولها، وامتلأت قلوب أهل الشام منهم رعبا، وعاينوا هلكتهم.
فسمع بهم أسا الملك، فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم فسار القوم الذين بعثهم أسا حتى نظروا إليهم من رأس تل، ثم رجعوا إلى اسا فاخبروه انه لم تر عيون بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلهم ومثل أفيالهم وخيولهم وفرسانهم، وما ظننا أن في الناس مثلهم كثرة وعدة، فلت من إحصائهم عقولنا، وفلت من قتالهم حيلتنا، وانقطع فيما بيننا وبينهم رجاؤنا

(1/525)


فسمع بذلك أهل القرية فشقوا ثيابهم، وذروا التراب على رءوسهم، وعجوا بالعويل في أزقتهم وأسواقهم، وجعل بعضهم يودع بعضا ثم ساروا حتى أتوا الملك فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلى هؤلاء القوم فدافعون إليهم أيدينا، لعلهم أن يرحمونا فيقرونا في بلادنا قَالَ لهم أسا الملك: معاذ الله أن نلقي بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نخلي بيت الله وكتابه للفجرة! قَالُوا: فاحتل لنا حيلة، واطلب إلى صديقك وربك الذي كنت تعدنا بنصره، وتدعونا إلى الإيمان به، فإن هو كشف عنا هذا البلاء، وإلا وضعنا أيدينا في أيدي عدونا لعلنا نتخلص بذلك من القتل.
قَالَ لهم أسا: إن ربي لا يطاق إلا بالتضرع والتبتل والاستكانة قَالُوا: فأبرز له لعله أن يجيبك فيرحم ضعفنا، فإن الصديق لا يسلم صديقه على مثل هذا فدخل اسا لمصلى، ووضع تاجه من راسه، وخلى ثيابه، ولبس المسوح وافترش الرماد، ثم مد يده يدعو ربه بقلب حزين، وتضرع كثير، ودموع سجال، وهو يقول: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، أنت المستخفي من خلقك حيث شئت، لا يدرك قرارك، ولا يطاق كنه عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي لا تبليك الليالي والأيام، أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك فأطفأت بها عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به نجيك موسى فأنجيت بني إسرائيل من الظلمة، وأعتقتهم به من العبودية، وسيرتهم في البر والبحر، وغرقت فرعون ومن اتبعه وبالتضرع الذى تضرع لك عبدك داود فرفعته، ووهبت له من بعد الضعف القوة، ونصرته على جالوت الجبار، وهزمته وبالمسألة التي سألك بها سليمان نبيك فمنحته الحكمة، ووهبت له الرفعة، وملكته على كل دابة أنت محيي الموتى، ومفني الدنيا، وتبقى

(1/526)


وحدك خالدا لا تفنى، وجديدا لا تبلى أسألك يا إلهي أن ترحمني بإجابة دعوتي، فإني أعرج مسكين من أضعف عبادك، وأقلهم حيله، وقد حل بنا كرب عظيم، وحزب شديد، لا يطيق كشفه غيرك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، فارحم ضعفنا بما شئت، فإنك ترحم من تشاء بما تشاء.
وجعل علماء بني إسرائيل يدعون الله خارجا وهم يقولون: اللهم أجب اليوم عبدك، فإنه قد اعتصم بك وحدك، ولا تخل بينه وبين عدوك، واذكر حبه إياك، وفراقه أمه وجميع الخلائق إلا من أطاعك.
فألقى الله على أسا النوم وهو في مصلاه ساجدا، ثم أتاه من الله آت- والله أعلم- فقال: يا أسا، إن الحبيب لا يسلم حبيبه، وإن الله عز وجل يقول:
إني قد ألقيت عليك محبتي، ووجب لك نصري، فأنا الذي أكفيك عدوك، فإنه لا يهون من توكل علي، ولا يضعف من تقوى بي كنت تذكرني في الرخاء، وأسلمك عند الشدائد، وكنت تدعوني آمنا، وأنا أسلمك خائفا، إن الله القوي يقول: أنا أقسم ان لو كايدتك السموات والأرض بمن فيهن لجعلت لك من جميع ذلك مخرجا، فأنا الذي أبعث طرفا من زبانيتي يقتلون أعدائي، فإني معك، ولن يخلص إليك ولا إلى من معك أحد.
فخرج أسا من مصلاه وهو يحمد الله، مسفرا وجهه، فأخبرهم بما قيل له، فأما المؤمنون فصدقوه، وأما المنافقون فكذبوه، وقال بعضهم لبعض:
إن أسا دخل أعرج وخرج أعرج، ولو كان صادقا أن الله قد أجابه إذا لأصلح رجله، ولكن يغرنا ويمنينا، حتى تقع الحرب فينا فيهلكنا! فبينا الملك يخبرهم عن صنع الله بهم إذ قدم رسل من زرح فدخلوا إيلياء ومعهم كتب من زرح إلى أسا، فيها شتم له ولقومه، وتكذيب بالله،

(1/527)


وكتب فيها: أن ادع صديقك الذي أضللت به قومك فليبارزني بجنوده، وليظهر لي مع ما أني أعلم أنه لن يطيقني هو ولا غيره، لانى انا زرح الهندي الملك.
فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هملت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلاه، ونشر تلك الكتب بين يدي الله، ثم قَالَ: اللهم ليس لي شيء من الأشياء أحب إلي من لقائك، غير أني أتخوف أن يطفأ هذا النور الذي أظهرته في أيامي هذه، وقد حضرت هذه الصحائف وعلمت ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيرا، غير أن عبدك زرحا بكايدك ويتناولك، فخر بغير فخر، وتكلم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده.
فأوحى الله إلى أسا- والله أعلم- أنه لا تبديل لكلماتي، ولا خلف لموعدي، ولا تحويل لأمري، فأخرج من مصلاك، ثم مر خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتبعك حتى تقفوا على نشز من الأرض.
فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلا من رؤسائهم، مع كل رجل منهم رهط من قومه، فلما أن خرجوا، ودعوا أهاليهم بألا يرجعوا الى الدنيا فوقفوا لزرح على رابيه من الارض فابصروا منها زرحا وقومه، فلما ابصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم، وقال: إنما نهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعا عند ذلك بالنفر الذين كانوا نعتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقتلوا جميعا، وأسا في ذلك كثير تضرعه، معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل

(1/528)


بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدر قلتهم في كثرتنا؟ إني لأستقلهم عن المحاربة، وأرى الا اقاتلهم.
فأرسل زرح إلى أسا فقال له: أين صديقك الذي كنت تعدنا به، وتزعم أنه يخلصك مما يحل بكم من سطواتي! أفتضعون أيديكم في يدي فأمضي فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي! فأجابه أسا فقال: يا شقي، إنك لست تعلم ما تقول، ولست تدري! أتريد أن تغالب ربك بضعفك، أم تريد أن تكاثره بقلتك؟ هو أعز شيء وأعظمه، وأغلب شيء وأقهره، وعباده أذل وأضعف عنده من أن ينظروا إليه معاينة هو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه.
فاجتهد يا شقي بجهدك حتى تعلم ماذا يحل بك.
فلما اصطف قوم زرح وأخذوا مراتبهم، امر زرح الرماة من قومه أن يرموهم بنشابهم فبعث الله ملائكة من كل سماء- والله أعلم- عونا لأسا وقومه، ومادة له، فوقفهم أسا في مواقفهم، فلما رموا نشابهم، حال المشركون بين ضوء الشمس وبين الأرض، كأنها سحابة طلعت فنحتها الملائكة عن أسا وقومه، ثم رمت بها الملائكة قوم زرح فأصابت كل رجل منهم نشابته التي رمى بها، فقتل رماتهم بها كلها وأسا وقومه في كل ذلك يحمدون الله كثيرا، ويعجون إليه بالتسبيح، وتراءت الملائكة لهم- والله أعلم- فلما رآهم الشقي زرح وقع الرعب في قلبه، وسقط في يده، وقال: إن أسا لعظيم كيده، ماض سحره، وكذلك بنو إسرائيل، حيث كانوا لا يغلب سحرهم ساحر، ولا يطيق مكرهم عالم، وإنما تعلموه من مصر، وبه ساروا في البحر، ثم نادى الهندي في قومه: أن سلوا سيوفكم، ثم احملوا عليهم حملة واحدة.
فدقوهم.
فسلوا سيوفهم ثم حملوا على الملائكة فقتلتهم الملائكة، فلم يبق منهم غير زرح ونسائه ورقيقه

(1/529)


فلما راى ذلك زرح ولى مدبرا فارا هو ومن معه، وهو يقول: إن أسا ظهر علانية، وأهلكني صديقه سرا، وإني كنت أنظر إلى أسا ومن معه واقفين لا يقاتلون والحرب واقعة في قومى فلما راى اسا ان زرحا قد ولى مدبرا قال: اللهم ان زرحا قد ولى مدبرا، وانك ان لم تحل بيني وبينه استنفر علينا قومه ثانية فأوحى الله إلى أسا: إنك لم تقتل من قتل منهم ولكني قتلتهم، فقف مكانك، فإني لو خليت بينك وبينهم أهلكوكم جميعا، إنما يتقلب زرح في قبضتي، ولن ينصره أحد مني، وأنا لزرح بالمكان الذي لا يستطيع صدودا عنه ولا تحويلا، وإني قد وهبت لك ولقومك عساكره وما فيها من فضة ومتاع ودابة، فهذا اجرك إذ اعتصمت بي، ولا ألتمس منك أجرا على نصرتك! فسار زرح حتى أتى البحر يريد بذلك الهرب، ومعه مائة ألف، فهيئوا سفنهم ثم ركبوا فيها، فلما ساروا في البحر بعث الله الرياح من أطراف الأرضين والبحار إلى ذلك البحر واضطربت من كل ناحية أمواجه، وضربت السفن بعضها بعضا حتى تكسرت، فغرق زرح ومن كان معه، واضطربت بهم الأمواج حتى فزع لذلك أهل القرى حولهم، ورجفت الأرض، فبعث أسا من يعلمه علم ذلك، فأوحى الله إليه- والله أعلم- أن اهبط أنت وقومك أهل قراكم، فخذوا ما غنمكم الله بقوة، وكونوا فيه من الشاكرين، فإني قد سوغت كل من أخذ من هذه العساكر شيئا ما أخذه فهبطوا يحمدون الله ويقدسونه، فنقلوا تلك العساكر إلى قراهم ثلاثة أشهر والله أعلم.
ثم ملك بعده يهوشافاظ بن أسا إلى أن هلك خمسا وعشرين سنة

(1/530)


ثم ملكت عتليا وتسمى غزليا ابنة عمرم أم أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل، فلم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، فإنه ستر عنها، ثم قتلها يواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين.
ثم ملك يواش بن أخزيا إلى أن قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدته، فكان ملكه أربعين سنة.
ثم ملك أموصيا بن يواش إلى أن قتله أصحابه تسعا وعشرين سنة، ثم ملك عوزيا بن أموصيا- وقد يقال لعوزيا: غوزيا- إلى أن توفي، اثنتين وخمسين سنة.
ثم ملك يوتام بن عوزيا إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
ثم ملك أحاز بن يوتام إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي وقيل إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرع إلى ربه فزاده وأمهله، وأمر شعيا بإعلامه ذلك.
وأما مُحَمَّد بن إسحاق فإنه قَالَ: صاحب شعيا الذي هذه القصة قصته اسمه صديقة

(1/531)


ذكر صاحب قصة شعيا من ملوك بني إسرائيل، وسنحاريب
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الفضل، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن إسحاق، قَالَ: كان فيما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل وأحداثهم وما هم فاعلون بعده، قَالَ: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» - إلى- «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ، فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم، متعطفا عليهم، محسنا إليهم، وكان مما أنزل الله بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر عنهم على لسان موسى.
فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكا منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك الملك عليهم، بعث نبيا يسدده ويرشده، فيكون فيما بينه وبين الله، يحدث إليه في أمرهم لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة.
فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا بن أمصيا، وذلك قبل مبعث عيسى وزكرياء ويحيى وشعيا الذي بشر بعيسى ومُحَمَّد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه، وعظمت فيهم الأحداث، وشعيا معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل معه ستمائه ألف راية، فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض، في ساقه قرحة، فجاءه النبي شعيا، فقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده في ستمائه ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم.
فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبي الله، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده؟ فقال له النبي ع:

(1/532)


لم يأتني وحي حدث إلي في شأنك.
فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعيا النبي: أن ائت ملك بني إسرائيل فأمره ان يوصى بوصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى النبي شعيا ملك بني إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك توصي وصيتك، وتستخلف من شئت على الملك من أهل بيتك، فإنك ميت.
فلما قَالَ ذلك شعيا لصديقة: أقبل على القبلة، فصلى وسبح، ودعا وبكى، وقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، وتوكل وصبر، وظن صادق: اللهم رب الأرباب، وإله الآلهة، القدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم، المترحم، الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي وسري وعلانيتي لك وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا.
فأوحى الله إلى شعيا، فأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد راى بكاءه، وقد اخر اجله خمس عشره سنه، وانجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فلما قَالَ له ذلك، ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر ساجدا، وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبحت، وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي، ورحمت تضرعي.
فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا: أن قل للملك صديقة، فيأمر عبدا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح وقد برئ ففعل ذلك فشفي وقال الملك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا فقال الله لشعيا النبي: قل له إني قد كفيتك عدوك، وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه

(1/533)


فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إن الله قد كفاك عدوك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قَالَ لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون! فقال سنحاريب له:
قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك إلى ما هو شر لك ولمن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته!.
ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس، وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير، لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا، فافعل ما أمرت فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ النبي شعيا الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته: يا ملك

(1/534)


بابل، قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا به، ثم كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بني إسرائيل الذي سار إليه سنحاريب كان أعرج، وكان عرجه من عرق النسا، وأن سنحاريب إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه، وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل، يقال له ليفر، وكان بختنصر ابن عمه كاتبه، وأن الله أرسل عليه ريحا أهلكت جيشه، وأفلت هو وكاتبه، وأن هذا البابلي قتله ابن له، وأن بختنصر غضب لصاحبه، فقتل ابنه الذي قتل أباه، وأن سنحاريب سار بعد ذلك إليه، وكان مسكنه بنينوى مع ملك أذربيجان يومئذ، وكان يدعى سلمان الأعسر، وأن سنحاريب وسلمان اختلفا، فتحاربا حتى تفانى جنداهما، وصار ما كان معهما غنيمة لبني إسرائيل.
وقال بعضهم: بل الذي غزا حزقيا صاحب شعيا سنحاريب ملك الموصل، وزعم انه لما احاط ببيت المقدس بجنوده بعث الله ملكا، فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألف رجل وكان ملكه إلى أن توفي تسعا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده- فيما قيل- أمرهم منشا بن حزقيا إلى أن توفي، خمسا وخمسين سنة.
ثم ملك بعده أمون بن منشا إلى أن قتله أصحابه، اثنتي عشرة سنة

(1/535)


ثم ملك بعده يوشيا بن أمون إلى أن قتله فرعون الأجدع المقعد ملك مصر، إحدى وثلاثين سنة.
ثم ياهواحاز بن يوشيا، وكان فرعون الأجدع قد غزاه وأسره وأشخصه إلى مصر، وملك فرعون الأجدع يوياقيم بن ياهواحاز على ما كان عليه أبوه، ووظف عليه خراجا يؤديه إليه، فكان يوياقيم يجبي ذلك- فيما زعموا- من بني إسرائيل، ويحمله- فيما زعموا- اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك أمرهم من بعده يوياحين بن يوياقيم، فغزاه بختنصر، فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه وملك مكانه متنيا عمه وسماه صديقيا فخالفه، فغزاه فظفر به، فأوثقه وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده بين يديه، وسمل عينيه وخرب المدينة والهيكل، وسبى بني إسرائيل، وحملهم إلى بابل، فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاماسب ابن أسب، من أجل القرابة التي كانت بينه وبينهم، وذلك أن أمه أشتر ابنة جاويل- وقيل: حاويل- الإسرائيلي، فكان جميع ما ملك صديقيا مع الثلاثة الأشهر التي ملك فيها يوياحين- فيما قيل- إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر.
ثم صار ملك بيت المقدس والشام لأشتاسب بن لهراسب، وعامله على ذلك كله بختنصر.
وذكر مُحَمَّد بْن إسحاق، فيما حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة عنه: أن صديقة ملك بني إسرائيل الذي قد ذكرنا خبره، لما قبضه الله مرج

(1/536)


أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، حتى قتل بعضهم بعضا عليه، ونبيهم شعيا معهم، لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قَالَ الله- فيما بلغنا- لشعيا: قم في قومك أوح على لسانك، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي، فوعظهم وذكرهم وخوفهم الغير، بعد أن عدد عليهم نعم الله عليهم، وتعرضهم للغير.
قَالَ: فلما فرغ شعيا إليهم من مقالته عدوا عليه- فيما بلغني- ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة، فانفلقت له، فدخل فيها وأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
وقد حَدَّثَنِي بقصة شعيا وقومه من بني إسرائيل وقتلهم إياه، مُحَمَّد بن سهل البخاري، قَالَ: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه

(1/537)


ذكر خبر لهراسب وابنه بشتاسب وغزو بختنصر بني إسرائيل وتخريبه بيت المقدس
ثم ملك بعد كيخسرو من الفرس لهراسب بن كيوجي بن كيمنوش بن كيفاشين، باختيار كيخسرو إياه، فلما عقد التاج على رأسه قَالَ: نحن مؤثرون البر على غيره واتخذ سريرا من ذهب مكللا بأنواع الجواهر للجلوس عليه، وأمر فبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ، وسماها الحسناء، ودون الدواوين، وقوى ملكه بانتخابه لنفسه الجنود، وعمر الأرض واجتبى الخراج لأرزاق الجنود، ووجه بختنصر، وكان اسمه بالفارسية- فيما قيل- بخترشه.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك لهراسب- وهو ابن أخي قبوس- فبنى مدينة بلخ، فاشتدت شوكة الترك في زمانه، وكان منزله ببلخ يقاتل الترك قَالَ: وكان بختنصر في زمانه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة، فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها ووجه قائدا له، فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه، وقالوا: راهنت أهل بابل وخذلتنا! واستعدوا للقتال، فكتب قائد بختنصر إليه بما كان، فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، فسار بختنصر حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية.
قَالَ: وبلغنا أنه وجد في سجن بني إسرائيل إرميا النبي، وكان الله تعالى بعثه نبيا- فيما بلغنا- إلى بني إسرائيل يحذرهم ما حل بهم من بختنصر،

(1/538)


ويعلمهم أن الله مسلط عليهم من يقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم، إن لم يتوبوا وينزعوا عن سيئ أعمالهم فقال له بختنصر: ما خطبك؟ فأخبره أن الله بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم، فكذبوه وحبسوه فقال بختنصر:
بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! وخلى سبيله، وأحسن إليه فاجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا، ونحن نتوب إلى الله مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا فدعا ربه فأوحى إليه أنهم غير فاعلين، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة، فأخبرهم بما أمرهم الله به، فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد خربت وغضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: إن عبيدا لي هربوا مني إليك، فسرحهم إلي، وإلا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل فكتب إليه ملك مصر: ما هم بعبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، فغزاه بختنصر فقتله، وسبى أهل مصر، ثم سار في أرض المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية، ثم انطلق بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن، فيهم دانيال وغيره من الأنبياء.
قَالَ: وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى، وغيرها.
قَالَ: ثم أوحى الله إلى إرميا- فيما بلغنا: إني عامر بيت المقدس فاخرج إليها، فانزلها فخرج إليها حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله! أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمر هذه، ومتى يحييها الله بعد موتها! ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة فيها طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه،

(1/539)


وهو لهراسب الملك الأعظم وكان ملك لهراسب مائة وعشرين سنة وملك بعده بشتاسب ابنه، فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد، فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: إن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلا من آل داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها، فرجعوا فعمروها، وفتح الله لإرميا عينيه، فنظر إلى المدينة كيف تعمر وتبنى، ومكث في نومه ذلك، حتى تمت له مائة سنة، ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة، وقد عهد المدينة خرابا يبابا، فلما نظر إليها قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كل شيء قدير قَالَ: وأقام بنو إسرائيل ببيت المقدس ورد إليهم أمرهم، وكثروا بها حتى غلبت عليهم الروم في زمان ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
قَالَ هشام: وفي زمان بشتاسب ظهر زرادشت، الذي تزعم المجوس انه نبيهم، وكان زرادشت- فيما زعم قوم من علماء أهل الكتاب- من أهل فلسطين، خادما لبعض تلامذة إرميا النبي خاصا به، أثيرا عنده، فخانه فكذب عليه، فدعا الله عليه، فبرص فلحق ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، ثم خرج منها متوجها نحو بشتاسب، وهو ببلخ، فلما قدم عليه وشرح له دينه أعجبه فقسر الناس على الدخول فيه، وقتل في ذلك من رعيته مقتلة عظيمة، ودانوا به، فكان ملك بشتاسب مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
وأما غيره من أهل الأخبار والعلم بأمور الأوائل فإنه ذكر أن كي لهراسب

(1/540)


كان محمودا في أهل مملكته، شديد القمع للملوك المحيطة بايران شهر، شديد التفقد لأصحابه، بعيد الهمة كثير الفكر في تشييد البنيان، وشق الأنهار، وعمارة البلاد، فكانت ملوك الروم والمغرب والهند وغيرهم يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة معلومة، ويكاتبونه بالتعظيم ويقرون له أنه ملك الملوك هيبة له وحذرا.
قَالَ: ويقال: إن بختنصر حمل اليه من اوريشلم خزائن وأموالا، فلما أحس بالضعف من قوته ملك ابنه بشتاسب، واعتزل الملك وفوضه إليه، وكان ملك لهراسب- فيما ذكر- مائة سنة وعشرين سنة.
وزعم أن بختنصر هذا الذي غزا بني إسرائيل اسمه بخترشه، وأنه رجل من العجم، من ولد جوذرز، وأنه عاش دهرا طويلا جاوزت مدته ثلاثمائة سنة، وأنه كان في خدمة لهراسب الملك، أبي بشتاسب، وأن لهراسب وجهه إلى الشام وبيت المقدس ليجلي عنها اليهود فسار إليها ثم انصرف، وأنه لم يزل من بعد لهراسب في خدمة ابنه بشتاسب، ثم في خدمة بهمن من بعده، وأن بهمن كان مقيما بمدينة بلخ- وهي التي كانت تسمى الحسناء- وأنه أمر بخترشه بالتوجه إلى بيت المقدس ليجلي اليهود عنها، وأن السبب في ذلك وثوب صاحب بيت المقدس على رسل كان بهمن وجههم إليه، وقتله بعضهم فلما ورد الخبر على بهمن دعا بخترشه فملكه على بابل، وأمره بالمسير إليها، والنفوذ منها إلى الشام وبيت المقدس، والقصد إلى اليهود حتى يقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم، وبسط يده فيمن يختار من الأشراف والقواد، فاختار من أهل بيت المملكة داريوش بن مهرى، من ولد ماذي بن يافث بن نوح، وكان ابن أخت بخترشه واختار كيرش كيكوان من ولد غيلم بن سام،

(1/541)


وكان خازنا على بيت مال بهمن، وأخشويرش بن كيرش بن جاماسب الملقب بالعالم، وبهرام بن كيرش بن بشتاسب فضم بهمن إليه من أهله وخاصته هؤلاء الأربعة، وضم إليه من وجوه الأساورة ورؤسائهم ثلاثمائة رجل، ومن الجند خمسين ألف رجل، وأذن له في أن يفرض ما احتاج إليه، وفي إثباتهم ثم أقبل بهم حتى صار إلى بابل، فأقام بها للتجهز والاستعداد سنة، والتفت إليه جماعة عظيمة، وكان فيمن سار إليه رجل من ولد سنحاريب، الملك الذي كان غزا حزقيا بن أحاز الملك، الذي كان بالشام وببيت المقدس من ولد سليمان بن داود صاحب شعيا، يقال له بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب، صاحب الموصل وناحيتها، بن داريوش بن عبيرى بن تيرى بن روبا ابن راببا بن سلامون بن داود بن طامي بن هامل بن هرمان بن فودي بن همول بن درمى بن قمائل بن صاما بن رغما بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح ع.
وكان مسيره إليه بسبب ما كان آتى حزقيا وبنو إسرائيل إلى جده سنحاريب عند غزوه إياهم، وتوسل إليه بذلك، فقدمه في جماعة كثيرة، ثم اتبعه، فلما توافت العساكر ببيت المقدس، نصر بخترشه على بني إسرائيل لما أراد الله بهم من العقوبة، فسباهم، وهدم البيت وانصرف إلى بابل، ومعه يوياحن بن يوياقيم ملك بني إسرائيل في ذلك الوقت، من ولد سليمان بعد أن ملك متنيا عم يوحينا، وسماه صدقيا

(1/542)


فلما صار بختنصر ببابل خالفه صدقيا، فغزاه بختنصر ثانية فظفر به، وأخرب المدينة والهيكل، وأوثق صدقيا، وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده، وسمل عينيه فمكث بنو إسرائيل ببابل إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس، فكان غلبة بختنصر- المسمى بخترشه- على بيت المقدس إلى أن مات- في قول هذا الذي حكينا قوله- أربعين سنة.
ثم قام من بعده ابن يقال له او لمرودخ فملك الناحية ثلاثا وعشرين سنة، ثم هلك وملك مكانه ابن يقال له بلتشصر بن او لمرودخ سنة، فلما ملك بلتشصر خلط في أمره، فعزله بهمن وملك مكانه على بابل وما يتصل بها من الشام وغيرها داريوش الماذوي، المنسوب إلى ماذي بن يافث بن نوح ع حين صار إلى المشرق، فقتل بلتشصر، وملك بابل وناحية الشام ثلاث سنين ثم عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمي، من ولد غيلم بن سام ابن نوح، الذي كان نزع إلى جامر مع ماذي عند ما مضى جامر إلى المشرق.
فلما صار الأمر إلى كيرش كتب بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبوا، والرجوع إلى أرضهم، وأن يولى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي ع، فولي أمرهم، وكان ملك كيرش على بابل وما يتصل بها ثلاث سنين، فصارت هذه السنون- من وقت غلبة بختنصر إلى انقضاء أمره وأمر ولده وملك كيرش الغيلمي- معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصر، ومبلغها سبعون سنة.
ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته، يقال له اخشوارش ابن كيرش بن جاماسب، الملقب بالعالم، من الأربعة الوجوه الذين اختارهم بخترشه عند توجهه إلى الشام من قبل بهمن، وذلك أن أخشوارش انصرف إلى بهمن من عند بختنصر محمودا، فولاه ذلك الوقت بابل وناحيتها، وكان السبب في ولايته- فيما زعم- أن رجلا كان يتولى لبهمن ناحية السند والهند

(1/543)


يقال له كراردشير بن دشكال خالفه، ومعه من الاتباع ستمائه ألف، فولى بهمن أخشويرش الناحية، وأمره بالمسير إلى كراردشير، ففعل ذلك وحاربه، فقتله وقتل أكثر أصحابه، فتابع له بهمن الزيادة في العمل، وجمع له طوائف من البلاد، فلزم السوس، وجمع الأشراف، وأطعم الناس اللحم، وسقاهم الخمر، وملك بابل إلى ناحية الهند والحبشة وما يلي البحر، وعقد لمائة وعشرين قائدا في يوم واحد الألوية، وصير تحت يد كل قائد ألف رجل من أبطال الجند الذين يعدل الواحد منهم في الحرب بمائة رجل، وأوطن بابل، وأكثر المقام بالسوس، وتزوج من سبي بني إسرائيل امرأة يقال لها أشتر ابنة أبي جاويل، كان رباها ابن عم لها يقال له مردخى، وكان أخاها من الرضاعة، لأن أم مردخى أرضعت أشتر، وكان السبب في تزوجه إياها قتله امرأة كانت له جليلة جميلة خطيرة، يقال لها وشتا، فأمرها بالبروز ليراها الناس، ليعرفوا جلالتها وجمالها، فامتنعت من ذلك فقتلها، فلما قتلها جزع لقتلها جزعا شديدا، فأشير عليه باعتراض نساء العالم، ففعل ذلك، وحببت إليه أشتر صنعا لبني إسرائيل، فتزعم النصارى أنها ولدت له عند مسيره إلى بابل ابنا فسماه كيرش، وأن ملك أخشويرش كان أربع عشرة سنة، وقد علمه مردخى، التوراة، ودخل في دين بني إسرائيل، وفهم عن دانيال النبي ع ومن كان معه حينئذ، مثل حننيا وميشايل وعازريا، فسألوه بأن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال: لو كان معي منكم ألف نبي ما فارقني منكم واحد ما دمت حيا وولى دانيال القضاء، وجعل إليه جميع أمره، وأمره أن يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصر أخذه من بيت المقدس ويرده، وتقدم في بناء بيت المقدس، فبني وعمر في أيام

(1/544)


كيرش بن أخشويرش وكان ملك كيرش، مما دخل في ملك بهمن وخماني اثنتين وعشرين سنة.
ومات بهمن لثلاث عشرة سنة مضت من ملك كيرش، وكان موت كيرش لأربع سنين مضين من ملك خماني، فكان جميع ملك كيرش بن أخشويرش اثنتين وعشرين سنة.
فهذا ما ذكر أهل السير والأخبار في أمر بختنصر وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل.
وأما السلف من أهل العلم فإنهم قَالُوا في أمرهم أقوالا مختلفة، فمن ذلك ما حَدَّثَنِي القاسم بن الحسن، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قَالَ: حَدَّثَنِي يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، أنه سمعه يقول:
كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، حتى إذا بلغ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى، وفاضت عيناه، ثم أطبق المصحف، فقال:
ذلك ما شاء الله من الزمان! ثم قَالَ: أي رب، أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له- وكان رجلا موسرا- فقيل له: أين تريد؟ فقال:
أريد التجارة، حتى نزل دارا ببابل فاستكراها، ليس فيها أحد غيره، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه، فقال:
هل بقي مسكين غيركم؟ فقالوا: نعم مسكين بفج آل فلان مريض، يقال له بختنصر، فقال لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال: ما اسمك؟
قَالَ: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه فنقله إليه فمرضه حتى برئ، وكساه وأعطاه نفقة، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي:
ما يبكيك؟ قَالَ: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئا اجزيك!

(1/545)


قَالَ: بلى شيئا يسيرا، إن ملكت أطعتني فجعل الآخر يتبعه ويقول:
تستهزئ بي! ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله إلا أنه يرى أنه يستهزئ به فبكى الإسرائيلي وقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك، إلا أن الله عز وجل يريد أن ينفذ ما قضى وكتب في كتابه.
وضرب الدهر من ضربه، فقال صيحون، وهو ملك فارس ببابل:
لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام! قَالُوا: وما ضرك لو فعلت! قَالَ: فمن ترون؟
قَالُوا: فلان، فبعث رجلا، واعطاه مائه والف، وخرج بختنصر في مطبخه لا يخرج إلا ليأكل في مطبخه، فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا، فكسره ذلك في ذرعه، فلم يسأل، فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل؟ فلو غزوتموها، فما دون بيت مالها شيء قَالُوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى تنفذ مجالس أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر متقدم الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان فرفع ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر، وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله كراعا ورجلا جلدا، كسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لي كذا وكذا- للذي ذكر سعيد بن جبير أنه قَالَ لهم- فقال متقدم الطليعة لبختنصر:
فضحتني! لك مائة ألف وتنزع عما قلت قَالَ: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت وضرب الدهر من ضربه، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا ساغوا، وإلا امتشوا ما قدروا عليه قَالُوا: ما ضرك

(1/546)


لو فعلت! قَالَ: فمن ترون؟ قَالُوا: فلان، قَالَ: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبرني، فدعا بختنصر، فأرسله وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ورمي في جنازة صيحون، قَالُوا: استخلفوا رجلا، قَالُوا: على رسلكم حتى يأتي أصحابكم، فإنهم فرسانكم، أن ينغصوا عليكم شيئا! فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه، فقسمه في الناس فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا! فملكوه.
وقال آخرون منهم: إنما كان خروج بختنصر إلى بني إسرائيل لحربهم حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء.
ذكر بعض من قَالَ ذلك منهم:
حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل: أن بختنصر بعثه صيحائين لحرب بني إسرائيل حين قتل ملكهم يحيى بن زكرياء ع، وبلغ صيحائين قَتَلَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ- فيما بلغني: استخلف الله عز وجل على بني إسرائيل بعد شعيا رجلا منهم يقال له ياشيه بن اموص، فبعث الله لهم الخضر نبيا، واسم الخضر- فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون.
وأما وهب بن منبه فإنه قَالَ فيه ما حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول:

(1/547)


وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قَالَ الله عز وجل لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اختبرتك، ولأمر عظيم اجتبيتك فبعث الله عز وجل إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من قبل الله فيما بينه وبين الله عز وجل قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده، فأوحى الله عز وجل إلى إرميا: أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمي عليهم، وعرفهم أحداثهم فقال إرميا: إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني قَالَ الله عز وجل: ألم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسن بيدي، أقلبها كيف شئت فتطيعني! وأني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدى حدي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفا واعترافا لأمري، إني معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي، ونستحق بذلك مثل أجر من اتبعك منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن تقصر به عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر

(1/548)


بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء.
وسلهم كيف وجد آباءهم مغبة طاعتي وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي! وهل علموا أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدواب مما تذكر أوطانها الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم دوني، ويحكمون فيهم بغير كتابي، حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم مني.
وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، وادان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، جرأة علي وغرة، وفرية علي وعلى رسلي فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي! وهل ينبغي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزينون بعمارتها لغيري لطلب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلمون فيها لغير العمل وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون مغترون، يخوضون مع الخائضين، فيتمنون علي مثل نصرة آبائهم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري، حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولت لهم، وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، واكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون، فأعذرت وفي كل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم

(1/549)


العافية، وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني فحتى متى هذا! أبي يتمرسون! أم إياي يخادعون! فإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرأفة والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيران النسور، وكأن حملة فرسانه كرير العقبان.
ثم أوحى الله عز وجل إلى إرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث- ويافث أهل بابل، فهم من ولد يافث بن نوح ع- فلما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقنت فيه التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو شر علي، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك! فلما سمع الله عز وجل تضرع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه:
يا إرميا، أشق عليك ما أوحيت لك! قَالَ: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لما قَالَ له ربه، وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا.
ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره بما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح، وقال:
إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم:

(1/550)


يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالغ ابن عابر- ونمرود صاحب ابراهيم ع، الذي حاجه في ربه- أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل فخرج في ستمائه ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا، أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك ألا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك:
إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله عز وجل ملكا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا واستفته.
وأمره بالذي يستفتيه فيه فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلا من بني إسرائيل فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنا، ولم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير قَالَ: فانصرف عنه الملك، فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبي الله:
اوما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب! قَالَ: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه

(1/551)


إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه فقام الملك من عنده فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعا شديدا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل فدعا إرميا فقال:
يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي: أولم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه! فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مآلهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضاه الله ولا يحبه، قَالَ له النبي: على أي عمل رأيتهم؟
قَالَ: يا نبي الله، رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم، لم يشتد غضبي عليهم، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكني غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم أن يهلكهم الله قَالَ إرميا: يا ملك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ التراب على رأسه، وقال: يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني! فنودي: يا إرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا فاستيقن النبي أنها

(1/552)


فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه.
وطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم مائه الف صبى، فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة- وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل- وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ابن يعقوب، ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوى ابني يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل.
وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقر بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، وكانت هذه الوقعه الاولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم.
فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في ركوه وسله تين، حتى غشى إيلياء فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا! فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته

(1/553)


الله وأمات حماره معه، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد ثم بعثه الله فقال له:
«كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ» - يقول لم يتغير- «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» .
فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض- وقد كان مات معه- بالعروق والعصب، ثم كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق ثم نظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قَالَ: «أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ثم عمر الله إرميا بعد ذلك، فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثم رأى رؤيا، فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذي كان رأى، فدعا دانيال، وحنانيا وعزاريا، وميشايل من ذراري الأنبياء، فقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها، ثم أصابني شيء فأنسانيها، وقد كانت أعجبتني ما هي؟ قَالُوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، قَالَ: ما أذكرها، وإن لم تخبروني بتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله واستغاثوا وتضرعوا إليه، وسألوه أن يعلمهم إياها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوه فقالوا له: رأيت تمثالا؟ قَالَ: صدقتم، قَالُوا: قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد.
قَالَ: صدقتم قَالُوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، فأرسل الله عليه صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستكها قَالَ: صدقتم، فما تأويلها؟ قَالُوا:
تأويلها أنك أريت ملك الملوك، فكان بعضهم ألين ملكا من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكا من بعض،

(1/554)


فكان أول الملك الفخار وهو أضعفه وألينه ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب، فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم كان الحديد ملكك، فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة التي رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته، نبيا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه.
ثم إن أهل بابل قَالُوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت! فإنا والله لقد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا علقن بهم وصرفن وجوههن إليهم، فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم، قَالَ: شأنكم بهم، فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل، فأخرجوهم فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا:
يا ربنا، أصابنا البلاء بذنوب غيرنا، فتحنن الله عليهم برحمته، فوعدهم أن يحييهم بعد قتلهم، فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم، وكان ممن استبقى منهم: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل.
ثم إن الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر، انبعث فقال لمن كان في يديه من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربت، وهؤلاء الناس الذين قتلت، من هم؟ وما هذا البيت؟ قَالُوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده، وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء، فظلموا وتعدوا وعصوا فسلطت عليهم بذنوبهم، وكان ربهم رب السموات والأرض، ورب الخلق كلهم يكرمهم ويمنعهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قَالَ: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلي أطلع إليها فأقتل من فيها وأتخذها ملكا، فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قَالُوا له:
ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق، قَالَ: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم، فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله بقدرته- ليريه

(1/555)


ضعفه وهو انه عليه- بعوضة فدخلت في منخره ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه، فلما عرف الموت قَالَ لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي، فانظروا ما هذا الذي قتلني؟ فلما مات شقوا رأسه، فوجدوا البعوضة عاضة بأم دماغه ليري الله العباد قدرته وسلطانه، ونجى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشام والى إيلياء المسجد المقدس، فبنوا فيه وربلوا وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
فيزعمون- والله أعلم- أن الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا بهم.
ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله، كانت التوراة قد استبيت منهم فحرقت وهلكت وكان عزيز من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره، قد خرج من الناس فتوحد منهم، وإنما هو ببطون الأودية وبالفلوات يبكي، فبينما هو كذلك في حزنه على التوراة وبكائه عليها، إذ أقبل إليه رجل وهو جالس، فقال: يا عزير ما يبكيك؟
قَالَ: أبكي على كتاب الله وعهده، كان بين أظهرنا فبلغت بنا خطايانا، وغضب ربنا علينا أن سلط علينا عدونا، فقتل رجالنا، وأخرب بلادنا، وأحرق كتاب الله الذي بين أظهرنا، الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره- أو كما قَالَ- فعلام أبكي إذا لم أبك على هذا! قَالَ: أفتحب ان يرد ذلك عليك؟
قَالَ: وهل إلى ذلك من سبيل؟ قَالَ: نعم ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه، ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه، فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء- وكان ملكا بعثه الله إليه- فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها وفرائضها

(1/556)


وحدودها، فأحبوه حبا لم يحبوه شيئا قط، وقامت التوراة بين أظهرهم، وصلح بها أمرهم، واقام بين اظهرهم عزيز مؤديا لحق الله، ثم قبضه الله على ذلك، ثم حدثت فيهم الأحداث حتى قَالُوا لعزيز: هو ابن الله، وعاد الله عليهم فبعث فيهم نبيا كما كان يصنع بهم، يسدد أمرهم، ويعلمهم ويأمرهم بإقامة التوراة وما فيها.
وقال جماعة أخر عن وهب بن منبه في أمر بختنصر وبني إسرائيل وغزوه إياهم أقوالا غير ذلك، تركنا ذكرها كراهة إطالة الكتاب بذكرها

(1/557)


ذكر خبر غزو بختنصر للعرب
حدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: كان بدء نزول العرب ارض العراق وثبوتهم فيها، واتخاذهم الحيرة والأنبار منزلا- فيما ذكر لنا والله أعلم- أن الله عز وجل أوحى الى برخيا بن احنيا بن زر بابل بن شلتيل من ولد يهوذا- قَالَ هشام: قَالَ الشرقي: وشلتيل أول من اتخذ الطفشيل- أن ائت بختنصر وأمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم بي، واتخاذهم الآلهة دوني، وتكذيبهم أنبيائي ورسلي.
قال: فاقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل- وهو نبوخذ نصر، فعربته العرب- وأخبره بما أوحى الله إليه وقص عليه ما أمره به، وذلك في زمان معد بن عدنان قَالَ: فوثب بختنصر على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات.
ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها.
فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه فاقبل منهم، فأحسن إليهم قَالَ: فأنزلهم بختنصر السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد فسموه الأنبار قال: وحلى عن اهل الحير، فاتخذوها منزلا حياة

(1/558)


بختنصر، فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار، وبقي ذلك الحير خرابا.
وأما غير هشام من أهل العلم بأخبار الماضين فإنه ذكر أن معد بن عدنان لما ولد، ابتدأت بنو إسرائيل بأنبيائهم فقتلوهم، فكان آخر من قتلوا يحيى بن زكرياء، وعدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه، فلما اجترءوا على أنبياء الله أذن الله في فناء ذلك القرن الذين معد بن عدنان من أنبيائهم، فبعث الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف بني إسرائيل نسفا، فأوردهم أرض بابل أري فيما يرى النائم- أو أمر بعض الأنبياء أن يأمره- أن يدخل بلاد العرب فلا يستجبى فيها إنسيا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفا، حتى لا يبقي لهم أثرا فنظم بختنصر ما بين إيلة والأبلة خيلا ورجلا، ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه وأن الله تعالى أوحى إلى إرميا وبرخيا أن الله قد أنذر قومكما، فلم ينتهوا، فعادوا بعد الملك عبيدا، وبعد نعيم العيش عالة يسألون الناس، وقد تقدمت إلى أهل عربة بمثل ذلك فأبوا إلا لحاجة، وقد سلطت بختنصر عليهم لأنتقم منهم فعليكما بمعد بن عدنان، الذى من ولده محمد الذي أخرجه في آخر الزمان، أختم به النبوة، وأرفع به من الضعة.
فخرجا تطوى لهما الأرض حتى سبقا بختنصر، فلقيا عدنان قد تلقاهما، فطوياه إلى معد، ولمعد يومئذ اثنتا عشرة سنة، فحمله برخيا على البراق، وردف خلفه، فانتهيا إلى حران من ساعتهما، وطويت الأرض لإرميا فأصبح بحران، فالتقى عدنان وبختنصر بذات عرق، فهزم بختنصر عدنان، وسار في بلاد العرب، حتى قدم إلى حضور واتبع عدنان، فانتهى بختنصر إليها،

(1/559)


وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان، وضرب بختنصر كمينا- وذلك أول كمين كان فيما زعم- ثم نادى مناد من جو السماء: يا لثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوف من خلفهم ومن بين أيديهم، فندموا على ذنوبهم، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بختنصر ونهي بختنصر عن عدنان، وافترق من لم يشهد حضور، ومن أفلت قبل الهزيمة فرقتين: فرقة أخذت إلى ريسوب وعليهم عك، وفرقة قصدت لوبار وفرقة حضر العرب، قَالَ: وإياهم عنى الله بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» ، كافرة الأهل، فإن العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب، «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» انتقامنا منهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» يهربون، قد أخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم «لا تَرْكُضُوا» لا تهربوا «وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» الى العيشه على النعم المكفورة «وَمَساكِنِكُمْ» مصيركم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» .
فلما عرفوا أنه واقع بهم أقروا بالذنوب، فقالوا: «يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» ، موتى وقتلى بالسيف فرجع بختنصر إلى بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار، فقيل أنبار العرب، وبذلك سميت الأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط فلما رجع بختنصر مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابا حياة بختنصر، فلما مات بختنصر خرج معد بن عدنان معه الأنبياء، أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم حتى أتى مكة فأقام أعلامها، فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج معد حتى أتى ريسوب فاستخرج أهلها، وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثرهم جرهم على يديه، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معد

(1/560)


رجع الخبر إلى قصة بشتاسب وذكر ملكه والحوادث التي كانت في أيام ملكه التي جرت على يديه ويد غيره من عماله في البلاد خلا ما جرى من ذلك على يد بختنصر
ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العجم والعرب، أن بشتاسب بن كي لهراسب لما عقد له التاج، قَالَ يوم ملك: نحن صارفون فكرنا وعملنا وعلمنا إلى كل ما ينال به البر وقيل: إنه ابتنى بفارس مدينة فسا، وببلاد الهند وغيرها بيوتا للنيران، ووكل بها الهرابذة، وإنه رتب سبعة نفر من عظماء أهل مملكته مراتب، وملك كل واحد منهم ناحية جعلها له، وان زرادشت ابن أسفيمان ظهر بعد ثلاثين سنة من ملكه فادعى النبوة، وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك ثم صدقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من كتاب ادعاه وحيا، فكتب في جلد اثني عشرة ألف بقرة حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب، وصير بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر، يقال له دزنبشت، ووكل به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة وكان بشتاسب في ايامه تلك مهادنا لحرزاسف بن كي سواسف، أخي فراسياب ملك الترك على ضرب من الصلح، وكان من شرط ذلك الصلح أن يكون لبشتاسب بباب خرزاسف دابة موقوفة بمنزلة الدواب التي تنوب على أبواب الملوك، فأشار زرادشت على بشتاسب بمفاسدة ملك الترك، فقبل ذلك منه، وبعث إلى الدابة والموكل بها، فصرفهما إليه، وأظهر الخبر لخرزاسف، فغضب من ذلك- وكان ساحرا عاتيا- فأجمع على محاربة بشتاسب، وكتب إليه كتابا غليظا عنيفا، أعلمه فيه أنه أحدث حدثا عظيما، وأنكر قبوله ما قبل من زرادشت، وأمره بتوجيهه إليه، وأقسم إن امتنع أن يغزوه حتى يسفك دمه، ودماء اهل بيته

(1/561)


فلما ورد الرسول بالكتاب على بشتاسب، جمع إليه أهل بيته وعظماء أهل مملكته، وفيهم جاماسف عالمهم وحاسبهم، وزرين بن لهراسب فكتب بشتاسب إلى ملك الترك كتابا غليظا جواب كتابه، آذنه فيه بالحرب، وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك فسار بعضهما إلى بعض، مع كل واحد منهما من المقاتلة ما لا يحصى كثرة، ومع بشتاسب يومئذ زرين اخوه ونسطور ابن زرين وإسفنديار وبشوتن ابنا بشتاسب، وآل لهراسب جميعا، ومع خرزاسف وجوهرمز وأندرمان أخواه وأهل بيته، وبيدرفش الساحر، فقتل في تلك الحروب زرين، واشتد ذلك على بشتاسب، فأحسن الغناء عنه ابنه إسفنديار، وقتل بيدرفش مبارزة، فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا، ورجع بشتاسب إلى بلخ، فلما مضت لتلك الحروب سنون سعى على إسفنديار رجل يقال له قرزم، فأفسد قلب بشتاسب عليه، فندبه لحرب بعد حرب، ثم أمر بتقييده وصيره في الحصن الذي فيه حبس النساء، وشخص بشتاسب إلى ناحية كرمان وسجستان، وصار منها الى جبل يقال له طميذر لدراسة دينه والنسك هناك، وخلف لهراسب أباه مدينة بلخ شيخا قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله ونساءه مع خطوس امرأته، فحملت الجواسيس الخبر الى خزاسف، فلما عرف جمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ، وقد أمل أن يجد فرصة من بشتاسب ومملكته فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس قدم أمامه جوهرمز أخاه- وكان مرشحا للملك بعده في جماعة من المقاتلة كثيرة- وأمره أن يغذ السير حتى يتوسط المملكة ويوقع بأهلها، ويغير على القرى والمدن، ففعل ذلك جوهرمز، وسفك الدماء واستباح من الحرم ما لا يحصى، واتبعه خرزاسف فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسب، يقال لإحداهما:
خماني، وللأخرى باذافره، وأخذ- فيما أخذ- العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه

(1/562)


درفش كابيان، وشخص متبعا لبشتاسب، وهرب منه بشتاسب حتى تحصن في تلك الناحية مما يلى فارس في الجبل الذى يعرف بطميذر، ونزل ببشتاسب ما ضاق به ذرعا، فيقال إنه لما اشتد به الأمر وجه إلى إسفنديار جاماسب حتى استخرجه من محبسه، ثم صار به إليه، فلما أدخل عليه اعتذر إليه، ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل لهراسب به، وقلده القيام بأمر عسكره، ومحاربة خرزاسف.
فلما سمع إسفنديار كلامه كفر له خاشعا، ثم نهض من عنده، فتولى عرض الجند وتمييزهم، وتقدم فيما احتاج إلى التقدم فيه، وبات ليلته مشغولا بتعبئته، فلما أصبح أمر بنفخ القرون، وجمع الجنود، ثم سار بهم نحو عسكر الترك، فلما رأت الترك عسكره خرجوا في وجوههم يتسابقون، وفي القوم جوهرمز وأندرمان، فالتحمت الحرب بينهم، وانقض إسفنديار وفي يده الرمح كالبرق الخاطف، حتى خالط القوم، وأكب عليهم بالطعن، فلم يكن إلا هنيهة حتى ثلم في العسكر ثلمة عظيمة، وفشا في الترك أن إسفنديار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار، وقد ارتجع العلم الأعظم، وحمله معه منشورا، فلما دخل على بشتاسب استبشر بظفره، وأمره باتباع القوم، وكان مما أوصاه به أن يقتل خرزاسف إن قدر عليه بلهراسف، ويقتل جوهرمز وأندرمان بمن قتل من ولده، ويهدم حصون الترك ويحرق مدنها، ويقتل أهلها بمن قتلوا من حملة الدين، ويستنقذ السبايا ووجه معه ما احتاج إليه من القواد والعظماء.
فذكروا أن إسفنديار دخل بلاد الترك من طريق لم يرمه أحد قبله، وأنه قام- من حراسة جنده، وقتل ما قتل من السباع، ورمي العنقاء المذكورة- بما لم يقم به أحد قبله، ودخل مدينة الترك التي يسمونها دزروئين- وتفسيرها بالعربية الصفرية- عنوة حتى قتل الملك وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله وسبى نساءه، واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه، وكان أعظم الغناء

(1/563)


في تلك المحاربة بعد إسفنديار لفشوتن أخيه وأدرنوش ومهرين ابن ابنته.
ويقال إنهم لم يصلوا إلى المدينة حتى قطعوا أنهارا عظيمة مثل كاس روذ، ومهر روذ، ونهرا آخر لهم عظيما، وإن إسفنديار دخل أيضا مدينه كانت لفراسياب، يقال لها وهشكند، ودوخ البلاد وصار إلى آخر حدودها، وإلى التبت وباب صول، ثم قطع البلاد وصير كل ناحية منها إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم، ووظف على كل واحد منهم خراجا يحمله إلى بشتاسب في كل سنة، ثم انصرف إلى بلخ.
ثم إن بشتاسب حسد ابنه إسفنديار لما ظهر منه، فوجهه إلى رستم بسجستان، فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي أنه قَالَ: قد كان بشتاسب جعل الملك من بعده لابنه إسفنديار، وأغزاه الترك، فظفر بهم، وانصرف إلى أبيه، فقال له: هذا رستم متوسطا بلادنا، وليس يعطينا الطاعة لادعائه ما جعل له قابوس من العتق من رق الملك، فسر إليه فأتني به، فسار إسفنديار إلى رستم فقاتله، فقتله رستم ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
وذكر بعضهم أن رجلا من بني إسرائيل، يقال له سمي كان نبيا، وأنه بعث إلى بشتاسب فصار إليه إلى بلخ، ودخل مدينتها، فاجتمع هو وزرادشت صاحب المجوس، وجاماسب العالم بن فخد، وكان سمي يتكلم بالعبرانية ويعرف زرادشت ذلك بتلقين، ويكتب بالفارسية ما يقول سمي بالعبرانية، ويدخل جاماسب معهما في ذلك، وبهذا السبب سمي جاماسب العالم.
وزعم بعض العجم أن جاماسب هو ابن فخد بن هو بن حكاو بن نذكاو بن فرس بن رج بن خوراسرو بن منوشهر الملك، وان زرادشت بن يوسيسف ابن فردواسف بن أرنجد بن منجدسف بن جخشنش بن فيافيل بن الحدى ابن هردان بن سفمان بن ويدس بن أدرا بن رج بن خوراسرو بن منوشهر.
وقيل إن بشتاسب وأباه لهراسب كانا على دين الصابئين، حتى أتاه سمى

(1/564)


وزرداشت بما أتياه به، وأنهما أتياه بذلك لثلاثين سنة مضت من ملكه.
وقال هذا القائل: كان ملك بشتاسب مائة وخمسين سنة، فكان ممن رتب بشتاسب من النفر السبعة المراتب الشريفه، وسماهم عظماء بهكا بهند ومسكنه دهستان من ارض جرجان، وقارن الفهلوى ومسكنه ماه نهاوند، وسورين الفهلوي ومسكنه سجستان، وإسفنديار الفلهوي ومسكنه الري.
وقال آخرون: كان ملك بشتاسب مائة وعشرين سنة

(1/565)


ذكر الخبر عن ملوك اليمن في أيام قابوس وبعده إلى عهد بهمن بن إسفنديار
قَالَ أبو جعفر: قد مضى ذكرنا الخبر عمن زعم أن قابوس كان في عهد سليمان بن داود ع، ومضى ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت إيليشرح.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي أن الملك باليمن صار بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي كان يقال له ياسر انعم قال: وانما سموه ياسر انعم لإنعامه عليهم بما قوى من ملكهم، وجمع من أمرهم.
قَالَ: فزعم أهل اليمن أنه سار غازيا نحو المغرب حتى بلغ واديا يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلما انتهى إليه لم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذا انكشف الرمل، فأمر رجلا من أهل بيته- يقال له عمرو- أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا فلم يرجعوا فلما رأى ذلك أمر بصنم نحاس فصنع، ثم نصب على صخرة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر انعم الحميري، وليس وراءه مذهب، فلا يتكلفن ذلك أحد فيعطب.
قَالَ: ثم ملك من بعده تبع، وهو تبان أسعد، وهو أبو كرب بن ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ قَالَ: وكان يقال له الرائد.
قَالَ: فكان تبع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وأنه شخص متوجها من اليمن في الطريق الذي سلكه الرائش، حتى خرج على جبلي طيّئ، ثم سار يريد الأنبار، فلما انتهى إلى الحيرة- وذلك ليلا- تحير، فأقام مكانه وسمي ذلك الموضع الحيرة، ثم سار وخلف به قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد

(1/566)


ذلك ناس من طيّئ وكلب والسكون وبلحارث بن كعب وإياد ثم توجه إلى الأنبار ثم إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي الترك بها فهزمهم، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، ثم انكفأ راجعا إلى اليمن فأقام بها دهرا، وهابته الملوك وعظمته وأهدت إليه فقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والتحف، من الحرير والمسك والعود وسائر طرف بلاد الهند، فرأى ما لم ير مثله، فقال:
ويحك! أكل ما أرى في بلادكم! فقال: أبيت اللعن! أقل ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين، ووصف له بلاد الصين وسعتها وخصبها وكثرة طرفها، فالى بيمين ليغزونها فسار بحمير مساحلا، حتى أتى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجه رجلا من أصحابه، يقال له ثابت نحو الصين، في جمع عظيم فأصيب، فسار تبع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلها، واكتسح ما وجد فيها قَالَ: ويزعمون أن مسيره كان إليها ومقامه بها ورجعته منها في سبع سنين، وأنه خلف بالتبت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت، وهم اليوم يزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانها.
حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد المروزي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، قَالَ: قَرَأْتُ على عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ موسى بن طلحة: أن تبعا خرج في العرب يسير، حتى تحيروا بظاهر الكوفة، وكان منزلا من منازله، فبقي فيها من ضعفة الناس، فسميت الحيرة لتحيرهم، وخرج تبع سائرا، فرجع إليهم وقد بنوا وأقاموا، وأقبل تبع إلى اليمن وأقاموا هم، ففيهم من قبائل العرب كلها من بنى لحيان، وهذيل وتميم، وجعفي وطيّئ، وكلب

(1/567)


ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني
ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن، فذكر أنه قَالَ يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن محافظون على الوفاء، ودائنون رعيتنا بالخير، فكان يدعى أردشير الطويل الباع، وإنما لقب بذلك- فيما قيل- لتناوله كل ما مد إليه يده من الممالك التي حوله، حتى ملك الأقاليم كلها وقيل إنه ابتنى بالسواد مدينة، وسماها آباد أردشير هي القرية المعروفة بهمينا من الزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة مدينة وسماها بهمن أردشير، وهي الأبلة، وسار إلى سجستان طالبا بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وأخاه إزواره وابنه فرمرز، واجتبى الناس لأرزاق الجند ونفقات الهرابذة وبيوت النيران وغير ذلك أموالا عظيمة، وهو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأخر أردشير بن بابك وولده، وأم دارا خماني بنت بهمن.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك بعد بشتاسب أردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان- فيما ذكروا- متواضعا مرضيا فيهم، وكانت كتبه تخرج من أردشير: عبد الله وخادم الله، السائس لأمركم قَالَ:
ويقال إنه غزا الرومية الداخلة في ألف ألف مقاتل.
وقال غير هشام: هلك بهمن ودارا في بطن أمه، فملكوا خماني شكرا لأبيها بهمن، ولم تزل ملوك الأرض تحمل إلى بهمن الإتاوة والصلح، وكان من أعظم ملوك الفرس- فيما قَالُوا- شأنا، وأفضلهم تدبيرا، وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده، وكانت أم بهمن أستوريا، وهي

(1/568)


أستار بنت يائير بن شمعى بن قيس بن ميشا بن طالوت الملك بن قيس ابن أبل بن صارور بن بحرث بن أفيح بن إيشى بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم خليل الرحمن ع وكانت أم ولده راحب بنت فنحس من ولد رحبعم بن سليمان بن داود ع وكان بهمن ملك أخاها زر بابل بن شلتايل على بني إسرائيل، وصير له رياسة الجالوت، ورده إلى الشام بمسألة راحب أخته إياه ذلك، فتوفي بهمن يوم توفي وله من الولد: ابناه دارا الأكبر وساسان، وبناته: خماني التي ملكت بعده، وفرنك وبهمن دخت، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان ملكه مائة واثنتي عشرة سنة.
فأما ابن الكلبي هشام فإنه قَالَ: كان ملكه ثمانين سنة.
ثم ملكت خماني بنت بهمن، وكانوا ملكوها حبا لأبيها بهمن، وشكرا لإحسانه ولكمال عقلها وبهائها وفروسيتها ونجدتها- فيما ذكره بعض أهل الأخبار- فكانت تلقب بشهرازاد وقال بعضهم: إنما ملكت خماني بعد أبيها بهمن أنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل ذلك بهمن بدارا، وعقد عليه التاج حملا في بطنها، وساسان ابن بهمن في ذلك الوقت رجل يتصنع للملك لا يشك فيه، فلما رأى ساسان ما فعل أبوه من ذلك لحق بإصطخر، فتزهد وخرج من الحلية الأولى وتعبد فلحق برءوس الجبال يتعبد فيها، واتخذ غنيمة، فكان يتولى ماشيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وفظعت به، وقالوا: صار ساسان راعيا، فكان ذلك سبب نسبة الناس إياه إلى الرعي، وأم ساسان ابنه شالتيال ابن يوحنا بن أوشيا بن أمون بن منشى بن حازقيا بن أحاذ بن يوثام بن عوزيا ابن يورام بن يوشافط بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود.
وقيل: إن بهمن هلك وابنه دارا في بطن خماني، وأنها ولدته بعد أشهر من

(1/569)


ملكها وأنفت من إظهار ذلك، فجعلته في تابوت، وصيرت معه جوهرا نفيسا، وأجرته في نهر الكر من إصطخر وقال بعضهم: بل نهر بلخ، وإن التابوت صار إلى رجل طحان من أهل إصطخر، كان له ولد صغير فهلك، فلما وجده الرجل أتى به امرأته، فسرت به لجماله ونفاسة ما وجد معه، فحضنوه، ثم أظهر أمره حين شب، وأقرت خماني بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون عليه أبناء الملوك، فحولت التاج عن رأسها إليه، وتقلد أمر المملكة، وتنقلت خماني وصارت إلى فارس وبنت مدينة إصطخر، وأغزت الروم جيشا بعد جيش، وكانت قد أوتيت ظفرا، فقلعت الأعداء، وشغلتهم عن تطرف شيء من بلادها، ونال رعيتها في ملكها رفاهة وخفضا وكانت خماني حين أغزت أرض الروم سبي لها منها بشر كثير، وحملوا إلى بلادها، فأمرت من فيهم من بنائي الروم، فبنوا لها في كل موضع من حيز مدينة إصطخر بنيانا على بناء الروم منيفا معجبا، أحد ذلك البنيان في مدينة إصطخر، والثاني على المدرجة التي تسلك فيها الى دارابجرد، على فرسخ من هذه المدينة، والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى خراسان وأنها أجهدت نفسها في طلب مرضاة الله عز وجل، فأوتيت الظفر والنصر، وخففت عن رعيتها في الخراج.
وكان ملكها ثلاثين سنة.
ثم نرجع الآن الى:

(1/570)


ذكر خبر بني إسرائيل ومقابلة تأريخ مدة أيامهم إلى حين تصرمها بتأريخ مدة من كان في أيامهم من ملوك الفرس
قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذين كان بختنصر سباهم وحملهم معه إلى أرض بابل، وأن ذلك كان في أيام كيرش بن أخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن بن إسفنديار في حياته وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خماني، وأن خماني عاشت بعد هلاك كيرش بن أخشويرش ستا وعشرين سنة في ملكها، تمام ثلاثين سنة وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه بختنصر إلى أن عمر- فيما ذكره أهل الكتب القديمة والعلماء بالأخبار- سبعين سنة، كل ذلك في أيام بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب بن لهراسب بعضه، وبعضه في أيام خماني، على ما قد بين في هذا الكتاب.
وقد زعم بعضهم أن كيرش هو بشتاسب، وأنكر ذلك من قيله بعضهم، وقال: كي أرش إنما هو عم لجد بشتاسب، وقال: هو كي إرش أخو كيقاوس ابن كيبيه بن كيقباذ الأكبر، وبشتاسب الملك هو ابن كيلهراسب بن كيوجى ابن كيمنوش بن كيقاوس بن كيبيه بن كيقباذ الأكبر قَالَ: ولم يملك كي أرش قط، وإنما كان مملكا على خوزستان وما يتصل بها من أرض بابل من قبل كيقاوس، ومن قبل كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس، ومن قبل لهراسف من بعده وكان طويل العمر، عظيم الشأن، ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله من بني إسرائيل كان فيهم عزير- وقد وصفت ما كان من أمره وأمر بني إسرائيل- وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس، إما رجل منهم وإما رجل من بني إسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم بسبب غلبة الإسكندر على تلك الناحية حين قتل دارا بن دارا وكانت جملة مدة ذلك- فيما قيل- ثمانيا وثمانين سنة.
ونذكر الآن:

(1/571)


خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر ابن دارا الأكبر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين
وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان ينبه بجهرازاد- يعني به كريم الطبع- فذكروا أنه نزل بابل، وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك، يؤدون إليه الخراج، وأنه ابتنى بفارس مدينة سماها دارابجرد، وحذف دواب البرد ورتبها، وكان معجبا بابنه دارا، وأنه من حبه إياه سماه باسم نفسه، وصير له الملك من بعده، وأنه كان له وزير يسمى رستين محمودا في عقله، وأنه شجر بينه وبين غلام تربى مع دارا الأصغر، يقال له برى شر وعداوة، فسعى رستين عليه عند الملك، فقيل: إن الملك سقى برى شربه مات منها، واضطغن دارا على رستين الوزير وجماعة من القواد، كانوا عاونوه على برى ما كان منهم، وكان ملك دارا اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك من بعده ابنه دارا بن دارا بن بهمن، وكانت أمه ماهيا هند بنت هزار مرد بن بهرادمه، فلما عقد التاج على رأسه قَالَ: لن ندفع أحدا في مهوى الهلكة، ومن تردى فيها لم نكففه عنها وقيل إنه بنى بأرض الجزيرة مدينة دارا، واستكتب أخا برى واستوزره لأنسه كان به وبأخيه، فأفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت لذلك منه الخاصة والعامة، ونفروا عنه، وكان شابا غرا حميا حقودا جبارا.
وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك من بعد دارا بن أردشير دارا ابن دارا أربع عشرة سنة، فأساء السيرة في رعيته، وقتل رؤساءهم، وغزاه الإسكندر على تئفة ذلك، وقد مله أهل مملكته وسئموه، وأحبوا الراحة منه، فلحق كثير من وجوههم وأعلامهم بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا، وقووه عليه،

(1/572)


فالتقيا ببلاد الجزيرة، فاقتتلا سنة ثم إن رجالا من أصحاب دارا وثبوا به فقتلوه، وتقربوا برأسه إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم، وقال: هذا جزاء من اجترأ على ملكه وتزوج ابنته روشنك بنت دارا، وغزا الهند ومشارق الأرض، ثم انصرف وهو يريد الإسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب، وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم، وكان قبل الإسكندر متفرقا، وتفرق ملك فارس وكان قبل الإسكندر مجتمعا.
قَالَ: وذكر غير هشام أن دارا بن دارا لما ملك أمر فبنيت له بأرض الجزيرة مدينة واسعة وسماها دارنوا، وهي التي تسمى اليوم دارا، وانه عمرها وشحنها من كل ما يحتاج إليه فيها، وأن فيلفوس أبا الإسكندر اليوناني من أهل بلدة من بلاد اليونانيين تدعى مقدونية، كان ملكا عليها وعلى بلاد أخرى احتازها إليها، كان صالح دارا على خراج يحمله إليه في كل سنة، وأن فيلفوس هلك، فملك بعده ابنه الإسكندر، فلم يحمل إلى دارا ما كان يحمله إليه أبوه من الخراج، فأسخط ذلك عليه دارا، وكتب إليه يؤنبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج وغيره، وأنه إنما دعاه إلى حبس ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج الصبا والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وقفيز من سمسم، وأعلمه فيما كتب إليه أنه صبي، وأنه إنما ينبغي له أن يلعب بالصولجان والكرة اللذين بعث بهما إليه، ولا يتقلد الملك، ولا يتلبس به، وأنه إن لم يقتصر على ما أمره به من ذلك، وتعاطى الملك واستعصى عليه، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وأن عدة جنوده كعدة حب السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الإسكندر في جواب كتابه ذلك، أن قد فهم ما كتب، وأن قد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة، وتيمن به لإلقاء

(1/573)


الملقي الكرة إلى الصولجان، واحترازه إياها، وشبه الأرض بالكرة، وأنه محتاز ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به إليه كنظره إلى الصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة وبعث إلى دارا مع كتابه بصرة من خردل، وأعلمه في ذلك الجواب أن ما بعث به إليه قليل، غير أن ذلك مثل الذي بعث به في الحرافة والمرارة والقوة، وأن جنوده في كل ما وصف به منه.
فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده، وتأهب لمحاربة الإسكندر، وتأهب الإسكندر وسار نحو بلاد دارا.
وبلغ ذلك دارا، فزحف إليه فالتقى الفئتان، واقتتلا أشد القتال، وصارت الدبرة على جند دارا، فلما رأى ذلك رجلان من حرس دارا، يقال إنهما كانا من أهل همذان، طعنا دارا من خلفه فأردياه من مركبه، وأرادا بطعنهما إياه الحظوة عند الإسكندر، والوسيلة إليه، ونادى الإسكندر أن يؤسر دارا أسرا ولا يقتل، فأخبر بشأن دارا، فسار الإسكندر حتى وقف عنده، فرآه يجود بنفسه، فنزل الاسكندر عن دابته حتى حبس عند رأسه، وأخبره أنه لم يهم قط بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رايه، وقال له: سلني ما بدا لك فأسعفك فيه، فقال له دارا: لي إليك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من الرجلين اللذين فتكا بي- وسماهما وبلادهما- والأخرى أن تتزوج ابنتي روشنك فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين انتهكا من دارا ما انتهكا، وتزوج روشنك وتوسط بلاد دارا، وكان ملكه له.
وزعم بعض أهل العلم بأخبار الأولين أن الإسكندر هذا الذي حارب دارا الأصغر، هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه، وأن أباه دارا الأكبر كان تزوج أم الإسكندر، وأنها ابنة ملك الروم واسمها هلاي، وأنها حملت

(1/574)


إلى زوجها دارا الأكبر، فلما وجد نتن ريحها وعرقها وسهكها، أمر أن يحتال لذلك منها، فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسية سندر، فطبخت لها فغسلت بها وبمائها، فأذهب ذلك كثيرا من ذلك النتن، ولم يذهب كله، وانتهت نفسه عنها لبقية ما بها، وعافها وردها إلى أهلها، وقد علقت منه فولدت غلاما في أهلها، فسمته باسمها واسم الشجرة التي غسلت بها، حتى أذهبت عنها نتنها: هلاي سندروس، فهذا أصل الإسكندروس.
قَالَ: وهلك دارا الأكبر، وصار الملك إلى ابنه دارا الأصغر، وكانت ملوك الروم تؤدي الخراج إلى دارا الأكبر في كل سنة، فهلك أبو هلاي ملك الروم جد الإسكندر لأمه، فلما صار الملك لابن ابنته بعث دارا الأصغر إليه للعادة: إنك أبطأت علينا بالخراج الذي كنت تؤديه ويؤديه من كان قبلك، فابعث إلينا بخراج بلادك وإلا نابذناك المحاربة فرجع إليه جوابه: أني قد ذبحت الدجاجة، وأكلت لحمها، ولم يبق لها بقية، وقد بقيت الأطراف، فإن أحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك فعند ذلك نافره دارا وناجزه القتال، وجعل الإسكندر لحاجبي دارا حكمها على الفتك به، فاحتكما شيئا، ولم يشترطا أنفسهما، فلما التقوا للحرب، طعن حاجبا دارا دارا في الوقعة، فلحقه الإسكندر صريعا، فنزل إليه وهو بآخر رمق، فمسح التراب عن وجهه ووضع رأسه في حجره، ثم قَالَ له: إنما قتلك حاجباك، ولقد كنت أرغب بك يا شريف الأشراف وحر الأحرار وملك الملوك، عن هذا المصرع، فأوصني بما أحببت فأوصاه دارا أن يتزوج ابنته روشنك، ويتخذها لنفسه ويستبقي أحرار فارس، ولا يولى عليهم غيرهم فقبل وصيته وعمل بأمره، وجاء اللذان قتلا دارا إلى الإسكندر فدفع إليهما حكمهما، ووفى لهما ثم قَالَ لهما: قد وفيت لكما كما اشترطتما ولم تكونا اشترطتما أنفسكما، فأنا قاتلكما، فإنه ليس ينبغي لقتلة الملوك أن يستبقوا إلا بذمة لا تخفر فقتلهما

(1/575)


وذكر بعضهم أن ملك الروم في أيام دارا الأكبر كان يؤدي إلى دارا الإتاوة فهلك، وملك الروم الإسكندر، وكان رجلا ذا حزم وقوة ومكر، فيقال إنه غزا بعض ملوك المغرب فظفر به، وآنس لذلك من نفسه القوة فنشز على دارا الأصغر، وامتنع من حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، فحمي دارا لذلك، وكتب إليه كتبا عنيفة، ففسد ما بينهما وسار كل واحد منهما إلى صاحبه وقد احتشدا والتقيا في الحد واختلفت بينهما الكتب والرسائل، ووجل الإسكندر من محاربة دارا، ودعاه إلى الموادعة، فاستشار دارا أصحابه في أمره، فزينوا له الحرب لفساد قلوبهم عليه وقد اختلفوا في الحد وموضع التقائهما، فذكر بعضهم ان التقائهما كان بناحية خراسان مما يلي الخزر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى خلص إليهما السلاح، وكان تحت الإسكندر يومئذ فرس له عجيب يقال له بوكفراسب، ويقال إن رجلا من أهل فارس حمل ذلك اليوم حتى تخرق الصفوف، وضرب الإسكندر ضربة بالسيف خيف عليه منها، وإنه تعجب من فعله وقال: هذا من فرسان فارس الذين كانت توصف شدتهم، وتحركت على دارا ضغائن أصحابه، وكان في حرسه رجلان من أهل همذان، فراسلا الإسكندر والتمسا الحيلة لدارا حتى طعناه، فكانت منيته من طعنهما إياه، ثم هربا.
فقيل إنه لما وقعت الصيحة، وانتهى الخبر إلى الإسكندر ركب في أصحابه، فلما انتهى إلى دارا وجده يجود بنفسه، فكلمه ووضع رأسه في حجره، وبكى عليه، وقال له: أتيت من مأمنك، وغدر بك ثقاتك، وصرت بين أعدائك وحيدا، فسلني حوائجك فإني على المحافظة على القرابة بيننا- يعني القرابة بين سلم وهيرج ابني أفريذون- فيما زعم هذا القائل- وأظهر الجزع لما أصابه، وحمد ربه حين لم يبتله بأمره، فسأله دارا أن يتزوج ابنته روشنك، ويرعى لها حقها، ويعظم قدرها، وأن يطلب بثأره، فأجابه الإسكندر إلى ذلك

(1/576)


ثم أتاه الرجلان اللذان وثبا على دارا يطلبان الجزاء، فأمر بضرب رقابهما وصلبهما، وأن ينادى عليهما: هذا جزاء من اجترأ على ملكه، وغش أهل بلده.
ويقال: إن الإسكندر حمل كتبا وعلوما كانت لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة، بعد أن نقل ذلك إلى السريانية ثم إلى الرومية.
وزعم بعضهم أن دارا قتل وله من الولد الذكور: أشك بن دارا وبنو دارا وأردشير وله من البنات روشنك، وكان ملك دارا أربع عشرة سنة.
وذكر بعضهم أن الإتاوة التي كان أبو الإسكندر يؤديها إلى ملوك الفرس كانت بيضا من ذهب، فلما ملك الإسكندر بعث إليه دارا يطلب ذلك الخراج، فبعث إليه: إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض، وأكلت لحمها فأذن بالحرب ثم ملك الإسكندر بعد دارا بن دارا.
وقد ذكرت قول من يقول: هو أخو دارا بن دارا من أبيه دارا الأكبر.
وأما الروم وكثير من أهل الأنساب فإنهم يقولون: هو الاسكندر بن فيلفوس، وبعضهم يقول: هو ابن بيلبوس بن مطريوس، ويقال: ابن مصريم ابن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومى بن ليطى بن يونان بن يافث بن ثوبه بن سرحون بن رومية بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز ابن العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ع فجمع بعد مهلك دارا ملك دارا إلى ملكه، فملك العراق والروم والشام ومصر، وعرض جنده بعد هلاك دارا فوجدهم- فيما قيل- الف الف وأربعمائة رجل، منهم من جنده ثمانمائه الف، ومن جند دارا ستمائه ألف.
وذكر أنه قَالَ يوم جلس على سريره: قد أدالنا الله من دارا، ورزقنا خلاف ما كان يتوعدنا به، وأنه هدم ما كان في بلاد الفرس من المدن والحصون وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم ودواوين دارا، واستعمل على مملكة دارا رجالا من أصحابه، وسار قدما إلى أرض الهند، فقتل ملكها وفتح مدينتها، ثم سار منها إلى الصين، فصنع بها كصنيعه بأرض الهند، ودانت

(1/577)


له عامة الأرضين، وملك التبت والصين، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية في أربعمائة رجل يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوما، ثم خرج ورجع إلى العراق، وملك ملوك الطوائف، ومات في طريقه بشهرزور.
وكان عمره ستا وثلاثين سنة في قول بعضهم، وحمل إلى أمه بالإسكندرية.
وأما الفرس فإنها تزعم أن ملك الإسكندر كان أربع عشرة سنة، والنصارى تزعم أن ذلك كان ثلاث عشرة سنة وأشهرا، ويزعمون أن قتل دارا كان في أول السنة الثالثة من ملكه.
وقيل إنه أمر ببناء مدن فبنيت اثنتا عشرة مدينة، وسماها كلها إسكندرية، منها مدينه بأصبهان يقال جى، بنيت على مثال الحيه، وثلاث مدائن بخراسان، منهن مدينة هراة ومدينة مرو ومدينة سمرقند، وبأرض بابل مدينة لروشنك بنت دارا، وبأرض اليونانية في بلاد هيلاقوس مدينة للفرس، ومدنا أخر غيرها.
ولما مات الإسكندر عرض الملك من بعده على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار النسك والعبادة، فملكت اليونانية عليهم- فيما قيل- بطلميوس بن لوغوس، وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة، فكانت المملكة أيام اليونانية بعد الإسكندر وحياة الإسكندر إلى أن تحول الملك إلى الروم المصاص لليونانية، ولبني إسرائيل ببيت المقدس ونواحيها الديانة والرياسة على غير وجه الملك إلى أن خربت بلادهم الفرس والروم، وطردوهم عنها بعد قتل يحيى بن زكرياء ع.
ثم كان الملك ببلاد الشام ومصر ونواحي المغرب بعد بطليموس بن لوغوس لبطلميوس دينايوس أربعين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس أربعا وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أفيفانس اثنتين وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس تسعا وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس ساطر سبع عشرة سنه

(1/578)


ثم من بعده لبطلميوس الأحسندر إحدى عشرة سنة.
ثم من بعده لبطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين.
ثم من بعده لبطلميوس دونسيوس ست عشرة سنة.
ثم من بعده لبطلميوس قالوبطري سبع عشرة سنة.
فكل هؤلاء كانوا يونانيين، فكل ملك منهم بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس، كما كانت ملوك الفرس يدعون أكاسرة، وهم الذين يقال لهم المفقانيون.
ثم ملك الشام بعد قالوبطري- فيما ذكر الروم- المصاص، فكان أول من ملك منهم جايوس يوليوس خمس سنين ثم ملك الشام بعده اغوسطوس ستا وخمسين سنه فلما مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة ولد عيسى بن مريم ع، وبين مولده وقيام الاسكندر ثلاثمائة سنه وثلاث سنين

(1/579)


ذكر اخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر وهم ملوك الطوائف
ونرجع الآن إلى ذكر خبر الفرس بعد مهلك الإسكندر لسياق التأريخ على ملكهم.
فاختلف أهل العلم بأخبار الماضين في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الإسكندر، وفي عدد ملوك الطوائف الذين كانوا ملكوا إقليم بابل بعده إلى أن قام بالملك أردشير بابكان.
فأما هشام بن مُحَمَّد فإنه قَالَ- فيما حدثت عنه: ملك بعد الإسكندر يلاقس سلقيس، ثم أنطيحس قَالَ: وهو الذي بنى مدينة أنطاكية قَالَ:
وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة، قَالَ: وكانوا يتطرقون الجبال وناحية الأهواز وفارس، حتى خرج رجل يقال له أشك، وهو ابن دارا الأكبر، وكان مولده ومنشؤه بالري، فجمع جمعا كثيرا وسار يريد أنطيحس، فزحف إليه أنطيحس، فالتقيا ببلاد الموصل فقتل أنطيحس، وغلب أشك على السواد، فصار في يده من الموصل إلى الري وأصبهان، وعظمه سائر ملوك الطوائف لنسبه، وشرفه فيهم ما كان من فعله، وعرفوا له فضله، وبدءوا به في كتبهم، وكتب إليهم فبدأ بنفسه، وسموه ملكا، وأهدوا إليه من غير أن يعزل أحدا منهم أو يستعمله.
ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان قَالَ: وهو الذي غزا بنى إسرائيل المرة الثانية، وكان سبب تسليط الله إياه عليهم- فيما ذكر أهل العلم- قتلهم يحيى بن زكرياء، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله عنهم النبوة وأنزل بهم الذل قَالَ: وقد كانت الروم غزت بلاد فارس، يقودها ملكها الأعظم يلتمس أن يدرك بثأرها في فارس لقتل أشك ملك بابل أنطيحس، وملك بابل يومئذ بلاش ابو اردوان، الذى قتله أردشير

(1/580)


ابن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما اجتمعت عليه الروم من غزو بلادهم، وإنه قد بلغه من حشدهم وجمعهم ما لا كفاء له عنده، وإنه إن ضعف عنهم ظفروا بهم جميعا فوجه كل ملك من ملوك الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوته، حتى اجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولى عليهم صاحب الحضر- وكان ملكا من ملوك الطوائف يلي ما بين انقطاع السواد إلى الجزيرة- فسار بهم حتى لقي ملك الروم فقتله واستباح عسكره، وذلك هيج الروم على بناء القسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها فكان الذي ولى إنشاءها الملك قسطنطين، وهو أول ملوك الروم تنصر، وهو أجلى من بقي من بني إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم- بزعمه- عيسى بن مريم، فأخذ الخشبة التي وجدهم يزعمون أنهم صلبوا المسيح عليها، فعظمها الروم، فأدخلوها خزائنهم، فهي عندهم إلى اليوم.
قَالَ: ولم يزل ملك فارس متفرقا حتى ملك أردشير فذكر هشام ما ذكرت عنه، ولم يبين مدة ملك القوم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بعد الإسكندر ملك دارا أناس من غير ملوك الفرس، غير أنهم كانوا يخضعون لكل من يملك بلاد الجبل ويمنحونه الطاعة.
قَالَ: وهم الملوك الأشغانون الذين يدعون ملوك الطوائف قَالَ: فكان ملكهم مائتي سنة وستا وستين سنة.
فملك من هذه السنين أشك بن أشجان عشر سنين ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وفي سنة إحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين وإن ططوس بن أسفسيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بن مريم بنحو من أربعين سنة، فقتل من في مدينة بيت المقدس، وسبى ذراريهم، وأمرهم فنسفت مدينة بيت المقدس، حتى لم يترك بها حجرا على حجر

(1/581)


ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، عشر سنين.
ثم ملك بيزن الأشغاني، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك جوذرز الأشغاني، تسع عشرة سنة.
ثم ملك نرسي الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك هرمز الأشغاني، سبع عشرة سنة.
ثم ملك أردوان الأشغاني، اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك كسرى الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك بلاش الأشغاني، أربعا وعشرين سنة.
ثم ملك أردوان الأصغر الأشغاني، ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك أردشير بن بابك.
وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرد بكل ناحية من ملك عليها من حين ملكه، ما خلا السواد، فإنها كانت أربعا وخمسين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك مملكا على الجبال وأصبهان، ثم غلب ولده بعد ذلك على السواد، فكانوا ملوكا عليها وعلى الماهات والجبال وأصبهان، كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأن السنة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصر على تسميتهم دون غيرهم.
قال: ويقال ان عيسى بن مريم ع ولد باورشليم بعد إحدى وخمسين سنة من ملوك الطوائف، فكانت سنو ملكهم من لدن الإسكندر إلى وثوب أردشير بن بابك وقتله أردوان واستواء الأمر له، مائتين وستا وستين سنة.
قَالَ: فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت لأولادهم بعد ذلك الغلبه

(1/582)


على السواد اشك بن حره بن رسبيان بن أرتشاخ بن هرمز بن ساهم بن رزان بن إسفنديار بن بشتاسب قَالَ: والفرس تزعم أنه أشك بن دارا وقال بعضهم:
أشك بن أشكان الكبير، وكان من ولد كيبيه بن كيقباذ، وكان ملكه عشر سنين.
ثم ملك من بعده أشك بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك سابور بن أشك بن أشكان، ثلاثين سنة.
ثم ملك جوذرز الأكبر بن سابور بن أشكان، عشر سنين.
ثم ملك بيرن بن جوذرز، إحدى وعشرين سنة.
ثم جوذرز الأصغر بن بيزن، تسع عشرة سنة.
ثم نرسه بن جوذرز الأصغر، أربعين سنة.
ثم هرمز بن بلاش بن أشكان، سبع عشرة سنة.
ثم أردوان الأكبر وهو أردوان بن أشكان، اثنتي عشرة سنة.
ثم كسرى بن اشكان، اربعين سنه.
ثم بها فريد الأشكاني، تسع سنين.
ثم بلاش الأشكاني، أربعا وعشرين سنة.
ثم أردوان الأصغر وهو أردوان بن بلاش بن فيروز بن هرمز بن بلاشر بن سابور بن أشك بن أشكان الأكبر، وكان جده كيبيه بن كيقباذ ويقال:
إنه كان أعظم الأشكانية ملكا، وأظهرهم عزا، واسناهم ذكرا، واشدهم قهرا الملوك الطوائف، وأنه كان قد غلب على كورة إصطخر لاتصالها بأصبهان، ثم تخطى إلى جور وغيرها من فارس، حتى غلب عليها، ودانت له ملوكها لهيبة ملوك الطوائف كانت له، وكان ملكه ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك أردشير.
وقال بعضهم: ملك العراق وما بين الشام ومصر بعد الإسكندر تسعون ملكا على تسعين طائفة كلهم يعظم من يملك المدائن، وهم الاشكانيون قال:

(1/583)


فملك من الاشكانيين افقور شاه بن بلاش بن سابور بن اشكان بن أرش الجبار بن سياوش بن كيقاوس الملك، اثنتين وستين سنة.
ثم سابور بن أفقور- وعلى عهده كان المسيح ويحيى ع- ثلاثا وخمسين سنة.
ثم جوذرز بن سابور بن أفقور الذي غزا بني إسرائيل طالبا بثار يحيى ابن زكرياء، ملك تسعا وخمسين سنة.
ثم ابن أخيه أبزان بن بلاش بن سابور، سبعا وأربعين سنة.
ثم جوذرز بن أبزان بن بلاش، إحدى وثلاثين سنة.
ثم أخوه نرسى بن أبزان، أربعا وثلاثين سنة.
ثم عمه الهرمزان بن بلاش، ثمانيا وأربعين سنة.
ثم ابنه الفيروزان بن الهرمزان بن بلاش، تسعا وثلاثين سنة.
ثم ابنه كسرى بن الفيروزان، سبعا وأربعين سنة.
ثم ابنه اردوان بن بلاش، وهو آخرهم، قتله أردشير بن بابك، خمسا وخمسين سنة.
قَالَ: وكان ملك الإسكندر وملك سائر ملوك الطوائف في النواحي خمسمائة وثلاثا وعشرين سنة

(1/584)


ذكر الأحداث التي كانت في أيام ملوك الطوائف
فكان من ذلك- فيما زعمته الفرس- لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، ولإحدى وخمسين سنة من ملك الأشكانيين- ولادة مريم بنت عمران عيسى بن مريم ع.
فأما النصارى فإنها تزعم أن ولادتها إياه كانت لمضى ثلاثمائة سنة وثلاث سنين من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل وزعموا أن مولد يحيى بن زكرياء كان قبل مولد عيسى ع بستة أشهر وذكروا أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، وكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة.
قَالَ: وزعموا أن يحيى اجتمع هو وعيسى بنهر الأردن وله ثلاثون سنة، وأن يحيى قتل قبل أن يرفع عيسى وكان زكرياء بن برخيا أبو يحيى بن زكرياء وعمران بن ماثان أبو مريم متزوجين بأختين، إحداهما عند زكرياء وهي أم يحيى، والأخرى منهما عند عمران بن ماثان، وهي أم مريم، فمات عمران بن ماثان وأم مريم حامل بمريم، فلما ولدت مريم كفلها زكرياء بعد موت أمها، لأن خالتها أخت أمها كانت عنده واسم أم مريم حنة بنت فاقود ابن قبيل، واسم أختها أم يحيى الأشباع ابنة فاقود وكفلها زكرياء، وكانت مسماة بيوسف بن يعقوب بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن الياقيم بن أبيوذ بن زربابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود، ابن عم مريم.
وأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا عن سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أنه قَالَ:

(1/585)


مريم- فيما بلغني عن نسبها- ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا ابن احزيق بن يوثام بن عزريا بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاط بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان فولد لزكرياء يحيى ابن خالة عيسى بن مريم، فنبئ صغيرا، فساح، ثم دخل الشام يدعو الناس، ثم اجتمع يحيى وعيسى، ثم افترقا بعد أن عمد يحيى عيسى.
وقيل: إن عيسى بعث يحيى بن زكرياء في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس: قال: وكان فيما نهوهم عنه نكاح بنات الأخ، فَحَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأعمش، عن المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، قَالَ: فَكَانَ فِيمَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ نِكَاحُ ابْنَةِ الأَخِ قَالَ: وَكَانَ لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةٌ يَقْضِيهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا قَالَتْ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلَكِ، فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ فَقُولِي: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا حَاجَتَهَا، قَالَتْ: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فَقَالَ:
سَلِينِي غَيْرَ هَذَا، قَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى، وَدَعَا بِطَسْتٍ فذبحه، فندرت قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ، قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ سِنٍّ وَاحِدَةٍ، فَسَكَنَ.
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَلاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ غُلَامٍ يَتِيمٍ، ابْنِ أَرْمَلَةٍ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، يُدْعَى بُخْتَنَصَّرَ، وَكَانُوا يَصْدُقُونَ فَتَصْدُقَ رُؤْيَاهُمْ، فَأَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ يَحْتَطِبُ، فَلَمَّا جَاءَ وَعَلَى راسه حزمه

(1/586)


حَطَبٍ أَلْقَاهَا، ثُمَّ قَعَدَ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ بِهَذِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا، وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَمَانًا إِنْ أَنْتَ مَلَكْتَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، قَالَ: تَسْخَرُ بِي! قَالَ: إِنِّي لَا أَسْخَرُ بِكَ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا عِنْدِي يَدًا! فَكَلَّمَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: وَمَا عَلَيْكَ إِنْ كَانَ، وَإِلَّا لَمْ يُنْقِصْكَ شَيْئًا! فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ، قَدْ حَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَكَ! فَاجْعَلْ لِي آيَةً تَعْرِفْنِي بِهَا، قَالَ:
تَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ فَأَعْرِفُكَ بِهَا فَكَسَاهُ وَأَعْطَاهُ ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، وَلا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَإِنَّهُ هَوِيَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ امْرَأَةٍ لَهُ، فَسَأَلَ يَحْيَى عَنْ ذَلِكَ، فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا، وَقَالَ: لَسْتُ أَرْضَاهَا لَكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا فَحَقَدَتْ عَلَى يَحْيَى حِينَ نَهَاهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، فَعَمَدَتْ إِلَى الْجَارِيَةِ حِينَ جَلَسَ الْمَلِكُ عَلَى شَرَابِهِ، فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا حُمْرًا، وَطَيَّبَتْهَا، وَأَلْبَسَتْهَا مِنَ الْحُلِيِّ، وَأَلْبَسَتْهَا فَوْقَ ذَلِكَ كِسَاءً أَسْوَدَ، فَأَرْسَلَتْهَا إِلَى الْمَلِكِ، وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَسْقِيَهُ، وَأَنْ تَعْرِضَ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُعْطِيَهَا مَا سَأَلَتْهُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا ذَلِكَ سَأَلَتْهُ أَنْ تُؤْتَى بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ فِي طَسْتٍ، فَفَعَلَتْ فَجَعَلَتْ تَسْقِيهِ وَتَعْرِضُ لَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ فِيهِ الشَّرَابُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: مَا تَسْأَلِينِي؟
قَالَتْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، فَأُوتَى بِرَأْسِهِ فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ: وَيْحَكِ! سَلِينِي غَيْرَ هَذَا! قَالَتْ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ إِلَّا هَذَا.
قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ، بَعَثَ إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِرَأْسِهِ، وَالرَّأْسُ يَتَكَلَّمُ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَحِلُّ لَكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ يَغْلِي، فَأَمَرَ بِتُرَابٍ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ، فَرَقَى الدَّمُ فَوْقَ التُّرَابِ يَغْلِي، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ أَيْضًا، فَارْتَفَعَ الدَّمُ فَوْقَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقَى عَلَيْهِ التُّرَابُ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ،

(1/587)


وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَغْلِي، وَبَلَغَ صيحائين فَنَادَى فِي النَّاسِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، وَيُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، فَأَتَاهُ بُخْتَنَصَّرُ، فَكَلَّمَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي كُنْتَ أَرْسَلْتَ تِلْكَ الْمَرَّةَ ضَعِيفٌ، فَإِنِّي قَدْ دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ، وَسَمِعْتُ كَلَامَ أَهْلِهَا، فَابْعَثْنِي، فَبَعَثَهُ فَسَارَ بُخْتَنَصَّرَ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي مَدَائِنِهِمْ، فَلَمْ يُطِقْهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْمُقَامُ، وَجَاعَ أَصْحَابُهُ اراد الرُّجُوعَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ:
أَيْنَ أَمِيرُ الْجُنْدِ؟ فَأُتِيَ بِهِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ بِجُنْدِكَ قَبْلَ أَنْ تَفْتَحَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ طَالَ مُقَامِي، وَجَاعَ أَصْحَابِي، فَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ الْمُقَامَ فَوْقَ الَّذِي كَانَ مِنِّي، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتُكَ إِنْ فُتِحَتْ لَكَ الْمَدِينَةُ، أَتُعْطِينِي مَا أَسْأَلُكَ، فَتَقْتُلُ مَنْ أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ، وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ؟ قَالَ لَهَا: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَاقْسِمْ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا، ثُمَّ ارْفَعُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَادَوْا: إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ يَا اللَّهِ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، فَإِنَّها سَوْفَ تَتَسَاقَطُ فَفَعَلُوا، فَتَسَاقَطَتِ الْمَدِينَةُ، وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، اقْتُلْ عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى دَمِ يَحْيَى وَهُوَ عَلَى تُرَابٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَكَنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَلَمَّا سَكَنَ الدَّمُ، قَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُ وَمَنْ رَضِيَ قَتْلَهُ فَأَتَاهُ صَاحِبُ الصَّحِيفَةِ بِصَحِيفَتِهِ، فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ، وَقَالَ: مَنْ طَرَحَ فِيهِ جِيفَةً فَلَهُ جِزْيَتُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، وَأَعَانَهُ عَلَى خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فَلَمَّا خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ ذَهَبَ مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَرَاتِهِمْ، وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَعليَا وعزريَا وَمِيشَائِيلَ، هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَهَبَ مَعَهُ بِرَأْسِ الْجَالُوتِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ

(1/588)


وَجَدَ صيحَائينَ قَدْ مَاتَ، فَمَلَكَ مَكَانَهُ، وَكَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ، فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ، فَوَشَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ، وَلا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبِيحَتِكَ، فَدَعَاهُمْ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: أَجَلْ إِنَّ لَنَا رَبًّا نَعْبُدُهُ، وَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، وَأَمَرَ بِخَدٍّ فَخُدَّ، فَأُلْقُوا فِيهِ وَهُمْ سِتَّةٌ، وَأُلْقِيَ مَعَهُمْ سَبُعٌ ضَارٍ لِيَأْكُلَهُمْ، فَقَالُوا: انْطَلِقُوا فَلْنَأْكُلْ وَلْنَشْرَبْ، فَذَهَبُوا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا، وَالسَّبُعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَمْ يَنْكَأْهُ شَيْئًا، فَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا، فَعَدُّوهُمْ فَوَجَدُوهُمْ سَبْعَةً، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا السَّابِعِ؟ إِنَّمَا كَانُوا سِتَّةً! فَخَرَجَ إِلَيْهِ السَّابِعُ- وَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ- فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَصَارَ فِي الْوَحْشِ، فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُ سِنِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ- الَّذِي رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْتُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْتُ وَعَمَّنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِنْ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ، هُوَ الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ- عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ وَالْعِلْمِ بِأُمُورِ الْمَاضِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ إِنَّمَا غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ نَبِيَّهُمْ شَعْيَا فِي عَهْدِ إِرْمِيَا بْنِ حلقِيَا، وَبَيْنَ عَهْدِ إِرْمِيَا وَتَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى بن زكرياء أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً فِي قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَيَذْكُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مُبَيَّنٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ لَدُنْ تَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى حِينِ عُمْرَانِهَا فِي عَهْدِ كيرشَ بْنِ أَخْشويرشَ أَصْبهبذَ بَابِلَ مِنْ قِبَلِ أَرْدِشِيرَ بهمن بْنِ إِسْفندِيَارِ بْنِ بشتَاسبَ، ثُمَّ مِنْ قِبَلِ ابْنَتِهِ خماني سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عُمْرَانِهَا إِلَى ظُهُورِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَيْهَا وَحِيَازَةِ مَمْلَكَتِهَا إِلَى مَمْلَكَتِهِ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ مَمْلَكَةِ الإِسْكَنْدَرِ لها الى مولد يحيى بن زكرياء ثلاثمائة سنه وثلاث سنين، فذلك على قولهم أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً

(1/589)


وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَإِنَّهَا تُوَافِقُ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ فِي مُدَّةِ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمْرِ بُخْتَنَصَّرَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى غَلَبَةِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالشَّامِ وَهَلاكِ دارا، وَتُخَالِفُهُمْ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ وَمَوْلِدِ يَحْيَى، فَتَزْعُمُ أَنَّ مُدَّةَ ذَلِكَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً فَبَيْنَ الْمَجُوسِ وَالنَّصَارَى مِنَ الاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ وَمَوْلِدِ يَحْيَى وَعِيسَى مَا ذَكَرْتُ.
وَالنَّصَارَى تَزْعُمُ أَنَّ يَحْيَى وُلِدَ قَبْلَ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ هِيردُوسُ، بِسَبَبِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا هِيرُوذيَا، كَانَتِ امْرَأَةَ أَخٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ فيلفُوسُ، عَشِقَهَا فَوَافَقَتْهُ عَلَى الْفُجُورِ، وَكَانَ لَهَا ابْنَةٌ يُقَالُ لَهَا دمنَى فَأَرَادَ هِيردُوسُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةَ أَخِيهِ الْمُسَمَّاةَ هِيروذيَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لا تَحِلُّ لَهُ، فَكَانَ هِيرُدوسُ مُعْجَبًا بِالابْنَةِ، فَأَلْهَتْهُ يَوْمًا، ثُمَّ سَأَلَتْهُ حَاجَةً فَأَجَابَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَرَ صَاحِبًا لَهُ بِالنُّفُوذِ لِمَا تَأْمُرُهُ بِهِ، فَأَمَرَتْهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِرَأْسِ يَحْيَى، فَفَعَلَ، فَلَّما عَرَفَ هِيردُوسُ الْخَبَرَ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَجَزَعَ جَزَعًا شَدِيدًا.
وَأَمَّا مَا قَالَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالأَخْبَارِ وَأُمُورِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ حَكَيْتُ مِنْهُ مَا قَالَهُ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ.
وأما ما قَالَ ابن إسحاق فيه، فهو مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، قَالَ: عمرت بنو إسرائيل بعد ذلك- يعني بعد مرجعهم من أرض بابل إلى بيت المقدس- يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون، حتى كان آخر من بعث فيهم من أنبيائهم زكرياء ويحيى بن زكرياء وعيسى بن مريم، وكانوا من بيت آل داود ع وهو يحيى بن زكرياء بن ادى ابن مسلم بن صدوق بن نحشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخية بن شفاطية بن فاحور بن شلوم بن يهفاشاط بن اسا بن أبيا بن رحبعم

(1/590)


ابن سليمان بن داود.
قَالَ: فلما رفع الله عيسى ع من بين أظهرهم، وقتلوا يحيى بن زكرياء ع- وبعض الناس يقول: وقتلوا زكرياء- ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار إليهم بأهل بابل، حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنوده يدعى نبوزراذان، صاحب القتل، فقال له: انى كنت حلفت بالله:
لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلى ألا أجد أحدا أقتله، فأمره أن يقتلهم، حتى يبلغ ذلك منهم وإن نبوزراذان دخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي، وسألهم، فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره، فقالوا: هذا دم قربان كان لنا كنا قربناه فلم يقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد قربنا منذ ثمانمائه سنة القربان، فيقبل منا إلا هذا القربان قَالَ: ما صدقتموني الخبر، قَالُوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا، ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم نبوزراذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا من رءوسهم فلم يهدأ، فأمر فاتى بسبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فامر بسبعه آلاف من بنيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى نبوزراذان الدم لا يهدأ قَالَ لهم: يا بني إسرائيل، ويلكم! اصدقوني واصبروا على أمر ربكم، فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم، قبل ألا أترك منكم نافخ نار، أنثى ولا ذكرا إلا قتلته! فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه، فهذا دمه فقال لهم نبوزراذان:
ما كان اسمه؟ قَالُوا: يحيى بن زكرياء، قَالَ: الآن صدقتموني، لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما رأى نبوزراذان أنهم قد صدقوه خر ساجدا، وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس

(1/591)


وخلا في بني إسرائيل ثم قَالَ: يا يحيى بن زكرياء، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قتل منهم من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بإذن الله، ورفع نبوزراذان عنهم القتل، وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، لو كان معه شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم! ملك الملوك الذي يملك السموات السبع بعلم وحكم وجبروت وعزة، الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه فأوحى إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن نبوزراذان حبور صدوق- والحبور بالعبرانية حديث الإيمان- وأن نبوزراذان قَالَ لبني إسرائيل: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإني فاعل، لست أستطيع أن أعصيه قَالُوا له: افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا، وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها، حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، حتى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل.
فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبوزراذان: ارفع عنهم، فقد بلغني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول الله تعالى لنبيه محمد ص: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ» إلى قوله: «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» .
وعسى من الله حق، فكانت الوقعه الأولى بختنصر وجنوده، ثم رد

(1/592)


الله لهم الكرة عليهم، ثم كانت الوقعة الأخيرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم، يقول الله عز وجل: «وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .
رجع الحديث الى حديث عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام.
قَالَ: وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها يليان خدمة الكنيسة، فكانت مريم إذا نفد ماؤها- فيما ذكر- وماء يوسف أخذ كل واحد منهما قلته، فانطلق إلى المغارة التي فيها الماء الذي يستعذبانه، فيملأ قلته، ثم يرجعان إلى الكنيسة فلما كان اليوم الذي لقيها فيه جبرئيل- وكان أطول يوم في السنة وأشده حرا- نفد ماؤها، فقالت: يا يوسف، ألا تذهب بنا نستقي! قَالَ: إن عندي لفضلا من ماء أكتفي به يومي هذا إلى غد، قالت:
لكني والله ما عندي ماء، فأخذت قلتها، ثم انطلقت وحدها، حتى دخلت المغارة، فتجد عندها جبرئيل، قد مثله الله لها بشرا سويا: فقال لها:
يا مريم، إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا، قالت:
«إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
» ، وهي تحسبه رجلا من بني آدم فقال: انما انا رسول ربك، قالت: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» ، أي أن الله قد قضى أن ذلك كائن فلما قَالَ ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيبها، ثم انصرف عنها، وملأت قلتها.
قال: فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر البخاري، قال حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، ابن أخي وهب،

(1/593)


قَالَ: سمعت وهبا قال: لما أرسل الله عز وجل جبرئيل إلى مريم، تمثل لها بشرا سويا فقالت: «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
» ، ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم، واشتملت على عيسى قَالَ: وكان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتجميره وكناسته وطهوره، وكل عمل يعمل فيه، فكان لا يعلم من أهل زمانهما أحد أشد اجتهادا وعبادة منهما، وكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف، فلما رأى الذي بها استعظمه، وعظم عليه، وفظع به، ولم يدر على ماذا يضع أمرها! فإذا أراد يوسف أن يتهمها ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها فلما اشتد عليه ذلك كلمها، فكان أول كلامه إياها أن قَالَ لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك أمر قد حرصت على أن أميته، وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولا جميلا، قَالَ: ما كنت لأقول إلا ذلك، فحدثيني: هل ينبت زرع بغير بذر؟
قالت: نعم، قَالَ: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قَالَ: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر إنما كان من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر! أولم تعلم أن الله أنبت الشجر من غير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده! أو تقول لم يقدر الله على أن ينبت الشجر، حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته! قَالَ لها يوسف: لا أقول ذلك، ولكني أعلم أن الله بقدرته على ما يشاء يقول لذلك: كن فيكون قالت له مريم: أولم تعلم أن الله عز وجل

(1/594)


خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قَالَ: بلى، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله عز وجل، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك ثم تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك، فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك وقتلوا ولدك فأفضت عند ذلك إلى أختها- وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى- فلما التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدا معترفا بعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الإكاف شيء، فانطلق يوسف بها، حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها أدرك مريم النفاس، وألجأها إلى أري حمار- يعني مزود الحمار- في أصل نخلة، وذلك في زمان الشتاء، فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة، فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفا محدقين بها.
فلما وضعت وهي محزونة، قيل لها: «أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» إلى «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ، فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء.
فأصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله حين ولدت بكل أرض مقلوبة منكوسة على رءوسها، ففزعت الشياطين وراعها، فلم يدروا ما سبب ذلك، فساروا عند ذلك مسرعين، حتى جاءوا إبليس، وهو على عرش له، في لجة خضراء، يتمثل بالعرش يوم كان على الماء ويحتجب، يتمثل بحجب النور التي من دون الرحمن، فاتوه وقد خلاست ساعات من النهار، فلما

(1/595)


رأى إبليس جماعتهم، فزع من ذلك، ولم يرهم جميعا منذ فرقهم قبل تلك الساعة، إنما كان يراهم أشتاتا، فسألهم فأخبروه أنه قد حدث في الأرض حدث أصبحت الأصنام منكوسة على رءوسها، ولم يكن شيء أعون على هلاك بني آدم منها، كنا ندخل في أجوافها فنكلمهم، وندبر أمرهم فيظنون أنها التي تكلمهم، فلما أصابها هذا الحدث صغرها في أعين بني آدم، وأذلها وأدناها، ذلك وقد خشينا ألا يعبدوها بعد هذا أبدا واعلم أنا لم نأتك حتى أحصينا الأرض، وقلبنا البحار وكل شيء قوينا عليه، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلا قَالَ لهم إبليس: إن هذا لأمر عظيم، لقد علمت بأني كتمته، وكونوا على مكانكم هذا فطار إبليس عند ذلك، فلبث عنهم ثلاث ساعات، فمر فيهن بالمكان الذي ولد فيه عيسى، فلما رأى الملائكة محدقين بذلك المكان، علم أن ذلك الحدث فيه، فأراد إبليس أن يأتيه من فوقه، فإذا فوقه رءوس الملائكة ومناكبهم عند السماء ثم أراد أن يأتيه من تحت الأرض، فإذا أقدام الملائكة راسية أسفل مما أراد إبليس ثم أراد أن يدخل من بينهم فنحوه عن ذلك.
ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال لهم: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها مشرقها ومغربها، وبرها وبحرها، والخافقين، والجو الأعلى، وكل هذا بلغت في ثلاث ساعات، وأخبرهم بمولد المسيح، وقال لهم: لقد كتمت شأنه، وما اشتملت قبله رحم أنثى على ولد إلا بعلمي، ولا وضعته قط، إلا وأنا حاضرها، وأني لأرجو أن أضل به أكثر مما يهتدي به، وما كان نبي قبله أشد علي وعليكم منه.
وخرج في تلك الليلة قوم يؤمونه من أجل نجم طلع أنكروه، وكان قبل ذلك يتحدثون أن مطلع ذلك النجم من علامات مولود في كتاب دانيال.
فخرجوا يريدونه، ومعهم الذهب والمر واللبان، فمروا بملك من ملوك الشام، فسألهم: أين يريدون؟ فأخبروه بذلك، قَالَ: فما بال الذهب والمر واللبان اهديتموه له من بين الأشياء كلها؟ قَالُوا: تلك أمثاله: لأن الذهب هو سيد المتاع كله، وكذلك هذا النبي هو سيد أهل زمانه، ولأن المر يجبر به

(1/596)


الجرح والكسر، وكذلك هذا النبي يشفي به الله كل سقيم ومريض، ولأن اللبان ينال دخانه السماء ولا ينالها دخان غيره، كذلك هذا النبي يرفعه الله إلى السماء لا يرفع في زمانه أحد غيره.
فلما قَالُوا ذلك لذلك الملك حدث نفسه بقتله، فقال: اذهبوا، فإذا علمتم مكانه فأعلموني ذلك، فإني أرغب في مثل ما رغبتم فيه من أمره فانطلقوا حتى دفعوا ما كان معهم من تلك الهدية إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى هذا الملك ليعلموه مكان عيسى، فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه، ولا تعلموه بمكانه، فإنه إنما أراد بذلك ليقتله، فانصرفوا في طريق آخر، واحتملته مريم على ذلك الحمار ومعها يوسف، حتى وردا أرض مصر، فهي الربوة التي قَالَ الله:
«وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» .
فمكثت مريم اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس، لا يطلع عليه أحد، وكانت مريم لا تأمن عليه ولا على معيشته أحدا، كانت تلتقط السنبل من حيث ما سمعت بالحصاد، والمهد في منكبها والوعاء الذي تجعل فيه السنبل في منكبها الآخر، حتى تم لعيسى ع اثنتا عشرة سنة، فكان أول آية رآها الناس منه أن أمه كانت نازلة في دار دهقان من أهل مصر، فكان ذلك الدهقان قد سرقت له خزانة، وكان لا يسكن في داره إلا المساكين، فلم يتهمهم، فحزنت مريم لمصيبة ذلك الدهقان، فلما أن رأى عيسى حزن أمه بمصيبة صاحب ضيافتها، قَالَ لها: يا أمه، أتحبين أن أدله على ماله؟
قالت: نعم يا بني، قَالَ: قولي له يجمع لي مساكين داره، فقالت مريم للدهقان ذلك، فجمع له مساكين داره، فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم:
أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المقعد على عاتق الأعمى، ثم قَالَ له:
قم به، قَالَ الأعمى: أنا أضعف من ذلك، قَالَ عيسى ع:
فكيف قويت على ذلك البارحة؟ فلما سمعوه يقول ذلك، بعثوا الأعمى، حتى قام به، فلما استقل قائما حاملا هوي المقعد إلى كوة الخزانة قَالَ عيسى:
هكذا احتالا لمالك البارحة، لأنه استعان الأعمى بقوته، والمقعد بعينيه، فقال

(1/597)


المقعد والأعمى: صدق، فردا على الدهقان ماله ذلك، فوضعه الدهقان في خزانته، وقال: يا مريم خذي نصفه، قالت: إني لم أخلق لذلك، قَالَ الدهقان: فأعطيه ابنك، قالت: هو أعظم مني شأنا، ثم لم يلبث الدهقان أن أعرس ابن له فصنع له عيدا فجمع عليه أهل مصر كلهم، فلما انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشام لم يحذرهم الدهقان، حتى نزلوا به، وليس عنده يومئذ شراب، فلما رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتا من بيوت الدهقان، فيه صفان من جرار، فأمر عيسى يده على أفواهها، وهو يمشي، فكلما أمر يده على جرة امتلأت شرابا، حتى أتى عيسى على آخرها، وهو يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة، فلما فعل ذلك عيسى فزع الناس لشأنه وما أعطاه الله من ذلك، فأوحى الله عز وجل إلى أمه مريم، أن اطلعي به إلى الشام، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، فجاءه الوحي على ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله إليه، فلما رآه إبليس يوم لقيه على العقبة لم يطلق منه شيئا، فتمثل له برجل ذي سن وهيئة، وخرج معه شيطانان ماردان متمثلين كما تمثل إبليس، حتى خالطوا جماعة الناس.
وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا، فمن أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى ع يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله عز وجل، فجاءه إبليس في هيئة يبهر الناس حسنها وجمالها، فلما رآه الناس فرغوا له، ومالوا نحوه، فجعل يخبرهم بالأعاجيب، فكان في قوله: إن شأن هذا الرجل لعجب، تكلم في المهد، وأحيا الموتى، وأنبأ عن الغيب، وشفى المريض، فهذا الله قَالَ أحد صاحبيه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت! لا ينبغي لله أن يتجلى للعباد، ولا يسكن الأرحام، ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله وقال الثالث: بئس ما قلتما، كلا كما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولدا، ولكنه إله معه، ثم غابوا حين فرغوا

(1/598)


من قولهم، فكان ذلك آخر العهد منهم.
حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا مِنَ الْجُدْرَانِ، وهو قوله: «ف انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
» فِي شَرْقِ الْمِحْرَابِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذَا هِيَ بِرَجُلٍ مَعَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
» فهو جبرئيل «فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
» فَلَمَّا رَأَتْهُ فَزِعَتْ مِنْهُ وَقَالَتْ:
«إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
» - تَقُولُ زَانِيَةً- «قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» فَخَرَجَتْ، عَلَيْهَا جِلْبَابُهَا، فَأَخَذَ بِكُمَّيْهَا، فَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا- وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ قُدَّامِهَا- فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ فِي صَدْرِهَا، فَحَمَلَتْ، فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ لَيْلَةً تَزُورُهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى.
قَالَتْ مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ أَنِّي أَيْضًا حُبْلَى قَالَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ قوله: «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» .
فَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى، وَلَمَّا بَلَغَ أَنْ تَضَعَ مَرْيَمُ، خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الشَّرْقِيِّ مِنْهُ، فَأَتَتْ أَقْصَاهُ: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» يَقُولُ: أَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، «قالَتْ» : وَهِيَ تطلقُ مِنَ الْحَبْلِ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا»

(1/599)


تَقُولُ: نَسِيًّا: نُسِيَ ذِكْرِي، وَمَنْسِيًّا، تَقُولُ: نُسِيَ أَثَرِي، فَلا يُرَى لِي أَثَرٌ وَلا عَيْنٌ «فَناداها» ، جبرئيل: «مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» ، وَالسَّرِيُّ هُوَ النَّهْرُ «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» ، وَكَانَ جِذْعًا مِنْهَا مَقْطُوعًا فَهَزَّتْهُ، فَإِذَا هُوَ نَخْلَةٌ، وَأَجْرَى لَهَا فِي الْمِحْرَابِ نَهْرًا فَتَسَاقَطَتِ النخله رطبا جنيا، فقال لها: كلى وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ، فَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُمْسِيَ، فَقِيلَ لَهَا:
لا تَزِيدِي عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ الشَّيْطَانُ فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ قَدْ وَلَدَتْ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَدُّونَ، فَدَعَوْهَا «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» - يَقُولُ عَظِيمًا- «يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» ، فَمَا بَالُكِ أَنْتِ يَا أُخْتَ هَارُونَ! وَكَانَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: يَا أَخَا بَنِي فُلانٍ، إِنَّمَا تَعْنِي قَرَابَتَهُ فَقَالَتْ لَهُمْ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْكَلَامِ، أَشَارَتْ إِلَيْهِ- إِلَى عِيسَى- فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَسُخْرِيَّتُهَا بِنَا حِينَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا! «قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» فَتَكَلَّمَ عِيسَى فَقَالَ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَا أَحْبَلَهَا أَحَدٌ غَيْرُ زَكَرِيَّاءَ، هُوَ كَانَ يَدْخُلُ إِلَيْهَا، فَطَلَبُوهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَتَشَبَّهَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَاعٍ، فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّاءُ، قَدْ أَدْرَكُوكَ، فَادْعُ اللَّهَ حَتَّى تَنْفَتِحَ لَكَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فَتَدْخُلَ فِيهَا، فَدَعَا اللَّهَ فَانْفَتَحَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ، فَدَخَلَ فِيهَا وَبَقِيَ مِنْ رِدَائِهِ هُدْبٌ، فَمَرَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالشَّيْطَانِ، فَقَالُوا:
يَا رَاعِي، هَلْ رَأَيْتَ رَجُلًا من هاهنا قَالَ: نَعَمْ سَحَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ،

(1/600)


فَانْفَتَحَتْ لَهُ، فَدَخَلَ فِيهَا، وَهَذَا هُدْبُ رِدَائِهِ، فَعَمَدُوا فَقَطَعُوا الشَّجَرَةَ، وَهُوَ فِيهَا بِالْمَنَاشِيرِ، وَلَيْسَ تَجِدُ يَهُودِيًّا إِلَّا تِلْكَ الْهُدْبَة فِي رِدَائِهِ، فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى لَمْ يَبْقَ فِي الأَرْضِ صَنَمٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا أَصْبَحَ سَاقِطًا لِوَجْهِهِ حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهبا يقول:
إن عيسى بن مريم ع لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين، فصنع لهم طعاما، فقال:
احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه! فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قَالَ: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، ولا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض، كما بذلت نفسي لكم وأما حاجتي التي أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم، حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم، ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! قَالُوا: والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم وجعل يأتي بكلام نحو هذا، ينعى به نفسه، ثم قَالَ:
الحق ليكفرن بي أحدكم، قبل ان يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعننى أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون، أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد وقال:
ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخر فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك،

(1/601)


فبكى، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلهم عليه- وكان شبه عليهم قبل ذلك- فأخذوه، فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تفتح نفسك من هذا الحبل! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعا ثم إن أمه والمرأة- التي كان عيسى يداويها فأبرأها الله من الجنون- جاءتا تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى ع، فقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه، ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب تاب الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحيى، فقال: هو معكم، فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: توفى الله عيسى بن مريم ثلاث ساعات من النهار، حتى رفعه الله إليه.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: والنصارى يزعمون أنه توفاه الله سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله، فقال له: اهبط، فانزل على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة إلى الله، فإنك لم تكن فعلت ذلك فأهبطه الله عليها، فاشتعل الجبل حين

(1/602)


هبط نورا، فجمعت له الحواريين، فبثهم وأمرهم، أن يبلغوا الناس عنه ما أمره الله به، ثم رفعه الله إليه، فكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة وهو معهم حول العرش، فكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا، وتفرق الحواريون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبط فيها الليلة التي تدخن فيها النصارى وكان ممن وجه من الحواريين والأتباع الذين كانوا في الأرض بعدهم، فطرس الحواري ومعه بولس- وكان من الأتباع، ولم يكن من الحواريين- إلى رومية، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس- وهي فيما نرى للأساود- وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق، وفيلبس إلى القيروان وقرطاجنة، وهي إفريقية، ويحنس إلى دفسوس، قرية الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوريشلم، وهي إيليا بيت المقدس، وابن تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر دون إفريقية، ويهوذا- ولم يكن من الحواريين- إلى اريوبس، جعل مكان يوذس زكرياء يوطا، حين أحدث ما أحدث.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر ابن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن ابن سليم الأنصاري، ثم الزرقي، قَالَ: كان على امرأة منا نذر، لتظهرن على رأس الجماء- جبل بالعقيق من ناحية المدينة- قَالَ: فظهرت معها، حتى إذا استوينا على رأس الجبل، إذا قبر عظيم، عليه حجران عظيمان، حجر عند رأسه، وحجر عند رجليه، فيهما كتاب بالمسند، لا أدري ما هو! فاحتملت الحجرين معي، حتى إذا كنت ببعض الجبل منهبطا ثقلا علي، فألقيت أحدهما وهبطت

(1/603)


بالآخر، فعرضته على أهل السريانية: هل يعرفون كتابه؟ فلم يعرفوه، وعرضته على من يكتب بالزبور من أهل اليمن، ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه قَالَ: فلما لم أجد أحدا ممن يعرفه ألقيته تحت تابوت لنا، فمكث سنين، ثم دخل علينا ناس من أهل ماه من الفرس يبتغون الخرز، فقلت لهم: هل لكم من كتاب؟ فقالوا: نعم، فأخرجت إليهم الحجر، فإذا هم يقرءونه، فإذا هو بكتابهم: هذا قبر رسول الله عيسى بن مريم ع إلى أهل هذه البلاد، فإذا هم كانوا أهلها في ذلك الزمان، مات عندهم فدفنوه على رأس الجبل.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثم عدوا على بقية الحواريين يشمسونهم ويعذبونهم، وطافوا بهم، فسمع بذلك ملك الروم- وكانوا تحت يديه، وكان صاحب وثن- فقيل له: إن رجلا كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنه رسول الله، قد أراهم العجائب، وأحيا لهم الموتى، وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير، ونفخ فيه فكان طائرا بإذن الله، وأخبرهم بالغيوب قَالَ: ويحكم! فما منعكم أن تذكروا هذا لي من امره وامرهم! فو الله لو علمت ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن دين عيسى وأمره، فأخبروه خبره، فتابعهم على دينهم، واستنزل سرجس فغيبه، وأخذ خشبته التي صلب عليها، فأكرمها وصانها لما مسها منه، وعدا على بني إسرائيل، فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هنالك كان أصل النصرانية في الروم.
وذكر بعض أهل الأخبار أن مولد عيسى ع كان لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك اغوسطوس، وان اغوسطوس عاش بعد ذلك بقية ملكه،

(1/604)


وكان جميع ملكه ستا وخمسين سنة- قَالَ بعضهم: وأياما قَالَ: ووثبت اليهود بالمسيح، والرياسة ببيت المقدس في ذلك الوقت لقيصر، والملك على بيت المقدس من قبل قيصر هيردوس الكبير الذي دخلت عليه رسل ملك فارس الذين وجههم الملك الى المسيح، فصار إلى هيردوس غلطا، وأخبروه أن ملك فارس بعث بهم ليقربوا إلى المسيح ألطافا معهم من ذهب، ومر ولبان، وأنهم نظروا إلى نجمه قد طلع، فعرفوا ذلك بالحساب، وقربوا الألطاف إليه ببيت لحم من فلسطين فلما عرف هيردوس خبرهم كاد المسيح، فطلبه ليقتله، فأمر الله الملك أن يقول ليوسف الذي كان مع مريم في الكنيسة ما أراد هيردوس من قتله، وأمره أن يهرب بالغلام وأمه إلى مصر، فلما مات هيردوس قَالَ الملك ليوسف وهو بمصر: إن هيردوس قد مات، وملك مكانه أركلاوس ابنه، وذهب من كان يطلب نفس الغلام، فانصرف به إلى ناصرة من فلسطين ليتم قول شعيا النبي: من مصر دعوتك ومات أركلاوس، وملك مكانه هيردوس الصغير، الذي صلب شبه المسيح في ولايته، وكانت الرياسة في ذلك الوقت لملوك اليونانية والروم، وكان هيردوس وولده من قبلهم، إلا أنهم كانوا يلقبون باسم الملك، وكان الملوك الكبار يلقبون بقيصر، وكان ملك بيت المقدس في وقت الصلب لهيردوس الصغير من قبل طيباريوس بن أغوسطوس دون القضاء، وكان القضاء لرجل رومي يقال له: فيلاطوس من قبل قيصر، وكانت رياسة الجالوت ليونن بن بهبوثن.
قَالَ: وذكروا أن الذي شبه بعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي، يقال له: أيشوع بن فنديرا وكان ملك طيباريوس ثلاثا وعشرين سنة وأياما منها إلى وقت ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام، ومنها بعد ذلك خمس سنين

(1/605)


ذكر من ملك من الروم أرض الشام بعد رفع المسيح ع الى عهد النبي ص في قول النصارى
قَالَ أبو جعفر: زعموا أن ملك الشام من فلسطين وغيرها صار بعد طيباريوس إلى جايوس بن طيباريوس، وأن ملكه كان أربع سنين.
ثم ملك بعده ابن له آخر، يقال له: قلوديوس أربع عشرة سنة.
ثم ملك بعده نيرون، الذي قتل فطرس وبولس، وصلبه منكسا، أربع عشرة سنة.
ثم ملك بعده بوطلايوس، أربعة أشهر.
ثم ملك بعده أسفسيانوس أبو ططوس الذي وجهه إلى بيت المقدس عشر سنين ولمضي ثلاث سنين من ملكه وتمام أربعين سنة من وقت رفع عيسى ع وجه أسفسيانوس ابنه ططوس إلى بيت المقدس، حتى هدمه وقتل من قتل من بني إسرائيل غضبا للمسيح ثم ملك بعده ططوس بن اسفسيانوس، سنتين.
ثم من بعده دومطيانوس، ست عشرة سنة ثم من بعده نارواس، ست سنين.
ثم من بعده طرايانوس، تسع عشرة سنة.
ثم من بعده هدريانوس، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك من بعده ططورس بن بطيانوس، اثنتين وعشرين سنة.
ثم من بعده مرقوس وأولاده، تسع عشرة سنة.
ثم من بعده قوذوموس، ثلاث عشرة سنة

(1/606)


ثم من بعده فرطناجوس، ستة أشهر.
ثم من بعده سبروس أربع عشرة سنة.
ثم من بعده انطنياوس، سبع سنين.
ثم بعده مرقيانوس، ست سنين.
ثم بعده أنطنيانوس، أربع سنين.
ثم الحسندروس، ثلاث عشرة سنة.
ثم غسميانوس، ثلاث سنين.
ثم جورديانوس، ست سنين.
ثم بعده فليفوس، سبع سنين.
ثم داقيوس، ست سنين.
ثم قالوس، ست سنين.
ثم بعده والرييانوس وقاليونس، خمس عشرة سنة.
ثم قلوديوس، سنة.
ثم من بعده قريطاليوس، شهرين.
ثم اورليانوس، خمس سنين.
ثم طيقطوس، ستة أشهر.
ثم فولوريوس، خمسة وعشرين يوما ثم فرابوس، ست سنين.
ثم قوروس وابناه، سنتين.
ثم دوقلطيانوس، ست سنين.
ثم محسميانوس، عشرين سنة.
ثم قسطنطينوس، ثلاثين سنة.
ثم قسطنطين، ثلاثين سنة.
ثم قسطنطين عشرين سنة

(1/607)


ثم اليانوس المنافق، سنتين.
ثم يويانوس، سنة.
ثم والمطيانوس وغرطيانوس، عشر سنين.
ثم خرطانوس ووالنطيانوس الصغير، سنة.
ثم تياداسيس الأكبر، سبع عشرة سنة.
ثم أرقديوس وأنوريوس، عشرين سنة.
ثم تياداسيس الاصغر والنطيانوس ست عشرة سنة.
ثم مرقيانوس، سبع سنين.
ثم لاون، ست عشرة سنة.
ثم زانون، ثماني عشرة سنة ثم أنسطاس، سبعا وعشرين سنة.
ثم يوسطنيانوس، سبع سنين.
ثم يوسطنيانوس الشيخ، عشرين سنة.
ثم يوسطينس اثنتي عشرة سنة.
ثم طيباريوس، ست سنين.
ثم مريقيس وتاذاسيس ابنه، عشرين سنة ثم فوقا الذي قتل، سبع سنين وستة أشهر.
ثم هرقل الذى كتب اليه رسول الله ص، ثلاثين سنة.
فمن لدن عمر بيت المقدس بعد تخريبه بختنصر إلى الهجرة- على قولهم- ألف سنة ونيف، ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة سنة ونيف وعشرون سنة، من ذلك من وقت ظهوره الى مولد عيسى ثلاثمائة سنة وثلاث سنين ومن مولده إلى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن وقت ارتفاعه إلى الهجره خمسمائة وخمس وثمانون سنة وأشهر.
وزعم بعض أصحاب الأخبار أن قتل بني إسرائيل يحيى بن زكرياء كان في عهد أردشير بن بابك لثماني سنين خلت من ملكه، وأن بختنصر إنما صار إلى الشام لقتال اليهود من قبل سابور الجنود ابن أردشير بن بابك

(1/608)


نزول قبائل العرب الحيرة والأنبار ايام ملوك الطوائف
وكان من الأحداث أيام ملوك الطوائف إلى قيام أردشير بن بابك بالملك- فيما ذكر هشام بن مُحَمَّد- دنو من دنا من قبائل العرب من ريف العراق ونزول من نزل منهم الحيرة والأنبار وما حوالي ذلك.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد، قَالَ: لما مات بختنصر انضم الذين كان أسكنهم الحيرة من العرب حين أمر بقتالهم إلى أهل الأنبار وبقي الحير خرابا، فغبروا بذلك زمانا طويلا، لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب، ولا يقدم عليهم قادم، وبالأنبار أهلها ومن انضم إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب من بني إسماعيل وبني معد بن عدنان، فلما كثر اولاد معد ابن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من الأزد كانوا نزلوها في دهر عمران بن عمرو، من بقايا بني عامر، وهو ماء السماء بن حارثة، وهو الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد.
وكان الذين أقبلوا من تهامة من العرب مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة، في جماعه من

(1/609)


قومهم، والحيقار بن الحيق بن عمير بن قنص بن معد بن عدنان، في قنص كلها ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناه بن يقدم ابن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وزهر بن الحارث بن الشلل بن زهر بن اياد وصبح، بن صبيح بن الحارث بن أفصى بن دعمي بن إياد.
فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التنوخ- وهو المقام- وتعاقدوا على التوازر والتناصر، فصاروا يدا على الناس، وضمهم اسم تنوخ، فكانوا بذلك الاسم، كأنهم عمارة من العمائر.
قال: وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم قَالَ: ودعا مالك بن زهير جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي إلى التنوخ معه، وزوجه أخته لميس ابنة زهير، فتنخ جذيمة بن مالك وجماعة ممن كان بها من قومهم من الأزد، فصار مالك وعمرو ابنا فهم والأزد حلفاء دون سائر تنوخ، وكلمة تنوخ كلها واحدة.
وكان اجتماع من اجتمع من قبائل العرب بالبحرين وتحالفهم وتعاقدهم أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر، وفرق البلدان بينهم عند قتله دارا بن دارا ملك فارس، إلى أن ظهر أردشير بن بابك ملك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم ودان له الناس، وضبط له الملك.
قَالَ: وإنما سموا ملوك الطوائف، لأن كل ملك منهم كان ملكه قليلا من الأرض، إنما هي قصور وأبيات، وحولها خندق وعدوه قريب منه، له من الأرض مثل ذلك ونحوه، يغير أحدهما على صاحبه ثم يرجع كالخطفة.
قَالَ: فتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق،

(1/610)


وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم بالمسير إلى العراق، ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم الحيقار بن الحيق في جماعة قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين- وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل- يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهم فيما بين نفر- وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلة وأطراف البادية- فلم تدن لهم، فدفعوهم عن بلادهم.
قَالَ: وكان يقال لعاد إرم، فلما هلكت قيل لثمود إرم، ثم سموا الأرمانيين، وهم بقايا إرم، وهم نبط السواد ويقال لدمشق: إرم.
قَالَ: فارتفعوا عن سواد العراق وصاروا أشلاء بعد في عرب الأنبار وعرب الحيرة، فهم أشلاء قنص بن معد، وإليهم ينسب عمرو بن عدى بن نصر ابن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم.
وهذا قول مضر وحماد الراوية، وهو باطل، ولم يأت في قنص ابن معد شيء أثبت من قول جبير بن مطعم: إن النعمان كان من ولده قَالَ: وإنما سميت الأنبار أنبار لأنها كانت تكون فيها أنابير الطعام، وكانت تسمى الأهراء، لأن كسرى يرزق أصحابه رزقهم منها.
قَالَ: ثم طلع مالك وعمرو، ابنا فهم بن تيم الله، ومالك بن زهير بن فهم بن تيم الله، وغطفان بن عمرو بن الطمثان، وزهر بن الحارث وصبح ابن صبيح، فيمن تنخ عليهم من عشائرهم وحلفائهم على الأنبار، على ملك الأرمانيين، فطلع نمارة بن قيس بن نمارة، والنجدة- وهم قبيلة من العماليق يدعون الى كنده- وملكان بن كندة، ومالك وعمرو ابنا فهم ومن حالفهم، وتنخ معهم على نفر على ملك الأردوانيين، فأنزلهم الحير الذي كان بناه

(1/611)


بختنصر لتجار العرب الذين وجدوا بحضرته حين أمر بغزو العرب في بلادهم، وإدخال الجيوش عليهم، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نفر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم، حتى قدمها تبع- وهو أسعد أبو كرب بن ملكيكرب- في جيوشه، فخلف بها من لم تكن به قوة من الناس، ومن لم يقو على المضي معه، ولا الرجوع إلى بلاده، وانضموا إلى هذا الحير، واختلطوا بهم، وفي ذلك يقول كعب بن جعيل بن عجرة بن قمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب بن عَمْرو بن غنم بن تغلب بن وائل:
وغزا تبع في حمير حتى ... نزل الحيرة من أهل عدن
وخرج تبع سائرا ثم رجع إليهم، وأقاموا فأقرهم على حالهم، وانصرف راجعا إلي اليمن، وفيهم من كل القبائل من بني لحيان، وهم بقايا جرهم، وفيهم جعفي، وطيّئ، وكلب، وتميم، وليسوا إلا بالحيرة- يعني بقايا جرهم.
قَالَ ابن الكلبي: لحيان بقايا جرهم.
ونزل كثير من تنوخ الأنبار والحيرة وما بين الحيرة إلى طف الفرات وغربيه، إلى ناحية الأنبار وما والاها في المظال والأخبية، لا يسكنون بيوت المدر، ولا يجامعون أهلها فيها، واتصلت جماعتهم فيما بين الأنبار والحيرة، وكانوا يسمون عرب الضاحية، فكان أول من ملك منهم في زمان ملوك الطوائف مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار ثم مات مالك، فملك من بعده أخوه عمرو بن فهم ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس الأزدي.
قَالَ ابن الكلبي: دوس بن عدثان بن عبد الله بن نصر بن زهران ابن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن

(1/612)


الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبإ.
قَالَ ابن الكلبي: ويقال إن جذيمة الأبرش من العاربة الأولى، من بني وبار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح قَالَ: وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا، وأبعدهم مغارا، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزما، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به وتنسبه إليه إعظاما له، فقيل: جذيمة الوضاح، وجذيمة الأبرش، وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها، وعين التمر، وأطراف البر الى الغوير والقطقطانة وخفية وما والاها، وتجبى إليه الأموال، وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسما وجديسا في منازلهم من جو وما حولهم، وكانت طسم وجديس يتكلمون بالعربية، فأصاب حسان بن تبع أسعد أبي كرب، قد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعا بمن معه، وتأتي خيول تبع على سرية لجذيمة فاجتاحتها، وبلغ جذيمة خبرهم، فقال جذيمة:
ربما أوفيت في علم ... ترفعن بردي شمالات
في فتو أنا كالئهم ... في بلايا غزوة باتوا
ثم أبنا غانمي نعم ... وأناس بعدنا ماتوا
نحن كنا في ممرهم ... إذ ممر القوم خوات
ليت شعري ما أماتهم ... نحن أدلجنا وهم باتوا

(1/613)


ولنا كانوا ونحن إذا ... قَالَ منا قائل صاتوا
ولنا البيد البعاد التي ... أهلها السودان اشتات
ثبه الاخيار شاهده ... ذاكم قومى واهلاتى
قد شربت الخمر وسطهم ... ناعما في غير أصوات
فعلى ما كان من كرم ... فستبكيني بنياتي
انا رب الناس كلهم ... غير ربي الكافت الفات
يعني بالكافت الذي يكفت ارواحهم، والفات الذى يفيتهم أنفسهم، يعني الله عز وجل.
قَالَ ابن الكلبي: ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل.
قال: وفي مغازيه وغاراته على الأمم الخالية من العاربة الأولى يقول الشاعر في الجاهلية:
أضحى جذيمة في يبرين منزله ... قد حاز ما جمعت في دهرها عاد
فكان جذيمة قد تنبأ وتكهن، واتخذ صنمين، يقال لهما: الضيزنان- قَالَ: ومكان الضيزنين بالحيرة معروف- وكان يستسقى بهما ويستنصر بهما على العدو، وكانت أياد بعين أباغ، وأباغ رجل من العماليق، نزل بتلك العين، فكان يغازيهم، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من أياد يقال له عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعث أياد قوما فسقوا سدنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا في أياد، فبعث إلى جذيمة: أن صنميك أصبحا فينا، زهدا فيك ورغبة فينا، فإن اوثقت لنا الا تغزونا رددناهما إليك.
قَالَ: وعدي بن نصر تدفعونه إلي فدفعوه إليه مع الصنمين، فانصرف

(1/614)


عنهم، وضم عديا إلى نفسه، وولاه شرابه، فأبصرته رقاش ابنة مالك أخت جذيمة، فعشقته وراسلته، وقالت: يا عدي، أخطبني إلى الملك، فإن لك حسبا وموضعا، فقال: لا أجترئ على كلامه في ذلك، ولا اطمع أن يزوجنيك، قالت: إذا جلس على شرابه، وحضره ندماؤه، فاسقه صرفا، واسق القوم مزاجا، فإذا أخذت الخمرة فيه، فاخطبني إليه، فإنه لن يردك، ولن يمتنع منك، فإذا زوجك فاشهد القوم، ففعل الفتى ما أمرته به، فلما أخذت الخمرة مأخذها خطبها إليه، فأملكه إياها، فانصرف إليها، فأعرس بها من ليلته، واصبح مضرجا بالخلوق، فقال له جذيمة- وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عدي؟ قَالَ: آثار العرس، قَالَ أي عرس! قَالَ: عرس رقاش! قَالَ: من زوجكها ويحك! قَالَ:
زوجنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته، وأكب على الأرض ندامة وتلهفا، وخرج عدي على وجهه هاربا، فلم ير له أثر، ولم يسمع له بذكر، وأرسل إليها جذيمة، فقال:
حدثيني وأنت لا تكذبيني ... ابحر زنيت أم بهجين!
أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت: لا بل أنت زوجتني امرا عربيا، معروقا حسيبا، ولم تستأمرني في نفسي، ولم أكن مالكة لأمري، فكف عنها، وعرف عذرها.
ورجع عدي بن نصر إلى أياد، فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين، فرمى به فتى منهم من لهب فيما بين جبلين، فتنكس فمات، واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما، فسمته عمرا ورشحته، حتى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته، وأزارته خاله جذيمة، فلما رآه أعجب به، وألقيت عليه منه مقة ومحبة، فكان يختلف مع ولده، ويكون معهم.
فخرج جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة خصبة مكلئة، فضربت له أبنية في روضة ذات زهرة وغدر، وخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة،

(1/615)


فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها في حجزته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمرو يقول:
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه
فضمه إليه جذيمة والتزمه، وسر بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلي من فضة وطوق، فكان أول عربي ألبس طوقا، فكان يسمى عمرا ذا الطوق، فبينما هو على أحسن حاله، إذ استطارته الجن فاستهوته، فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زمانا لا يقدر عليه قَالَ: وأقبل رجلان أخوان من بلقين- يقال لهما: مالك وعقيل، ابنا فارج بن مالك بن كعب بن القين بن جسر ابن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة- من الشام يريدان جذيمة، قد اهديا له طرفا ومتاعا، فلما كانا ببعض الطريق نزلا منزلا، ومعهما قينة لهما يقال لها: أم عمرو، فقدمت إليهما طعاما، فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب، قد تلبد شعره، وطالت أظفاره، وساءت حاله، فجاء حتى جلس حجره منهما، فمد يده يريد الطعام، فناولته القينة كراعا، فأكلها ثم مد يده إليها، فقالت:
تعطي العبد كراعا فيطمع في الذراع، فذهبت مثلا، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها، وأوكت زقها، فقال عمرو بن عدي:
صددت الكاس عنا أم عمرو ... وكان الكاس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا!
فقال مالك وعقيل: من أنت يا فتي؟ فقال: إن تنكراني او تنكرا نسبي، فانى انا عمرو بن عدي، ابن تنوخية، اللخمي، وغدا ما ترياني في نمارة غير معصي

(1/616)


فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه، وقلما أظفاره، وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا: ما كنا لنهدي لجذيمة هدية أنفس عنده، ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بنا فخرجا به، حتى دفعا إلي باب جذيمة بالحيرة، فبشراه، فسر بذلك سرورا شديدا، وأنكره لحال ما كان فيه، فقالا: أبيت اللعن! إن من كان في مثل حاله يتغير.
فأرسل به إلى أمه، فمكث عندها أياما ثم أعادته إليه، فقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلي الساعة، فأعادوا عليه الطوق، فلما نظر إليه قَالَ: شب عمرو عن الطوق، فأرسلها مثلا، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت! فهما ندمانا جذيمة اللذان ضربا مثلا في أشعار العرب، وفي ذلك يقول أبو خراش الهذلي:
لعمرك ما ملت كبيشة طلعتي ... وإن ثوائي عندها لقليل
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... نديما صفاء مالك وعقيل
وقال متمم بن نويرة:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلاد الشام عمرو بن ظرب ابن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملقي- ويقال العمليقي، من

(1/617)


عاملة العماليق، فجمع جذيمة جموعا من العرب، فسار إليه يريد غزاته، وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام، فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وانفضت جموعه، وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين، فقال في ذلك الأعور بن عمرو بن هناءة بن مالك بن فهم الأزدي:
كأن عمرو بن ثربى لم يعش ملكا ... ولم تكن حوله الرايات تختفق
لاقى جذيمة في جأواء مشعلة ... فيها حراشف بالنيران ترتشق
فملكت من بعد عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة، وقال في ذلك القعقاع بن الدرماء الكلبي:
أتعرف منزلا بين المنقي ... وبين مجر نائلة القديم
وكان جنود الزباء بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وتزيد وسليح ابني حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة، ومن كان معهم من قبائل قضاعه، وكانت للزباء أخت يقال لها زبيبة، فبنت لها قصرا حصينا على شاطئ الفرات الغربي، وكانت تشتو عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر فلما أن استجمع لها أمرها، واستحكم لها ملكها، اجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها، فقالت لها أختها زبيبة- وكانت ذات رأي ودهاء وأرب:
يا زباء، إنك إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده، إن ظفرت أصبت ثارك، وإن قتلت ذهب ملكك، والحرب سجال، وعثراتها لا تستقال، وإن كعبك لم يزل ساميا على من ناواك وساماك، ولم تري بؤسا ولا غيرا، ولا تدرين لمن تكون العاقبة، وعلى من تكون الدائرة! فقالت لها الزباء: قد أديت النصيحه، وأحسنت الروية، وإن الرأي ما رأيت، والقول ما قلت.
فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة، ورفضت ذلك، وأتت

(1/618)


أمرها من وجوه الختل والخدع والمكر فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وأن يصل بلاده ببلادها وكان فيما كتبت به: إنها لم تجد ملك النساء إلا إلي قبيح في السماع، وضعف في السلطان، وقلة ضبط المملكة، وإنها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفئا غيرك، فأقبل إلى، فاجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك.
فلما انتهي كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته اليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع إليه أهل الحجى والنهى، من ثقات أصحابه، وهو بالبقة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته اليه الزباء، وعرضته عليه، واستشارهم في أمره، فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولي على ملكها وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد بن عمر بن جذيمة بن قيس بن ربي بن نمارة بن لخم وكان سعد تزوج أمة لجذيمة، فولدت له قصيرا، وكان أريبا حازما، أثيرا عند جذيمة، ناصحا، فخالفهم فيما أشاروا به عليه، وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر، فذهبت مثلا فرادوه الكلام ونازعوه الرأي، فقال: إني لأرى أمرا ليس بالخسا ولا الزكا، فذهبت مثلا وقال لجذيمة: أكتب إليها، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالها، وقد وترتها، وقتلت أباها فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، فقال قصير:
إني امرؤ لا يميل العجز ترويتى ... إذا أتت دون شيء مرة الوذم
فقال جذيمة: لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح، فذهبت مثلا فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره، فشجعه على المسير،

(1/619)


وقال: إن نمارة قومي مع الزباء، ولو قدروا لصاروا معك، فأطاعه وعصي قصيرا، فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر، وفي ذلك يقول نهشل بن حرى ابن ضمرة بن جابر التميمي:
ومولى عصاني واستبد برأيه ... كما لم يطع بالبقتين قصير
فلما راى ما غب أمري وأمره ... وولت بأعجاز الأمور صدور
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
وقالت العرب: ببقة أبرم الأمر، فذهبت مثلا، واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن الجرمي معه على خيوله، وسار في وجوه أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربي.
فلما نزل الفرضة دعا قصيرا، فقال: ما الرأي؟ قَالَ: ببقة تركت الرأي، فذهبت مثلا، واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قَالَ: خطر يسير في خطب كبير، فذهبت مثلا، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك، فإن القوم غادرون، فاركب العصا- وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى- فإني راكبها ومسايرك عليها فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة موليا على متنها، فقال: ويل أمه حزما على ظهر العصا!، فذهبت مثلا، فقال: يا ضل ما تجري به العصا! وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت، وقد قطعت أرضا بعيدة، فبنى عليها برجا يقال له برج العصا وقالت العرب:
خير ما جاءت به العصا، مثل تضربه وسار جذيمة، وقد أحاطت به الخيول، حتى دخل على الزباء، فلما

(1/620)


/ رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الأسب، فقالت: يا جذيمة ادأب عروس ترى!، فذهبت مثلا، فقال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فقالت: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، ولا قلة أواس، ولكنه شيمة ما أناس فذهبت مثلا، وقالت: إني أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب، ثم أجلسته على نطع، وأمرت بطست من ذهب، فأعدته له وسقته من الخمر حتى أخذت مأخذها منه، وأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه- وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال، تكرمه للملك- فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه اهله، فذهبت مثلا، فهلك جذيمة واستبقت الزباء دمه، فجعلته في برس قطن في ربعة لها، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم، حتى قدم على عمرو ابن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أداثر أم ثائر، قال: لا، بل ثائر سائر، فذهبت مثلا، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عدي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا، وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، ومال إليه الناس، فقال عمرو بن عدي في ذلك:

(1/621)


دعوت ابن عبد الجن للسلم بعد ما ... تتايع في غرب السفاه وكلسما
فلما ارعوى عن صدنا باعترامه ... مريت هواه مرى آم روائما
فقال عمرو بن عبد الجن مجيبا له:
أما ودماء مائرات تخالها ... على قلة العزى او النسر عند ما
وما قدس الرهبان في كل هيكل ... أبيل الابيلين المسيح بن مريما
- قَالَ: هكذا وجد الشعر ليس بتام، وكان ينبغي أن يكون البيت الثالث:
لقد كان كذا وكذا-- فقال قصير لعمرو بن عدى: تهيأ واستعد، ولا تطل دم خالك.
قَالَ: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلا، وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك فحذرت عمرا، واتخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلي حصن لها داخل مدينتها، وقالت: ان فجأني أمر دخلت النفق إلي حصني ودعت رجلا مصورا أجود أهل بلادها تصويرا، وأحسنهم عملا لذلك، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت له: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكرا، فتخلو بحشمه، وتنضم إليهم، وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور والثقافة له، ثم أثبت عمرو بن عدي معرفة، وصوره جالسا وقائما، وراكبا ومتفضلا، ومتسلحا بهيئته ولبسته وثيابه ولونه، فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إلي.
فانطلق المصور حتى قدم على عمرو، وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ ما أوصته به، ثم رجع إليها بعلم ما وجهته له من الصور على ما وصفت له، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي، فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته،

(1/622)


وعلمت علمه فقال قصير لعمرو بن عدي: اجدع أنفي واضرب ظهري، ودعني وإياها فقال عمرو: ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني! فقال قصير: خل عني إذا وخلاك ذم، فذهبت مثلا.
قَالَ ابن الكلبي: كان أبو الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها، قَالَ: فقال له عمرو، فأنت أبصر، فجدع قصير أنفه، وأثر بظهره، فقالت العرب: لمكر ما جدع أنفه قصير، وفي ذلك يقول المتلمس:
ومن حذر الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
ويروى: ورام الموت وقال عدي بن زيد:
كَقَصِيرٍ إِذْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَ أَنْ ... جَدَّعَ أَشْرَافَهُ لِشُكْرِ قَصِيرُ
فلما أن جدع قصير أنفه وأثر تلك الآثار بظهره، خرج كأنه هارب، وأظهر أن عمرا فعل به ذلك، وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة، وغره من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيرا بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره قد ضرب، فقالت:
ما الذي أرى بك يا قصير؟ فقال: زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله، وزينت له السير إليك، وغششته ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين! فأقبلت إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك فألطفته وأكرمته، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بامور الملوك،

(1/623)


فلما عرفت أنها قد استرسلت إليه، ووثقت به، قَالَ لها: إن لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزوزها وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات، فتصيبين في ذلك أرباحا عظاما، وبعض ما لا غنى بالملوك عنه، فإنه لا طرائف كطرائف العراق! فلم يزل يزين لها ذلك حتى سرحته، ودفعت معه عيرا، فقالت: انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهزناك به، وابتع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكرا، فدخل على عمرو بن عدي، فأخبره بالخبر، وقال: جهزني بالبز والطرف والأمتعة، لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثارك، تقتل عدوك فأعطاه حاجته، وجهزه بصنوف الثياب وغيرها، فرجع بذلك كله إلى الزباء، فعرضه عليها، فأعجبها ما رأت، وسرها ما أتاها به، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى، فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عدي، وحمل من عنده ما ظن أنه موافق للزباء، ولم يترك جهدا، ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه إلا حمله إليها ثم عاد الثالثة إلى العراق فأخبر عمرا الخبر، وقال: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك، وهيئ لهم الغرائر والمسوح- قَالَ ابن الكلبي: وقصير أول من عمل الغرائر- واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، واجعل معقد رءوس الغرائر من باطنها، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف.
ففعل عمرو بن عدي، وحمل الرجال في الغرائر على ما وصف له قصير، ثم وجه الإبل إلى الزباء عليها الرجال وأسلحتهم، فلما كانوا قريبا من مدينتها، تقدم قصير إليها، فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال، فإني

(1/624)


جئت بما صاء وصمت فذهبت مثلا وقال ابن الكلبي: وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من كمن النهار وسار الليل: فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت:
يا قصير:
ما للجمال مشيها وئيدا! ... أجندلا يحملن أم حديدا!
أم صرفانا باردا شديدا!
فدخلت الإبل المدينة، حتى كان آخرها بعيرا مر على بواب المدينة وهو نبطى بيده منخسة، فنخس بها الغرائر التي تليه، فتصيب خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط فقال البواب بالنبطية بشتابسقا يعني بقوله:
بشتابسقا: في الجوالق شر وأرعب قلبا، فذهبت مثلا، فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت، ودل قصير عمرا على باب النفق قبل ذلك، وأراه إياه، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا: بأهل المدينة! ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو بن عدي على باب النفق، وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله، وأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها، وكان فيها سم- وقالت: بيدي لا بيدك يا عمرو، فذهبت مثلا، وتلقاها عمرو بن عدي، فجللها بالسيف فقتلها، وأصاب ما أصاب من أهل المدينة، وانكفأ راجعا إلى العراق، فقال عدي بن زيد في أمر جذيمة وقصير والزباء وقتل عمرو بن عدي إياها قصيدته:
أبدلت المنازل أم عفينا ... تقادم عهدها أم قد بلينا
إلى آخرها.
وقال المخبل، وهو ربيعة بن عوف السعدي:
يا عمرو إني قد هويت جماعكم ... ولكل من يهوى الجماع فراق

(1/625)


بل كم رأيت الدهر زايل بينه ... من لا يزايل بينه الأخلاق
طابت به الزباء وقد جعلت لها ... دورا ومشربة لها أنفاق
حملت لها عمرا ولا بخشونة ... من آل دومة رسلة معناق
حتى تفرعها بأبيض صارم ... عضب يلوح كأنه مخراق
وأبو حذيفة يوم ضاق بجمعه ... شعب الغبيط فحومة فأفاق
وله معد والعباد وطيّئ ... ومن الجنود كتائب ورفاق
يهب النجائب والنزائع حوله ... جردا كأن متونها الإطلاق
فآتت عليه ساعة ما إن له ... مما أفاء ولا أفاد عتاق
فكأن ذلك يوم حم قضاؤه ... رفد أميل إناؤه مهراق
وقال بعض شعراء العرب:
نحن قتلنا فقحلا وابن راعن ... ونحن ختنا نبت زبا بمنجل
فلما أتتها العير قالت أبارد ... من التمر هذا أم حديد وجندل
وقال عبد باجر- واسمه بهرا من العرب العاربة، وهم عشرة أحياء: عاد، وثمود، والعماليق، وطسم، وجديس، واميم، والمود، وجرهم، ويقطن، والسلف قَالَ: والسلف دخل في حمير-:

(1/626)


لا ركبت رجلك من بين الدلي ... لقد ركبت مركبا غير الوطي
على العراقي بصفا من الطوي ... إن كنت غضبي فاغضبي على الركي
وعاتبي القيم عمرو بن عدي.
فصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردا بملكه، مستبدا بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس.
وإنما ذكرنا في هذا الموضع ما ذكرنا من أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما كنا قدمنا من ذكر ملوك اليمن، إنه لم يكن لملكهم نظام، وأن الرئيس منهم إنما كان ملكا على مخلافه ومحجره، لا يجاوز ذلك، فإن نزع منهم نازع، أو نبغ منهم نابغ فتجاوز ذلك- وإن بعدت مسافة سيره من مخلافه- فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطد، ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصصة، فيغير على الناحية باستغفاله أهلها، فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات، فكذلك كان أمر ملوك اليمن، كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحيانا فيصيب مما يمر به ثم يتشمر عند خوف الطلب، راجعا إلى موضعه ومخلافه، من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه بالطاعة، أو يؤدي إليه خرجا، حتى كان عمرو

(1/627)


ابن عدي الذي ذكرنا أمره، وهو ابن أخت جذيمة الذي اقتصصنا خبره، فإنه اتصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على ما كان بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك، واستكفائهم أمر من وليهم من العرب، إلى أن قتل أبرويز بن هرمز النعمان بن المنذر، ونقل ما كانت ملوك فارس يجعلونه إليهم إلى غيرهم، فذكرنا ما ذكرنا من امر جذيمة وعمرو ابن عدي من أجل ذلك، إذ كنا نريد أن نسوق تمام التاريخ على ملك ملوك فارس، ونستشهد على صحة ما روي من أمرهم بما وجدنا إلى الاستشهاد به عليها سبيلا وكان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة متعالما مثبتا عندهم في كنائسهم وأسفارهم.
وقد حدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي إنه قَالَ: إني كنت استخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها.
فأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا في أمر ولد نصر بن ربيعة ومصيرهم إلى أرض العراق غير الذي ذكره هشام، والذي حَدَّثَنَا به من ذلك عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا نذكرها بعد- عند ذكر أمر الحبشة، وغلبتهم على اليمن وتعبير سطيح وشق وجوابهما عن رؤياه- ثم ذكر في خبره ذلك أن ربيعة بن نصر لما فرغ من مسألة سطيح وشق وجوابهما إياه، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة قال: فمن بقية ربيعه ابن نصر كان النعمان ملك حيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر ابن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم

(1/628)


ذكر طسم وجديس
قَالَ أبو جعفر: ونذكر الآن أمر طسم وجديس إذ كان أمرهم أيضا كان في أيام ملوك الطوائف، وإن فناء جديس كان على يد حسان بن تبع، إذ كنا قدمنا فيما مضى ذكر تبايعه حمير، الذين كانوا على عهد ملوك فارس.
وحدثت عن هشام بن مُحَمَّد وحَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق وغيرهما من علماء العرب، أن طسما وجديسا كانوا من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة، وكان عليهم ملك من طسم ظلوم غشوم، لا ينهاه شيء عن هواه، يقال له عملوق، مضرا بجديس، مستذلا لهم،.
وكان مما لقوا من ظلمه واستذلاله، انه امر بالا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها، فقال رجل من جديس، يقال له الأسود بن غفار لرؤساء قومه: قد ترون ما نحن فيه من العار والذل الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه، فأطيعوني فإني أدعوكم إلى عز الدهر، ونفي الذل قَالُوا: وما ذاك؟ قَالَ: إني صانع للملك ولقومه طعاما، فإذا جاءوا نهضنا إليهم بأسيافنا وانفردت به فقتلته، وأجهز كل رجل منكم على جليسه، فأجابوه إلى ذلك، وأجمع رأيهم عليه فأعد طعاما، وأمر قومه فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال: إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم، فخذوا سيوفهم، ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا، وحضر الملك فقتل وقتل الرؤساء، فشدوا على العامة منهم، فأفنوهم، فهرب رجل من طسم يقال له رياح بن مرة، حتى أتى حسان بن تبع، فاستغاث به، فخرج حسان في حمير،

(1/629)


فلما كان من اليمامة على ثلاث، قَالَ له رياح: أبيت اللعن! إن لي أختا متزوجة في جديس، يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها، إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك، فليقطع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه ويسير وهي في يده، فأمرهم حسان بذلك، ففعلوا، ثم سار فنظرت اليمامة، فأبصرتهم، فقالت لجديس: لقد سارت حمير فقالوا: وما الذي ترين؟ قالت: أرى رجلا في شجرة، معه كتف يتعرقها، أو نعل يخصفها فكذبوها، وكان ذلك كما قالت، وصبحهم حسان فأبادهم وأخرب بلادهم وهدم قصورهم وحصونهم.
وكانت اليمامه تسمى إذ ذاك جوا والقرية، وأتي حسان باليمامة ابنة مرة، فأمر بها ففقئت عيناها، فإذا فيها عروق سود، فقال لها: ما هذا السواد في عروق عينيك؟ قالت: حجير أسود يقال له الإثمد، كنت أكتحل به.
وكانت فيما ذكروا أول من اكتحل بالإثمد، فأمر حسان بأن تسمى جو اليمامة.
وقد قالت الشعراء من العرب في حسان ومسيره هذا، فمن ذلك قول الأعشى:
كوني كمثل الذي إذ غاب وافدها ... أهدت له من بعيد نظرة جزعا
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما صدق الذئبي إذ سجعا
إذ قلبت مقلة ليست بمقرفة ... إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا

(1/630)


قالت أرى رجلا في كفه كتف ... أو يخصف النعل، لهفى أية صنعا!
فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا
فاستنزلوا أهل جو من مساكنهم ... وهدموا شاخص البنيان فاتضعا
ومن ذلك قول النمر بن تولب العكلي:
هلا سألت بعادياء وبيته ... والخل والخمر التي لم تمنع
وفتاتهم عنز عشية آنست ... من بعد مرأى في الفضاء ومسمع
قالت أرى رجلا يقلب كفه ... أصلا وجو آمن لم يفزع
ورأت مقدمة الخميس وقبله ... رقص الركاب إلى الصياح بتبع
فكأن صالح أهل جو غدوة ... صبحوا بذيفان السمام المنقع
كانوا كأنعم من رأيت فأصبحوا ... يلوون زاد الراكب المتمتع
قالت يمامة احملوني قائما ... إن تبعثوه باركا بي أصرع
وحسان بن تبع، الذي أوقع بجديس، هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن، وهو أبو تبع بن حسان الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة، وكسا الكعبة، وأن الشعب من المطابخ إنما سمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس، وإن أجيادا إنما سمي أجيادا، لأن خيله كانت هنالك، وإنه قدم يثرب فنزل منزلا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وإنه وجه ابنه حسان الى السند

(1/631)


وسمرا ذا الجناح إلى خراسان، وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر سمر بسمرقند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين، فوافي حسان بها، فمن أهل اليمن من يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم أنهما انصرفا إلى تبع بالأموال والغنائم.
ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أمر الفتية الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم

(1/632)


الجزء الثاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ذكر الخبر عن أصحاب الكهف
وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم، كما وصفهم الله عز وجل به من صفتهم في القرآن المجيد، فقال لنبيه محمد ص:
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» .
والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم كان الفتية، كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو نقروه في الجبل الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، إِذْ أَوَى الفتاه إِلَى الْكَهْفِ.
وكان عدد الفتيه- فيما ذكر ابْنِ عَبَّاسٍ- سبعة، وثامنهم كلبهم.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: «ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» ، قال: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ، كَانُوا سَبْعَةً.
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قال: حدثنا يزيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى، كَانُوا سَبْعَةً وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ

(2/5)


قَالَ: وَكَانَ اسْمُ أَحَدِهِمْ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ يلى شرا الطَّعَامِ لَهُمْ، الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ قالوا اذهبوا مِنْ رَقْدَتِهِمْ: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» .
حَدَّثَنِي عبد الله بن مُحَمَّد الزهري، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن مقاتل:
«فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» - اسمه يمنيخ.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا به ابن حميد- قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عنه: اسمه يمليخا.
وكان ابن إسحاق يقول: كان عدد الفتية ثمانية، فعلى قوله كان كلبهم تاسعهم وكان- فيما حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق- يسميهم فيقول: كان أحدهم- وهو أكبرهم والذي كلم الملك عن سائرهم- مكسملينا، والآخر محسملينا، والثالث يمليخا، والرابع مرطوس، والخامس كسوطونس، والسادس بيرونس، والسابع رسمونس، والثامن بطونس، والتاسع قالوس وكانوا أحداثا.
وقد حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قَالَ: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم، فهداهم الله للإسلام، وكانت شريعتهم شريعة عيسى في قول جماعة من سلف علمائنا

(2/6)


حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بشير، قال: حدثنا عمرو- يعنى ابْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ- فِي قَوْلِهِ: «أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ» ، كانت الفتيه على دين عيسى بن مريم ص عَلَى الإِسْلَامِ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ كَافِرًا وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ أَمْرَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ إِلَى الْكَهْفِ كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ أَخْبَرَ قَوْمَهُ خَبَرَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ابْتَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ مَا رَفَعَ الْمَسِيحَ، فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَهُ وبين محمد ص، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيَّ ذَلِكَ كَانَ.
فَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِ الإِسْلَامِ فَعَلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ بَعْدَ الْمَسِيحِ.
فَأَمَّا أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ النَّاسِ الْقَدِيمَةِ.
وَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَلِكٌ يُقَالُ لَهُ: دقْيَنُوسُ، يَعْبُدُ الأَصْنَامَ- فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ- فَبَلَغَهُ عَنِ الْفِتْيَةِ خِلافُهُمْ إِيَّاهُ فِي دِينِهِ، فَطَلَبَهُمْ فَهَرَبُوا مِنْهُ بِدِينِهِمْ، حَتَّى صَارُوا إِلَى جَبَلٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- نيحلوس.
وَكَانَ سَبَبُ إِيمَانِهِمْ وَخِلافِهِمْ بِهِ قَوْمَهُمْ- فِيمَا حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَدُوسٍ، - إِنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: جاء حوارى عيسى بن مَرْيَمَ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى بَابِهَا صَنَمًا لا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَأَتَى حَمَّامًا، وَكَانَ فِيهِ قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ، يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ مِنْ صَاحِبِ الْحَمَّامِ.
وَرَأَى صَاحِبُ الْحَمَّامِ في حمامه البركه، ودر عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الاسلام وَجَعَلَ يَسْتَرْسِلُ إِلَيْهِ وَعَلِقَهُ فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ يُخْبِرُهُمْ

(2/7)


خَبَرَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَخَبَرَ الآخِرَةِ، حَتَّى آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَكَانُوا عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَكَانَ يَشْرُطُ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ أَنَّ اللَّيْلَ لِي، لا تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّلاةِ إِذَا حَضَرَتْ فَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ، فَدَخَلَ بِهَا الْحَمَّامَ، فَعَيَّرَهُ الْحَوَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ الْمَلَكِ وَتَدْخُلُ ومعك هذه الكذا! فاستحيا، فَذَهَبَ فَرَجَعَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ حَتَّى دَخَلَ، وَدَخَلَتْ مَعَهُ الْمَرْأَةُ فَمَاتَا فِي الْحَمَّامِ جَمِيعًا، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: قَتَلَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ ابْنَكَ.
فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ فَهَرَبَ قَالَ مَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ: فَسَمُّوا الْفِتْيَةَ، فَالْتُمِسُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَمَرُّوا بِصَاحِبٍ لَهُمْ فِي زَرْعٍ لَهُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِمْ فَذَكَرُوا أَنَّهُمُ الْتُمِسُوا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمْ وَمَعَهُ الْكَلْبُ، حَتَّى آوَاهُمُ الليل الى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا اللَّيْلَةَ ثُمَّ نُصْبِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ فَضُرِبَ عَلى آذَانِهِمْ، فَخَرَجَ الْمَلِكُ فِي أَصْحَابِهِ يَتْبَعُونَهُمْ، حَتَّى وَجَدُوهُمْ قَدْ دَخَلُوا الْكَهْفَ، فَكُلَّمَا أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَدْخُلَ أُرْعِبَ، فَلَمْ يُطِقْ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ لَوْ كُنْتَ قَدَرْتَ عَلَيْهِمْ قَتَلْتَهُمْ؟ قَالَ:
بَلَى، قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ، فَدَعْهُمْ فِيهِ يموتوا عَطَشًا وَجُوعًا.
فَفَعَلَ فَغَبَرُوا- بَعْدَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِمْ بَابُ الْكَهْفِ- زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ.
ثُمَّ إِنَّ رَاعِيًا أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ عِنْدَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: لَوْ فَتَحْتُ هَذَا الْكَهْفَ فَأَدْخَلْتُهُ غَنَمِي مِنَ الْمَطَرِ! فَلَمْ يَزَلْ يُعَالِجُهُ حَتَّى فَتَحَ مَا أَدْخَلَ فِيهِ، وَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ مِنَ الْغَدِ حِينَ أَصْبَحُوا، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ بِوَرِقٍ يَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا، فَكُلَّمَا أَتَى بَابَ مَدِينَتِهِمْ رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: بِعْنِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ طَعَامًا، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ! قَالَ:
خَرَجْتُ وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ، فَآوَانَا اللَّيْلُ حَتَّى أَصْبَحُوا، فأرسلوني، فقال:

(2/8)


هَذِهِ الدَّرَاهِمُ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ فُلَانٍ فَأَنَّى لَكَ بِهَا! فَرَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ- وَكَانَ مَلِكًا صَالِحًا- فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الْوَرِقُ؟ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَصْحَابٌ لِي أَمْسِ حَتَّى أَدْرَكَنَا اللَّيْلُ فِي كَهْفِ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ أَمَرُونِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا قَالَ: وَأَيْنَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: فِي الْكَهْفِ، قَالَ:
فَانْطَلَقُوا مَعَهُ حَتَّى أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ: دَعُونِي أَدْخُلُ إِلَى أَصْحَابِي قَبْلَكُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَدَنَا مِنْهُمْ ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ وَآذَانِهِمْ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا دَخَلَ رَجُلٌ أُرْعِبَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا إِلَيْهِمْ، فَبَنَوْا عِنْدَهُمْ كَنِيسَةً، وَاتَّخَذُوهَا مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ.
حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، قَالَ: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عكرمة، قَالَ: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتفردوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على سمخانهم فلبثوا دهرا طويلا، حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلما، واختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعا، وقال قائل: تبعث الروح، وأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئا فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله عز وجل، فقال: يا رب، قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم ما يبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، فدخل السوق، فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا، فانطلق وهو مستخف، حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها- قَالَ: حسبت أنه قَالَ: كأنها أخفاف الربع- يعني الإبل الصغار- قَالَ له الفتي: أليس ملككم فلان؟ قَالَ: بل ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله فأخبره الفتى خبر أصحابه، فبعث الملك في الناس، فجمعهم فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد،

(2/9)


وإن الله عز وجل قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان- يعني ملكهم الذي مضي- فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي، فركب الملك، وركب معه الناس، حتى انتهى إلى الكهف، فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضرب الله على أذنه وعلى آذانهم، فلما استبطئوه دخل الملك ودخل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها.
فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
قَالَ قتادة: وغزا ابْنُ عَبَّاسٍ مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف، فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أصحاب الكهف، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ:
لقد ذهبت عظامهم منذ اكثر من ثلاثمائة سنة.
قَالَ أبو جعفر: فكان منهم:

(2/10)


يونس بن متى
- فكان فيما ذكر- من أهل قرية من قرى الموصل يقال لها: نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم يونس بالنهي عن عبادتها، والأمر بالتوبة إلى الله من كفرهم، والأمر بالتوحيد فكان من أمره وأمر الذين بعث إليهم ما قصه الله في كتابه، فقال عز وجل: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» وقال: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» .
وقد اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد ص في ذهابه لربه مغاضبا وظنه أن لن يقدر عليه، وفي حين ذلك.
فقال بعضهم: كان ذلك منه قبل دعائه القوم الذين أرسل إليهم، وقبل إبلاغه إياهم رسالة ربه، وذلك أن القوم الذين أرسل إليهم لما حضرهم عذاب الله أمر بالمصير إليهم، ليعلمهم ما قد أظلهم من ذلك، لينيبوا مما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله، فاستنظر ربه المصير إليهم، فلم ينظره، فغضب لاستعجال الله إياه للنفوذ لأمره وترك إنظاره

(2/11)


ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن الأشيب، قَالَ: سمعت أبا هلال مُحَمَّد بن سليم، قَالَ: حَدَّثَنَا شهر بن حوشب، قال: أتاه جبريل ع- يعني يونس- وقال: انطلق إلى أهل نينوى، فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم قَالَ: ألتمس دابة، قَالَ: الأمر أعجل من ذلك، قَالَ:
ألتمس حذاء، قَالَ: الأمر أعجل من ذلك، قَالَ: فغضب، فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب احتبست السفينة لا تقدم ولا تأخر قَالَ:
فساهموا قَالَ: فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت:
أيا حوت، إنا لم نجعل يونس لك رزقا، إنما جعلناك له حرزا ومسجدا، فالتقمه الحوت، فانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الأيلة، ثم انطلق حتى مر به على دجلة، ثم انطلق به حتى ألقاه في نينوى.
حدثني الحارث، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا أَبُو هِلالٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ دُعَائِهِ مَنْ أُرْسِلَ اليهم إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ نُزُولَ مَا كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ فِي وَقْتٍ وَقَّتَهُ لَهُمْ، فَفَارَقَهُمْ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يُرَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَالإِيمَانَ، فَلَمَّا أَظَلَّ الْقَوْمَ عَذَابُ اللَّهِ، فَغَشِيَهُمْ- كَمَا وَصَفَ اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ- تَابُوا إِلَى اللَّهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَبَلَغَ يُونُسَ سَلامَتُهُمْ وَارْتِفَاعُ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمُوهُ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَعَدْتُهُمْ وَعْدًا، فَكَذَبَ وَعْدِيَ! فَذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبَّهُ، وَكَرِهَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ وَقَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ

(2/12)


ذكر بعض من قَالَ ذلك:
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَعْنِي يُونُسَ- إِلَى أَهْلِ قَرْيَتِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهَمْ بِهِ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِّي مُرْسِلٌ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، فَاخْرُجْ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَأَعْلَمَ قَوْمَهُ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِهِ إِيَّاهُمْ، فَقَالُوا: ارْمِقُوهُ، فَإِنْ هُوَ خَرَجَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَهُوَ وَاللَّهِ كَائِنٌ مَا وَعَدَكُمْ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدُوا العذاب في صبيحتها ادلج وراءه الْقَوْمُ، فَحَذِرُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى بَرَازٍ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ دَابَّةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَقَالُوهُ فَأَقَالَهُمْ وَتَنَظَّرَ يُونُسُ الْخَبَرَ عَنِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا حَتَّى مَرَّ بِهِ مَارٌّ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ؟ فقال: فَعَلُوا أَنَّ نَبِيَّهُمْ لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَرَفُوا أَنَّهُ صَدَقَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَخَرَجُوا مِنْ قَرْيَتِهِمْ إِلَى بَرَازٍ مِنَ الأَرْضِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذَاتِ وَلَدٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ وَتَابُوا إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ قَالَ: فَقَالَ يُونُسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَغَضِبَ: وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا، وَعَدْتُهُمُ الْعَذَابَ فِي يَوْمٍ، ثُمَّ رُدَّ عَنْهُمْ! وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ.
حَدَّثَنِي المثنى بن إبراهيم، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن انس، قَالَ:
حَدَّثَنَا رجل قد قرأ القرآن في صدره في إمارة عمر بن الخطاب، فحدث عن قوم يونس حيث أنذر قومه فكذبوه، فأخبرهم أنه مصيبهم العذاب وفارقهم، فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب، لكنهم خرجوا من مساكنهم، وصعدوا

(2/13)


في مكان رفيع، وإنهم جأروا إلى ربهم، ودعوه مخلصين له الدين أن يكشف عنهم العذاب، وأن يرجع إليهم رسولهم، قَالَ: ففي ذلك أنزل الله تعالي:
«فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .
فلم يكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها إلا قوم يونس خاصة، فلما رأى ذلك يونس، لكنه ذهب عاتبا على ربه، وانطلق مغاضبا، وظن أن لن يقدر عليه، حتى ركب سفينة، فأصاب أهلها عاصف من الريح فقالوا:
هذه بخطيئة أحدكم وقال يونس- وقد عرف أنه هو صاحب الذنب: هذه بخطيئتي، فألقوني في البحر وإنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم، «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
» ، فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر، حتى أفاضوا بسهامهم الثانية، «فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
» فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي، وإنهم أبوا عليه أن يلقوه في البحر حتى أفاضوا بسهامهم الثالثة، «فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
» فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فابتلعه الحوت «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» - وعرف الخطيئة- «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه فقال: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» ، وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، «فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ» وألقي على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين- وهي فيما ذكر- شجرة القرع يتقطر عليه

(2/14)


من اللبن، حتى رجعت إليه قوته ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست، فحزن وبكى عليها، فعوتب فقيل له: أحزنت على شجرة، وبكيت عليها ولم تحزن على مائة ألف أو زيادة أردت هلاكهم جميعا! ثم إن الله اجتباه من الضلالة، فجعله من الصالحين، ثم أمر أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله قد تاب عليهم فعمد إليهم، حتى لقي راعيا، فسأله عن قوم يونس وعن حالهم، وكيف هم؟ فأخبره أنهم بخير، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم، فقال له: فأخبرهم أني قد لقيت يونس.
فقال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمى له عنزا من غنمه، فقال: هذه تشهد لك أنك قد لقيت يونس، قَالَ: وماذا؟ قَالَ: وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك قد لقيت يونس قَالَ: وماذا؟ قَالَ: وهذه الشجرة تشهد لك أنك قد لقيت يونس وإنه رجع الراعي إلى قومه فاخبرهم انه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا، فقال: لا تعجلوا علي حتى أصبح، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقى فيها يونس فاستنطقها، فاخبرته أنه لقي يونس، وسأل العنز، فأخبرتهم أنه لقي يونس، واستنطقوا الشجرة، فأخبرتهم أنه قد لقي يونس ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك قَالَ:
«وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .
حَدَّثَنِي الحسين بن عمرو بن مُحَمَّد العنقزي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن إسرائيل، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن مسعود في بيت المال، قَالَ: إن يونس كان وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله، واستغفروه، فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينتظر العذاب، فلم ير شيئا، وكان من كذب ولم يكن له بينه قتل

(2/15)


فانطلق مغاضبا «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» ، قَالَ: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الله بن رافع، مولى أم سلمه زوج النبي ص، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: [قَالَ رَسُولُ الله ص: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا، وَلا تَكْسِرْ عَظْمًا، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنَ الْبَحْرِ.
فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: أَنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ قَالَ:
فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ: فَسَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، قَالُوا: الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الْحُوتَ، فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ كَمَا قال الله: «وَهُوَ سَقِيمٌ» ، وَكَانَ سُقْمُهُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهِ، أَنَّهُ أَلْقَاهُ الْحُوتُ عَلَى السَّاحِلِ كَالصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ، قَدْ بشر اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ بِهِ- يَعْنِي الْحُوتَ- حَتَّى لَفَظَهُ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَطَرَحَهُ مِثْلَ الصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ، لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صخر،

(2/16)


قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ قُسَيْطٍ إِنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: طُرِحَ بِالْعَرَاءِ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقْطِينَةً، فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَا الْيَقْطِينَةُ؟ قَالَ: شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ، هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أُرْوِيَّةً وحشيه، تاكل من حشاش الأَرْضِ- أَوْ هَشَاشِ الأَرْضِ- فَتَفْشَحُ عَلَيْهِ، فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشِيَّةٍ وَبُكْرَةٍ، حَتَّى نَبَتَ.
وَمِمَّا كَانَ أَيْضًا فِي أَيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ:

(2/17)


إرسال الله رسله الثلاثة
الذين ذكرهم في تنزيله، فقال: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» ، الآيات التي ذكر تعالي ذكره في خبرهم.
واختلف السلف في أمرهم، فقال بعضهم: كان هؤلاء الثلاثة- الذين ذكرهم الله في هذه الآيات، وقص فيها خبرهم- أنبياء ورسلا أرسلهم إلى بعض ملوك الروم، وهو انطيخس، والقرية التي كان فيها هذا الملك الذي أرسل الله إليه فيها هؤلاء الرسل إنطاكية.
ذِكْرُ من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: كان من حديث صاحب يس- فيما حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق- قَالَ: مما بلغه عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه اليماني، انه كان رجلا من أهل إنطاكية، وكان اسمه حبيبا وكان يعمل الحرير، وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة قاصيا، وكان مؤمنا ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى- فيما يذكرون- فيقسمه نصفين، فيطعم نصفا عياله، ويتصدق بنصف، فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه حين طهر قلبه، واستقامت فطرته، وكان بالمدينة التي هو بها، مدينة إنطاكية، فرعون من الفراعنة يقال له انطيخس بن انطيخس بن انطيخس، يعبد الأصنام، صاحب شرك

(2/18)


فبعث الله المرسلين، وهم ثلاثة: صادق وصدوق وشلوم، فقدم الله إليه وإلي أهل مدينته منهم اثنين، فكذبوهما، ثم عزز الله بثالث.
وقال آخرون: بل كانوا من حواريي عيسى بن مريم، ولم يكونوا رسلا لله، وإنما كانوا رسل عيسى بن مريم، ولكن ارسال عيسى بن مريم إياهم، لما كان عن أمر الله تعالى ذكره إياه بذلك، أضيف إرساله إياهم إلى الله، فقيل:
«إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» .
ذكر من قال ذلك:
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قوله: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» قال: ذكر لنا ان عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى إنطاكية، مدينة بالروم، فَكَذَّبُوهُمَا، فَأعَزَّهُمَا بِثَالِثٍ، «فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» ، الآية.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، فلما دعته الرسل، ونادته بأمر الله، وصدعت بالذي أمرت به، وعابت دينهم وما هم عليه، قال اصحاب القرية لهم: «إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» قالت لهم الرسل: «طائِرُكُمْ مَعَكُمْ» ، اى اعمالكم، «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» فلما أجمع هو وقومه على قتل الرسل بلغ ذلك حبيبا، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم

(2/19)


يذكرهم الله، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال: «يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» أي لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى، وهم لكم ناصحون فاتبعوهم تهتدوا بهداهم.
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ: قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قَالَ: لما انتهى- يعني حبيبا- إلى الرسل، قَالَ: هل تسألون على هذا من أجر؟ قَالُوا: لا، فقال عند ذلك: «يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ.
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» .
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: ثم ناداهم بخلاف ما هم عليه من عبادة الأصنام، وأظهر لهم دينه وعبادة ربه، وأخبرهم أنه لا يملك نفعه ولا ضره غيره، فقال: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» الى قوله: «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» .
أي آمنت بربكم، الذي كفرتم به، فاسمعوا قولي فلما قال لهم ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، واستضعفوه لضعفه وسقمه، ولم يكن أحد يدفع عنه.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: وَطَئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ، حَتَّى خَرَجَ قُصْبُهُ مِنْ دُبُرِهِ.
وقال الله له: ادخل الجنه، فَدَخَلَهَا حَيًّا يُرْزَقُ فِيهَا، قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ سَقَمَ الدُّنْيَا وَحَزَنَهَا وَنَصَبَهَا، فَلَمَّا أَفْضَى إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ، قَالَ: «يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» وَغَضِبَ اللَّهُ لَهُ لاسْتِضْعَافِهِمْ إِيَّاهُ غَضْبَةً لَمْ يَبْقَ مَعَهَا مِنَ الْقَوْمِ شَيْئًا فَعَجَّلَ لَهُمُ النِّقْمَةَ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْهُ وقال: «وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» ، يَقُولُ: مَا كَابَدْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ،

(2/20)


أَيِ الأَمْرُ أَيْسَرُ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» فَأَهْلَكَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَأَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ، فَبَادُوا عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن ابن عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ اسْمُ صَاحِبِ يس حَبِيبًا، وَكَانَ الْجُذَامُ قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ.
حَدَّثَنَا ابن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا مؤمل، قَالَ: حَدَّثَنَا سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي مخلد، قَالَ: كان اسم صاحب يس حبيب بن مري.
وكان فيهم:

(2/21)


شمسون
وكان من أهل قرية من قرى الروم، قد هداه الله لرشده، وكان قومه أهل أوثان يعبدونها فكان من خبره وخبرهم- فِيمَا ذُكِرَ- مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن المغيرة بن أبي لبيد، عن وهب بن منبه اليماني: أن شمسون كان فيهم رجلا مسلما، وكانت أمه قد جعلته نذيرة، وكان من أهل قرية من قراهم، كانوا كفارا يعبدون الأصنام، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة، وكان يغزوهم وحده ويجاهدهم في الله، فيصيب منهم وفيهم حاجته، فيقتل ويسبي، ويصيب المال، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره، فإذا قاتلوه وقاتلهم، وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذى مع اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى، وكان قد أعطي قوة في البطش، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، وكان على ذلك يجاهدهم في الله ويغزوهم، ويصيب منهم حاجته، لا يقدرون منه على شيء، حتى قَالُوا: لن تأتوه إلا من قبل امرأته، فدخلوا على امرأته، فجعلوا لها جعلا، فقالت: نعم أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلا وثيقا، وقالوا: إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه فلما نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل، فلما هب جذبه بيده، فوقع من عنقه، فقال لها: لم فعلت؟ فقالت: أجرب به قوتك، ما رأيت مثلك قط! فأرسلت إليهم أني قد ربطته بالحبل فلم أغن عنه شيئا، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، فقالوا: إذا نام فاجعليها في عنقه، فلما نام جعلتها في عنقه، ثم أحكمتها، فلما هب جذبها، فوقعت من يده ومن عنقه، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت: أجرب به قوتك، ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمسون!

(2/22)


أما في الأرض شيء يغلبك! قَالَ: لا، إلا شيء واحد، قالت: وما هو؟
قَالَ: ما أنا بمخبرك به، فلم تزل به تسأله عن ذلك- وكان ذا شعر كثير- فقال لها: ويحك! إن أمي جعلتني نذيرة، فلا يغلبني شيء أبدا، ولا يضبطني إلا شعري فلما نام أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه، فأوثقه ذلك، وبعثت إلى القوم، فجاءوا فأخذوه، فجدعوا أنفه وأذنيه، وفقئوا عينيه، ووقفوه للناس بين ظهراني المئذنة- وكانت مئذنة ذات أساطين، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمسون، وما يصنع به- فدعا الله شمسون حين مثلوا به ووقفوه أن يسلطه عليهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المئذنة التي عليها الملك والناس الذين معه فيجذبهما، فجذبهما فرد الله عليه بصره وما أصابوا من جسده، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس، فهلكوا فيها هدما

(2/23)


ذكر خبر جرجيس
وكان جرجيس- فيما ذكر- عبدا لله صالحا من أهل فلسطين، ممن ادرك بقايا من حواريي عيسى بن مريم، وكان تاجرا يكسب بتجارته ما يستغني به عن الناس، ويعود بالفضل على أهل المسكنة وإنه تجهز مرة إلى ملك بالموصل، كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن وهب بن منبه وغيره من أهل العلم: أنه كان بالموصل داذانه، وكان قد ملك الشام كله، وكان جبارا عاتيا لا يطيقه إلا الله تعالى وكان جرجيس رجلا صالحا من أهل فلسطين، وكان مؤمنا يكتم إيمانه في عصبة معه صالحين، يستخفون بإيمانهم، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فسمعوا منهم، وأخذوا عنهم وكان جرجيس كثير المال، عظيم التجارة، عظيم الصدقة، فكان يأتي عليه الزمان يتلف ماله في الصدقة حتى لا يبقى منه شيء، حتى يصير فقيرا، ثم يضرب الضربة فيصيب مثل ماله أضعافا مضاعفة، فكانت هذه حاله في المال وكان إنما يرغب في المال، ويعمره ويكسبه من أجل الصدقة، لولا ذلك كان الفقر أحب إليه من الغنى.
وكان لا يأمن ولاية المشركين عليه مخافة أن يؤذوه في دينه، أو يفتنوه عنه، فخرج يؤم ملك الموصل، ومعه مال يريد أن يهديه له، لئلا يجعل لأحد من تلك الملوك عليه سلطانا دونه، فجاءه حين جاءه، وقد برز في مجلس له، وعنده عظماء قومه وملوكهم، وقد أوقد نارا، وقرب أصنافا من أصناف العذاب الذي كان يعذب به من خالفه، وقد أمر بصنم يقال له:
أفلون فنصب، فالناس يعرضون عليه، فمن لم يسجد له ألقي في تلك النار، وعذب بأصناف ذلك العذاب فلما رأى جرجيس ما يصنع فظع به

(2/24)


وأعظمه، وحدث نفسه بجهاده، وألقى الله في نفسه بغضه ومحاربته، فعمد إلى المال الذي أراد أن يهديه له فقسمه في أهل ملته حتى لم يبق منه شيئا، وكره أن يجاهده بالمال، وأحب أن يلي ذلك بنفسه، فاقبل عليه عند ما كان أشد غضبا وأسفا، فقال له: اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك، وأن فوقك ربا هو الذي يملكك وغيرك، وهو الذي خلقك ورزقك، وهو الذي يحييك ويميتك، ويضرك وينفعك، وأنت قد عمدت إلى خلق من خلقه- قَالَ له: كن فكان- أصم أبكم، لا ينطق ولا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، ولا يغني عنك من الله شيئا، فزينته بالذهب والفضة لتجعله فتنة للناس، ثم عبدته دون الله، وأجبرت عليه عباد الله، ودعوته ربا.
فكلم الملك جرجيس بنحو هذا، من تعظيم الله وتمجيده، وتعريفه أمر الصنم، وأنه لا تصلح عبادته فكان من جواب الملك إياه مسألته إياه عنه، ومن هو؟ ومن أين هو؟ فأجابه جرجيس أن قَالَ: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته، أذل عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت، وفيه أصير وأخبره ما الذي جاء به وحاله وإنه دعا ذلك الملك جرجيس إلى عبادة الله ورفض عبادة الأوثان وإن الملك دعا جرجيس إلى عبادة الصنم الذي يعبده، وقال:
لو كان ربك الذي تزعم أنه ملك الملوك كما تقول، لرئى عليك أثره كما ترى أثري على من حولي من ملوك قومي.
فأجابه جرجيس بتمجيد الله وتعظيم أمره وقال له- فيما قَالَ: أين تجعل طرقبلينا، وما نال بولايتك، فإنه عظيم قومك، من إلياس، وما نال إلياس بولاية الله! فإن إلياس كان بدؤه آدميا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، فلم تتناه به كرامة الله حتى أنبت له الريش، وألبسه النور،

(2/25)


فصار إنسيا ملكيا، سمائيا أرضيا، يطير مع الملائكة وحدثني: أين تجعل مجليطيس، وما نال بولايتك: فانه عظيم قومك، من المسيح بن مريم وما نال بولاية الله! فإن الله فضله على رجال العالمين، وجعله وأمه آية للمعتبرين.
ثم ذكر من أمر المسيح ما كان الله خصه به من الكرامة وقال أيضا: وحدثني:
أين تجعل أم هذا الروح الطيب التي اختارها الله لكلمته، وطهر جوفها لروحه، وسودها على إمائه؟ فأين تجعلها وما نالت بولاية الله، من أزبيل وما نالت بولايتك؟ فإنها إذ كانت من شيعتك وملتك أسلمها الله عند عظيم ملكها إلى نفسها، حتى اقتحمت عليها الكلاب في بيتها، فانتهشت لحمها وولغت دمها، وجرت الثعالب والضباع أوصالها! فأين تجعلها وما نالت بولايتك من مريم ابنة عمران وما نالت بولاية الله! فقال له الملك: إنك لتحدثنا عن أشياء ليس لنا بها علم، فأتني بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما، حتى أنظر إليهما، وأعتبر بهما، فإني أنكر أن يكون هذا في البشر.
فقال له جرجيس: إنما جاءك الإنكار من قبل الغرة بالله، وأما الرجلان فلن تراهما ولن يرياك، إلا أن تعمل بعملهما، فتنزل منازلهما.
فقال له الملك: أما نحن فقد أعذرنا إليك، وقد تبين لنا كذبك، لأنك فخرت بأمور عجزت عنها، ولم تأت بتصديقها ثم خير الملك جرجيس بين العذاب وبين السجود لأفلُّون، فيثيبه! فقال له جرجيس: إن كان أفلون هو الذي رفع السماء- وعدد عليه أشياء من قدرة الله- فقد أصبت ونصحت لي، وإلا فاخسأ أيها النجس الملعون! فلما سمعه الملك يسبه ويسب آلهته غضب من قوله غضبا شديدا، وأمر بخشبة فنصبت له للعذاب، وجعلت عليه أمشاط الحديد، فخدش بها

(2/26)


جسده حتى تقطع لحمه وجلده وعروقه، ينضح خلال ذلك بالخل والخردل.
فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى إذا جعلت نارا، أمر بها فسمر بها رأسه حتى سال منه دماغه فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بحوض من نحاس، فأوقد عليه حتى إذا جعله نارا أمر به فأدخل في جوفه، وأطبق عليه، فلم يزل فيه حتى برد حره.
فلما رأى ذلك لم يقتله، دعا به فقال: ألم تجد ألم هذا العذاب الذي تعذب به! فقال له جرجيس: أما أخبرتك أن لك ربا هو أولى بك من نفسك! قَالَ: بلى قد أخبرتني، قَالَ: فهو الذي حمل عني عذابك، وصبرني ليحتج عليك فلما قَالَ له ذلك أيقن بالشر، وخافه على نفسه وملكه، وأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقا يكلم الناس أوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب في السجن يشغله عن كلام الناس فأمر فبطح في السجن على وجهه، ثم أوتد في يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد، في كل ركن منها وتد، ثم أمر بأسطوان من رخام، فوضع على ظهره حمل ذلك الأسطوان سبعة رجال فلم يقلوه، ثم أربعة عشر رجلا فلم يقلوه، ثم ثمانية عشر رجلا فأقلوه، فظل يومه ذلك موتدا تحت الحجر.
فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكا- وذلك أول ما أيد بالملائكة، وأول ما جاءه الوحي- فقلع عنه الحجر، ونزع الأوتاد من يديه ورجليه، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن، وقال له:
الحق بعدوك فجاهده في الله حق جهاده، فإن الله يقول لك: أبشر واصبر، فإني أبتليك بعدوي هذا سبع سنين، يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرار، في كل ذلك أرد إليك روحك، فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك فلم يشعر الآخرون إلا وقد وقف جرجيس على رؤوسهم يدعوهم إلى الله.
فقال له الملك: أجرجيس! قَالَ: نعم، قَالَ: من أخرجك من السجن؟

(2/27)


قَالَ: أخرجني الذي سلطانه فوق سلطانك فلما قَالَ له ذلك مليء غيظا، فدعا بأصناف العذاب حتى لم يخلف منها شيئا، فلما رآها جرجيس تصنف له، أوجس في نفسه خيفة وجزعا، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته، وهم يسمعون فلما فرغ من عتابه نفسه مدوه بين خشبتين، ووضعوا عليه سيفا على مفرق راسه، فوشروه حتى سقط بين رجليه، وصار جزلتين، ثم عمدوا إلى جزلتيه، فقطعوهما قطعا وله سبعة أسد ضارية في جب، وكانت صنفا من أصناف عذابه، ثم رموا بجسده إليها، فلما هوى نحوها أمر الله الأسد فخضعت برءوسها وأعناقها، وقامت على براثنها، لا تألو أن تقيه الأذى، فظل يومه ذلك ميتا، فكانت أول ميتة ذاقها فلما أدركه الليل جمع الله له جسده الذي قطعوه بعضه على بعض، حتى سواه ثم رد فيه روحه وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجب، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه.
فلما أصبحوا قَالَ له الملك: يا جرجيس، قَالَ: لبيك! قَالَ: اعلم أن القدرة التي خلق آدم بها من تراب هي التي أخرجتك من قعر الجب، فالحق بعدوك ثم جاهده في الله حق جهاده، ومت موت الصابرين.
فلم يشعر الآخرون إلا وقد أقبل جرجيس، وهم عكوف على عيد لهم قد صنعوه فرحا- زعموا بموت جرجيس- فلما نظروا إلى جرجيس مقبلا، قَالُوا:
ما أشبه هذا بجرجيس! قَالُوا: كأنه هو؟ قَالَ الملك: ما بجرجيس من خفاء، إنه لهو! ألا ترون إلى سكون ريحه، وقلة هيبته قَالَ جرجيس: بلى، أنا هو حقا! بئس القوم أنتم! قتلتم ومثلتم، فكان الله- وحق له- خيرا وأرحم منكم.
أحياني ورد علي روحي هلم إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم ما أراكم.
فلما قَالَ لهم ذلك، أقبل بعضهم على بعض، فقالوا: ساحر سحر أيديكم وأعينكم عنه فجمعوا له من كان ببلادهم من السحرة، فلما جاء السحرة، قَالَ الملك لكبيرهم: اعرض علي من كبير سحرك ما تسرى به عني، قَالَ له:
ادع لي بثور من البقر، فلما أتي به نفث في إحدى أذنيه فانشقت باثنتين، ثم نفث في الأخرى، فإذا هو ثوران، ثم أمر ببذر فحرث وبذر، ونبت

(2/28)


الزرع، وأينع وحصد، ثم داس وذري، وطحن وعجن، وخبز وأكل ذلك في ساعة واحدة كما ترون! قَالَ له الملك: هل تقدر على أن تمسخه لي دابة؟ قَالَ الساحر: أي دابة أمسخه لك؟ قَالَ: كلبا، قَالَ: ادع لي بقدح من ماء، فلما أتي بالقدح نفث فيه الساحر، ثم قَالَ للملك: اعزم عليه أن يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره، فلما فرغ منه قَالَ له الساحر: ماذا تجد؟ قَالَ: ما أجد إلا خيرا، قد كنت عطشت فلطف الله لي بهذا الشراب، فقواني به عليكم فلما قَالَ له ذلك أقبل الساحر على الملك فقال: اعلم أيها الملك، أنك لو كنت تقاسي رجلا مثلك إذا كنت غلبته، ولكنك تقاسي جبار السموات، وهو الملك الذي لا يرام! وقد كانت امرأة مسكينة، سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب، فأتته وهو في أشد ما هو فيه من البلاء، فقالت له: يا جرجيس، إني امرأة مسكينة، لم يكن لي مال ولا عيش إلا ثور كنت أحرث عليه فمات، وجئتك لترحمني وتدعو الله أن يحيي لي ثوري فذرفت عيناه ثم دعا الله أن يحيي لها ثورها، وأعطاها عصا، فقال: اذهبي إلى ثورك، فاقرعيه بهذه العصا وقولي له: احي بإذن الله فقالت: يا جرجيس مات ثوري منذ أيام، وتفرقته السباع، وبيني وبينك أيام، فقال: لو لم تجدي منه إلا سنا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن الله فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، فكان أول شيء بدا لها من ثورها أحد روقيه وشعر ذنبه، فجمعت أحدهما إلى الآخر، ثم قرعتهما بالعصا التي أعطاها، وقالت كما أمرها، فعاش ثورها، وعملت عليه حتى جاءهم الخبر بذلك.
فلما قَالَ الساحر للملك ما قَالَ، قَالَ رجل من أصحاب الملك- وكان أعظمهم بعد الملك: اسمعوا مني أيها القوم أحدثكم، قَالُوا: نعم، فتكلم، قَالَ: إنكم قد وضعتم أمر هذا الرجل على السحر، وزعمتم أنه سحر أيديكم عنه وأعينكم فأراكم أنكم تعذبونه، ولم يصل إليه عذابكم! وأراكم أنكم

(2/29)


قد قتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم ساحرا قط قدر أن يدرأ عن نفسه الموت، أو أحيا ميتا قط! ثم قص عليهم فعل جرجيس، وفعلهم به، وفعله بالثور وصاحبته، واحتج عليهم بذلك كله، فقالوا له: إن كلامك لكلام رجل قد أصغى إليه، قَالَ: ما زال أمره لي معجبا منذ رأيت منه ما رأيت، قَالُوا له: فلعله استهواك! قَالَ: بل آمنت وأشهد الله أني بريء مما تعبدون فقام إليه الملك وصحابته بالخناجر، فقطعوا لسانه، فلم يلبث أن مات، وقالوا:
أصابه الطاعون، فأعجله الله قبل أن يتكلم فلما سمع الناس بموته أفزعهم، وكتموا شأنه، فلما رآهم جرجيس يكتمونه برز للناس، فكشف لهم أمره، وقص عليهم كلامه، فاتبعه على كلامه أربعة آلاف وهو ميت، فقالوا: صدق، ونعم ما قَالَ! يرحمه الله! فعمد إليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يلون لهم العذاب ويقتلهم بالمثلات.
حتى أفناهم.
فلما فرغ منهم أقبل على جرجيس، فقال له: هلا دعوت ربك.
فأحيا لك أصحابك، هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك! فقال له جرجيس ما خلى بينك وبينهم حتى خار لهم فقال رجل من عظمائهم يقال له مجليطيس:
إنك زعمت يا جرجيس أن الهك هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وإني سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت بك وصدقتك، وكفيتك قومي هؤلاء، هذه تحتنا أربعة عشر منبرا حيث ترى، ومائدة بيننا عليها أقداح وصحاف، وكل صنع من الخشب اليابس، ثم هو من أشجار شتى، فادع ربك ينشئ هذه الآنية وهذه المنابر، وهذه المائدة، كما بدأها أَوَّلَ مَرَّةٍ، * حتى تعود خضرا نعرف كل عود منها بلونه وورقه وزهره وثمره.
فقال له جرجيس: قد سألت أمرا عزيزا علي وعليك، وإنه على الله لهين فدعا ربه، فما برحوا مكانهم حتى اخضرت تلك المنابر، وتلك الآنية كلها، فساخت عروقها، وألبست اللحاء، وتشعبت، ونبت ورقها وزهرها وثمرها، حتى عرفوا كل عود منها باسمه ولونه وزهره وثمره.
فلما نظروا إلى ذلك انتدب له مجليطيس، الذي تمنى عليه ما تمنى،

(2/30)


فقال: أنا أعذب لكم هذا الساحر عذابا يضل عنه كيده فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور جوفاء واسعة، ثم حشاها نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو في جوفها، ثم أوقد تحت الصورة، فلم يزل يوقد حتى التهبت الصورة، وذاب كل شيء فيها واختلط، ومات جرجيس في جوفها فلما مات أرسل الله ريحا عاصفا، فملأت السماء سحابا أسود مظلما، فيه رعد لا يفتر، وبرق وصواعق متداركات، وأرسل الله إعصارا فملأت بلادهم عجاجا وقتاما، حتى اسود ما بين السماء والأرض وأظلم، ومكثوا أياما متحيرين في تلك الظلمة، لا يفصلون بين الليل والنهار.
وأرسل الله ميكائيل فاحتمل الصورة التي فيها جرجيس، حتى إذا أقلها ضرب بها الأرض ضربا، فزع من روعته أهل الشام أجمعون، وكلهم يسمعه في ساعة واحدة، فخروا لوجوههم صعقين من شدة الهول، وانكسرت الصورة، فخرج منها جرجيس حيا، فلما وقف يكلمهم انكشفت الظلمة، وأسفر ما بين السماء والأرض، ورجعت اليهم انفسهم فقال له رجل منهم يقال له طرقبلينا: لا ندري يا جرجيس أنت تصنع هذه العجائب أم ربك؟
فإن كان هو الذي يصنعها، فادعه يحي لنا موتانا، فإن في هذه القبور التي ترى أمواتا من أمواتنا، منهم من نعرف ومنهم من مات قبل زماننا، فادعه يحيهم حتى يعودوا كما كانوا ونكلمهم، ونعرف من عرفنا منهم، ومن لا نعرف أخبرنا خبره فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح، ويريكم هذه العجائب إلا ليتم عليكم حججه، فتستوجبوا بذلك غضبه ثم أمر بالقبور فنبشت وهي عظام ورفات ورميم ثم أقبل على الدعاء فما برحوا مكانهم، حتى نظروا إلى سبعة عشر إنسانا: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية، فإذا شيخ منهم كبير، فقال له جرجيس:
أيها الشيخ، ما اسمك؟ فقال: اسمي يوبيل، فقال: متى مت؟ قَالَ:
في زمان كذا وكذا، فحسبوا فإذا هو قد مات منذ أربعمائة عام

(2/31)


فلما نظر إلى ذلك الملك وصحابته، قَالُوا: لم يبق من أصناف عذابكم شيء إلا قد عذبتموه، إلا الجوع والعطش، فعذبوه بهما فعمدوا إلى بيت عجوز كبيرة فقيرة، كان حريزا، وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد، فحصروه في بيتها فلا يصل إليه من عند أحد طعام ولا شراب فلما بلغه الجوع، قَالَ للعجوز: هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: لا والذي يحلف به، ما عهدنا بالطعام منذ كذا وكذا،، وسأخرج وألتمس لك شيئا قَالَ لها جرجيس: هل تعرفين الله؟ قالت له: نعم، قَالَ: فإياه تعبدين؟ قالت:
لا، قَالَ: فدعاها إلى الله فصدقته، وانطلقت تطلب له شيئا، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فما كان كشيء حتى اخضرت تلك الدعامة، فأنبتت كل فاكهة تؤكل أو تعرف، أو تسمى حتى كان فيما أنبتت اللياء واللوبياء.
قال ابو جعفر: اللياء نبت بالشام له حب يؤكل وظهر للدعامة فرع من فوق البيت أظله وما حوله وأقبلت العجوز، وهو فيما شاء يأكل رغدا، فلما رأت الذي حدث في بيتها من بعدها، قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم ليشفي ابني، قَالَ: أدنيه مني، فأدنته منه، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع، قالت له: أطلق لسانه ورجليه، رحمك الله! قَالَ: أخريه، فإن له يوما عظيما وخرج الملك يسير في مدينته، فلما نظر إلى الشجرة، قَالَ لأصحابه: إني أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها به، قَالُوا له: تلك الشجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع، فهو فيما شاء قد شبع منها، وشبعت الفقيرة وشفى لها ابنها فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة لتقطع، فلما هموا بقطعها أيبسها الله تعالى كما كانت أول مرة، فتركوها، وأمر بجرجيس فبطح على

(2/32)


وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجل فأوقر أسطوانا ما حمل، وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارا، ثم دعا بأربعين ثورا، فنهضت بالعجل نهضة واحدة، وجرجيس تحتها، فتقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعة فأحرقت بالنار، حتى إذا عادت رمادا بعث بذلك الرماد رجالا فذروه في البحر، فلم يبرحوا مكانهم حتى سمعوا صوتا من السماء يقول: يا بحر، إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب، فإني أريد أن أعيده كما كان ثم أرسل الله الرياح فأخرجته من البحر، ثم جمعته حتى عاد الرماد صبرة كهيئته قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم يبرحوا ثم نظروا إلى الرماد يثور كما كان، حتى خرج منه جرجيس مغبرا ينفض رأسه، فرجعوا، ورجع جرجيس معهم، فلما انتهوا إلى الملك أخبروه خبر الصوت الذي أحياه، والريح التي جمعته فقال له الملك: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك! فلولا أن يقول الناس إنك قهرتني وغلبتني لاتبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلُّون سجدة واحدة، أو اذبح له شاة واحدة، ثم أنا أفعل ما يسرك.
فلما سمع جرجيس هذا من قوله طمع أن يهلك الصنم حين يدخله عليه، رجاء أن يؤمن له الملك حين يهلك صنمه، وييئس منه، فخدعه جرجيس، فقال: نعم، إذا شئت فأدخلني على صنمك أسجد له، وأذبح له، ففرح الملك بقوله، فقام إليه فقبل يديه ورجليه ورأسه، وقال: إني أعزم عليك ألا تظل هذا اليوم، ولا تبيت هذه الليلة إلا في بيتي وعلى فراشي، ومع أهلي حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، فيرى الناس كرامتك علي.
فأخلى له بيته، وأخرج منه من كان فيه فظل فيه جرجيس، حتى إذا أدركه الليل، قام يصلي، ويقرأ الزبور- وكان أحسن الناس صوتا- فلما سمعته امرأة الملك استجابت له، ولم يشعر إلا وهي خلفه تبكي معه، فدعاها ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جامع الاصول لابن الاثير

  روابط التحميل