روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الثلاثاء، 24 مايو 2022

مجلد 15. تاريخ الطبري

 

مجلد 15. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري  محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ) (صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)

== لإبراهيم حتى أنجاهما منه عمرو بْن شداد.
قَالَ عمر: وحدثني رجل من أهل المدائن، عن الحسن بْن عمرو بْن شداد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: مر بي إبراهيم بالمدائن مستخفيا، فأنزلته دارا لي على شاطئ دجلة، وسعي بي إلى عامل المدائن، فضربني مائة سوط، فلم أقرر له، فلما تركني أتيت إبراهيم فأخبرته فانحدر.
قَالَ: وحدثني العباس بْن سفيان بْن يحيى بْن زياد مولى الحجاج بْن يوسف- وكان يحيى بْن زياد ممن سبي من عسكر قطري بْن الفجاءة- قَالَ: لما ظهر إبراهيم كنت غلاما ابن خمس سنين، فسمعت أشياخنا يقولون: إنه مر منحدرا يريد البصرة من الشام، فخرج إليه عبد الرحيم بْن صفوان من موالي الحجاج، ممن سبي من عسكر قطري، قَالَ: فمشى معه حتى عبره المآصر، قَالَ: فأقبل بعض من رآه، فقال: رأيت عبد الرحيم مع رجل شاطر، محتجز بإزار مورد، في يده قوس جلاهق يرمي به، فلما رجع عبد الرحيم سئل عن ذلك فأنكره، فكان إبراهيم يتنكر بذلك.
قال: وحدثني نصر بْن قديد، قَالَ: لما قدم إبراهيم منصرفه من بغداد، نزل على أبي فروة في كندة فاختفى، وأرسل إلى الناس يندبهم للخروج.
قَالَ عمر: وحدثني علي بْن إسماعيل بْن صالح بْن ميثم الأهوازي، قَالَ: حدثني عبد الله بْن الحسن بْن حبيب، عن أبيه، قَالَ: كان إبراهيم مختفيا عندي على شاطئ دجيل، في ناحية مدينة الأهواز، وكان محمد ابن حصين يطلبه، فقال يوما: إن أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أن المنجمين يخبرونه أن إبراهيم بالأهواز نازل في جزيرة بين نهرين، فقد طلبته في الجزيرة حتى وثقت أنه ليس هناك- يعني بالجزيرة التي بين نهر الشاه جرد ودجيل- فقد اعتزمت أن أطلبه غدا في المدينة، لعل أمير المؤمنين يعني بين دجيل والمسرقان، قَالَ: فأتيت إبراهيم، فقلت له: أنت مطلوب غدا في هذه

(7/626)


الناحية، قَالَ: فأقمت معه بقية يومي، فلما غشيني الليل، خرجت به حتى أنزلته في ادانى دشت أربك دون الكث، فرجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمدا أن يغدو لطلبه، فلم يفعل حتى تصرم النهار، وقربت الشمس تغرب، فخرجت حتى جئت إبراهيم، فأقبلت به حتى وافينا المدينة مع العشاء الآخرة ونحن على حمارين، فلما دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع، لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد، وجلس يبول، وطوتني الخيل، فلم يعرج علي منهم أحد، حتى صرت إلى ابن حصين، فقال لي: أبا محمد، من أين في مثل هذا الوقت؟ فقلت: تمسيت عند أهلي، قَالَ: ألا أرسل معك من يبلغك؟ قلت: لا، قد قربت من اهلى، فمضى يطلب، وتوجهت على سنني حتى انقطع آخر أصحابه، ثم كررت راجعا إلى إبراهيم، فالتمست حماره حتى وجدته، فركب، وانطلقنا حتى بتنا في أهلنا، فقال إبراهيم: تعلم والله لقد بلت البارحة دما، فأرسل من ينظر، فأتيت الموضع الذي بال فيه، فوجدته قد بال دما قَالَ: وحدثني الفضل بْن عبد الرحيم بْن سليمان بْن علي، قَالَ: قَالَ أبو جعفر: غمض علي أمر إبراهيم لما اشتملت عليه طفوف البصرة قَالَ: وحدثني محمد بْن مسعر بْن العلاء، قَالَ: لما قدم إبراهيم البصرة، دعا الناس، فأجابه موسى بْن عمر بْن موسى بْن عبد الله بْن خازم، ثم ذهب بإبراهيم إلى النضر بْن إسحاق بْن عبد الله بْن خازم مختفيا، فقال للنضر بْن إسحاق: هذا رسول إبراهيم، فكلمه إبراهيم ودعاه إلى الخروج، فقال له النضر: يا هذا، كيف أبايع صاحبك وقد عند جدي عبد الله بْن خازم عن جده علي بْن أبي طالب، وكان عليه فيمن خالفه، فقال له إبراهيم:
دع سيرة الآباء عنك ومذاهبهم، فإنما هو الدين، وأنا أدعوك إلى حق قَالَ: إني والله ما ذكرت لك ما ذكرت إلا مازحا، وما ذاك الذي يمنعني من نصرة صاحبك، ولكني لا أرى القتال ولا أدين به قَالَ: وانصرف ابراهيم،

(7/627)


وتخلف موسى، فقال: هذا والله إبراهيم نفسه، قَالَ: فبئس لعمر الله ما صنعت! لو كنت أعلمتني كلمته غير هذا الكلام! قَالَ: وحدثني نصر بْن قديد، قَالَ: دعا إبراهيم الناس وهو في دار أبي فروة، فكان أول من بايعه نميلة بْن مرة وعفو الله بن سفيان وعبد الواحد ابن زياد وعمر بْن سلمة الهجيمي وعبيد الله بن يحيى بن حضين الرقاشي، وندبوا الناس له، فأجاب بعدهم فتيان من العرب، منهم المغيرة بْن الفزع وأشباه له، حتى ظنوا أنه قد أحصى ديوانه اربعه آلاف، وشهر امره، فقالوا:
لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك من أتاك وهو مريح، فتحول ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم- رجل من أهل نيسابور قَالَ: وحدثني يونس بْن نجدة، قَالَ: كان إبراهيم نازلا في بني راسب على عبد الرحمن بْن حرب، فخرج من داره في جماعة من أصحابه، منهم عفو الله بْن سفيان وبرد بْن لبيد، أحد بني يشكر، والمضاء التغلبي والطهوي والمغيرة بْن الفزع ونميلة بْن مرة ويحيى بْن عمرو الهماني، فمروا على جفرة بني عقيل حتى خرجوا على الطفاوة، ثم مروا على دار كرزم ونافع إبليس، حتى دخلوا دار أبي مروان في مقبرة بني يشكر قَالَ: وحدثني ابن عفو الله بْن سفيان، قَالَ: سمعت أبي يقول: أتيت إبراهيم يوما وهو مرعوب، فأخبرني أن كتاب أخيه أتاه يخبره أنه قد ظهر، ويأمره بالخروج قَالَ: فوجم من ذلك واغتم له، فجعلت أسهل عليه الأمر وأقول: قد اجتمع لك امرك، معك المضاء والطهوى والمغيرة، وأنا وجماعة، فنخرج إلى السجن في الليل فنفتحه، فتصبح حين تصبح ومعك عالم من الناس، فطابت نفسه قَالَ: وحدثني سهل بْن عقيل بْن إسماعيل، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ:
لما ظهر محمد أرسل أبو جعفر إلى جعفر بْن حنظلة البهراني- وكان ذا رأي- فقال: هات رأيك، قد ظهر محمد بالمدينة قَالَ: وجه الأجناد إلى البصرة

(7/628)


قَالَ: انصرف حتى أرسل إليك فلما صار إبراهيم إلى البصرة، أرسل إليه، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، فقال: إياها خفت! بادره بالجنود، قَالَ: وكيف خفت البصرة؟ قَالَ: لأن محمدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة فوجه أبو جعفر ابني عقيل- قائدين من أهل خراسان من طيّئ- فقدما.
وعلى البصرة سفيان بْن معاوية فأنزلهما قَالَ: وحدثني جواد بْن غالب بْن موسى مولى بني عجل، عن يحيى بْن بديل بْن يحيى بْن بديل، قَالَ: لما ظهر محمد، قَالَ أبو جعفر لأبي أيوب وعبد الملك بْن حميد: هل من رجل ذي رأي تعرفانه، نجمع رأيه على رأينا؟ قالا: بالكوفة بديل بْن يحيى- وقد كان أبو العباس يشاوره- فأرسل إليه، فأرسل إليه، فقال: إن محمدا قد ظهر بالمدينة، قَالَ: فاشحن الأهواز جندا، قَالَ: قد فهمت، ولكن الأهواز بابهم الذي يؤتون منه، قَالَ:
فقبل أبو جعفر رأيه قَالَ: فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إلى بديل، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، قَالَ: فعاجله بالجند وأشغل الاهواز عنه.
وحدثني محمد بْن حفص الدمشقي، مولى قريش قَالَ: لما ظهر محمد شاور أبو جعفر شيخا من أهل الشام ذا رأي، فقال: وجه إلى البصرة أربعة آلاف من جند أهل الشام فلها عنه، وقال: خرف الشيخ، ثم أرسل إليه، فقال: قد ظهر إبراهيم بالبصرة، قَالَ: فوجه إليه جندا من أهل الشام، قَالَ: ويلك! ومن لي بهم! قَالَ: أكتب إلى عاملك عليها يحمل إليك في كل يوم عشرة على البريد، قَالَ: فكتب بذلك أبو جعفر إلى الشام.
قَالَ عمر بْن حفص: فإني لأذكر أبي يعطي الجند حينئذ، وأنا أمسك له المصباح، وهو يعطيهم ليلا، وأنا يومئذ غلام شاب

(7/629)


قَالَ: وحدثني سهل بْن عقيل، قَالَ: أخبرني سلم بْن فرقد، قَالَ:
لما أشار جعفر بْن حنظلة على أبي جعفر بحدر جند الشام إليه، كانوا يقدمون أرسالا، بعضهم على أثر بعض، وكان يريد أن يروع بهم أهل الكوفة، فإذا جنهم الليل في عسكره أمرهم فرجعوا منكبين عن الطريق، فإذا أصبحوا دخلوا، فلا يشك أهل الكوفة أنهم جند آخرون سوى الأولين.
حدثني عبد الحميد- وكان من خدم أبي العباس- قَالَ: كان محمد ابن يزيد من قواد أبي جعفر، وكان له دابة شهري كميت، فربما مر بنا ونحن بالكوفة وهو راكبه، قد ساوى رأسه رأسه، فوجهه أبو جعفر إلى البصرة، فلم يزل بها حتى خرج إبراهيم فأخذه فحبسه.
حدثني سعيد بْن نوح بْن مجالد الضبعي، قَالَ: وجه أبو جعفر مجالدا ومحمدا ابني يزيد بْن عمران من أهل أبيورد قائدين، فقدم مجالد قبل محمد، ثم قدم محمد في الليلة التي خرج فيها إبراهيم، فثبطهما سفيان وحبسهما عنده في دار الإمارة حتى ظهر إبراهيم فأخذهما، فقيدهما، ووجه أبو جعفر معهما قائدا من عبد القيس يدعى معمرا.
حدثني يونس بْن نجدة، قَالَ: قدم على سفيان مجالد بْن يزيد الضبعي من قبل أبي جعفر في الف وخمسمائة فارس وخمسمائة راجل.
حدثني سعيد بْن الحسن بْن تسنيم بْن الحواري بْن زياد بْن عمرو بْن الأشرف، قَالَ: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكرون أن أبا جعفر شاور في أمر إبراهيم، فقيل له: إن أهل الكوفة له شيعه، والكوفه قدر تفور، أنت طبقها، فاخرج حتى تنزلها ففعل.
حدثني مسلم الخصي مولى محمد بْن سليمان، قَالَ: كان أمر إبراهيم وأنا ابن بضع عشرة سنة، وأنا يومئذ لأبي جعفر، فأنزلنا الهاشمية بالكوفة ونزل هو بالرصافة في ظهر الكوفة، وكان جميع جنده الذين في عسكره نحوا من الف وخمسمائة، وكان المسيب بْن زهير على حرسه، فجزأ الجند ثلاثة

(7/630)


اجزاء خمسمائة، خمسمائة، فكان يطوف الكوفة كلها في كل ليلة، وأمر مناديا فنادى: من أخذناه بعد عتمة فقد أحل بنفسه، فكان إذا أخذ رجلا بعد عتمة لفه في عباءة وحمله، فبيته عنده، فإذا أصبح سأل عنه، فإن علم براءته أطلقه، وإلا حبسه.
قَالَ: وحدثني أبو الحسن الحذاء، قَالَ أخذ أبو جعفر الناس بالسواد، فكنت أراهم يصبغون ثيابهم بالمداد.
وحدثني علي بْن الجعد، قَالَ: رأيت أهل الكوفة ايامئذ أخذوا بلبس الثياب السود حتى البقالين، إن أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس ثم يلبسه.
وحدثني جواد بْن غالب، قَالَ: حدثني العباس بْن سلم مولى قحطبة، قَالَ: كان أمير المؤمنين أبو جعفر إذا اتهم أحدا من أهل الكوفة بالميل إلى إبراهيم أمر أبي سلما بطلبه، فكان يمهل حتى إذا غسق الليل، وهدأ الناس، نصب سلما على منزل الرجل فطرقه في بيته حتى يخرجه فيقتله، ويأخذ خاتمه قَالَ أبو سهل جواد: فسمعت جميلا مولى محمد بْن أبي العباس يقول للعباس بْن سلم: والله لو لم يورثك أبوك إلا خواتيم من قتل من أهل الكوفة كنت أيسر الأبناء.
حدثني سهل بْن عقيل، قَالَ: حدثني سلم بْن فرقد حاجب سليمان بْن مجالد، قَالَ: كان لي بالكوفة صديق، فأتاني- فقال: أيا هذا، اعلم أن أهل الكوفة معدون للوثوب بصاحبكم، فإن قدرت على أن تبوئ أهلك مكانا حريزا فافعل، قَالَ: فأتيت سليمان بْن مجالد، فأخبرته الخبر، فأخبر أبا جعفر- ولأبي جعفر عين من أهل الكوفة من الصيارفة يدعى ابن مقرن- قَالَ: فأرسل إليه، فقال: ويحك! قد تحرك أهل الكوفة، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، أنا عذيرك منهم، قَالَ: فركن إلى قوله، وأضرب عنهم.
وحدثني يحيى بْن ميمون من أهل القادسية، قَالَ: سمعت عدة من أهل القادسية يذكرون أن رجلا من أهل خراسان، يكنى أبا الفضل، ويسمى فلان ابن معقل، ولى القادسية ليمنع اهل الكوفه إتيان إبراهيم، وكان

(7/631)


الناس قد رصدوا في طريق البصرة، فكانوا يأتون القادسية ثم العذيب، ثم وادي السباع، ثم يعدلون ذات اليسار في البر، حتى يقدموا البصرة قَالَ: فخرج نفر من الكوفة اثنا عشر رجلا، حتى إذا كانوا بوادي السباع لقيهم رجل من موالي بني أسد، يسمى بكرا من أهل شراف دون واقصة بميلين من أهل المسجد الذي يدعى مسجد الموالي- فأتى ابن معقل فأخبره، فاتبعهم فأدركهم بخفان- وهي على أربعة فراسخ من القادسية- فقتلهم أجمعين.
حدثني إبراهيم بْن سلم، قَالَ: كان الفرافصة العجلي قد هم بالوثوب بالكوفة، فامتنع لمكان أبي جعفر ونزوله بها، وكان ابن ماعز الأسدي يبايع لإبراهيم فيها سرا.
حدثني عبد الله بْن راشد بْن يزيد، قَالَ: سمعت إسماعيل بْن موسى البجلي وعيسى بْن النضر السمانين وغيرهما يخبرون أن غزوان كان لآل القعقاع بْن ضرار، فاشتراه أبو جعفر، فقال له يوما: يا أمير المؤمنين، هذه سفن منحدرة من الموصل فيها مبيضة تريد إبراهيم بالبصرة، قَالَ: فضم إليه جندا، فلقيهم بباحمشا بين بغداد والموصل فقتلهم اجمعين، وكانوا تجارا فيهم جماعة من العباد من أهل الخير وغيرهم، وفيهم رجل يدعى أبا العرفان من آل شعيب السمان، فجعل يقول: ويلك يا غزوان! ألست تعرفني! أنا أبو العرفان جارك، انما شخصت برقيق فبعتهم، فلم يقبل وقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى الكوفة، فنصبت ما بين دار إسحاق الأزرق إلى جانب دار عيسى بْن موسى إلى مدينة ابن هبيرة قَالَ أبو أحمد عبد الله بْن راشد:
فأنا رأيتها منصوبة على كوم التراب.
قَالَ: وحدثنا أبو علي القداح، قَالَ: حدثني داود بْن سليمان ونيبخت وجماعة من القداحين، قالوا: كنا بالموصل، وبها حرب الراوندي رابطة في ألفين، لمكان الخوارج بالجزيرة، فأتاه كتاب أبي جعفر يأمره بالقفل إليه، فشخص، فلما كان بباحمشا اعترض له أهلها، وقالوا: لا ندعك تجوزنا لتنصر أبا جعفر على إبراهيم، فقال لهم: ويحكم! إني لا أريد بكم

(7/632)


سوءا، إنما أنا مار، دعوني قالوا: لا والله لا تجوزنا أبدا، فقاتلهم فأبارهم وحمل منهم خمسمائة رأس، فقدم بها على أبي جعفر، وقص عليه قصتهم قَالَ أبو جعفر: هذا أول الفتح.
وحدثني خالد بْن خداش بْن عجلان مولى عمر بْن حفص، قَالَ:
حدثني جماعة من أشياخنا أنهم شهدوا دفيف بْن راشد مولى بني يزيد بْن حاتم، أتى سفيان بْن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة، فقال: ادفع إلي فوارس آتك بإبراهيم أو برأسه قال او مالك عمل! اذهب إلى عملك قَالَ:
فخرج دفيف من ليلته فلحق بيزيد بْن حاتم وهو بمصر.
وحدثني خالد بْن خداش، قَالَ: سمعت عدة من الأزد يحدثون عن جابر بْن حماد- وكان على شرطة سفيان- أنه قَالَ لسفيان قبل خروج إبراهيم بيوم: إني مررت في مقبرة بني يشكر، فصيحوا بي ورموني بالحجارة، فقال له: أما كان لك طريق! وحدثني أبو عمر الحوضي حفص بْن عمر، قَالَ: مر عاقب صاحب شرط سفيان يوم الأحد قبل ظهور إبراهيم بيوم، في مقبرة بني يشكر، فقيل له: هذا إبراهيم يريد الخروج، فقال: كذبتم، ولم يعرج على ذلك! قَالَ أبو عمر الحوضي: جعل أصحاب إبراهيم ينادون سفيان وهو محصور:
اذكر بيعتك في دار المخزوميين.
قَالَ أبو عمر: وحدثني محارب بْن نصر، قَالَ: مر سفيان بعد قتل إبراهيم في سفينة وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال: إن هذا لسفيان؟ قالوا:
نعم، قَالَ: والله للعجب! كيف يفلتني ابن الفاعلة! قَالَ الحوضي: قَالَ سفيان لقائد من قواد إبراهيم: أقم عندي، فليس كل أصحابك يعلم ما كان بيني وبين إبراهيم.
قَالَ: وحدثني نصر بْن فرقد، قَالَ: كان كرزم السدوسي يغدو على سفيان بخبر إبراهيم ويروح، ويعلمه من يأتيه فلا يعرض له، ولا يتبع له أثرا

(7/633)


وذكر أن سفيان بْن معاوية كان عامل المنصور أيامئذ على البصرة، وكان قد مالأ إبراهيم بْن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه.
اختلف في وقت قدوم إبراهيم البصرة فقال بعض: كان قدومه إياها أول يوم من شهر رمضان في سنة خمس وأربعين ومائة.
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ:
لما ظهر محمد بْن عبد الله بْن الحسن، وغلب على المدينة ومكة، وسلم عليه بالخلافة، وجه أخاه إبراهيم بْن عبد الله إلى البصرة، فدخلها في أول يوم من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، فغلب عليها، وبيض بها وبيض بها أهل البصرة معه، وخرج معه عيسى بن يونس ومعاذ بن معاذ بْن العوام وإسحاق بْن يوسف الأزرق ومعاوية بْن هشام، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، فلم يزل بالبصرة شهر رمضان وشوالا، فلما بلغه قتل أخيه محمد بْن عبد الله تأهب واستعد، وخرج يريد أبا جعفر بالكوفة.
وقد ذكرنا قول من قَالَ: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، غير أنه كان مقيما بها، مختفيا يدعو أهلها في السر إلى البيعة لأخيه محمد، فذكر سهل بْن عقيل، عن أبيه، أن سفيان كان يرسل إلى قائدين كانا قد ما عليه من عند أبي جعفر مددا له قبل ظهور إبراهيم، فيكونان عنده، فلما وعده ابراهيم بالخروج ارسل إليهما فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتى خرج، فأحاط به وبهما فاخذهم.
وحدثت عن محمد بْن معروف بْن سويد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ:
وجه أبو جعفر مجالدا ومحمدا ويزيد، قوادا ثلاثة كانوا إخوة قبل ظهور إبراهيم، فقدموا جندهم، فجعلوا يدخلون البصرة تترى، بعضهم على أثر بعض، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها، فظهر

(7/634)


وذكر نصر بْن قديد، 4 أن إبراهيم خرج ليلة الاثنين لغرة شهر رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، فصار إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر رجلا فارسا، فيهم عبيد الله بْن يحيى بْن حصين الرقاشي قَالَ: وقدم تلك الليلة أبو حماد الأبرص مددا لسفيان في ألفي رجل، فنزل الرحبة إلى أن ينزلوا فسار إبراهيم فكان أول شيء أصاب دواب أولئك الجند وأسلحتهم، وصلى بالناس الغداة في المسجد الجامع، وتحصن سفيان في الدار، ومعه فيها جماعة من بني أبيه، وأقبل الناس إلى إبراهيم من بين ناظر وناصر حتى كثروا، فلما رأى ذلك سفيان طلب الأمان، فأجيب إليه، فدس إلى إبراهيم مطهر بْن جويرية السدوسي، فأخذ لسفيان الأمان، وفتح الباب، ودخل إبراهيم الدار، فلما دخلها ألقي له حصير في مقدم الإيوان، فهبت ريح فقلبته ظهرا لبطن، فتطير الناس لذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطير، ثم جلس عليه مقلوبا والكراهة ترى في وجهه، فلما دخل إبراهيم الدار خلى عن كل من كان فيها- فيما ذكر- غير سفيان بْن معاوية، فإنه حبسه في القصر وقيده قيدا خفيفا، فأراد إبراهيم- فيما ذكر- بذلك من فعله أن يري أبا جعفر أنه عنده محبوس، وبلغ جعفرا ومحمدا ابني سليمان بْن علي- وكانا بالبصرة يومئذ- مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فاقبلا- فيما قيل- في ستمائه من الرجالة والفرسان والناشبة يريدانه، فوجه إبراهيم إليهما المضاء بْن القاسم الجزري في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء ولحق محمدا رجل من أصحاب المضاء فطعنه في فخذه، ونادى مناد لإبراهيم: لا يتبع مدبر، ومضى هو بنفسه حتى وقف على باب زينب بنت سليمان، فنادى بالأمان لال سليمان، والا يعرض لهم أحد.
وذكر بكر بْن كثير، أن إبراهيم لما ظهر على جعفر ومحمد وأخذ البصره، وجد في بيت المال ستمائه ألف، فأمر بالاحتفاظ بها- وقيل إنه وجد في بيت المال الفى درهم- فقوي بذلك، وفرض لكل رجل خمسين خمسين، فلما غلب إبراهيم على البصرة وجه- فيما ذكر- إلى الأهواز رجلا يدعى الحسين

(7/635)


ابن ثولاء، يدعوهم إلى البيعة، فخرج فأخذ بيعتهم، ثم رجع إلى إبراهيم.
فوجه إبراهيم المغيرة في خمسين رجلا، ثم اجتمع إلى المغيرة لما صار الى الاهواز تمام مائتي رجل وكان عامل الأهواز يومئذ من قبل ابى جعفر محمد ابن الحصين فلما بلغ ابن الحصين دنو المغيرة منه خرج إليه بمن معه، وهم- فيما قيل- أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز بموضع يقال له دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز وقد قيل: إن المغيرة صار إلى الأهواز بعد شخوص إبراهيم عن البصرة إلى باخمري ذكر محمد بْن خالد المربعي، أن إبراهيم لما ظهر على البصرة ثم أراد الخروج إلى ناحية الكوفة، استخلف على البصرة نميلة بن مره العبشمى، وامر بتوجيه المغيرة بْن الفزع أحد بني بهدلة بْن عوف إلى الأهواز، وعليها يومئذ محمد بْن الحصين العبدي، ووجه إبراهيم إلى فارس عمرو بْن شداد عاملا عليها، فمر برام هرمز بيعقوب بْن الفضل وهو بها، فاستتبعه، فشخص معه حتى قدم فارس، وبها إسماعيل بْن علي بْن عبد الله عاملا عليها من قبل أبي جعفر، ومعه أخوه عبد الصمد بْن علي، فلما بلغ إسماعيل بْن علي وعبد الصمد إقبال عمرو بْن شداد ويعقوب بْن الفضل- وكانا بإصطخر- بادرا إلى دارابجرد، فتحصنا بها، فصارت فارس في يد عمرو بْن شداد ويعقوب بْن الفضل، فصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم.
وحدثت عن سليمان بْن أبي شيخ، قَالَ: لما ظهر إبراهيم بالبصرة، أقبل الحكم بْن أبي غيلان اليشكري في سبعة عشر ألفا حتى دخل واسطا، وبها هارون بْن حميد الإيادي من قبل أبي جعفر، فدخل هارون تنورا في القصر حتى أخرج منه، وأتى أهل واسط حفص بن عمر بن حفص بن عمر ابن عبد الرحمن بْن الحارث بْن هشام بْن المغيرة، فقالوا له: أنت أولى من هذا الهجيمي، فأخذها حفص، وخرج منها اليشكري، وولى حفص شرطه أبا مقرن الهجيمي

(7/636)


وذكر عمر بْن عبد الغفار بْن عمرو الفقيمي، ابن أخي الفضل بْن عمرو الفقيمي، قَالَ: كان إبراهيم واجدا على هارون بْن سعد، لا يكلمه، فلما ظهر إبراهيم قدم هارون بْن سعد، فأتى سلم بْن أبي واصل، فقال له: أخبرني عن صاحبك، أما به إلينا حاجة في أمره هذا! قَالَ: بلى لعمر الله ثم قام فدخل على إبراهيم، فقال: هذا هارون بْن سعد قد جاءك، قَالَ: لا حاجة لي به، قَالَ: لا تفعل، في هارون تزهد، فلم يزل به حتى قبله، وأذن له فدخل عليه، فقال له هارون: استكفني أهم أمورك إليك، فاستكفاه واسطا، واستعمله عليها.
قَالَ سليمان بْن أبي شيخ: حدثني أبو الصعدي، قَالَ: أتانا هارون بْن سعد العجلي من أهل الكوفة، وقد وجهه إبراهيم من البصرة، وكان شيخا كبيرا، وكان أشهر من معه من أهل البصرة الطهوي، وكان معه ممن يشبه الطهوي في نجدته من أهل واسط عبد الرحيم الكلبي، وكان شجاعا، وكان ممن قدم به- أو قدم عليه- عبدويه كردام الخراساني وكان من فرسانهم صدقة بْن بكار، وكان منصور بْن جمهور يقول: إذا كان معي صدقة بْن بكار فما أبالي من لقيت! فوجه أبو جعفر إلى واسط لحرب هارون بْن سعد عامر بْن إسماعيل المسلي في خمسة آلاف في قول بعضهم، وقال بعضهم:
في عشرين ألفا، وكانت بينهم وقعات.
وذكر عن ابن أبي الكرام، أنه قَالَ: قدمت على أبي جعفر برأس محمد، وعامر بْن إسماعيل بواسط محاصر هارون بْن سعد، وكانت الحرب بين أهل واسط وأصحاب أبي جعفر قبل شخوص إبراهيم من البصرة، فذكر سليمان بْن أبي شيخ، قَالَ: عسكر عامر بْن إسماعيل من وراء النيل، فكانت أول حرب جرت بينه وبين هارون، فضربه عبد سقاء وجرحه وصرعه وهو لا يعرفه، فأرسل إليه أبو جعفر بظبية فيها صمغ عربي، وقال: داو بها جراحتك، فالتقوا غير مرة، فقتل من أهل البصرة وأهل واسط خلق كثير، وكان هارون ينهاهم عن القتال، ويقول: لو لقي صاحبنا صاحبهم تبين لنا الأمر، فاستبقوا أنفسكم، فكانوا لا يفعلون فلما شخص إبراهيم إلى باخمري كف الفريقان من أهل واسط وعامر بْن إسماعيل، بعضهم عن بعض، وتوادعوا على

(7/637)


ترك الحرب إلى أن يلتقي الفريقان، ثم يكونوا تبعا للغالب، فلما قتل إبراهيم أراد عامر بْن إسماعيل دخول واسط، فمانعه أهلها الدخول قَالَ سليمان:
لما جاء قتل إبراهيم هرب هارون بْن سعد، وصالح أهل واسط عامر بْن إسماعيل على أن يؤمنهم، فلم يثق كثير منهم بأمانه، فخرجوا منها، ودخلها عامر بْن إسماعيل، وأقام بواسط فلم يهج أحدا.
وكان عامر- فيما ذكر- صالح أهل واسط على الا يقتل أحدا بواسط، فكانوا يقتلون كل من يجدونه من أهل واسط خارجا منها، ولما وقع الصلح بين أهل واسط وعامر بعد قتل إبراهيم هرب هارون بْن سعد إلى البصرة، فتوفي قبل أن يبلغها فيما ذكر.
وقيل إن هارون بْن سعد اختفى، فلم يزل مختفيا حتى ولي محمد بْن سليمان الكوفة، فأعطاه الأمان، واستدرجه حتى ظهر، وأمره أن يفرض لمائتين من أهل بيته، فهم أن يفعل، وركب إلى محمد، فلقيه ابن عم له، فقال له:
أنت مخدوع، فرجع فتوارى حتى مات، وهدم محمد بْن سليمان داره.
قَالَ: ولم يزل إبراهيم مقيما بالبصرة بعد ظهوره بها، يفرق العمال في النواحي ويوجه الجيوش إلى البلدان، حتى أتاه نعي أخيه محمد، فذكر نصر بْن قديد، قَالَ: فرض إبراهيم فروضا بالبصرة، فلما كان قبل الفطر بثلاثة أيام، أتاه نعي أخيه محمد، فخرج بالناس إلى العيد، وهم يعرفون فيه الانكسار، وأخبر الناس بقتل محمد، فازدادوا في قتال أبي جعفر بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر، واستخلف نميلة على البصرة، وخلف ابنه حسنا معه.
قَالَ سعيد بْن هريم: حدثني أبي، قَالَ: قَالَ علي بْن داود: لقد نظرت إلى الموت في وجه إبراهيم حين خطبنا يوم الفطر، فانصرفت إلى أهلي فقلت:
قتل والله الرجل! وذكر محمد بْن معروف، عن أبيه أن جعفرا ومحمدا ابني سليمان لما شخصا من البصرة، أرسلاه إلى أبي جعفر ليخبره خبر إبراهيم، قَالَ: فأخبرته خبرهما، فقال: والله ما أدري كيف أصنع! والله ما في عسكري إلا ألفا رجل، فرقت جندي، فمع المهدي بالري ثلاثون ألفا، ومع محمد بن الاشعث

(7/638)


بأفريقية أربعون ألفا والباقون مع عيسى بْن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا.
وقال عبد الله بْن راشد: ما كان في عسكر أبي جعفر كثير أحد، ما هم إلا سودان وناس يسير، وكان يأمر بالحطب فيحزم ثم يوقد بالليل، فيراه الرائي فيحسب أن هناك ناسا، وما هي إلا نار تضرم، وليس عندها أحد.
قَالَ محمد بْن معروف بْن سويد: حدثني أبي، قَالَ: لما ورد الخبر على أبي جعفر، كتب إلى عيسى بْن موسى وهو بالمدينة: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل ودع كل ما أنت فيه، قَالَ: فلم ينشب أن قدم، فوجهه على الناس وكتب إلى سلم بْن قتيبة فقدم عليه من الري، فضمه الى جعفر ابن سليمان.
فذكر عن يوسف بْن قتيبة بْن مسلم، قَالَ: أخبرني أخي سلم بْن قتيبة ابن مسلم، قَالَ: لما دخلت على أبي جعفر قَالَ لي: اخرج، فإنه قد خرج ابنا عبد الله، فاعمد لإبراهيم ولا يرو عنك جمعه، فو الله إنهما جملا بني هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك.
قال: فو الله ما هو إلا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكر مقالته فأعجب.
قَالَ سعيد بْن سلم: فاستعمله على ميسرة الناس، وضم إليه بشار بن سلم العقيلي وأبا يحيى بن خريم وأبا هراسة سنان بْن مخيس القشيري، وكتب سلم إلى البصرة فلحقت به باهلة، عربها ومواليها، وكتب المنصور إلى المهدي وهو يومئذ بالري يأمره بتوجيه خازم بْن خزيمة إلى الأهواز، فوجهه المهدي- فيما ذكر- في أربعة آلاف من الجند، فصار إليها، وحارب بها المغيرة، فانصرف إلى البصرة، ودخل خازم الأهواز، فأباحها ثلاثا.
وذكر عن الفضل بْن العباس بْن موسى وعمر بْن ماهان، أنهما سمعا السندي يقول: كنت وصيفا أيام حرب محمد، أقوم على رأس المنصور بالمذبة، فرأيته لما كثف أمر إبراهيم وغلظ، أقام على مصلى نيفا وخمسين ليلة، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها وما تحت لحيته منها، فما غير الجبة، ولا هجر المصلى حتى فتح الله عليه، إلا أنه كان إذا ظهر

(7/639)


للناس علا الجبة بالسواد، وقعد على فراشه، فإذا بطن عاد إلى هيئته قَالَ:
فأتته ريسانة في تلك الأيام، وقد أهديت له امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بْن عيسى بْن طلحة بْن عبيد الله والأخرى أمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بْن أسيد بْن أبي العيص، فلم ينظر إليهما، فقالت:
يا أمير المؤمنين، إن هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما، وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك لهما، فنهرها، وقال: ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي أم رأسي لإبراهيم! وذكر أن محمدا وجعفر ابني سليمان كتبا إلى أبي جعفر يعلمانه بعد خروجهما من البصرة الخبر في قطعة جراب، ولم يقدرا على شيء يكتبان فيه غير ذلك، فلما وصل الكتاب إليه، فرأى قطعة جراب بيد الرسول، قَالَ:
خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم، ثم قرأ الكتاب، ودعا بعبد الرحمن الختلي وبأبي يعقوب ختن مالك بْن الهيثم، فوجههما في خيل كثيفة إليهما، وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما، وأن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما، وكتب إليهما يعجزهما ويضعفهما ويوبخهما على طمع إبراهيم في الخروج الى مصر هما فيه، واستتار خبره عنهما، حتى ظهر وكتب في آخر كتابه:
أبلغ بني هاشم عني مغلغلة ... فاستيقظوا إن هذا فعل نوام
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستنفر الحامي
وذكر عن جعفر بْن ربيعة العامري عن الحجاج بْن قتيبة بْن مسلم، قَالَ:
دخلت على المنصور أيام حرب محمد وإبراهيم، وقد جاءه فتق البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد، وهو ينكت الأرض بمخصرته ويتمثل:
ونصبت نفسي للرماح درية ... إن الرئيس لمثل ذاك فعول
قَالَ: فقلت: يا امير المؤمنين، ادام أعزازك ونصرك على عدوك! أنت كما قَالَ الأعشى:
وإن حربهم أوقدت بينهم ... فحرت لهم بعد ابرادها

(7/640)


وجدت صبورا على حرها ... وكر الحروب وتردادها
فقال: يا حجاج، إن إبراهيم قد عرف وعورة جانبي وصعوبة ناحيتي، وخشونة قرني، وإنما جرأه على المسير إلي من البصرة اجتماع هذه الكور المطلة على عسكر أمير المؤمنين وأهل السواد معه على الخلاف والمعصية، وقد رميت كل كوره بحجرها وكل ناحية بسهمها، ووجهت إليهم الشهم النجد الميمون المظفر عيسى بْن موسى، في كثرة من العدد والعدة، واستعنت بالله عليه، واستكفيته إياه، فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.
قَالَ جعفر بْن ربيعة: قَالَ الحجاج بْن قتيبة: لقد دخلت على أمير المؤمنين المنصور في ذلك اليوم مسلما، وما أظنه يقدر على رد السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه والعساكر المحيطة به ولمائه ألف سيف كامنه له بالكوفة بإزاء عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون، فوجدته صقرا أحوزيا مشمرا، قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ويمرسها، فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنه لكما قَالَ الأول:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما
وذكر أبو عبيدة أنه كان عند يونس الجرمي، وقد وجه محمد بْن عبد الله أخاه لحرب أبي جعفر، فقال يونس: قدم هذا يريد أن يزيل ملكا، فألهته ابنة عمر بْن سلمة عما حاوله، ولقد اهديت التيميه إلى أبي جعفر في تلك الأيام، فتركها بمزجر الكلب، فما نظر إليها حتى انقضى أمر إبراهيم.
وكان إبراهيم تزوج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بْن سلمة، فكانت تأتيه في مصبغاتها وألوان ثيابها

(7/641)


فلما أراد إبراهيم الشخوص نحو أبي جعفر، دخل- فيما ذكر بشر بْن سلم- عليه نميله الطهوى وجماعة من قواده من أهل البصرة، فقالوا له:
أصلحك الله! إنك قد ظهرت على البصرة والأهواز وفارس وواسط، فأقم بمكانك، ووجه الأجناد، فإن هزم لك جند أمددتهم بجند، وإن هزم لك قائد أمددته بقائد، فخيف مكانك، واتقاك عدوك، وجبيت الأموال، وثبتت وطأتك، ثم رأيك بعد فقال الكوفيون: أصلحك الله! إن بالكوفة رجالا لو قد رأوك ماتوا دونك، وإلا يروك تقعد بهم أسباب شتى فلا يأتونك، فلم يزالوا به حتى شخص.
وذكر عن عبد الله بْن جعفر المديني، قَالَ: خرجنا مع إبراهيم إلى باخمري، فلما عسكرنا أتانا ليلة من الليالي، فقال: انطلق بنا نطف في عسكرنا قَالَ: فسمع أصوات طنابير وغناء فرجع، ثم أتاني ليلة أخرى فقال: انطلق بنا، فانطلقت معه، فسمع مثل ذلك فرجع وقال:
ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا.
وذكر عن عفان بْن مسلم الصفار، قَالَ: لما عسكر إبراهيم افترض معه رجال من جيراننا، فأتيت معسكره، فحزرت أن معه أقل من عشرة آلاف.
فأما داود بْن جعفر بْن سليمان، فإنه قَالَ: أحصي في ديوان إبراهيم من أهل البصرة مائة ألف ووجه أبو جعفر عيسى بْن موسى- فيما ذكر إبراهيم بْن موسى بْن عيسى- في خمسة عشر ألفا، وجعل على مقدمته حميد بْن قحطبة على ثلاثة آلاف فلما شخص عيسى بْن موسى نحو إبراهيم سار معه- فيما ذكر- أبو جعفر حتى بلغ نهر البصريين، ثم رجع أبو جعفر، وسار إبراهيم من معسكره بالماخور من خريبة البصرة نحو الكوفة.
فذكر بعض بني تيم الله عن أوس بْن مهلهل القطعي، قَالَ: مر بنا إبراهيم في طريقه ذلك، ومنزلنا بالقباب التي تدعى قباب أوس، فخرجت أتلقاه مع أبي وعمي، فانتهينا إليه وهو على برذون له يرتاد منزلا من الأرض، قَالَ: فسمعته يتمثل أبياتا للقطامي:

(7/642)


امور لو تدبرها حليم ... إذا لنهى وهيب ما استطاعا
ومعصية الشفيق عليك مما ... يزيدك مره منه استماعا
وخبر الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
ولكن الأديم إذا تفرى ... بلى وتعيبا غلب الصناعا
فقلت للذي معي: إني لأسمع كلام رجل نادم على مسيره ثم سار فلما بلغ كرخثا قَالَ له- فيما ذكر عن سليمان بْن أبي شيخ عن عبد الواحد بْن زياد بْن لبيد- إن هذه بلاد قومي، وأنا أعلم بها، فلا تقصد قصد عيسى بْن موسى، وهذه العساكر التي وجهت إليك، ولكني أسلك بك إن تركتني طريقا لا يشعر بك أبو جعفر إلا وأنت معه بالكوفة فأبى عليه قَالَ: فإنا معشر ربيعة أصحاب بيات، فدعني أبيت أصحاب عيسى بياتا، قَالَ:
إني أكره البيات.
وذكر عن سعيد بْن هريم أن أباه أخبره، قَالَ: قلت لإبراهيم: إنك غير ظاهر على هذا الرجل حتى تأخذ الكوفة، فإن صارت لك مع تحصنه بها لم تقم له بعدها قائمة، ولي بعد بها أهيل، فدعني اسر إليها مختفيا فادعو إليك في السر ثم أجهر، فإنهم إن سمعوا داعيا إليك أجابوه، وإن سمع أبو جعفر الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان قال: فاقبل على بشير الرحال، فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ قَالَ: إنا لو وثقنا بالذي تصف لكان رأيا، ولكنا لا نأمن أن تجيبك منهم طائفة، فيرسل إليهم أبو جعفر خيلا فيطأ البريء والنطف والصغير والكبير، فتكون قد تعرضت لمأثم ذلك، ولم تبلغ منه ما أملت فقلت لبشير: أخرجت حين خرجت لقتال أبي جعفر وأصحابه، وأنت تتوقى قتل الضعيف والصغير والمرأة والرجل، أو ليس قد كان رسول الله ص يوجه السرية فيقاتل فيكون في ذلك نحو ما كرهت! فقال: إن أولئك كانوا مشركين كلهم، وهؤلاء أهل ملتنا

(7/643)


ودعوتنا وقبلتنا، حكمهم غير حكم أولئك، فاتبع إبراهيم رأيه ولم يأذن له، وسار إبراهيم حتى نزل باخمري وذكر خالد بْن أسيد الباهلي أنه لما نزلها أرسل إليه سلم بن قتيبة حكيم ابن عبد الكريم: إنك قد أصحرت، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه.
قَالَ: فدعا إبراهيم أصحابه، فعرض ذلك عليهم، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم! لا والله لا نفعل قَالَ: فنأتيه؟ قالوا: ولم وهو في أيدينا متى أردناه! فقال إبراهيم لحكيم: قد تسمع، فارجع راشدا.
فذكر إبراهيم بْن سلم أن أخاه حدثه عن أبيه، قَالَ: لما التقينا صف لهم أصحابنا، فخرجت من صفهم، فقلت لإبراهيم: إن الصف إذا انهزم بعضه تداعى، فلم يكن لهم نظام، فاجعلهم كراديس، فإن انهزم كردوس ثبت كردوس، فتنادوا: لا، إلا قتال أهل الإسلام يريدون قوله تعالى:
«يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا» وذكر يحيى بْن شكر مولى محمد بْن سليمان، قَالَ: قَالَ المضاء: لما نزلنا باخمري أتيت إبراهيم فقلت له: إن هؤلاء القوم مصبحوك بما يسد عليك مغرب الشمس من السلاح والكراع، وإنما معك رجال عراة من اهل البصره، فدعني ابيته، فو الله لأشتتن جموعه، فقال: إني أكره القتل، فقلت:
تريد الملك وتكره القتل! وَحَدَّثَنِي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: لما بلغ إبراهيم قتل أخيه محمد بْن عبد الله، خرج يريد أبا جعفر المنصور بالكوفة، فكتب أبو جعفر إلى عيسى بْن موسى يعلمه ذلك، ويأمره أن يقبل إليه، فوافاه رسول أبي جعفر وكتابه- وقد أحرم بعمرة- فرفضها، وأقبل إلى أبي جعفر، فوجهه في القواد والجند والسلاح إلى إبراهيم بْن عبد الله

(7/644)


وأقبل إبراهيم ومعه جماعة كثيرة من أفناء الناس، اكثر من جماعه عيسى ابن موسى، فالتقوا بباخمري- وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة- فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وانهزم حميد بْن قحطبة- وكان على مقدمة عيسى بْن موسى- وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى بن موسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه، ومروا منهزمين وأقبل حميد بْن قحطبة منهزما، فقال له عيسى بْن موسى: يا حميد، الله الله والطاعة! فقال: لا طاعة في الهزيمة ومر الناس كلهم حتى لم يبق منهم أحد بين يدي عيسى بْن موسى، وعسكر إبراهيم بْن عبد الله، فثبت عيسى بْن موسى في مكانه الذي كان فيه لا يزول، وهو في مائة رجل من خاصته وحشمه، فقيل له: أصلح الله الأمير! لو تنحيت عن هذا المكان حتى يثوب إليك الناس فتكر بهم! فقال:
لا أزول عن مكاني هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدي، ولا يقال:
انهزم.
وذكر عبد الرحيم بْن جعفر بْن سليمان بْن علي أن إسحاق بْن عيسى بْن علي حدثه أنه سمع عيسى بْن موسى يحدث أباه أنه قَالَ: لما أراد أمير المؤمنين توجيهي إلى إبراهيم، قَالَ: إن هؤلاء الخبثاء- يعني المنجمين- يزعمون أنك لاق الرجل، وأن لك جولة حين تلقاه، ثم يفيء إليك أصحابك، وتكون العاقبة لك قال: فو الله لكان كما قَالَ، ما هو إلا أن التقينا فهزمونا، فلقد رأيتني وما معي إلا ثلاثة أو أربعة، فأقبل علي مولى لي- كان ممسكا بلجام دابتي- فقال: جعلت فداك! علام تقيم وقد ذهب أصحابك! فقلت: لا والله، لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي ابدا وقد انهزمت عن عدوهم.
قال: فو الله لكان أكثر ما عندي أن جعلت أقول لمن مر بي ممن أعرف من المنهزمين: اقرئوا أهل بيتي مني السلام، وقولوا لهم: إني لم أجد فداء أفديكم به أعز علي من نفسي، وقد بذلتها دونكم قال: فو الله إنا لعلى ذلك والناس منهزمون ما يلوي أحد على أحد وصمد ابنا سليمان: جعفر ومحمد لإبراهيم، فخرجا عليه من ورائه، ولا يشعر من باعقابنا من أصحاب إبراهيم، حتى نظر

(7/645)


بعضهم إلى بعض، وإذا القتال من ورائهم، فكروا نحوه، وعقبنا في آثارهم راجعين، فكانت إياها قال: فسمعت عيسى بن موسى يومئذ يقول لأبي:
فو الله يا أبا العباس، لولا ابنا سليمان يومئذ لافتضحنا، وكان من صنع الله أن أصحابنا لما انهزموا يومئذ اعترض لهم نهر ذو ثنيتين مرتفعتين، فحالتا بينهم وبين الوثوب، ولم يجدوا مخاضة، فكروا راجعين بأجمعهم.
فذكر عن محمد بْن إسحاق بْن مهران، أنه قَالَ: كان بباخمري ناس من آل طلحة فمخروها على إبراهيم وأصحابه، وبثقوا الماء، فأصبح أهل عسكره مرتطمين في الماء وقد زعم بعضهم أن إبراهيم هو الذي مخر ليكون قتاله من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، فلما انهزم أصحاب إبراهيم ثبت إبراهيم وثبت معه جماعة من أصحابه يقاتلون دونه، اختلف في مبلغ عددهم، فقال بعضهم: كانوا خمسمائة، وقال بعضهم: كانوا أربعمائة، وقال بعضهم: بل كانوا سبعين.
فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: لما انهزم أصحاب عيسى بْن موسى وثبت عيسى مكانه، أقبل إبراهيم بْن عبد الله في عسكره يدنو ويدنو غبار عسكره، حتى يراه عيسى ومن معه، فبينا هم على ذلك إذا فارس قد أقبل وكر راجعا يجري نحو إبراهيم، لا يعرج على شيء، فإذا هو حميد بْن قحطبة قد غير لأمته، وعصب رأسه بعصابة صفراء، فكر الناس يتبعونه حتى لم يبق أحد ممن كان انهزم إلا كر راجعا، حتى خالطوا القوم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى قتل الفريقان بعضهم بعضا، وجعل حميد بْن قحطبة يرسل بالرءوس إلى عيسى بْن موسى إلى أن أتي برأس ومعه جماعة كثيرة وضجة وصياح، فقالوا: رأس إبراهيم بْن عبد الله، فدعا عيسى ابن موسى بْن أبي الكرام الجعفري، فأراه إياه، فقال: ليس هذا، وجعلوا يقتتلون يومهم ذلك، إلى أن جاء سهم عائر لا يدرى من رمى به، فوقع في حلق إبراهيم بْن عبد الله فنحره، فتنحى عن موقفه، فقال: انزلونى، فانزلوه

(7/646)


عن مركبه، وهو يقول: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» ، أردنا أمرا وأراد الله غيره، فأنزل إلى الأرض وهو مثخن، واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، ورأى حميد بْن قحطبة اجتماعهم، فأنكرهم فقال لأصحابه:
شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدوا عليهم، فقاتلوهم أشد القتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم، وخلصوا إليه فحزوا رأسه، فأتوا به عيسى بْن موسى، فأراه ابن أبي الكرام الجعفري، فقال: نعم، هذا رأسه، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى أبي جعفر المنصور، وكان قتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة وكان يوم قتل ابن ثمان وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وذكر عبد الحميد أنه سأل أبا صلابة: كيف قتل إبراهيم؟ قَالَ:
إني لأنظر إليه واقفا على دابة ينظر إلى أصحاب عيسى قد ولوا ومنحوه أكتافهم، ونكص عيسى بدابته القهقرى وأصحابه يقتلونهم، وعليه قباء زرد، فآذاه الحر، فحل أزرار قبائه، فشال الزرد حتى سال عن ثدييه، وحسر عن لبته، فأتته نشابة عائرة، فأصابته في لبته، فرأيته اعتنق فرسه، وكر راجعا، وأطافت به الزيدية.
وذكر إبراهيم بْن محمد بْن أبي الكرام، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: لما انهزم أصحاب عيسى تبعتهم رايات إبراهيم في آثارهم، فنادى منادي إبراهيم: ألا لا تتبعوا مدبرا، فكرت الرايات راجعة، ورآها أصحاب عيسى فخالوهم انهزموا، فكروا في آثارهم، فكانت الهزيمة.
وذكر أن أبا جعفر لما بلغته جولة أصحاب عيسى عزم على الرحيل إلى الري، فذكر سلم بْن فرقد حاجب سليمان بْن مجالد، أنه قَالَ: لما التقوا هزم أصحاب عيسى هزيمة قبيحة حتى دخل أوائلهم الكوفة، فأتاني صديق لي كوفي، فقال: أيها الرجل، تعلم والله لقد دخل أصحابك الكوفة، فهذا

(7/647)


أخو أبي هريرة في دار فلان، وهذا فلان في دار فلان، فانظر لنفسك وأهلك ومالك، قَالَ: فأخبرت بذلك سليمان بْن مجالد، فأخبر به أبا جعفر، فقال:
لا تكشفن من هذا شيئا ولا تلتفتن إليه، فإني لا آمن أن يهجم علي ما أكره، وأعدد على كل باب من أبواب المدينة إبلا ودواب، فإن أتينا من ناحية صرنا الى الناحية الأخرى فقيل لسلم: إلى أين أراد أبو جعفر؟ يذهب إن دهمه أمر.
قَالَ: كان عزم على إتيان الري، فبلغني أن نيبخت المنجم دخل على أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وسيقتل إبراهيم، فلم يقبل ذلك منه، فقال له: احبسني عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت لك فاقتلني، فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثل ببيت معقر بْن أوس ابن حمار البارقي:
فألقت عصاها واستقرت بِهَا النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
فأقطع أبو جعفر نيبخت ألفي جريب بنهر جوبر، فذكر ابو نعيم الفضل ابن دكين أن أبا جعفر لما أصبح من الليلة التي أتي فيها برأس إبراهيم- وذلك ليلة الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة- أمر برأسه فنصب رأسه في السوق.
وذكر أن أبا جعفر لما أتي برأسه فوضع بين يديه بكى حتى قطرت دموعه على خد إبراهيم، ثم قَالَ: أما والله إن كنت لهذا لكارها، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك.
وذكر عن صالح مولى المنصور أن المنصور لما أتي برأس إبراهيم بْن عبد الله وضعه بين يديه، وجلس مجلسا عاما، وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيسلم ويتناول إبراهيم فيسيء القول فيه، ويذكر منه القبيح، التماسا لرضا أبي جعفر، وأبو جعفر ممسك متغير لونه، حتى دخل جعفر بْن حنظلة البهراني، فوقف فسلم، ثم قَالَ: عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك،

(7/648)


وغفر له ما فرط فيه من حقك! فاصفر لون أبي جعفر وأقبل عليه، فقال:
أبا خالد، مرحبا وأهلا هاهنا! فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قَالَ جعفر بْن حنظلة.
وفي هذه السنة خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.
وحج بالناس في هذه السنة السري بْن عبد الله بْن الحارث بْن العباس بْن عبد المطلب وكان عامل أبي جعفر على مكة.
وكان والي المدينة في هذه السنة عبد الله بْن الربيع الحارثي، ووالي الكوفة وأراضيها عيسى بْن موسى، ووالي البصرة سلم بْن قتيبة الباهلي وكان على قضائها عباد بْن منصور، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.

(7/649)


ثم دخلت

سنة ست وأربعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر استتمام بناء بغداد وتحول ابى جعفر إليها
فمما كان فيها من ذلك استتمام أبي جعفر مدينته بغداد، ذكر محمد بْن عمر أن أبا جعفر تحول من مدينة ابن هبيرة الى بغداد في صفر سنة ست وأربعين ومائة، فنزلها وبنى مدينتها.
ذكر الخبر عن صفة بنائه إياها:
قد ذكرنا قبل السبب الباعث كان لأبي جعفر على بنائها، والسبب الذي من أجله اختار البقعة التي بنى فيها مدينته، ونذكر الآن صفة بنائه إياها.
ذكر عن رشيد أبي داود بْن رشيد أن أبا جعفر شخص إلى الكوفة حين بلغه خروج محمد بْن عبد الله، وقد هيأ لبناء مدينة بغداد ما يحتاج إليه من خشب وساج وغير ذلك، واستخلف حين شخص على إصلاح ما أعد لذلك مولى له يقال له أسلم، فبلغ أسلم أن إبراهيم بْن عبد الله قد هزم عسكر أبي جعفر، فأحرق ما كان خلفه عليه أبو جعفر من ساج وخشب، خوفا أن يؤخذ منه ذلك، إذا غلب مولاه، فلما بلغ أبا جعفر ما فعل من ذلك مولاه أسلم كتب إليه يلومه على ذلك، فكتب إليه أسلم يخبر أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه، فلم يقل له شيئا.
وذكر عن اسحق بْن إبراهيم الموصلي، عن أبيه، قَالَ: لما أراد المنصور بناء مدينة بغداد، شاور أصحابه فيها، وكان ممن شاوره فيها خالد بْن برمك، فأشار بها، فذكر عن علي بْن عصمة أن خالد بْن برمك خط مدينة أبي جعفر له، وأشار بها عليه، فلما احتاج إلى الأنقاض، قَالَ له: ما ترى في نقض بناء مدينة إيوان كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟ قَالَ: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأنه علم من أعلام الإسلام، يستدل به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما

(7/650)


هو على أمر دين، ومع هذا يا أمير المؤمنين، فإن فيه مصلى علي بْن أبي طالب صلوات الله عليه، قَالَ: هيهات يا خالد! أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد لو عمل، فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد بْن برمك، فأعلمه ما يلزمهم في نقضه وحمله، وقال: ما ترى؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، قد كنت ارى قبل الا تفعل، فاما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده، لئلا يقال: إنك قد عجزت عن هدمه فأعرض المنصور عن ذلك، وأمر الا يهدم فقال موسى بْن داود المهندس: قَالَ لي المأمون- وحدثني بهذا الحديث: يا موسى إذا بنيت لي بناء فاجعله ما يعجز عن هدمه ليبقى طلله ورسمه وذكر أن أبا جعفر احتاج إلى الأبواب للمدينة، فزعم أبو عبد الرحمن الهماني أن سليمان بْن داود كان بنى مدينة بالقرب من موضع بناء الحجاج واسطا يقال لها الزندورد، واتخذت له الشياطين لها خمسة أبواب من حديد لا يمكن الناس اليوم عمل مثلها، فنصبها عليها، فلم تزل عليها الى ان بنى الحجاج واسطا، وخربت تلك المدينة، فنقل الحجاج أبوابها فصيرها على مدينته بواسط، فلما بنى أبو جعفر المدينة أخذ تلك الأبواب فنصبها على المدينة، فهي عليها إلى اليوم وللمدينة ثمانية أبواب: أربعة داخلة وأربعة خارجة، فصار على الداخلة أربعة أبواب من هذه الخمسة، وعلى باب القصر الخارج الخامس منها، وصير على باب خراسان الخارج بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة، وصير على باب الكوفة الخارج بابا جيء به من الكوفة، كان عمله خالد بْن عبد الله القسري، وأمر باتخاذ باب لباب الشام، فعمل ببغداد، فهو أضعف الأبواب كلها وبنيت المدينة مدورة لئلا يكون الملك إذا نزل وسطها إلى موضع منها أقرب منه إلى موضع، وجعل أبوابها أربعة، على تدبير العساكر في الحروب، وعمل لها سورين، فالسور الداخل أطول من السور الخارج،

(7/651)


وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع حول القصر.
وذكر أن الحجاج بْن أرطاة هو الذي خط مسجد جامعها بأمر أبي جعفر، ووضع أساسه وقيل أن قبلتها على غير صواب وأن المصلي فيه يحتاج أن ينحرف إلى باب البصرة قليلا، وأن قبلة مسجد الرصافة أصوب من قبلة مسجد المدينة، لأن مسجد المدينة بني على القصر، ومسجد الرصافة بني قبل القصر وبني القصر عليه، فلذلك صار كذلك.
وذكر يحيى بْن عبد الخالق أن أباه حدثه أن أبا جعفر ولى كل ربع من المدينة قائدا يتولى الاستحثاث على الفراغ من بناء ذلك الربع.
وذكر هارون بْن زياد بْن خالد بْن الصلت، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ:
ولى المنصور خالد بْن الصلت النفقة على ربع من أرباع المدينة وهي تبنى.
قَالَ خالد: فلما فرغت من بناء ذلك الربع رفعت إليه جماعة النفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي علي خمسة عشر درهما، فحبسني بها في حبس الشرقية أياما حتى أديتها، وكان اللبن الذي صنع لبناء المدينة اللبنة منها ذراعا في ذراع.
وذكر عن بعضهم أنه هدم من السور الذي يلي باب المحول قطعة فوجد فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا قَالَ: فوزناها فوجدناها على ما كان مكتوبا عليها من الوزن وكانت مقاصير جماعة من قواد أبي جعفر وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة المسجد.
وذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، خال الفضل بْن الربيع، أن عيسى بْن علي شكا إلى أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المشي يشق علي من باب الرحبة إلى القصر، وقد ضعفت قَالَ: فتحمل في محفة، قَالَ: إني أستحيي من الناس، قَالَ: وهل بقي احد يستحيا منه! قَالَ:
يا أمير المؤمنين، فأنزلني منزلة راوية من الروايا، قَالَ: وهل يدخل المدينة راوية أو راكب؟ قَالَ: فأمر الناس بتحويل أبوابهم إلى فصلان الطاقات، فكان لا يدخل الرحبة أحد إلا ماشيا قَالَ: ولما أمر المنصور بسد الأبواب مما يلي الرحبة وفتحها إلى الفصلان صيرت الأسواق في طاقات المدينة الأربع،

(7/652)


في كل واحد سوق، فلم تزل على ذلك مدة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة الروم وافدا، فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة وما حولها ليرى العمران والبناء، فطاف به الربيع، فلما انصرف قَالَ: كيف رأيت مدينتي- وقد كان أصعد إلى سور المدينة وقباب الأبواب؟ قَالَ: رأيت بناء حسنا، إلا أني قد رأيت أعداءك معك في مدينتك، قَالَ: ومن هم؟ قَالَ: السوقة، قَالَ: فأضب عليها أبو جعفر، فلما انصرف البطريق أمر بإخراج السوق من المدينة، وتقدم إلى إبراهيم بْن حبيش الكوفي، وضم إليه جواس بْن المسيب اليماني مولاه، وأمرهما أن يبنيا الأسواق ناحية الكرخ، ويجعلاها صفوفا وبيوتا لكل صنف، وأن يدفعاها إلى الناس فلما فعلا ذلك حول السوق من المدينة إليها، ووضع عليهم الغلة على قدر الذرع، فلما كثر الناس بنوا في مواضع من الأسواق لم يكن رغب في البناء فيها إبراهيم بْن حبيش وجواس، لأنها لم تكن على تقديم الصفوف من أموالهم، فألزموا من الغلة أقل مما ألزم الذين نزلوا في بناء السلطان.
وذكر بعضهم أن السبب في نقل أبي جعفر التجار من المدينة إلى الكرخ وما قرب منها مما هو خارج المدينة، أنه قيل لأبي جعفر: إن الغرباء وغيرهم يبيتون فيها، ولا يؤمن أن يكون فيهم جواسيس، ومن يتعرف الأخبار، أو أن يفتح أبواب المدينة ليلا لموضع السوق، فأمر بإخراج السوق من المدينة وجعلها للشرط والحرس، وبنى للتجار بباب طاق الحراني وباب الشام والكرخ.
وذكر عن الفضل بْن سليمان الهاشمي، عن أبيه، أن سبب نقله الأسواق من مدينة السلام ومدينة الشرقية إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، أن رجلا كان يقال له أبو زكرياء يحيى بْن عبد الله، ولاه المنصور حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومائة، والسوق في المدينة، وكان المنصور يتبع من خرج مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن حسن، وقد كان لهذا المحتسب معهم سبب، فجمع على المنصور جماعة استغواهم من السفلة، فشغبوا واجتمعوا، فأرسل المنصور إليهم أبا العباس الطوسي فسكنهم، وأخذ

(7/653)


أبا زكرياء فحبسه عنده، فأمره أبو جعفر بقتله، فقتله بيده حاجب كان لأبي العباس الطوسي يقال له موسى، على باب الذهب في الرحبة بأمر المنصور، وأمر أبو جعفر بهدم ما شخص من الدور في طريق المدينة، ووضع الطريق على مقدار أربعين ذراعا، وهدم ما زاد على ذلك المقدار، وأمر بنقل الأسواق إلى الكرخ.
وذكر عن أبي جعفر أنه لما أمر بإخراج التجار من المدينة إلى الكرخ كلمه أبان بْن صدقة في بقال، فأجابه إليه على ألا يبيع إلا الخل والبقل وحده، ثم أمر أن يجعل في كل ربع بقال واحد على ذلك المثال.
وذكر عن علي بْن محمد أن الفضل بْن الربيع، حدثه أن المنصور لما فرغ من بناء قصره بالمدينة، دخله فطاف فيه، واستحسنه واستنظفه، وأعجبه ما رأى فيه، غير انه استكثره ما أنفق عليه قَالَ: ونظر إلى موضع فيه استحسنه جدا، فقال لي: اخرج إلى الربيع فقل له: اخرج إلى المسيب، فقل له: يحضرني الساعة بناء فارها قَالَ: فخرجت إلى المسيب فأخبرته، فبعث إلى رئيس البنائين فدعاه، فأدخله على أبي جعفر، فلما وقف بين يديه قَالَ له: كيف عملت لأصحابنا في هذا القصر؟ وكم أخذت من الأجرة لكل ألف آجرة ولبنة؟ فبقي البناء لا يقدر على أن يرد عليه شيئا، فخافه المسيب، فقال له المنصور: مالك لا تكلم! فقال: لا علم لي يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويحك! قل وأنت آمن من كل ما تخافه قَالَ: يا أمير المؤمنين، لا والله ما أقف عليه ولا اعلمه قال: فاخذ بيده، وقال له: تعال، لا علمك الله خيرا! وأدخله الحجرة التي استحسنها، فأراه مجلسا كان فيها، فقال له:
انظر إلى هذا المجلس وابن لي بإزائه طاقا يكون شبيها بالبيت، لا تدخل فيه خشا، قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأقبل البناء وكل من معه يتعجبون من فهمه بالبناء والهندسة، فقال له البناء: ما أحسن أن أجيء به على هذا، ولا أقوم به على الذي تريد! فقال له: فأنا أعينك عليه، قَالَ: فأمر بالآجر والجص، فجيء به، ثم أقبل يحصي جميع ما دخل في بناء الطاق من الآجر والجص، ولم يزل كذلك حتى فرغ منه في يومه وبعض اليوم الثاني،

(7/654)


فدعا بالمسيب، فقال له: ادفع إليه أجره على حسب ما عمل معك، قَالَ: فحاسبه المسيب، فأصابه خمسة دراهم، فاستكثر ذلك المنصور، وقال: لا أرضى بذلك، فلم يزل به حتى نقصه درهما، ثم أخذ المقادير، ونظر مقدار الطاق من الحجرة حتى عرفه، ثم أخذ الوكلاء والمسيب بحملان النفقات، وأخذ معه الأمناء من البنائين والمهندسين حتى عرفوه قيمة ذلك، فلم يزل يحسبه شيئا شيئا، وحملهم على ما رفع في أجرة بناء الطاق، فخرج على المسيب مما في يده ستة آلاف درهم ونيف، فأخذه بها واعتقله، فما برح من القصر حتى أداها إليه.
وذكر عن عيسى بْن المنصور أنه قَالَ: وجدت في خزائن أبي المنصور في الكتب أنه أنفق على مدينة السلام وجامعها وقصر الذهب بها والأسواق والفصلان والخنادق وقبابها وأبوابها اربعه آلاف الف وثمانمائه وثلاثة وثلاثين درهما، ومبلغها من الفلوس مائة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أن الأستاذ من البنائين كان يعمل يومه بقيراط فضة، والروزكاري بحبتين إلى ثلاث حبات
. ذكر الخبر عن عزل مسلم بن قتيبة عن البصره
وفي هذه السنة عزل المنصور عن البصرة سلم بْن قتيبة، وولاها محمد بْن سليمان بْن علي.
ذكر الخبر عن سبب عزله إياه:
ذكر عبد الملك بْن شيبان أن يعقوب بْن الفضل بْن عبد الرحمن الهاشمي، قَالَ: كتب أبو جعفر إلى سلم بْن قتيبة لما ولاه البصرة: أما بعد، فاهدم دور من خرج مع إبراهيم، واعقر نخلهم فكتب إليه سلم: بأي ذلك أبدأ؟ أبالدور أم بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد، فقد كتبت إليك آمرك بإفساد تمرهم، فكتبت تستأذنني في أية تبدأ به بالبرني

(7/655)


أم بالشهريز! وعزله وولى محمد بْن سليمان، فقدم فعاث.
وذكر عن يونس بْن نجدة، قَالَ: قدم علينا سلم بْن قتيبة أميرا بعد الهزيمة وعلى شرطه أبو برقة يزيد بْن سلم، فأقام بها سلم أشهرا خمسة، ثم عزل، وولى علينا محمد بْن سليمان.
قَالَ عبد الملك بْن شيبان: هدم محمد بْن سليمان لما قدم دار يعقوب بْن الفضل، ودار أبي مروان في بني يشكر، ودار عون بْن مالك، ودار عبد الواحد ابن زياد، ودار الخليل بْن الحصين في بني عدي، ودار عفو الله بْن سفيان، وعقر نخلهم.
وغزا الصائفة في هذه السنة جعفر بْن حنظلة البهراني وفي هذه السنة عزل عن المدينة عبد الله بْن الربيع، وولي مكانه جعفر ابن سليمان، فقدمها في شهر ربيع الأول وعزل أيضا في هذه السنة عن مكة السري بن عبد الله، ووليها عبد الصمد ابن علي.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، كذلك قَالَ محمد بن عمر وغيره.
تم الجزء السابع من تاريخ الطبرى ويليه الجزء الثامن، واوله: ذكر حوادث سنه سبع واربعين ومائه

(7/656)


الجزء الثامن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ثم دخلت

سنة سبع وأربعين ومائة
(ذكر الأخبار عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك اغاره استر خان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة خلقا كثيرا، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بْن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد وكان حرب هذا- فيما ذكر- مقيما بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة وكان أبو جعفر حين بلغه نحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بْن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه، فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، واصيب من المسلمين من ذكرت.

ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن على بن عباس
وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن على بْن عباس واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بْن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بْن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بْن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله بْن علي سرا في جوف الليل، ثم قَالَ له: يا عيسى، إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت

(8/7)


ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله: ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به، فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بْن على، وكان عيسى حين دفعه إليه ستره، ودعا كاتبه يونس بْن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه، وأمرني فيه بكذا وكذا فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرا، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به قَالَ: فما الرأي؟
قَالَ: الرأي ان تستره في منزلك، فلا نطلع على أمره أحدا، فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية، ولا تدفعه إليه سرا أبدا، فإنه وإن كان أسره إليك، فإن أمره سيظهر ففعل ذلك عيسى.
وقدم المنصور ودس إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بْن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم، وأظهروا له رقة، فقال: نعم، علي بعيسى بْن موسى، فأتاه فقال له: يا عيسى، قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بْن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قَالَ: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فقد كلمني عمومتك فيه، فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله، فأتنا به فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قَالَ:
ما أمرتك بقتله، إنما أمرتك بحبسه في منزلك قَالَ: قد أمرتني بقتله، قَالَ له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله ثم قَالَ لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قَالَ: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى:
أفاعل أنت؟ قَالَ: أي والله، قَالَ: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته قَالَ: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمرا فخشيته، فكان كما خشيت، شأنك وعمك قَالَ: يدخل حتى

(8/8)


أرى رأيي ثم انصرفوا ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجرى في أساسه الماء، فسقط عليه فمات، فكان من أمره ما كان وتوفي عبد الله بْن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن فيها.
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى بْن المنصور بْن بريه أنه قَالَ: كانت وفاة عبد الله بْن علي في الحبس سنة سبع وأربعين ومائة، وهو ابن اثنتين وخمسين سنة.
قَالَ إبراهيم بْن عيسى: لما توفي عبد الله بْن علي ركب المنصور يوما ومعه عبد الله بْن عياش، فقال له وهو يجاريه: اتعرف ثلاثة خلفاء، اسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قَالَ: لا أعرف إلا ما تقول العامة، إن عليا قتل عثمان- وكذبوا- وعبد الملك بْن مروان قتل عبد الرحمن بْن محمد بْن الأشعث، وعبد الله بْن الزبير وعمرو بْن سعيد وعبد الله بْن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله بْن علي البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت ان لك ذنبا
. ذكر خبر البيعه للمهدي وخلع عيسى بن موسى
وفي هذه السنة خلع المنصور عيسى بْن موسى وبايع لابنه المهدي، وجعله ولي عهد من بعده وقال بعضهم: ثم من بعده عيسى بْن موسى.
ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه وكيف كان الأمر في ذلك:
اختلف في الذي وصل به أبو جعفر إلى خلعه، فقال بعضهم: السبب الذي وصل به أبو جعفر إلى ذلك هو أن أبا جعفر أقر عيسى بْن موسى بعد وفاة أبي العباس على ما كان أبو العباس ولاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرما مجلا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدي عن يساره، فكان ذلك فعله به، حتى عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه وكان أبو العباس جعل الأمر من بعده لأبي جعفر، ثم من بعد

(8/9)


أبي جعفر لعيسى بْن موسى، فلما عزم المنصور على ذلك كلم عيسى بْن موسى في تقديم ابنه عليه برفيق من الكلام، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين، فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين لي من العتق والطلاق وغير ذلك من مؤكد الإيمان! ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين فلما رأى أبو جعفر امتناعه، تغير لونه وباعده بعض المباعدة، وأمر بالإذن للمهدي قبله، فكان يدخل فيجلس عن يمين المنصور في مجلس عيسى، ثم يؤذن العيسى فيدخل فيجلس دون مجلس المهدي عن يمين المنصور أيضا، ولا يجلس عن يساره في المجلس الذي كان يجلس فيه المهدي، فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فيأمر بالإذن للمهدي ثم يأمر بعده بالإذن لعيسى بْن علي، فيلبث هنيهة، ثم عبد الصمد بْن علي، ثم يلبث هنيهة، ثم عيسى بْن موسى.
فإذا كان بعد ذلك قدم في الإذن للمهدي على كل حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدم بعض من أخر ويؤخر بعض من قدم ويوهم عيسى ابن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره، ثم يؤذن لعيسى بْن موسى من بعدهم، وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئا، ولا يستعتب ثم صار إلى أغلظ من ذلك، فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفر في أصل الحائط فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحويل، ويقوم هو فيصلي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه، فإذا رآه المنصور قَالَ له: يا عيسى، ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكل هذا من الشارع؟
فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين، وانما يكلمه المنصور بذلك ليستطمعه أن يشكو إليه شيئا فلا يشكو، وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي

(8/10)


اراد منه عيسى بْن علي، فكان عيسى بْن موسى لا يحمد منه مدخله فيه، كأنه كان يغري به فقيل: إنه دس لعيسى بْن موسى بعض ما يتلفه، فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قَالَ: أجد غمزا يا أمير المؤمنين، قَالَ: ففي الدار إذا! قَالَ: الذي أجده أشد مما أقيم معه في الدار، قَالَ: فإلى أين؟ قَالَ: إلى المنزل، ونهض فصار إلى حراقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحراقة متفزعا له، فاستأذنه عيسى في المسير الى الكوفه، فقال: بل تقيم فتعالج هاهنا، فأبى وألح عليه، فأذن له وكان الذي جرأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرئيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحج في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله.
وتقارب وقت الحج، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعى الرصافة، فأقام بها أياما، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحج، واعتل بقلة الماء في الطريق.
وبلغت العلة من عيسى بْن موسى كل مبلغ، حتى تمعط شعره، ثم أفاق من علته تلك فقال فيه يحيى بْن زياد بْن أبي حزابة البرجمي أبو زياد:
أفلت من شربة الطبيب كما ... افلت ظبى الصريم من قتره
من قانص ينفذ الفريص إذا ... ركب سهم الحتوف في وتره
دافع عنك المليك صولة ليث ... يريد الأسد في ذرى خمره
حتى أتانا وفيه داخلة ... تعرف في سمعه وفي بصره
أزعر قد طار عن مفارقه ... وحف أثيث النبات من شعره
وذكر أن عيسى بْن علي كان يقول للمنصور: إن عيسى بْن موسى إنما يمتنع من البيعة للمهدي لأنه يربص هذا الأمر لابنه موسى، فموسى

(8/11)


الذي يمنعه فقال المنصور لعيسى بْن علي: كلم موسى بْن عيسى وخوفه على أبيه وعلى ابنه، فكلم عيسى بْن علي موسى في ذلك، فأيأسه، فتهدده وحذره غضب المنصور فلما وجل موسى وأشفق وخاف أن يقع به المكروه، أتى العباس بْن محمد، فقال: أي عم، إني مكلمك بكلام، لا والله ما سمعه مني أحد قط، ولا يسمعه أحد أبدا، وإنما أخرجه مني إليك موضع الثقة بك والطمأنينة إليك، وهو أمانة عندك، فإنما هي نفسي أنثلها في يدك قَالَ: قل يا بن أخي، فلك عندي ما تحبه، قَالَ: أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدي، فهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فيتهدد مرة ويؤخر إذنه مرة، وتهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة فأبي لا يعطى على هذا شيئا، لا يكون ذلك ابدا، ولكن هاهنا وجها، فلعله يعطى عليه إن أعطى وإلا فلا، قال: فما هو يا بن أخي؟
فإنك قد اصبت ووفقت، قَالَ: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له:
يا عيسى، إني أعلم أنك لست تضن بهذا الأمر على المهدي لنفسك، لتعالي سنك وقرب أجلك، فإنك تعلم أنه لا مدة لك تطول فيه، وإنما تضن به لمكان ابنك موسى، أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك ويبقى ابني معه فيلي عليه! كلا والله لا يكون ذلك أبدا، ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه، وآمن أن يلي على ابني أترى ابنك آثر عندي من ابني! ثم يأمر بي، فإما خنقت وإما شهر علي سيف فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل بهذا السبب، فأما بغيره فلا فقال العباس: جزاك الله يا بن أخي خيرا، فقد فديت أباك بنفسك، وآثرت بقاءه على حظك، نعم الرأي رأيت، ونعم المسلك سلكت! ثم أتى أبا جعفر فأخبره الخبر، فجزى المنصور موسى خيرا، وقال:
قد أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به إن شاء الله، فلما اجتمعوا وعيسى ابن علي حاضر، أقبل المنصور على عيسى بْن موسى، فقال: يا عيسى، إني

(8/12)


لا أجهل مذهبك الذي تضمره، ولا مداك الذي تجري إليه في الأمر الذي سألتك، انما تريد هذا الأمر لابنك هذا المشئوم عليك وعلى نفسه، فقال عيسى بْن علي: يا أمير المؤمنين، غمزني البول، قَالَ: فندعو لك بإناء تبول فيه، قَالَ: أفي مجلسك يا أمير المؤمنين! ذاك ما لا يكون، ولكن أقرب البلاليع مني أدل عليها فآتيها فامر من يدله، فانطلق فقال عيسى ابن موسى لابنه موسى: قم مع عمك، فاجمع عليه ثيابه من ورائه، وأعطه منديلا إن كان معك ينشف به، فلما جلس عيسى يبول جمع موسى عليه ثيابه من ورائه وهو لا يراه، فقال: من هذا؟ فقال: موسى بْن عيسى، فقال: بأبي أنت وبأبي أب ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به، ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى في نفسه: أمكنني والله هذا من مقاتله، وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه بما قَالَ لي، ثم لا أبالي أن يقتلني أمير المؤمنين بعده، بل يكون في قتله عزاء لأبي وسلو عني إن قتلت فلما رجعا إلى موضعهما قَالَ موسى: يا أمير المؤمنين، أذكر لأبي أمرا؟ فسره ذلك، وظن أنه يريد أن يذاكره بعض أمرهم، فقال:
قم، فقام إليه، فقال: يا أبت، إن عيسى بْن علي قد قتلك وإياي قتلات بما يبلغ عنا، وقد أمكنني من مقاتله، قَالَ: وكيف؟ قَالَ:
قَالَ لي كيت وكيت، فأخبر أمير المؤمنين فيقتله، فتكون قد شفيت نفسك وقتلته قبل أن يقتلك وإياي ثم لا نبالي ما كان بعد فقال: أف لهذا رأيا ومذهبا! ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها، فجعلتها سببا لمكروهه وتلفه! لا يسمعن هذا منك أحد، وعد إلى مجلسك فقام فعاد، وانتظر أبو جعفر أن يرى لقيامه إلى أبيه وكلامه أثرا فلم يره، فعاد إلى وعيده الأول وتهدده، فقال: أما والله لاعجلن لك فيه ما يسوءك ويوئسك من بقائه بعدك، أيا ربيع، قم إلى موسى فاخنقه بحمائله، فقام الربيع فضم حمائله عليه، فجعل يخنقه بها خنقا رويدا، وموسى يصيح: الله الله يا أمير المؤمنين في وفي دمي! فإني لبعيد مما تظن بي، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر نفرا ذكرا-

(8/13)


كلهم عنده مثلي- أو يتقدمني، وهو يقول: اشدد يا ربيع، ائت على نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه، وهو يراخي خناقه، وموسى يصيح، فلما راى ذاك عيسى قَالَ: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الأمر يبلغ منك هذا كله فمر بالكف عنه، فإني لم أكن لأرجع إلى أهلي، وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بابني! فها أنا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك في سبيل الله، تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين، وهذه يدي بالبيعة للمهدي فأخذ بيعته له على ما أحب ثم قَالَ: يا أبا موسى، إنك قد قضيت حاجتي هذه كارها، ولي حاجة أحب أن تقضيها طائعا، فتغسل بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قَالَ: وما هي يا أمير المؤمنين؟
قَالَ: تجعل هذا الأمر من بعد المهدي لك، قَالَ: ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتى قَالَ: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم فقال بعض أهل الكوفة- ومر عليه عيسى في موكبه: هذا هذا الذي كان غدا، فصار بعد غد وهذه القصة- فيما قيل- منسوبة إلى آل عيسى أنهم يقولونها.
وأما الذي يحكى عن غيرهم في ذلك، فهو أن المنصور أراد البيعة للمهدي، فكلم الجند في ذلك، فكانوا إذا رأوا عيسى راكبا أسمعوه ما كره، فشكا ذلك إلى المنصور، فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخي، فإنه جلدة بين عيني، ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم، فكانوا يكفون ثم يعودون، فمكث بذلك زمانا، ثم كتب إلى عيسى:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى بْن موسى سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ.
أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لله ذي المن القديم، والفضل العظيم، والبلاء الحسن الجميل، الذي ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره، فلا يبلغ مخلوق كنه حقه، ولا ينال في عظمته كنه ذكره، يدبر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته، لا قاضي فيها غيره، ولا نفاذ لها إلا به، يجريها على أذلالها، لا يستأمر

(8/14)


فيها وزيرا، ولا يشاور فيها معينا، ولا يلتبس عليه شيء أراده، يمضي قضاؤه فيما أحب العباد وكرهوا، لا يستطيعون منه امتناعا، ولا عن أنفسهم دفاعا، رب الأرض ومن عليها، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
ثم إنك قد علمت الحال التي كنا عليها في ولاية الظلمة، كيف كانت قوتنا وحيلتنا، لما اجترأ عليه أهل بيت اللعنه فيما أحببنا وكرهنا، فصبرنا أنفسنا على ما دعونا إليه من تسليم الأمور إلى من أسندوها إليه، واجتمع رأيهم عليه، نسام الخسف، ونوطأ بالعسف، لا ندفع ظلما، ولا نمنع ضيما، ولا نعطي حقا، ولا ننكر منكرا، ولا نستطيع لها ولا لأنفسنا نفعا، حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى مدته، وأذن الله في هلاك عدوه، وارتاح بالرحمه لأهل بيت نبيه ص، فابتعث الله لهم أنصارا يطلبون بثأرهم، ويجاهدون عدوهم، ويدعون إلى حبهم، وينصرون دولتهم، من أرضين متفرقة، وأسباب مختلفة، وأهواء مؤتلفة، فجمعهم الله على طاعتنا، وألف بين قلوبهم بمودتنا على نصرتنا، وأعزهم بنصرنا، لم نلق منهم رجلا، ولم نشهر معهم إلا ما قذف الله في قلوبهم، حتى ابتعثهم لنا من بلادهم، ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، يلقون الظفر، ويعودون بالنصر، وينصرون بالرعب، لا يلقون أحدا إلا هزموه، ولا واترا إلا قتلوه، حتى بلغ الله بنا بذلك أقصى مدانا وغاية منانا ومنتهى آمالنا وإظهار حقنا، وإهلاك عدونا، كرامة من الله جل وعز لنا، وفضلا منه علينا، بغير حول منا ولا قوة، ثم لم نزل من ذلك في نعمة الله وفضله علينا، حتى نشأ هذا الغلام، فقذف الله له في قلوب انصار الدين الذين ابتعثهم لنا مثل ابتدائه لنا أول أمرنا، وأشرب قلوبهم مودته، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا

(8/15)


لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا باسمه، ولا يعرفون إلا حقه، فلما رأى أمير المؤمنين ما قذف الله في قلوبهم من مودته، وأجرى على ألسنتهم من ذكره، ومعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ودعاء العامة إلى طاعته، أيقنت نفس أمير المؤمنين أن ذلك أمر تولاه الله وصنعه، لم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة، للذي رأى أمير المؤمنين من اجتماع الكلمة، وتتابع العامة، حتى ظن أمير المؤمنين انه لولا معرفه المهدى بحق الأبوة، لأفضت الأمور إليه وكان أمير المؤمنين لا يمنع مما اجتمعت عليه العامة، ولا يجد مناصا عن خلاص ما دعوا إليه، وكان أشد الناس على أمير المؤمنين في ذلك الأقرب فالأقرب من خاصته وثقاته من حرسه وشرطه، فلم يجد أمير المؤمنين بدا من استصلاحهم ومتابعتهم، وكان أمير المؤمنين وأهل بيته أحق من سارع إلى ذلك وحرص عليه، ورغب فيه وعرف فضله، ورجا بركته، وصدق الرواية فيه، وحمد الله إذ جعل في ذريته مثل ما سألت الأنبياء قبله، إذ قَالَ العبد الصالح: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» فوهب الله لأمير المؤمنين وليا، ثم جعله تقيا مباركا مهديا، وللنبي ص سميا، وسلب من انتحل هذا الاسم، ودعا إلى تلك الشبهة التي تحير فيها أهل تلك النية، وافتتن بها أهل تلك الشقوة، فانتزع ذلك منهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وأقر الحق قراره، وأعلن للمهدي مناره، وللدين أنصاره، فأحب أمير المؤمنين أن يعلمك الذي اجتمع عليه رأي رعيته، وكنت في نفسه بمنزلة ولده، يحب من سترك ورشدك وزينك ما يحب لنفسه وولده، ويرى لك إذا بلغك من حال ابن عمك ما ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداء ذلك من قبلك، ليعلم أنصارنا من أهل خراسان وغيرهم أنك أسرع إلى ما أحبوا مما عليه رأيهم في صلاحهم منهم إلى ذلك من أنفسهم، وإن ما كان

(8/16)


عليه من فضل عرفوه للمهدي، أو أملوه فيه، كنت أحظى الناس بذلك، وأسرهم به لمكانه وقرابته، فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد والسلام عليك ورحمة الله.
فكتب إليه عيسى بْن موسى جوابها:
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين من عيسى بْن موسى سلام عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ورحمة اللَّه، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أَمَّا بَعْدُ فقد بلغني كتابك تذكر فِيهِ ما أجمعت عليه من خلاف الحق وركوب الإثم في قطيعة الرحم، ونقض ما أخذ الله عليه من الميثاق من العامة بالوفاء للخلافة والعهد لي من بعدك، لتقطع بذلك ما وصل الله من حبله، وتفرق بين ما ألف الله جمعه، وتجمع بين ما فرق الله أمره، مكابرة لله في سمائه، وحولا على الله في قضائه، ومتابعة للشيطان في هواه، ومن كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ما كره عن شيء خدعه، ومن توكل على الله منعه، ومن تواضع لله رفعه إن الذي أسس عليه البناء، وخط عليه الحذاء من الخليفة الماضي عهد لي من الله، وأمر نحن فيه سواء، ليس لأحد من المسلمين فيه رخصة دون أحد، فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حل من الآخر شيء فما حرم ذلك من الأول، بل الأول الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمل فيه أسرع، وكان الحق أولى بالذي اراد ان يصنع أولا، فلا يدعوك إلى الأمن من البلاء اغترار بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء، فإن من أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحل ذلك مني، لم يحرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنته الرخصه أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي اسست من ذلك ابخع.
فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين.
فإن الله جل وعز زائد من شكره، وعدا منه حقا لا خلف فيه، فمن راقب الله حفظه، ومن أضمر خلافه خذله، والله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما

(8/17)


تُخْفِي الصُّدُورُ ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي، فإن تعجل بي أمر كنت قد كفيت مئونة ما اغتممت له، وسترت قبح ما أردت إظهاره، وإن بقيت بعدك لم تكن اوغرت صدري، وقطعت رحمي، ولا أظهرت أعدائي في اتباع أثرك، وقبول أدبك، وعمل بمثالك.
وذكرت أن الأمور كلها بيد الله، هو مدبرها ومقدرها ومصدرها عن مشيئته، فقد صدقت، إن الأمور بيد الله، وقد حق على من عرف ذلك ووصفه العمل به والانتهاء إليه واعلم أنا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعا، ولا دفعنا عنها ضرا، ولا نلنا الذي عرفته بحولنا ولا قوتنا، ولو وكلنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعفت قوتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا، ولكن الله إذا أراد عزما لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عقده، أحكم إبرامه، وأبرم أحكامه، ونور إعلانه، وثبت أركانه، حين أسس بنيانه، فلا يستطيع العباد تأخير ما عجل، ولا تعجيل ما أخر، غير أن الشيطان عدو مضل مبين، قد حذر الله طاعته، وبين عداوته، ينزع بين ولاة الحق وأهل طاعته، ليفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا، وقد قَالَ الله عز وجل في كتابه: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ووصف الذين اتقوا فقال: «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ، فأعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يكون نيته وضمير سريرته

(8/18)


خلاف ما زين الله به جل وعز من كان قبله، فإنه قد سألتهم أبناؤهم، ونازعتهم أهواؤهم، إلى مثل الذي هم به أمير المؤمنين، فآثروا الحق على ما سواه، وعرفوا أن الله لا غالب لقضائه، ولا مانع لعطائه، ولم يأمنوا مع ذلك تغيير النعم وتعجيل النقم، فآثروا الآجلة، وقبلوا العاقبة، وكرهوا التغيير، وخافوا التبديل، فأظهروا الجميل، فتمم الله لهم أمورهم، وكفاهم ما أهمهم، ومنع سلطانهم، وأعز أنصارهم، وكرم أعوانهم، وشرف بنيانهم، فتمت النعم، وتظاهرت المنن، فاستوجبوا الشكر، فتم أمر الله وهم كارهون.
والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله.
فلما بلغ أبا جعفر المنصور كتابه أمسك عنه، وغضب غضبا شديدا، وعاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون، منهم أسد بْن المرزبان وعقبة بْن سلم ونصر بْن حرب بْن عبد الله، في جماعة، فكانوا يأتون باب عيسى، فيمنعون من يدخل إليه، فإذا ركب مشوا خلفه وقالوا: أنت البقره التي قال الله:
«فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» ، فعاد فشكاهم، فقال له المنصور:
يا بن أخي، أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي، قد أشربوا حب هذا الفتى، فلو قدمته بين يديك فيكون بيني وبينك لكفوا فأجاب عيسى إلى أن يفعل.
وذكر عن إسحاق الموصلي، عن الربيع، أن المنصور لما رجع إليه من عند عيسى جواب كتابه الذي ذكرنا، وقع في كتابه: اسل عنها تنل منها عوضا في الدنيا، وتأمن تبعتها في الآخرة.
وقد ذكر في وجه خلع المنصور عيسى بْن موسى قول غير هذين القولين، وذلك ما ذكره أبو محمد المعروف بالأسواري بْن عيسى الكاتب، قَالَ: أراد أبو جعفر أن يخلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، ويقدم المهدي عليه، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وأعيا الأمر أبا جعفر فيه، فبعث إلى خالد بْن برمك، فقال له: كلمه يا خالد، فقد ترى امتناعه من البيعه

(8/19)


للمهدي، وما قد تقدمنا به في أمره، فهل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل، وضل عنا الرأي! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تضم إلي ثلاثين رجلا من كبار الشيعة، ممن تختاره قَالَ: فركب خالد بْن برمك، وركبوا معه، فساروا إلى عيسى بْن موسى، فأبلغوه رسالة أبي جعفر المنصور، فقال:
ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله عز وجل الأمر لي، فأداره خالد بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه، فخرج خالد عنه وخرجت الشيعة بعده، فقال لهم خالد: ما عندكم في أمره؟ قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره بما كان منا ومنه، قَالَ: لا، ولكنا نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه أن أنكره، قالوا له: افعل، فإنا نفعل، فقال لهم: هذا هو الصواب، وأبلغ أمير المؤمنين فيما حاول وأراد.
قَالَ: فساروا إلى أبي جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنه قد أجاب، فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدي، وكتب بذلك الى الافاق، قال: واتى عيسى ابن موسى لما بلغه الخبر أبا جعفر منكرا لما ادعي عليه من الإجابة إلى تقديم المهدي على نفسه، وذكره الله فيما قد هم به فدعاهم أبو جعفر، فسألهم فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب، وليس له أن يرجع، فأمضى أبو جعفر الأمر، وشكر لخالد ما كان منه، وكان المهدي يعرف ذلك له، ويصف جزالة الرأي منه فيه.
وذكر عن علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سليم مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: إني لأسير مع سليمان بْن عبد الله بْن الحارث بْن نوفل، وقد عزم أبو جعفر على أن يقدم المهدي على عيسى بْن موسى في البيعة، فإذا نحن بأبي نخيلة الشاعر، ومعه ابناه وعبداه، وكل واحد منهما يحمل شيئا من متاع، فوقف عليهم سليمان بْن عبد الله، فقال: أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى؟ وما هذه الحال التي أنت فيها؟
قَالَ: كنت نازلا على القعقاع- وهو رجل من آل زرارة، وكان يتولى

(8/20)


لعيسى بْن موسى الشرطة- فقال لي: اخرج عني، فإن هذا الرجل قد اصطنعني، وقد بلغني أنك قلت شعرا في هذه البيعة للمهدي، فأخاف أن يبلغه ذلك أن يلزمني لائمة لنزولك علي، فأزعجني حتى خرجت قَالَ: فقال لي: يا عبد الله، انطلق بأبي نخيلة فبوئه في منزلي موضعا صالحا، واستوص به وبمن معه خيرا ثم خبر سليمان بْن عبد الله أبا جعفر بشعر أبي نخيلة الذي يقول فيه:
عيسى فزحلفها إلى محمد ... حتى تؤدي من يد إلى يد
فيكم وتغني وهي في تزيد ... فقد رضينا بالغلام الأمرد
قَالَ: فلما كان في اليوم الذي بايع فيه أبو جعفر لابنه المهدي وقدمه على عيسى، دعا بأبي نخيلة، فأمره فأنشد الشعر، فكلمه سليمان بْن عبد الله، وأشار عليه في كلامه أن يجزل له العطية، وقال: إنه شيء يبقى لك في الكتب، ويتحدث الناس به على الدهر، ويخلد على الأيام، ولم يزل به حتى أمر له بعشرة آلاف درهم وذكر عن حيان بْن عبد الله بْن حبران الحماني، قَالَ: حدثني أبو نخيلة، قَالَ: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرا لا أصل إليه، حتى قَالَ لي ذات يوم عبد الله بْن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يرشح ابنه للخلافه والعهد، وهو على تقدمته بين يدي عيسى بْن موسى، فلو قلت شيئا تحثه على ذلك، وتذكر فضل المهدي، كنت بالحري أن تصيب منه خيرا ومن ابنه، فقلت:

(8/21)


دونك عبد الله أهل ذاكا ... خلافة الله التي أعطاكا
أصفاك أصفاك بها أصفاكا ... فقد نظرنا زمنا أباكا
ثم نظرناك لها إياكا ... ونحن فيهم والهوى هواكا
نعم، فنستذري إلى ذراكا ... أسند إلى محمد عصاكا
فابنك ما استرعيته كفاكا ... فأحفظ الناس لها أدناكا
فقد جفلت الرجل والأوراكا ... وحكت حتى لم أجد محاكا
ودرت في هذا وذا وذاكا ... وكل قول قلت في سواكا
زور وقد كفر هذا ذاكا.
وقلت أيضا كلمتي التي أقول فيها:
إلى أمير المؤمنين فاعمدي ... سيري إلى بحر البحور المزبد
أنت الذى يا بن سمى احمد ... ويا بن بيت العرب المشيد
بل يا أمين الواحد المؤبد ... إن الذي ولاك رب المسجد
أمسى ولي عهدها بالأسعد ... عيسى فزحلفها إلى محمد
من قبل عيسى معهدا عن معهد ... حتى تؤدي من يد إلى يد
فيكم وتغني وهي في تزيد ... فقد رضينا بالغلام الأمرد
بل قد فرغنا غير أن لم نشهد ... وغير أن العقد لم يؤكد
فلو سمعنا قولك امدد امدد ... كانت لنا كدعقة الورد الصدي

(8/22)


فبادر البيعة ورد الحشد ... تبين من يومك هذا أو غد
فهو الذي تم فما من عند ... وزاد ما شئت فزده يزدد
ورده منك رداء يرتد ... فهو رداء السابق المقلد
قد كان يروى أنها كأن قد ... عادت ولو قد فعلت لم تردد
فهي ترامى فدفدا عن فدفد ... حينا، فلو قد حان ورد الورد
وحان تحويل الغوي المفسد ... قَالَ لها الله هلمي وارشدي
فأصبحت نازلة بالمعهد ... والمحتد المحتد خير المحتد
لم يرم تذمار النفوس الحسد ... بمثل قرم ثابت مؤيد
لما انتحوا قدحا بزند مصلد ... بلوا بمشزور القوى المستحصد
يزداد إيقاظا على التهدد ... فداولوا باللين والتعبد
صمصامة تأكل كل مبرد.
قَالَ: فرويت وصارت في أفواه الخدم، وبلغت أبا جعفر، فسأل عن قائلها، فأخبر أنها لرجل من بني سعد بْن زيد مناة، فأعجبه، فدعاني فأدخلت عليه، وإن عيسى بْن موسى لعن يمينه، والناس عنده، ورءوس القواد والجند، فلما كنت بحيث يراني، ناديت: يا أمير المؤمنين، أدنني منك حتى أفهمك وتسمع مقالتي فأومأ بيده، فأدنيت حتى كنت قريبا منه، فلما صرت بين يديه قلت- ورفعت صوتي- أنشده من هذا الموضع، ثم رجعت إلى أول

(8/23)


الأرجوزه، فأنشدتها من أولها إلى هذا الموضع أيضا، فأعدت عليه حتى أتيت على آخرها، والناس منصتون، وهو يتسار بما أنشده، مستمعا له، فلما خرجنا من عنده إذا رجل واضع يده على منكبي، فالتفت فإذا عقال بْن شبة يقول: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين، فإن التأم الأمر على ما تحب وقلت، فلعمري لتصيبن منه خيرا وإن يك غير ذلك، فابتغ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ قَالَ: فكتب له المنصور بصلة إلى الري، فوجه عيسى في طلبه، فلحق في طريقه، فذبح وسلخ وجهه.
وقيل: قتل بعد ما انصرف من الري، وقد أخذ الجائزة.
وذكر عن الوليد بْن محمد العنبري أن سبب إجابة عيسى أبا جعفر إلى تقديم المهدي عليه كان أن سلم بْن قتيبة قَالَ له: أيها الرجل بايع، وقدمه على نفسك، فإنك لن تخرج من الأمر، قد جعل لك الأمر من بعده وترضي أمير المؤمنين قَالَ: أو ترى ذلك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فإني أفعل، فأتى سلم المنصور فأعلمه إجابة عيسى، فسر بذلك وعظم قدر سلم عنده.
وبايع الناس للمهدي ولعيسى بْن موسى من بعده وخطب المنصور خطبته التي كان فيها تقديم المهدي على عيسى، وخطب عيسى بعد ذلك فقدم المهدي على نفسه، ووفى له المنصور بما كان ضمن له.
وقد ذكر عن بعض صحابة أبي جعفر أنه قَالَ: تذاكرنا أمر أبي جعفر المنصور وأمر عيسى بْن موسى في البيعة وخلعه إياها من عنقه وتقديمه المهدي، فقال لي رجل من القواد سماه: والله الذي لا إله غيره، ما كان خلعه إياها منه إلا برضا من عيسى وركون منه إلى الدراهم، وقلة علمه بقدر الخلافة، وطلبا للخروج منها، أتى يوم خرج للخلع فخلع نفسه، وإني لفي مقصورة مدينة السلام، إذ خرج علينا أبو عبيد الله كاتب المهدي، في جماعة من أهل خراسان، فتكلم عيسى، فقال: إني قد سلمت ولاية العهد

(8/24)


لمحمد بْن أمير المؤمنين، وقدمته على نفسي، فقال أبو عبيد الله: ليس هكذا أعز الله الأمير، ولكن قل ذلك بحقه وصدقه، وأخبر بما رغبت فيه، فأعطيت، قَالَ: نعم، قد بعت نصيبي من تقدمة ولاية العهد من عبد الله أمير المؤمنين لابنه محمد المهدى بعشره آلاف الف درهم وثلاثمائه ألف بين ولدي فلان وفلان وفلان- سماهم- وسبعمائة ألف لفلانة امرأة من نسائه- سماها- بطيب نفس مني وحب، لتصييرها إليه، لأنه أولى بها وأحق، وأقوى عليها وعلى القيام بها، وليس لي فيها حق لتقدمته، قليل ولا كثير، فما ادعيته بعد يومي هذا فأنا فيه مبطل لا حق لي فيه ولا دعوى ولا طلبة قَالَ: والله وهو في ذلك، ربما نسي الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله، حتى فرغ، حبا للاستيثاق منه وختم الكتاب وشهد عليه الشهود وأنا حاضر، حتى وضع عليه عيسى خطه وخاتمه، والقوم جميعا، ثم دخلوا من باب المقصورة إلى القصر.
قَالَ: وكسا أمير المؤمنين عيسى وابنه موسى وغيره من ولده كسوة بقيمة ألف ألف درهم ونيف ومائتي ألف درهم وكانت ولاية عيسى بْن موسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة، حتى عزله المنصور، واستعمل محمد بْن سليمان بْن علي حين امتنع من تقديم المهدي على نفسه.
وقيل: إن المنصور إنما ولى محمد بْن سليمان الكوفة حين ولاه إياها ليستخف بعيسى، فلم يفعل ذلك محمد، ولم يزل معظما له مبجلا.
وفي هذه السنة ولى أبو جعفر محمد بْن أبي العباس- ابن أخيه- البصرة فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة السلام، فمات بها، فصرخت امرأته البغوم بنت على بن الربيع: وا قتيلاه! فضربها رجل من الحرس بجلويز على عجيزتها، فتعاوره خدم لمحمد بْن أبي العباس فقتلوه، فطل دمه.
وكان محمد بْن أبي العباس حين شخص عن البصرة استخلف بها عقبة

(8/25)


ابن سلم، فأقره عليها أبو جعفر إلى سنة إحدى وخمسين ومائة.
وحج بالناس في هذه السنة المنصور.
وكان عامله فيها على مكة والطائف عمه عبد الصمد بْن علي وعلى المدينة جعفر بْن سليمان وعلى الكوفة وأرضها محمد بن سليمان وعلى البصره عقبه ابن سلم وعلى قضائها سوار بْن عبد الله وعلى مصر يزيد بْن حاتم

(8/26)


ثم دخلت

سنة ثمان وأربعين ومائة
ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور حميد بْن قحطبة إلى أرمينية لحرب الترك الذين قتلوا حرب بْن عبد الله، وعاثوا بتفليس، فسار حميد إلى أرمينية، فوجدهم قد ارتحلوا، فانصرف ولم يلق منهم أحدا.
وفي هذه السنة عسكر صالح بْن علي بدابق- فيما ذكر- ولم يغز.
وحج بالناس فيها جعفر بْن أبي جعفر المنصور.
وكانت ولاة الأمصار في هذه السنة ولاتها فِي السنة الَّتِي قبلها

(8/27)


ثم دخلت

سنة تسع وأربعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزوة العباس بْن محمد الصائفة أرض الروم، ومعه الحسن بْن قحطبة ومحمد بْن الأشعث، فهلك محمد بْن الأشعث في الطريق.
وفي هذه السنة استتم المنصور بناء سور مدينة بغداد، وفرغ من خندقها وجميع أمورها.
وفيها شخص إلى حديثة الموصل، ثم انصرف إلى مدينة السلام.
وحج في هذه السنة بالناس محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي بْن عبد الله ابن عباس.
وفي هذه السنة عزل عبد الصمد بْن علي عن مكة، ووليها محمد بْن إبراهيم.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال الذين كانوا عمالها في سنة سبع وأربعين ومائة وسنة ثمان وأربعين ومائة، غير مكة والطائف، فان واليهما كان في هذه السنة محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس

(8/28)


ثم دخلت

سنة خمسين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خروج استاذسيس
4 فمما كان فيها من ذلك خروج أستاذسيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجثم المروروذي في أهل مرو الروذ، فقاتلوه قتالا شديدا حتى قتل الأجثم، وكثر القتل في أهل مرو الروذ، وهزم عدة من القواد، منهم معاذ بْن مسلم بْن معاذ وجبرئيل بْن يحيى وحماد بْن عمرو وأبو النجم السجستاني وداود بْن كراز، فوجه المنصور وهو بالبردان خازم ابن خزيمة إلى المهدي، فولاه المهدي محاربة أستاذسيس، وضم القواد إليه.
فذكر أن معاوية بْن عبيد الله وزير المهدي كان يوهن أمر خازم، والمهدي يومئذ بنيسابور، وكان معاوية يخرج الكتب إلى خازم بْن خزيمة وإلى غيره من القواد بالأمر والنهي، فاعتل خازم وهو في عسكره، فشرب الدواء ثم ركب البريد، حتى قدم على المهدي بنيسابور، فسلم عليه واستخلاه- وبحضرته أبو عبيد الله- فقال المهدي: لا عيق عليك من أبي عبيد الله، فقل ما بدا لك، فأبى خازم أن يخبره أو يكلمه، حتى قام أبو عبيد الله، فلما خلا به شكا اليه أمر معاوية بْن عبيد الله، وأخبره بعصبيته وتحامله، وما كان يرد من كتبه عليه وعلى من قبله من القواد، وما صاروا إليه بذلك من الفساد والتأمر في أنفسهم، والاستبداد بآرائهم، وقلة السمع والطاعة وأن أمر الحرب لا يستقيم إلا برأس، وألا يكون في عسكره لواء يخفق على رأس أحد إلا لواؤه أو لواء هو عقده، وأعلمه انه غير راجع الى قتال أستاذسيس ومن معه إلا بتفويض الأمر إليه وإعفائه من معاوية بْن عبيد الله، وأن يأذن

(8/29)


له في حل ألوية القواد الذين معه، وأن يكتب إليهم بالسمع له والطاعة.
فأجابه المهدي إلى كل ما سأل.
فانصرف خازم إلى عسكره، فعمل برأيه، وحل لواء من رأى حل لوائه من القواد، وعقد لواء لمن أراد، وضم إليه من كان انهزم من الجنود، فجعلهم حشوا يكثر بهم من معه في أخريات الناس، ولم يقدمهم لما في قلوب المغلوبين من روعة الهزيمة، وكان من ضم إليه من هذه الطبقة اثنين وعشرين ألفا، ثم انتخب ستة آلاف رجل من الجند، فضمهم إلى اثني عشر ألفا كانوا معه متخيرين، وكان بكار بْن مسلم العقيلي فيمن انتخب، ثم تعبأ للقتال وخندق واستعمل الهيثم بْن شعبة بْن ظهير على ميمنته، ونهار بْن حصين السعدي على ميسرته، وكان بكار بْن مسلم العقيلي على مقدمته وترار خدا على ساقته، وكان من أبناء ملوك أعاجم خراسان، وكان لواؤه مع الزبرقان وعلمه مع مولاه بسام، فمكر بهم وراوغهم في تنقله من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم، وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله، وخندق عليه، وأدخل خندقه جميع ما أراد، وأدخل فيها جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعل على كل باب منها من أصحابه الذين انتخب، وهم أربعة آلاف، وجعل مع بكار صاحب مقدمته ألفين، تكملة الثمانية عشر ألفا وأقبل الآخرون ومعهم المروز والفؤوس والزبل، يريدون دفن الخندق ودخوله، فأتوا الخندق من الباب الذي كان عليه بكار بْن مسلم، فشدوا عليه شدة لم يكن لأصحاب بكار نهاية دون أن انهزموا حتى دخلوا عليهم الخندق.
فلما رأى ذلك بكار رمى بنفسه، فترجل على باب الخندق ثم نادى أصحابه: يا بني الفواجر، من قبلي يؤتى المسلمون! فترجل من معه من عشيرته وأهله نحو من خمسين رجلا، فمنعوا بابهم حتى أجلوا القوم عنه، وأقبل إلى الباب الذي كان عليه خازم رجل كان مع أستاذسيس من أهل سجستان، يقال له الحريش، وهو الذي كان يدبر أمرهم، فلما رآه خازم

(8/30)


مقبلا بعث إلى الهيثم بْن شعبة، وكان في الميمنة- أن اخرج من بابك الذي أنت عليه، فخذ غير الطريق الذي يوصلك إلى الباب الذي عليه بكار، فإن القوم قد شغلوا بالقتال وبالإقبال إلينا، فإذا علوت فجزت مبلغ أبصارهم فأتهم من خلفهم وقد كانوا في تلك الأيام يتوقعون قدوم أبي عون وعمرو بن سلم ابن قتيبة من طخارستان وبعث خازم إلى بكار بْن مسلم: إذا رأيت رايات الهيثم بْن شعبة قد جاءتك من خلفك، فكبروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان.
ففعل ذلك أهل الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش السجستاني، فاجتلدوا بالسيوف جلادا شديدا، وصبر بعضهم لبعض، فبينا هم على تلك الحال إذ نظروا إلى أعلام الهيثم وأصحابه، فتنادوا فيما بينهم، وجاء أهل طخارستان، فلما نظر أصحاب الحريش إلى تلك الأعلام، ونظر من كان بإزاء بكار بْن مسلم إليها، شد عليهم أصحاب خازم فكشفوهم، ولقيهم أصحاب الهيثم، فطعنوهم بالرماح، ورموهم بالنشاب، وخرج عليهم نهار بْن حصين وأصحابه من ناحية الميسرة، وبكار بْن مسلم وأصحابه من ناحيتهم، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون وأكثروا، فكان من قتل منهم في تلك المعركة نحوا من سبعين ألفا، وأسروا أربعة عشر ألفا، ولجأ أستاذسيس إلى جبل في عدة من أصحابه يسيرة، فقدم خازم الأربعة عشر ألف أسير، فضرب أعناقهم، وسار حتى نزل بأستاذسيس في الجبل الذي كان لجأ إليه، ووافى خازما بذلك المكان أبو عون وعمرو بْن سلم بْن قتيبة في أصحابهما، فأنزلهم خازم ناحية، وقال: كونوا مكانكم حتى نحتاج إليكم فحصر خازم أستاذسيس وأصحابه حتى نزلوا على حكم أبي عون، ولم يرضوا إلا بذلك، فرضي بذلك خازم، فأمر أبا عون بإعطائهم أن ينزلوا على حكمه، ففعل، فلما نزلوا على حكم أبي عون حكم فيهم أن يوثق أستاذسيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفا، فأنفذ ذلك خازم من حكم أبي عون، وكسا كل رجل منهم ثوبين، وكتب

(8/31)


خازم بما فتح الله عليه، وأهلك عدوه إلى المهدي، فكتب بذلك المهدي إلى أمير المؤمنين المنصور.
وأما محمد بْن عمر، فإنه ذكر أن خروج أستاذسيس والحريش كان في سنة خمسين ومائة، وأن أستاذسيس هزم في سنة إحدى وخمسين ومائة.
وفي هذه السنة عزل المنصور جعفر بْن سليمان عن المدينة، وولاها الحسن ابن يزيد بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن ابى طالب ص.
وفيها توفي جعفر بْن أبي جعفر المنصور، الأكبر بمدينة السلام، وصلى عليه أبوه المنصور، ودفن ليلا في مقابر قريش، ولم تكن للناس في هذه السنة صائفة، قيل إن أبا جعفر كان ولى الصائفة في هذه السنة أسيدا، فلم يدخل بالناس أرض العدو، ونزل مرج دابق.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.
وكان العامل على مكة والطائف في هذه السنة عبد الصمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس- وقيل كان العامل على مكة والطائف في هذه السنة محمد ابن إبراهيم بْن محمد- وعلى المدينة الحسن بْن زيد العلوي، وعلى الكوفه محمد ابن سليمان بْن علي، وعلى البصرة عقبة بْن سلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.

(8/32)


ثم دخلت

سنة إحدى وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك ما كان من إغارة الكرك فيها في البحر على جدة، ذكر ذلك محمد بْن عمر.
وفيها ولي عمر بْن حفص بْن عثمان بْن أبي صفرة إفريقية، وعزل عن السند وولي موضعه هشام بْن عمرو التغلبي.

ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور عمر بْن حفص عن السند وتوليته إياه إفريقيه واستعماله على السند هشام بْن عمرو
وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن محمد بْن سليمان بْن علي العباسي عن أبيه- أن المنصور ولى عمر بْن حفص الصفري الذي يقال له هزار مرد السند- فأقام بها حتى خرج محمد بْن عبد الله بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، فوجه محمد بْن عبد الله إليه ابنه عبد الله بْن محمد الذي يقال له الأشتر، في نفر من الزيدية إلى البصرة، وأمرهم أن يشتروا مهارة- خيل عتاق بها- ويمضوا بها معهم إلى السند، ليكون سببا له إلى الوصول إلى عمر بْن حفص، وإنما فعل ذلك به لأنه كان فيمن بايعه من قواد أبي جعفر، وكان له ميل إلى آل أبي طالب، فقدموا البصرة على إبراهيم بْن عبد الله، فاشتروا منها مهارة- وليس في بلاد السند والهند شيء أنفق من الخيل العتاق- ومضوا في البحر حتى صاروا إلى السند، ثم صاروا إلى عمر بْن حفص، فقالوا: نحن قوم نخاسون، ومعنا خيل عتاق، فأمرهم أن يعرضوا خيلهم، فعرضوها عليه، فلما صاروا إليه، قَالَ له بعضهم: ادنني منك أذكر لك شيئا، فأدناه منه، وقال له: إنا جئناك بما هو خير لك من الخيل، وما لك فيه

(8/33)


خير الدنيا والآخرة، فأعطنا الأمان على خلتين: إما أنك قبلت ما أتيناك به، وإما سترت وأمسكت عن أذانا حتى نخرج من بلادك راجعين.
فأعطاهم الأمان، فقالوا: ما للخيل أتيناك، ولكن هذا ابن رسول الله ص عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، أرسله أبوه إليك، وقد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه بالخلافة، وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة وغلب عليها، فقال: بالرحب والسعة، ثم بايعهم له، وأمر به فتوارى عنده، ودعا أهل بيته وقواده وكبراء أهل البلد للبيعة، فأجابوه، فقطع الأعلام البيض والأقبية البيض والقلانس البيض، وهيأ لبسته من البياض يصعد فيها إلى المنبر، وتهيأ لذلك يوم خميس، فلما كان يوم الأربعاء إذا حراقة قد وافت من البصرة، فيها رسول لخليدة بنت المعارك- امرأة عمر بْن حفص- بكتاب إليه تخبره بقتل محمد بْن عبد الله، فدخل على عبد الله فأخبره الخبر، وعزاه، ثم قَالَ له: إني كنت بايعت لأبيك، وقد جاء من الأمر ما ترى.
فقال له: إن أمري قد شهر، ومكاني قد عرف، ودمي في عنقك، فانظر لنفسك أودع قَالَ: قد رأيت رأيا، هاهنا ملك من ملوك السند، عظيم المملكة، كثير التبع، وهو على شركه أشد الناس تعظيما لرسول الله ص، وهو رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد بينك وبينه عقدا، وأوجهك إليه تكون عنده، فلست ترام معه قَالَ: افعل ما شئت، ففعل ذلك، فصار إليه، فأظهر إكرامه وبره برا كثيرا، وتسللت إليه الزيدية حتى صار إليه منهم أربعمائة إنسان من أهل البصائر، فكان يركب فيهم فيصيد ويتنزه في هيئة الملوك وآلاتهم، فلما قتل محمد وإبراهيم انتهى خبر عبد الله الأشتر إلى المنصور، فبلغ ذلك منه، فكتب إلى عمر بْن حفص يخبره بما بلغه، فجمع عمر بْن حفص قرابته، فقرأ عليهم كتاب المنصور يخبرهم أنه إن أقر بالقصة لم ينظره المنصور أن يعزله، وإن صار إليه قتله، وإن امتنع حاربه فقال له رجل من أهل بيته: ألق الذنب علي، واكتب

(8/34)


إليه بخبري، وخذني الساعة فقيدني واحبسني، فإنه سيكتب: احمله إلي، فاحملني إليه، فلم يكن ليقدم علي لموضعك في السند، وحال أهل بيتك بالبصرة قَالَ: إني أخاف عليك خلاف ما تظن، قَالَ: إن قتلت أنا فنفسي فداؤك فإني سخي بها فداء لنفسك، فإن حييت فمن الله فأمر به فقيد وحبس، وكتب إلى المنصور يخبره بذلك، فكتب إليه المنصور يأمره بحمله إليه، فلما صار إليه قدمه فضرب عنقه، ثم مكث يروي من يولي السند! فأقبل يقول: فلان فلان، ثم يعرض عنه، فبينا هو يوما يسير ومعه هشام بْن عمرو التغلبي، والمنصور ينظر إليه في موكبه، إذ انصرف إلى منزله، فلما ألقى ثوبه دخل الربيع فآذنه بهشام فقال: أو لم يكن معي آنفا! قَالَ: ذكر أن له حاجة عرضت مهمة فدعا بكرسي فقعد عليه، ثم أذن له، فلما مثل بين يديه قَالَ: يا أمير المؤمنين، إني انصرفت إلى منزلي من الموكب، فلقيتني أختي فلانة بنت عمرو، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين، فجئت لأعرضها عليه، فأطرق المنصور، وجعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده، وقال: أخرج يأتك أمري، فلما ولى قَالَ: يا ربيع، لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوجت أخته وهو قوله:
لا تطلبن خئولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالا
فأخاف أن تلد لي ولدا، فيعير بهذا البيت، ولكن اخرج إليه، فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لو كانت لك لله حاجة إلي لم أعدل عنها غير التزويج، ولو كانت لي حاجة إلى التزويج لقبلت ما أتيتني به، فجزاك الله عما عمدت له خيرا، وقد عوضتك من ذلك ولاية السند وأمره أن يكاتب ذلك الملك، فإن أطاعه وسلم إليه عبد الله بْن محمد، وإلا حاربه وكتب إلى عمر بْن حفص بولايته إفريقية فخرج هشام بْن عمرو التغلبي إلى السند

(8/35)


فوليها، وأقبل عمر بْن حفص يخوض البلاد حتى صار إلى إفريقية، فلما صار هشام بْن عمرو إلى السند كره أخذ عبد الله، وأقبل يري الناس أنه يكاتب الملك ويرفق به، فاتصلت الأخبار بأبي جعفر بذلك، فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببعض بلاد السند، فوجه إليهم أخاه سفنجا، فخرج يجر الجيش وطريقه بجنبات ذلك الملك، فبينا هو يسير إذا هو برهج قد ارتفع من موكب، فظن أنه مقدمة للعدو الذي يقصد، فوجه طلائعه فرجعت، فقالت: ليس هذا عدوك الذي تريد، ولكن هذا عبد الله بْن محمد الأشتر العلوي ركب متنزها، يسير على شاطئ مهران، فمضى يريده، فقال له نصاحة: هذا ابن رسول الله ص، وقد علمت أن أخاك تركه متعمدا، مخافة أن يبوء بدمه، ولم يقصدك، إنما خرج متنزها، وخرجت تريد غيره فأعرض عنه، وقال: ما كنت لأدع أحدا يحوزه، ولا أدع أحدا يحظى بالتقرب إلى المنصور بأخذه وقتله.
وكان في عشرة، فقصد قصده، وذمر أصحابه، فحمل عليه، فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه بين يديه حتى قتل وقتلوا جميعا، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط بين القتلى، فلم يشعر به وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران لما قتل، لئلا يؤخذ رأسه، فكتب هشام بْن عمرو بذلك كتاب فتح إلى المنصور، يخبره أنه قصده قصدا فكتب إليه المنصور يحمد أمره، ويأمره بمحاربة الملك الذي آواه، وذلك أن عبد الله كان اتخذ جواري، وهو بحضرة ذلك الملك، فأولد منهن واحدة محمد بْن عبد الله- وهو أبو الحسن محمد العلوي الذي يقال له ابن الأشتر- فحاربه حتى ظفر به، وغلب على مملكته وقتله، ووجه بأم ولد عبد الله وابنه إلى المنصور، فكتب المنصور إلى واليه بالمدينة، يخبره بصحة نسب الغلام، وبعث به إليه، وأمره أن يجمع آل أبي طالب، وأن يقرأ عليهم كتابه بصحة نسب الغلام، ويسلمه إلى أقربائه.
وفي هذه السنة قدم على المنصور ابنه المهدي من خراسان، وذلك في

(8/36)


شوال منها- فوفد إليه للقائه وتهنئة المنصور بمقدمه عامة أهل بيته، من كان منهم بالشام والكوفة والبصرة وغيرها، فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل مثل ذلك بهم المنصور، وجعل لابنه المهدي صحابة منهم، وأجرى لكل رجل منهم خمسمائة درهم
. ذكر خبر بناء المنصور الرصافه
وفي هذه السنة ابتدأ المنصور ببناء الرصافة في الجانب الشرقي من مدينة السلام لابنه محمد المهدي.
ذكر الخبر عن سبب بنائه ذلك له:
ذكر عن أحمد بْن محمد الشروي، عن أبيه، أن المهدي لما قدم من خراسان أمره المنصور بالمقام بالجانب الشرقي، وبنى له الرصافه، وعمل لها سورا وخندقا وميدانا وبستانا، وأجرى له الماء، فكان يجري الماء من نهر المهدي إلى الرصافة.
وأما خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير بْن خازم، فإنه ذكر أن محمد ابن موسى بْن محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس حدثه، أن أباه حدثه، أن الراوندية لما شغبوا على أبي جعفر وحاربوه على باب الذهب، دخل عليه قثم بْن العباس بْن عبيد الله بْن العباس- وهو يومئذ شيخ كبير مقدم عند القوم- فقال له أبو جعفر: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا! قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، عندي في هذا رأي إن أنا أظهرته لك فسد، وان تركتني امضيته، صلحت لك خلافتك، وهايك جندك.
فقال له: أفتمضي في خلافتي أمرا لا تعلمني ما هو! فقال له: إن كنت عندك متهما على دولتك فلا تشاورني، وإن كنت مأمونا عليها فدعني أمضي رأيي فقال له: فأمضه قَالَ: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاما له فقال له:

(8/37)


إذا كان غدا فتقدمني، فاجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، فاستوقفني واستحلفني بحق رسول الله، وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك، وأغلظ لك القول، فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالمسألة فإني سأشتمك، فلا يروعنك ذلك، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بسوطي، فلا يشق ذلك عليك، فقل لي:
أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فخل عنان بغلتي وأنت حر.
قَالَ: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره من دار الخليفة، فلما جاء الشيخ فعل الغلام ما أمره به مولاه، وفعل المولى ما كان قاله له، ثم قَالَ له:
قل، فقال: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ قَالَ: فقال قثم:
مضر كان منها رسول الله ص، وفيها كتاب الله عز وجل، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله قَالَ: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيء من شرفها، فقال له قائد من قواد اليمن: ليس الأمر كذلك مطلقا بغير شرفة ولا فضيلة لليمن، ثم قَالَ لغلامه: قم فخذ بعنان بغله الشيخ، فاكبحها كبحا عنيفا تطامن به منه، قَالَ: ففعل الغلام ما أمره به مولاه حتى كاد أن يقعيها على عراقيبها، فامتعضت من ذلك مضر، فقالت:
أيفعل هذا بشيخنا! فأمر رجل منهم غلامه، فقال: اقطع يد العبد، فقام إلى غلام اليماني فقطع يده، فنفر الحيان، وصرف قثم بغلته، فدخل على أبي جعفر، وافترق الجند، فصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، والخراسانية فرقة، وربيعة فرقة، فقال قثم لأبي جعفر: قد فرقت بين جندك، وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثا، فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، قَالَ: ما هي؟ قَالَ: اعبر بابنك فأنزله في ذلك الجانب قصرا، وحوله وحول معك من جيشك معه قوما

(8/38)


فيصير ذلك بلدا، وهذا بلدا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسد عليك أهل ذلك الجانب ضربتهم بأهل هذا الجانب، وإن فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها.
قَالَ: فقبل أمره ورأيه، فاستوى له ملكه، وكان ذلك سبب البناء في الجانب الشرقي وفي الرصافة وإقطاع القواد هناك.
قَالَ: وتولى صالح صاحب المصلى القطائع في الجانب الشرقي، ففعل كفعل أبي العباس الطوسي في فضول القطائع في الجانب الغربي، فله بباب الجسر وسوق يحيى ومسجد خضير وفي الرصافة وطريق الزواريق على دجلة مواضع بناء، بما استوهب من فضل الإقطاع عن أهله، وصالح رجل من أهل خراسان.
وفي هذه السنة جدد المنصور البيعة لنفسه ولابنه محمد المهدي من بعده، ولعيسى بْن موسى من بعد المهدي على أهل بيته في مجلسه في يوم جمعة، وقد عمهم بالإذن فيه، فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي، ثم يمسح على يد عيسى بْن موسى ولا يقبل يده.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن محمد
. امر عقبه بن سلم
وفيها شخص عقبة بْن سلم من البصرة واستخلف عليها ابنه نافع بْن عقبة إلى البحرين، فقتل سليمان بْن حكيم العبدي وسبى أهل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم وأسارى منهم إلى أبي جعفر، فقتل منهم عدة ووهب بقيتهم للمهدي، فمن عليهم وأعتقهم، وكسا كل إنسان منهم ثوبين من ثياب مرو

(8/39)


ثم عزل عقبة بْن سلم عن البصرة، فذكر عن إفريك- جارية أسد بْن المرزبان- أنها قالت: بعث المنصور أسد بْن المرزبان إلى عقبة بْن سلم إلى البحرين حين قتل منهم من قتل، ينظر في أمره، فمايله ولم يستقص عليه، وورى عنه، فبلغ ذلك أبا جعفر، وبلغه أنه أخذ منه مالا، فبعث إليه أبا سويد الخراساني- وكان صديق أسد- وأخاه، فلما رآه مقبلا على البريد فرح، وكان ناحية من عسكر عقبة، فتطاول له، وقال: صديقي فوقف عليه فوثب ليقوم إليه، فقال له أبو سويد بنشين بنشين، فجلس فقال له:
أنت سامع مطيع؟ قَالَ: نعم، قَالَ: مد يدك، فمد يده فضربها فأطنها، ثم مد رجله، ثم مد يده ثم رجله حتى قطع الأربع، ثم قَالَ: مد عنقك فمد فضرب عنقه قالت أفريك: فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فأخذه مني فحمله إلى المنصور فما أكلت إفريك لحما حتى ماتت.
وزعم الواقدي أن أبا جعفر ولى معن بْن زائدة في هذه السنة سجستان.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي بْن عبد الله ابن عباس.
وكان العامل على مكة والطائف محمد بن ابراهيم، وعلى المدينة الحسن ابن زيد، وعلى الكوفة محمد بْن سليمان بْن علي، وعلى البصرة جابر بْن توبة الكلابي، وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.

(8/40)


ثم دخلت

سنة اثنتين وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك ما كان من قتل الخوارج فيها معن بْن زائدة الشيباني ببست سجستان.
وفيها غزا حميد بْن قحطبة كابل، وكان المنصور ولاه خراسان في سنه ثنتين وخمسين ومائة وغزا- فيما ذكر- الصائفة عبد الوهاب بْن إبراهيم ولم يدرب.
وقيل إن الذي غزا الصائفة في هذه السنة محمد بْن إبراهيم.
وفيها عزل المنصور جابر بْن توبة عن البصرة، وولاها يزيد بْن منصور.
وفيها قتل أبو جعفر هاشم بْن الأشتاخنج، وكان عصى وخالف في إفريقية، فحمل إليه هو وابن خالد المروروذي، فقتل ابن الاشتاخنج بالقادسية، وهو متوجه إلى مكة.
وحج بالناس في هذه السنة المنصور، فذكر أنه شخص من مدينة السلام في شهر رمضان، ولا يعلم بشخوصه محمد بْن سليمان، وهو عامله على الكوفة يومئذ، ولا عيسى بْن موسى ولا غيرهما من أهل الكوفة حتى قرب منها.
وفيها عزل يزيد بْن حاتم عن مصر ووليها محمد بْن سعيد.
وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال في السنة الخالية إلا البصرة فإن عاملها في هذه السنة كان يزيد بْن منصور، وإلا مصر فإن عاملها كان في هذه السنة محمد بْن سعيد

(8/41)


ثم دخلت

سنة ثلاث وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك تجهيز المنصور جيشا في البحر لحرب الكرك، بعد مقدمه البصرة، منصرفا من مكة إليها بعد فراغه من حجه، وكانت الكرك أغارت على جدة، فلما قدم المنصور البصرة في هذه السنة جهز منها جيشا لحربهم، فنزل الجسر الأكبر حين قدمها- فيما ذكر وقدمته هذه البصرة القدمة الآخرة.
وقيل إنه أنما قدمها القدمة الآخرة في سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت قدمته الأولى في سنة خمس وأربعين ومائة، وأقام بها أربعين يوما، وبنى بها قصرا ثم انصرف منها إلى مدينة السلام.
وفيها غضب المنصور على أبي أيوب المورياني، فحبسه وأخاه وبني أخيه:
سعيدا ومسعودا ومخلدا ومحمدا، وطالبهم وكانت منازلهم المناذر، وكان سبب غضبه عليه- فيما قيل- سعي أبان بْن صدقة كاتب أبي أيوب إليه.
وفي هذه السنة قتل عمر بْن حفص بْن عثمان بْن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم الإباضي وأبو عاد ومن كان معهما من البربر، وكانوا- فيما ذكر- ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، ومعهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا، وكان يسلم عليه قبل ذلك بالخلافة أربعين يوما.
وفيها حمل عباد مولى المنصور وهرثمة بْن أعين ويوسف بْن علوان من خراسان في سلاسل، لتعصبهم لعيسى بْن موسى.
وفيها أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، وكانوا- فيما ذكر- يحتالون لها بالقصب من داخل، فقال أبو دلامة:

(8/42)


وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس
وفيها توفي عبيد بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضى مكانه شريك ابن عبد الله النخعي.
وفيها غزا الصائفة معيوف بْن يحيى الحجوري، فصار إلى حصن من حصون الروم ليلا، وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه من المقاتلة، ثم صار إلى اللاذقية المحترقة، ففتحها وأخرج منها ستة آلاف رأس من السبي سوى الرجال البالغين.
وفيها ولى المنصور بكار بْن مسلم العقيلي على أرمينية.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن أبي جعفر المهدي.
وكان على مكة والطائف يومئذ محمد بْن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بْن زيد بْن الحسن، وعلى الكوفة محمد بْن سليمان، وعلى البصرة يزيد بْن منصور، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر محمد بْن سعيد.
وذكر الواقدي أن يزيد بْن منصور كان في هذه السنة والي اليمن من قبل أبي جعفر المنصور

(8/43)


ثم دخلت

سنة أربع وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك خروج المنصور الى الشام ومسيره إلى بيت المقدس وتوجيهه يزيد بْن حاتم إلى إفريقية في خمسين ألفا- فيما ذكر- لحرب الخوارج الذين كانوا بها، الذين قتلوا عامله عمر بْن حفص وذكر أنه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم.
وفي هذه السنة عزم المنصور- فيما ذكر- على بناء مدينة الرافقة، فذكر عن محمد بْن جابر، عن أبيه أن أبا جعفر لما أراد بناءها، امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا وتذهب بمعايشنا، وتضيق منازلنا، فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة هنالك، فقال له:
هل لك علم بأن إنسانا يبني هاهنا مدينة؟ فقال: بلغني أن رجلا يقال له مقلاص يبنيها، فقال: أنا والله مقلاص.
وذكر محمد بْن عمر أن صاعقة سقطت في هذه السنة في المسجد الحرام فقتلت خمسة نفر.
وفيها هلك أبو أيوب المورياني وأخوه خالد، وأمر المنصور موسى بْن دينار حاجب أبي العباس الطوسي بقطع أيدي بني أخي أبي أيوب وأرجلهم وضرب أعناقهم، وكتب بذلك إلى المهدي، ففعل ذلك موسى وأنفذ فيهم ما أمره به.
وفيها ولي عبد الملك بْن ظبيان النميري على البصرة.
وغزا الصائفة في هذه السنة زفر بْن عاصم الهلالي فبلغ الفرات.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن إبراهيم، وهو عامل أبي جعفر على مكة والطائف

(8/44)


وكان على المدينة الحسن بْن زيد، وعلى الكوفة محمد بْن سليمان، وعلى البصرة عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان وعلى قضائها سوار بْن عبد الله وعلى السند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد ابن سعيد

(8/45)


ثم دخلت

سنة خمس وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك افتتاح يزيد بْن حاتم إفريقية وقتله أبا عاد وأبا حاتم ومن كان معهما، واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بْن حاتم القيروان.
وفيها وجه المنصور ابنه المهدي لبناء مدينة الرافقة، فشخص إليها، فبناها على بناء مدينته ببغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسور سورها وخندقها، ثم انصرف إلى مدينته.
وفيها- فيما ذكر محمد بْن عمر- خندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سورا، وجعل ما أنفق على سور ذلك وخندقه من أموال أهله.
وعزل فيها المنصور عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بْن معاوية العتكي، وضم إليه سعيد بْن دعلج، وأمره ببناء سور لها يطيف بها، وخندق عليها من دون السور من أموال أهلها، ففعل ذلك.
وذكر أن المنصور لما أراد الأمر ببناء سور الكوفة وبحفر خندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم، على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم، فلما عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كل إنسان، فجبوا، ثم أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر الخنادق لها، فقال شاعرهم:
يا لقومى ما لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا
وفيها طلب صاحب الروم الصلح إلى المنصور، على أن يؤدي إليه الجزية.
وغزا الصائفة في هذه السنة يزيد بْن أسيد السلمي.
وفيها عزل المنصور أخاه العباس بْن محمد عن الجزيرة، وغرمه مالا،

(8/46)


وغضب عليه وحبسه، فذكر عن بعض بني هاشم، أنه قَالَ: كان المنصور ولى العباس بْن محمد الجزيرة بعد يزيد بْن أسيد، ثم غضب عليه فلم يزل ساخطا عليه حتى غضب على بعض عمومته من ولد عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أما إسماعيل بْن علي أو غيره فاعتوره أهله وعمومته ونساؤهم يكلمونه فيه، وضيقوا عليه فرضي عنه، فقال عيسى بْن موسى: يا أمير المؤمنين، إن آل علي بْن عبد الله- وإن كانت نعمك عليهم سابغة- فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا، فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بْن علي منذ أيام، فضيقوا عليك وأنت غضبان على العباس بْن محمد، منذ كذا وكذا، فما رأيت أحدا منهم كلمك فيه قَالَ: فدعا العباس فرضي عنه.
قَالَ: وقد كان يزيد بْن أسيد عند عزل العباس إياه عن الجزيرة، شكا إلى أبي جعفر العباس، وقال: يا أمير المؤمنين، إن أخاك أساء عزلي، وشتم عرضي، فقال له المنصور: اجمع بين إحساني إليك وإساءة أخي يعتدلا، فقال يزيد بْن أسيد: يا أمير المؤمنين، إذا كان إحسانكم جزاء بإساءتكم، كانت طاعتنا تفضلا منا عليكم.
وفيها استعمل المنصور على حرب الجزيرة وخراجها موسى بْن كعب.
وفي هذه السنة عزل المنصور عن الكوفة محمد بْن سليمان بْن علي، في قول بعضهم، واستعمل مكانه عمرو بْن زهير أخا المسيب بْن زهير.
وأما عمر بْن شبة فإنه زعم أنه عزل محمد بْن سليمان عن الكوفة في سنة ثلاث وخمسين ومائة، وولاها عمرو بْن زهير الضبي أخا المسيب بْن زهير في هذه السنة قَالَ: وهو حفر الخندق بالكوفة.
ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور محمد بْن سليمان بْن علي ذكر أن محمد بْن سليمان أتي في عمله على الكوفة بعبد الكريم بْن ابى العوجاء

(8/47)


- وكان خال معن بْن زائدة- فأمر بحبسه قَالَ أبو زيد: فحدثني قثم بْن جعفر والحسين بْن أيوب وغيرهما أن شفعاءه كثروا بمدينة السلام، ثم ألحوا على أبي جعفر، فلم يتكلم فيه إلا ظنين، فأمر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه، فكلم ابن أبي العوجاء أبا الجبار- وكان منقطعا إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما- فقال له: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف، ولك أنت كذا وكذا، فأعلم أبو الجبار محمدا، فقال:
أذكرتنيه والله وقد كنت نسيته، فإذا انصرفت من الجمعة فأذكرنيه فلما انصرف أذكره، فدعا به وأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول، قَالَ:
أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام، والله لقد فطرتكم في يوم صومكم، وصومتكم في يوم فطركم، فضربت عنقه.
وورد على محمد رسول أبي جعفر بكتابه: إياك أن تحدث في أمر ابن أبي العوجاء شيئا، فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت يتهدده فقال محمد للرسول:
هذا رأس ابن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوبا بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين بما أعلمتك، فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته، تغيظ عليه وأمر بالكتاب بعزله وقال: والله لهممت أن أقيده به، ثم أرسل إلى عيسى بْن علي فأتاه، فقال: هذا عملك أنت! أشرت بتولية هذا الغلام، فوليته غلاما جاهلا لا علم له بما يأتي، يقدم على رجل يقتله من غير أن يطلع رأيي فيه، ولا ينتظر أمري:
وقد كتبت بعزله، وبالله لأفعلن به ولأفعلن يتهدده، فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه، ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن محمدا إنما قتل هذا الرجل على الزندقة، فإن كان قتله صوابا فهو لك، وإن كان خطأ فهو على محمد، والله يا أمير المؤمنين لئن عزلته على تفية ما صنع ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن القالة من العامة عليك فأمر بالكتب فمزقت وأقر على عمله وقال بعضهم: إنما عزل المنصور محمد بْن سليمان عن الكوفة لأمور قبيحه

(8/48)


بلغته عنه، اتهمه فيها، وكان الذي أنهى ذلك إليه المساور بْن سوار الجرمي صاحب شرطه، وفي مساور يقول حماد.
لحسبك من عجيب الدهر أني ... أخاف وأتقي سلطان جرم
وفي هذه السنة أيضا عزل المنصور الحسن بْن زيد عن المدينة، واستعمل عليها عبد الصمد بْن علي، وجعل معه فليح بْن سليمان مشرفا عليه.
وكان على مكة والطائف محمد بْن إبراهيم بْن محمد، وعلى الكوفة عمرو بْن زهير، وعلى البصرة الهيثم بْن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد

(8/49)


ثم دخلت

سنة ست وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)

ذكر الخبر عن مقتل عمرو بن شداد
فمن ذلك ما كان من ظفر الهيثم بْن معاوية عامل أبي جعفر على البصرة بعمرو بْن شداد عامل إبراهيم بْن عبد الله على فارس، فقتل بالبصرة وصلب.
ذكر الخبر عن سبب الظفر به:
ذكر عمر أن محمد بْن معروف حدثه، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ:
ضرب عمرو بْن شداد خادما له، فأتى عامل البصرة- إما ابن دعلج، واما الهيثم ابن معاوية- فدله عليه، فأخذه فقتله وصلبه في المربد في موضع دار إسحاق ابن سليمان وكان عمرو مولى لبني جمح، فقال بعضهم: ظفر به الهيثم ابن معاوية وخرج يريد مدينة السلام، فنزل بقصر له على شاطئ نهر يعرف بنهر معقل، فأقبل بريد من عند أبي جعفر، ومعه كتاب إلى الهيثم بْن معاوية بدفع عمرو بْن شداد إليه، فدفعه الهيثم إليه، فأقدمه البصرة، ثم أتى به ناحية الرحبة، فخلا به يسائله، فلم يظفر منه بشيء يحب علمه، فقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه وصلبه في مربد البصرة.
وفي هذه السنة عزل المنصور الهيثم بْن معاوية عن البصرة وأعمالها، واستعمل سوار بْن عبد الله القاضي على الصلاة، وجمع له القضاء والصلاة وولى المنصور سعيد بْن دعلج شرط البصرة وأحداثها.
وفيها توفي الهيثم بْن معاوية بعد ما عزل عن البصره فجاه بمدينة السلام، وهو على بطن جارية له، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم.
وفي هذه السنة غزا الصائفة زفر بْن عاصم الهلالي

(8/50)


وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن محمد بْن علي.
وكان العامل على مكة محمد بْن إبراهيم، وكان مقيما بمدينة السلام، وابنه إبراهيم بْن محمد خليفته بمكة، وكان إليه مع مكة الطائف وعلى الكوفة عمرو بْن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرط وصدقات أرض العرب بالبصرة سعيد بْن دعلج، وعلى الصلاة بها والقضاء سوار بْن عبد الله، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بْن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بْن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بْن سعيد

(8/51)


ثم دخلت

سنة سبع وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك ابتناء المنصور قصره الذي على شاطئ دجلة، الذي يدعى الخلد، وقسم بناءه على مولاه الربيع وأبان بْن صدقة.
وفيها قتل يحيى أبو زكرياء المحتسب، وقد ذكرنا قبل سبب قتله إياه.
وفيها حول المنصور الأسواق من مدينة السلام إلى باب الكرخ وغيره من المواضع، وقد مضى أيضا ذكرنا سبب ذلك قبل.
وفيها ولى المنصور جعفر بْن سليمان على البحرين، فلم يتم ولايته، ووجه مكانه أميرا عليها سعيد بْن دعلج، فبعث سعيد ابنه تميما عليها.
وفيها عرض المنصور جنده في السلاح والخيل على عينه في مجلس اتخذه على شط دجلة دون قطربل، وأمر أهل بيته وقرابته وصحابته يومئذ بلبس السلاح، وخرج وهو لابس درعا وقلنسوة تحت البيضه سوداء لاطئة مضربه.
وفيها توفي عامر بْن إسماعيل المسلي، بمدينة السلام، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم.
وفيها توفي سوار بْن عبد الله وصلى عليه ابن دعلج، واستعمل المنصور مكانه عبيد الله بْن الحسن بْن الحصين العنبري.
وفيها عقد المنصور الجسر عند باب الشعير، وجرى ذلك على يد حميد القاسم الصيرفي، بأمر الربيع الحاجب.
وفيها عزل محمد بْن سعيد الكاتب عن مصر، واستعمل عليها مطر مولى أبي جعفر المنصور

(8/52)


وفيها ولي معبد بْن الخليل السند، وعزل عنها هشام بْن عمرو، ومعبد يومئذ بخراسان، كتب إليه بولايته.
وغزا الصائفة فيها يزيد بْن أسيد السلمي، ووجه سنانا مولى البطال إلى بعض الحصون، فسبى وغنم.
وقال محمد بْن عمر: الذي غزا الصائفة في هذه السنة زفر بْن عاصم.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس.
قَالَ محمد بْن عمر: كان على المدينة- يعني إبراهيم هذا.
وقال غيره: كان على المدينة في هذه السنة عبد الصمد بْن علي، وكان على مكة والطائف محمد بْن إبراهيم، وعلى الأهواز وفارس عمارة بْن حمزة، وعلى كرمان والسند معبد بْن الخليل، وعلى مصر مطر مولى المنصور.

(8/53)


ثم دخلت

سنة ثمان وخمسين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن توليه خالد بن برمك الموصل
فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره إياه بعزل موسى بْن كعب عن الموصل وتولية يحيى بْن خالد بْن برمك عليها.
وكان سبب ذلك- فيما ذكر الحسن بْن وهب بْن سعيد عن صالح بْن عطية- قَالَ: كان المنصور قد ألزم خالد بْن برمك ثلاثة آلاف ألف، ونذر دمه فيها، وأجله ثلاثة أيام بها، فقال خالد لابنه يحيى: يا بني، إني قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي، وإنما يراد بذلك دمي، فانصرف إلى حرمتك وأهلك، فما كنت فاعلا بهم بعد موتي فافعله ثم قَالَ له: يا بني، لا يمنعنك ذلك من أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بْن حمزة وصالح صاحب المصلى ومبارك التركي فتعلمهم حالنا.
قَالَ: فذكر صالح بْن عطية أن يحيى حدثه، قَالَ: أتيتهم فمنهم من تجهمني وبعث بالمال سرا إلي، ومنهم من لم يأذن لي، وبعث بالمال في أثري قَالَ: واستأذنت على عمارة بْن حمزة، فدخلت عليه وهو في صحن داره، مقابل بوجهه الحائط، فما انصرف إلي بوجهه، فسلمت عليه، فرد علي ردا ضعيفا، وقال: يا بني، كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك ما قد لزمه من هذا الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم.
قَالَ: فما رد علي قليلا ولا كثيرا، قَالَ: فضاق بي موضعي، ومادت بي الأرض قَالَ: ثم كلمته فيما أتيته له قَالَ: فقال: إن أمكنني شيء فسيأتيك، قَالَ يحيى: فانصرفت وأنا أقول في نفسي: لعن الله كل شيء يأتي

(8/54)


من تيهك وعجبك وكبرك! وصرت إلى أبي، فأخبرته الخبر، ثم قلت له: وأراك تثق من عمارة بْن حمزة بما لا يوثق به! قال: فو الله إني لكذلك، إذ طلع رسول عمارة بْن حمزة بالمائة ألف قَالَ: فجمعنا في يومين الفى الف وسبعمائة الف، وبقيت ثلاثمائة ألف بوجودها يتم ما سعينا له، وبتعذرها يبطل قال: فو الله إني لعلى الجسر ببغداد مارا مهموما مغموما، إذ وثب إلي زاجر، فقال: فرخ الطائر أخبرك! قَالَ: فطويته مشغول القلب عنه، فلحقني وتعلق بلجامي، وقال لي: أنت والله مهموم، وو الله ليفرجن الله همك، ولتمرن غدا في هذا الموضع واللواء بين يديك قَالَ: فأقبلت أعجب من قوله قَالَ: فقال لي: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم؟
قلت: نعم- ولو قَالَ خمسون ألفا لقلت نعم، لبعد ذلك عندي من أن يكون- قَالَ: ومضيت وورد على المنصور انتقاض الموصل وانتشار الأكراد بها، فقال: من لها؟ فقال له المسيب بْن زهير- وكان صديقا لخالد بْن برمك:
عندي يا أمير المؤمنين رأي، أرى انك لا تنتصحه، وانك ستلقاني بالرد، ولكني لا أدع نصحك فيه والمشورة عليك به، قَالَ: قل، فلا أستغشك، قلت: يا أمير المؤمنين ما رميتها بمثل خالد، قَالَ: ويحك! فيصلح لنا بعد ما أتينا إليه! قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، إنما قومته بذلك وأنا الضامن عليه، قَالَ: فهو لها والله، فليحضرني غدا فأحضر، فصفح له عن الثلثمائه ألف الباقية، وعقد له.
قَالَ يحيى: ثم مررت بالزاجر، فلما رآنى قال: انا هاهنا أنتظرك منذ غدوة، قلت: امض معي، فمضى معى، فدفعت اليه الخمسة الآلاف.
قَالَ: وقال لي أبي: أي بني، إن عماره تلزمه حقوق، وتنوبه نوائب فاته، فاقرئه السلام، وقل له: إن الله قد وهب لنا رأي أمير المؤمنين، وصفح لنا عما بقي علينا، وولاني الموصل، وقد أمر برد ما استسلفت منك قَالَ: فأتيته فوجدته على مثل الحال التي لقيته عليه، فسلمت فما رد

(8/55)


السلام علي، ولا زادني على أن قَالَ: كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقول كذا وكذا، قَالَ: فاستوى جالسا، ثم قَالَ لي: ما كنت إلا قسطارا لأبيك، يأخذ مني إذا شاء، ويرد إذا شاء! قم عني لا قمت! قَالَ: فرجعت إلى أبي فأعلمته، فقال لي أبي: يا بني، هو عمارة ومن لا يعترض عليه! قَالَ: فلم يزل خالد على الموصل إلى أن توفي المنصور ويحيى على أذربيجان، فذكر عن أحمد بْن محمد بْن سوار الموصلي أنه قَالَ: ما هبنا قط أميرا هيبتنا خالد بْن برمك من غير أن تشتد عقوبته، ولا نرى منه جبرية، ولكن هيبة كانت له في صدورنا.
وذكر أحمد بْن معاوية بْن بكر الباهلي، عن أبيه، قَالَ: كان أبو جعفر غضب على موسى بْن كعب- وكان عامله على الجزيرة والموصل- فوجه المهدي إلى الرقة لبناء الرافقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره بالمرور والمضي على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى بْن كعب فقيده، وولى خالد بْن برمك الموصل مكانه، ففعل المهدي ذلك، وخلف خالدا على الموصل، وشخص معه أخو خالد: الحسن وسليمان ابنا برمك، وقد كان المنصور دعا قبل ذلك يحيى بْن خالد، فقال له: قد أردتك لأمر مهم من الأمور، واخترتك لثغر من الثغور، فكن على أهبة، ولا يعلم بذلك أحد حتى أدعو بك فكتم أباه الخبر، وحضر الباب فيمن حضر، فخرج الربيع، فقال:
يحيى بْن خالد! فقام فأخذ بيده، فأدخله على المنصور، فخرج على الناس وأبوه حاضر واللواء بين يديه على أذربيجان، فأمر الناس بالمضي معه، فمضوا في موكبه، وهنئوه وهنئوا أباه خالدا بولايته، فاتصل عملهما.
وقال أحمد بْن معاوية: كان المنصور معجبا بيحيى، وكان يقول:
ولد الناس ابنا وولد خالد أبا.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد.
وفيها سخط المنصور على المسيب بْن زهير وعزله عن الشرطة، وأمر

(8/56)


بحبسه وتقييده، وكان سبب ذلك أنه قتل أبان بْن بشير الكاتب بالسياط، لأمر كان وجد عليه فيما كان من شركته لأخيه عمرو بْن زهير في ولاية الكوفة وخراجها، وولى مكان المسيب الحكم بْن يوسف صاحب الحرب، ثم كلم المهدي أباه في المسيب، فرضي عنه بعد حبسه إياه أياما، وأعاد إليه ما كان يلي من شرطه.
وفيها وجه المنصور نصر بْن حرب التميمي واليا على ثغر فارس.
وفيها سقط المنصور عن دابته بجرجرايا، فانشج ما بين حاجبيه، وذلك أنه كان خرج لما وجه ابنه المهدي إلى الرقة مشيعا له، حتى بلغ موضعا يقال له جب سماقا، ثم عدل إلى حولايا، ثم أخذ على النهروانات فانتهى- فيما ذكر- إلى بثق من النهروانات يصب إلى نهر ديالي، فأقام على سكره ثمانية عشر يوما، فأعياه، فمضى إلى جرجرايا، فخرج منها للنظر إلى ضيعة كانت لعيسى بْن علي هناك، فصرع من يومه ذلك عن برذون له ديزج، فشج في وجهه، وقدم عليه وهو بجرجرايا أسارى من ناحية عمان من الهند، بعث بهم إليه تسنيم بْن الحواري مع ابنه محمد، فهم بضرب أعناقهم، فساءلهم فأخبروه بما التبس به أمرهم عليه، فأمسك عن قتلهم وقسمهم بين قواده ونوابه.
وفيها انصرف المهدي إلى مدينة السلام من الرقة فدخلها في شهر رمضان.
وفيها أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض، الذي كان كسرى بناه، وأمر أن يغرم كل من وجد في داره شيء من الآجر الخسرواني، مما نقضه من بناء الأكاسرة، وقال: هذا فيء المسلمين، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به من مرمة القصر.
وفيها غزا الصائفة معيوف بْن يحيى من درب الحدث، فلقي العدو فاقتتلوا ثم تحاجزوا

(8/57)


ذكر الخبر عن حبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري
وفي هذه السنة حبس محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي، وهو أمير مكة- فيما ذكر- بأمر المنصور إياه بحبسهم: ابن جريج وعباد بْن كثير والثوري، ثم أطلقهم من الحبس بغير إذن أبي جعفر، فغضب عليه أبو جعفر.
وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن عمران مولى محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس حدثه عن أبيه، قَالَ: كتب المنصور الى محمد ابن إبراهيم- وهو أمير على مكة- يأمره بحبس رجل من آل علي بْن أبي طالب كان بمكة، ويحبس ابن جريج وعباد بْن كثير والثوري، قَالَ: فحبسهم، فكان له سمار يسامرونه بالليل، فلما كان وقت سمره جلس وأكب على الأرض ينظر إليها، ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا قَالَ: فدنوت منه فقلت له: قد رأيت ما بك، فما لك؟ قَالَ: عمدت إلى ذي رحم فحبسته، وإلى عيون من عيون الناس فحبستهم، فيقدم أمير المؤمنين ولا أدري ما يكون، فلعله أن يأمر بهم فيقتلوا، فيشتد سلطانه وأهلك ديني، قَالَ: فقلت له: فتصنع ماذا؟ قَالَ: أوثر الله، وأطلق القوم، اذهب إلى إبلي فخذ راحلة منها، وخذ خمسين دينارا فأت بها الطالبي وأقرئه السلام، وقل له: إن ابن عمك يسألك أن تحلله من ترويعه إياك، وتركب هذه الراحلة، وتأخذ هذه النفقة قَالَ: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري، فلما أبلغته قَالَ:
هو في حل ولا حاجة لي إلى الراحلة ولا إلى النفقة قَالَ: قلت: إن أطيب لنفسه أن تأخذ، ففعل قَالَ: ثم جئت إلى ابن جريج وإلى سفيان بْن سعيد وعباد بْن كثير فأبلغتهم ما قَالَ، قالوا: هو في حل، قَالَ: فقلت لهم:
يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم ما دام المنصور مقيما قَالَ: فلما قرب المنصور وجهني محمد بْن إبراهيم بألطاف، فلما أخبر المنصور أن رسول محمد بْن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها.
قَالَ: فلما صار إلى بئر ميمون لقيه محمد بْن إبراهيم، فلما أخبر بذلك أمر بدوابه فضربت وجوهها، فعدل محمد، فكان يسير في ناحية قال:

(8/58)


وعدل بأبي جعفر عن الطريق في الشق الأيسر فأنيخ به، ومحمد واقف قبالته، ومعه طبيب له، فلما ركب أبو جعفر وسار، وعديله الربيع أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر، فرأى نجوه، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم محمد
. ذكر الخبر عن وفاه ابى جعفر المنصور
وفيها شخص أبو جعفر من مدينة السلام، متوجها إلى مكة، وذلك في شوال، فنزل- فيما ذكر- عند قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكب، لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس، ثم مضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم أهل منها بالحج والعمرة، وساق معه الهدي وأشعره وقلده، لأيام خلت من ذي القعدة.
فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي توفي منه.
واختلف في سبب الوجع الذي كانت منه وفاته، فذكر عن علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، عن أبيه، أنه كان يقول: كان المنصور لا يستمرئ طعامه، ويشكو من ذلك إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات، فكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منه عليه، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قَالَ له غيره، فكان يتخذ له سفوفا جوارشنا يابسا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه فأحمده قَالَ: فقال لي أبي: قَالَ لي كثير من متطببي العراق: لا يموت والله أبو جعفر أبدا إلا بالبطن، قَالَ: قلت له: وما علمك؟ قَالَ: هو يأخذ الجوارشن فيهضم طعامه، ويخلق من زئير معدته في كل يوم شيئا، وشحم مصارينه، فيموت ببطنه وقال لي: اضرب لذلك مثلا،

(8/59)


أرأيت لو أنك وضعت جرا على مرفع، ووضعت تحتها آجرة جديدة فقطرت، أما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر! أو ما علمت أن لكل قطرة خدا! قَالَ: فمات والله أبو جعفر- كما قَالَ- بالبطن.
وقال بعضهم: كان بدء وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر، وكان رجلا محرورا على سنه، يغلب عليه المرار الأحمر، ثم هاض بطنه، فلم يزل كذلك حتى نزل بستان ابن عامر، فاشتد به، فرحل عنه فقصر عن مكة، ونزل بئر ابن المرتفع، فأقام بها يوما وليلة، ثم صار منها إلى بئر ميمون، وهو يسأل عن دخوله الحرم، ويوصي الربيع بما يريد أن يوصيه، وتوفي بها في السحر أو مع طلوع الفجر ليلة السبت لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه، فكتم الربيع موته، ومنع النساء وغيرهن من البكاء عليه والصراخ، ثم أصبح فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وجلسوا مجالسهم، فكان أول من دعي به عيسى بْن علي، فمكث ساعة، ثم أذن لعيسى بْن موسى- وقد كان فيما خلا يقدم في الإذن على عيسى بْن علي، فكان ذلك مما ارتيب به- ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان من أهل البيت، ثم لعامتهم، فأخذ الربيع بيعتهم لأمير المؤمنين المهدي ولعيسى بْن موسى من بعده، على يد موسى بْن المهدي حتى فرغ من بيعة بني هاشم، ثم دعا بالقواد فبايعوا ولم ينكل منهم عن ذلك رجل إلا علي ابن عيسى بْن ماهان، فإنه أبى عند ذكر عيسى بْن موسى أن يبايع له، فلطمه محمد بْن سليمان، وقال: ومن هذا العلج! وأمصه، وهم بضرب عنقه، فبايع، وتتابع الناس بالبيعة وكان المسيب بْن زهير أول من استثنى في البيعة، وقال: عيسى بْن موسى: ان كان كذلك فامضوه.
وخرج موسى بْن المهدي إلى مجلس العامة، فبايع من بقي من القواد والوجوه، وتوجه العباس بْن محمد ومحمد بْن سليمان إلى مكة ليبايع أهلها بها،

(8/60)


وكان العباس يومئذ المتكلم، فبايع الناس للمهدي بين الركن والمقام، وتفرق عدة من أهل بيت المهدي في نواحي مكة والعسكر فبايعه الناس، وأخذ في جهاز المنصور وغسله وكفنه، وتولى ذلك من أهل بيته العباس بْن محمد والربيع والريان وعدة من خدمه ومواليه، ففرغ من جهازه مع صلاة العصر، وغطى من وجهه وجميع جسده بأكفانه إلى قصاص شعره، وأبدى رأسه مكشوفا من أجل الإحرام، وخرج به أهل بيته والأخص من مواليه، وصلى عليه- فيما زعم الواقدي- عيسى بْن موسى في شعب الخوز.
وقيل: إن الذي صلى عليه إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي وقيل: إن المنصور كان أوصى بذلك، وذلك أنه كان خليفته على الصلاة بمدينة السلام.
وذكر علي بْن محمد النوفلي، عن أبيه، أن إبراهيم بْن يحيى صلى عليه في المضارب قبل أن يحمل، لأن الربيع قَالَ: لا يصلي عليه أحد يطمع في الخلافة، فقدموا إبراهيم بْن يحيى- وهو يومئذ غلام حدث- ودفن في المقبرة التي عند ثنية المدنيين التي تسمى كذا، وتسمى ثنية المعلاة، لأنها بأعلى مكة، ونزل في قبره عيسى بْن علي والعباس بْن محمد وعيسى بْن موسى، والربيع والريان مولياه، ويقطين بْن موسى.
واختلف في مبلغ سنه يوم توفي، فقال بعضهم: كان يوم توفي ابن أربع وستين سنة.
وقال بعضهم: كان يومئذ ابن خمس وستين سنة.
وقال بعضهم: كان يوم توفي ابن ثلاث وستين سنة.
وقال هشام بْن الكلبي: هلك المنصور وهو ابن ثمان وستين سنة

(8/61)


وقال هشام: ملك المنصور اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما.
واختلف عن أبي معشر في ذلك، فحدثني أحمد بْن ثابت الرازي عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى عنه أنه قَالَ: توفي أبو جعفر قبل يوم التروية بيوم يوم السبت، فكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام.
وروي عن ابن بكار عنه أنه قَالَ: إلا سبع ليال.
وقال الواقدي: كانت ولاية أبي جعفر اثنتين وعشرين سنة إلا ستة أيام.
وقال عمر بْن شبة: كانت خلافته اثنتين وعشرين سنة غير يومين.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي.
وفي هذه السنة هلك طاغية الروم.

ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور
ذكر أنه كان أسمر طويلا، نحيفا خفيف العارضين.
وكان ولد بالحميمة.

ذكر الخبر عن بعض سيره
ذكر عن صالح بْن الوجيه، عن أبيه، قَالَ: بلغ المنصور أن عيسى ابن موسى قتل رجلا من ولد نصر بْن سيار، كان مستخفيا بالكوفة، فدل عليه، فضرب عنقه فأنكر ذلك وأعظمه، وهم في عيسى بأمر كان فيه هلاكه، ثم قطعه عن ذلك جهل عيسى بما فعل فكتب إليه:
أما بعد، فإنه لولا نظر أمير المؤمنين واستبقاؤه لم يؤخرك عقوبة قتل ابن نصر بْن سيار واستبدادك به بما يقطع أطماع العمال في مثله، فأمسك عمن ولاك أمير المؤمنين أمره، من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبدن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة، فإنه لا يرى ان يأخذ

(8/62)


أحدا بظنة قد وضعها الله عنه بالتوبة، ولا بحدث كان منه في حرب أعقبه الله منها سلما ستر به عن ذي غلة، وحجز به عن محنة ما في الصدور، وليس ييأس أمير المؤمنين لأحد ولا لنفسه من الله من إقبال مدبر، كما أنه لا يأمن إدبار مقبل إن شاء الله والسلام.
وذكر عن عباس بْن الفضل، قَالَ: حدثني يحيى بْن سليم كاتب الفضل بْن الربيع، قَالَ: لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يوما واحدا، فإنا رأينا ابنا له يقال له عبد العزيز أخا سليمان وعيسى ابنى ابى جعفر من الطلحيه، توفي وهو حدث، قد خرج على الناس متنكبا قوسا، متعمما بعمامة، مترديا ببرد، في هيئة غلام أعرابي، راكبا على قعود بين جوالقين، فيهما مقل ونعال ومساويك وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه قَالَ: فمضى الغلام حتى عبر الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدى إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجواليق وملأهما دراهم، فانصرف بين الجوالقين، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.
وذكر عن حماد التركي، قَالَ: كنت واقفا على رأس المنصور، فسمع جلبة في الدار، فقال: ما هذا يا حماد؟ انظر، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وأمرها.
ووصفتها له، فقال لي: أصبت صفته، فما يدريك أنت ما الطنبور! قلت:
رأيته بخراسان، قَالَ: نعم هناك، ثم قَالَ: هات نعلي، فأتيته بها فقام يمشي رويدا حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذوه، فأخذ، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قَالَ:
أخرجه من قصري، واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.
وذكر العباس بْن الفضل عن سلام الأبرش، قَالَ: كنت وأنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور داخلا في منزله، وكانت له حجرة فيها بيت وفسطاط وفراش ولحاف يخلو فيه، وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج

(8/63)


إلى الناس، وأشد احتمالا لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتربد وجهه، واحمرت عيناه، فيخرج فيكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك، فنستقبله في ممشاه، فربما عاتبناه.
وقال لي يوما: يا بنى إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي، فلا يدنون مني أحد منكم مخافة أن أعره بشيء.
وذكر أبو الهيثم خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير بْن حازم، قَالَ:
حدثني عبد الله بْن محمد- يلقب بمنقار من أهل خراسان وكان من عمال الرشيد- قَالَ: حدثني معن بْن زائدة، قال: كنا في الصحابه سبعمائة رجل، فكنا ندخل على المنصور في كل يوم، قَالَ: فقلت للربيع: اجعلني في آخر من يدخل، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسهم نسبا فتكون في آخرهم، وإن مرتبتك لتشبه نسبك قَالَ: فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حنفي أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي قَالَ: فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قَالَ: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن عرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عمودا من بين فراشين، واستحال لونه ودرت أوداجه، فقال: إنك لصاحبي يوم واسط، لا نجوت إن نجوت مني قَالَ: قلت يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك! قَالَ: فقال لي: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود في مستقره، واستوى متربعا، واسفر لونه، فقال: يا معن، إن لي باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم راى، قال: فقال: أنت صاحبي، فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في القصر فخرج، فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بمعصيتي، وإني أريد أن آخذه أسيرا ولا يفوتني شيء من ماله، فما ترى؟ قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، ولني اليمن، وأظهر أنك ضممتني إليه، ومر الربيع يزيح علتي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني من يومي هذا لئلا ينتشر الخبر قَالَ: فاستل عهدا من بين

(8/64)


فراشين، فوقع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع، فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معنا إلى صاحب اليمن، فأزح علته فيما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ولا يمسي إلا وهو راحل ثم قَالَ: ودعني، فودعته وخرجت إلى الدهليز، فلقيني أبو الوالي، فقال: يا معن، أعزز علي أن تضم إلى ابن أخيك! قَالَ: فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل أن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه، فخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل، فأخذته أسيرا، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه.
وذكر حماد بْن أحمد اليماني، قَالَ: حدثني محمد بن عمر اليماني أبو الرديني، قَالَ: أراد معن بْن زائدة أن يوفد إلى المنصور قوما يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي وأفنيت رجالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته! فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة، فكان فيمن اختار مجاعة بْن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحدا واحدا، ويقول: ماذا أنت قائل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعه ابن الأزهر، فقال: أعز الله الأمير! تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن! أقصد لحاجتك، حتى أتأتى لها كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي، ثم التفت إلى عبد الرحمن بْن عتيق المزنى، فقال له: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك، فإن سها عن شيء فتلافه واختار من أصحابه ثمانية نفر معهما حتى تموا عشرة، وودعهم ومضوا حتى صاروا إلى أبي جعفر، فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بْن الأزهر بحمد الله والثناء عليه والشكر، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي ص، وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله، حتى تعجب القوم، ثم كر على ذكر أمير المؤمنين المنصور، وما شرفه الله به، وما قلده، ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه فلما انتهى كلامه، قَالَ

(8/65)


المنصور: أما ما وصفت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، واما ما ذكرت من النبي ص فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين، فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولؤمت، اخرج فلا يقبل ما ذكرت قَالَ: صدق امير المؤمنين، وو الله ما كذبت في صاحبي فاخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان أمر برده مع أصحابه، فقال: ما ذكرت؟
فكر عليه الكلام، حتى كأنه كان في صحيفه يقرؤه، فقال له مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعا، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلا أربط جأشا، ولا أظهر بيانا، رده يا غلام فلما صار بين يديه أعاد السلام، وأعاد أصحابه، فقال له المنصور: اقصد لجاجتك وحاجة صاحبك قَالَ: يا أمير المؤمنين، معن بْن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك، فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجا من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه! فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساع أو واش أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته فقبل وفادتهم، وقبل العذر من معن، وأمر بصرفهم إليه، فلما صاروا إلى معن وقرأ الكتاب بالرضا قبل ما بين عينيه، وشكر اصحابه، وخلع عليهم واجازهم على اقدامهم، وأمرهم بالرحيل إلى منصور، فقال مجاعة:
آليت في مجلس من وائل قسما ... ألا أبيعك يا معن بأطماع
يا معن إنك قد أوليتني نعما ... عمت لجيما وخصت آل مجاع
فلا أزال إليك الدهر منقطعا ... حتى يشيد بهلكي هتفه الناعي
قَالَ: وكانت نعم معن على مجاعة، أنه سأله ثلاث حوائج، منها أنه كان يتعشق امرأة من أهل بيته، سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد،

(8/66)


وكانت إذا ذكر لها قالت: بأي شيء يتزوجني؟ أبجبته الصوف، أم بكسائه! فلما رجع إلى معن كان أول شيء سأله أن يزوجه بها، وكان أبوها في جيش معن، فقال: أريد زهراء، وأبوها في عسكرك أيها الأمير، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده فقال له معن: حاجتك الثانية، قَالَ: الحائط الذي فيه منزلي بحجر وصاحبه في عسكر الأمير، فاشتراه منه وصيره له، وقال: حاجتك الثالثة؟ قَالَ: تهب لي مالا.
قَالَ: فأمر له بثلاثين ألف درهم، تمام مائة ألف درهم، وصرفه إلى منزله.
وذكر عن محمد بْن سالم الخوارزمي- وكان أبوه من قواد خراسان- قَالَ: سمعت أبا الفرج خال عبد الله بْن جبلة الطالقاني يقول: سمعت أبا جعفر يقول: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قَالَ: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم، إن نقصت واحدة وهي، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع- ثم عض على أصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه آه- قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟
قَالَ: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة.
وقيل: إن المنصور دعا بعامل من عماله قد كسر خراجه، فقال له:
أد ما عليك، قَالَ: والله ما أملك شيئا، ونادى المنادي: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: يا أمير المؤمنين، هب ما علي لله ولشهاده ان لا إله إلا الله، فخلى سبيله.
قَالَ: وولى المنصور رجلا من أهل الشام شيئا من الخراج، فأوصاه وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! الساعة يا أخا أهل الشام! تخرج من عندي الساعة، فتقول: الزم الصحة، يلزمك العمل

(8/67)


قَالَ: وولى رجلا من أهل العراق شيئا من خراج السواد، فأوصاه، وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج الساعة فتقول: من عال بعدها فلا اجتبر أخرج عنى وامض الى عملك، فو الله لئن تعرضت لذلك لأبلغن من عقوبتك ما تستحقه قال: فوليا جميعا وصححا وناصحا.
ذكر الصباح بْن عبد الملك الشيباني، عن إسحاق بْن موسى بْن عيسى، أن المنصور ولى رجلا من العرب حضرموت، فكتب إليه وإلى البريد أنه يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة وكلاب قد أعدها، فعزله وكتب إليه: ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك! ما هذه العدة التي أعددتها للنكاية في الوحش! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين، ولم نستكفك أمور الوحش، سلم ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بْن فلان، والحق بأهلك ملوما مدحورا.
وذكر الربيع أنه قَالَ: أدخل على المنصور سهيل بْن سالم البصري، وقد ولي عملا فعزل، فأمر بحبسه واستئدائه، فقال سهيل: عبدك يا أمير المؤمنين، قَالَ: بئس العبد أنت! قَالَ: لكنك يا أمير المؤمنين نعم المولى! قَالَ:
أما لك فلا.
قَالَ: وذكر عن الفضل بْن الربيع عن أبيه، أنه قَالَ: بينا أنا قائم بين يدي المنصور أو على رأسه، إذ أتي بخارجي قد هزم له جيوشا، فأقامه ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه، فقال: يا بن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش! فقال له الخارجي: ويلك وسوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب! وما كان يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها ابدا! قال: فاستحيا منه المنصور وأطلقه، فما رأى له وجها حولا.
ذكر عبد الله بْن عمرو الملحي أن هارون بْن محمد بْن إسماعيل بْن موسى الهادي، قَالَ: حدثني عبد الله بْن مُحَمَّد بْن أبي أيوب المكي، عن أبيه، قَالَ: حدثني عمارة بْن حمزة، قَالَ: كنت عند المنصور، فانصرفت من عنده في وقت انتصاف النهار، وبعد أن بايع الناس للمهدي، فجاءني المهدى

(8/68)


في وقت انصرافي، فقال لي: قد بلغني أن أبي قد عزم أن يبايع لجعفر أخي، وأعطي الله عهدا لئن فعل لأقتلنه، فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فقلت: هذا أمر لا يؤخر، فقال الحاجب: الساعة خرجت! قلت:
أمر حدث، فأذن لي، فدخلت إليه، فقال لي: هيه يا عمارة! ما جاء بك؟
قلت: أمر حدث يا أمير المؤمنين أريد أن أذكره، قَالَ: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك حاضر ثالثنا، قَالَ: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك.
وذكر عن أحمد بْن يوسف بْن القاسم، قَالَ: سمعت إبراهيم بْن صالح، يقول: كنا في مجلس ننتظر الإذن فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بْن زائدة، وممن ذمه الحسن بْن زيد، ثم أذن لنا فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بْن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني أبقى حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيثنى عليه فقال أبو جعفر: وما استنكرت من ذلك! رجل استكفاه قوم فكفاهم، والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين قَالَ: فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك، قَالَ: ومن هم؟ كأنك تريد نفسك! قَالَ: وإن أردتها فلم أبعد من ذلك، قَالَ: كلا لست كذاك، إن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمناك فخنتنا! ذكر الهيثم بْن عدي، عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكة، وسايرته يوما، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جبة خز، وعمامة عدنية، وفي يده سوط يكاد يمس الأرض، سري الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوته، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب، فأعجبه ما راى منه، فقال: انشدنى، فانشده شعرا لاوس بْن حجر وغيره من الشعراء من بني عمرو بْن تميم، وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بْن تميم العنبري، وهو قوله:

(8/69)


إن قناتي لنبع لا يؤيسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفا تأمن مسارحه ... وإن أخف آمنا تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت ... إن الأمور لها ورد وإصدار
فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قَالَ هذا الشعر؟ قَالَ:
كان أثقل العرب على عدوه وطأة وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبة، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقراهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره، اجتمعت العرب بعكاظ فكلهم اقر له بهذه الخلال، غير أن امرأ أراد أن يقصر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النجعة، ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى أن جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره، قَالَ: يا أخا بني تميم، لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك ولكني أحق ببيتيه منه، أنا الذي وصف لا هو. وذكر أحمد بْن خالد الفقيمي أن عدة من بني هاشم حدثوه أن المنصور كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم والتلطف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامره، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه، فأسبغ وضوءه، وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
قَالَ إسحاق: حدثت عن عبد الله بْن الربيع، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لإسماعيل بْن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام

(8/70)


وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشام حصن الأمة وأسنة الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجال، والترك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوا ببلادهم فاكتفوا بها عما يليهم، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديما فهم لكل قوم عبيد قَالَ: فأي الولاة أفضل؟ قَالَ: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة قَالَ: فأيهم أخرق؟ قَالَ: أنهكهم للرعية، وأتعبهم لها بالخرق والعقوبة قَالَ:
فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسر الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة على المحبة تضمر الاجتهاد وتبالغ عند الغفلة قَالَ: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟
قَالَ: أولاهم بالمضرة والمنفعة قَالَ: ما علامة ذلك؟ قَالَ: سرعة الإجابة وبذل النفس قَالَ: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيرا؟ قَالَ: أسلمهم قلبا، وأبعدهم من الهوى.
وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قَالَ: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع، ولا تنس مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله.
وذكر الزبير بْن بكار، قَالَ: حدثني مبارك الطبري، قَالَ: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: لا تبرم أمرا حتى تفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه.
وذكر الزبير أيضا، عن مصعب بْن عبد الله، عن أبيه، قَالَ: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال، ولا تقدم في الحياطة بمثل نقل الأخبار

(8/71)


وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره.
وعن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلسا إلا ومعك من أهل العلم من يحدثك، فإن محمد بْن شهاب الزهري قَالَ: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، ولا يبغضه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة! وذكر عن علي بْن مجاهد بْن محمد بْن علي، أن المنصور قَالَ للمهدي:
يا أبا عبد الله، من أحب الحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض أحد الحمد إلا استذم، وما استذم إلا كره.
وقال المبارك الطبري: سمعت أبا عبيد الله، يقول: قَالَ المنصور للمهدي:
يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.
وذكر الفقيمي، عن عتبة بْن هارون، قَالَ: قَالَ أبو جعفر يوما للمهدي:
كم راية عندك؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ: هذا والله التضييع، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا، ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت، فاتق الله فيما خولك.
وذكر علي بْن محمد عن حفص بْن عمر بْن حماد، عن خالصة، قالت:
دخلت على المنصور، فإذا هو يتشكى وجع ضرسه، فلما سمع حسي، قَالَ: ادخلي، فلما دخلت إذا هو واضع يده على صدغيه، فسكت ساعة ثم قَالَ لي: يا خالصة، كم عندك من المال؟ قلت: ألف درهم، قَالَ:
ضعي يدك على رأسي واحلفي، قلت: عندي عشرة آلاف دينار، قَالَ:
احمليها إلي، فرجعت فدخلت على المهدي والخيزران فأخبرتهما، فركلني المهدي برجله، وقال لي: ما ذهب بك إليه! ما به من وجع، ولكني سألته أمس مالا فتمارض، احملي إليه ما قلت، ففعلت، فلما أتاه المهدي، قَالَ:

(8/72)


يا أبا عبد الله، تشكو الحاجة وهذا عند خالصة! وقال علي بْن محمد: قَالَ واضح مولى أبي جعفر، قَالَ: قَالَ أبو جعفر يوما: انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها، فإذا علمت بمجيء أبي عبد الله فجئني بها قبل أن يدخل، وليكن معها رقاع ففعلت، ودخل عليه المهدي وهو يقدر الرقاع، فضحك وقال: يا أمير المؤمنين، من هاهنا يقول الناس: نظروا في الدينار والدرهم وما دون ذلك- ولم يقل: دانق- فقال المنصور: إنه لا جديد لمن لا يصلح خلقه، هذا الشتاء قد حضر، ونحتاج إلى كسوة للعيال والولد قَالَ: فقال المهدي: فعلي كسوة أمير المؤمنين وعياله وولده، فقال له: دونك فافعل.
وذكر علي بْن مرثد أبو دعامة الشاعر، أن أشجع بْن عمرو السلمي حدثه عن المؤمل بْن أميل- وذكره أيضا عبد الله بْن الحسن الخوارزمي أن أبا قدامة حدثه أن المؤمل بْن أميل حدثه- قَالَ: قدمت على المهدي- قَالَ ابن مرثد في خبره: وهو ولي عهد، وقال الخوارزمي: قدمت عليه الري وهو ولي عهد- فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم فكتب إليه المنصور يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم قَالَ أبو قدامة: فكتب إلي كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائدا من قواده، فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلا رجلا ممن يمر به، حتى يظفر بالمؤمل، فلما رآه قَالَ له: من أنت؟ قَالَ: أنا المؤمل بْن أميل، من زوار الأمير المهدي، قَالَ: إياك طلبت قَالَ المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة، وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع، فقال:
هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه، فسلمت فرد علي السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قَالَ: أنت المؤمل بْن أميل؟

(8/73)


قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين! قَالَ: هيه! اتيت غلاما غرا فخدعته! قَالَ: فقلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع، قَالَ: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
هو المهدي إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا مشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار سراج نور
ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا ... منير عند نقصان الشهور
فيا بن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت وراءه تجري حثيثا ... وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس: ما هذان إلا ... بمنزلة الخليق من الجدير
لئن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبير ... لقد خلق الصغير من الكبير
فقال: والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم.
وقال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قَالَ: يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ منه الباقي قَالَ، فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي قَالَ: فلما صارت الخلافة إلى المهدي، ولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يوما رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن

(8/74)


ثوبان، جعل المهدي ينظر في الرقاع، حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين! ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قَالَ: هذه رقعة أعرف سببها، ردوا إليه العشرين الألف الدرهم، فردت إلي وانصرفت وذكر واضح مولى المنصور، قَالَ: إني لواقف على رأس أبي جعفر يوما إذ دخل عليه المهدي، وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفا وأتبعه أبو جعفر بصره لحبه له وإعجابه به، فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكترث لذلك ولا حافل به، فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله، فرددناه إليه، فقال: يا أبا عبد الله، استقلالا للمواهب، أم بطرا للنعمة، أم قلة علم بموضع المصيبة! كأنك جاهل بما لك وعليك! وهذا الذي أنت فيه عطاء من الله، إن شكرته عليه زادك، فإن عرفت موضع البلاء منه فيه عافاك فقال المهدي: لا أعدمنا الله بقاءك يا أمير المؤمنين وإرشادك، والحمد لله على نعمه، وأسأل الله الشكر على مواهبه، والخلف الجميل برحمته ثم انصرف.
قَالَ العباس بْن الوليد بْن مزيد: قَالَ: سمعت ناعم بْن مزيد، يذكر عن الوضين بْن عطاء، قَالَ: استزارني أبو جعفر- وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة- فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوما، فقال لي:
يا أبا عبد الله، ما مالك؟ قلت: الخبر الذي يعرفه أمير المؤمنين، قَالَ: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، قَالَ: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فو الله لردد علي حتى ظننت أنه سيمولني، قَالَ: ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنت أيسر العرب، اربعه مغازل يدرن في بيتك

(8/75)


وذكر بشر المنجم، قَالَ: دعاني أبو جعفر يوما عند المغرب، فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فإذا دينار، فقال لي:
خذ هذا واحتفظ به، قَالَ: فهو عندي إلى الساعة.
وذكر أبو الجهم بْن عطية، قَالَ: حدثني أبو مقاتل الخراساني، ورفع غلام له إلى أبي جعفر أن له عشرة آلاف درهم، فأخذها منه، وقال: هذا مالي، قَالَ: ومن اين يكون مالك! فو الله ما وليت لك عملا قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة، قَالَ: بلى، كنت تزوجت مولاه لعيينه بن موسى ابن كعب فورثتك مالا، وكان ذلك قد عصي وأخذ مالي وهو وال على السند، فهذا المال من ذلك المال! وذكر مصعب بْن سلام، عن أبي حارثة النهدي صاحب بيت المال، قَالَ: ولى أبو جعفر رجلا باروسما، فلما انصرف أراد أن يتعلل عليه، لئلا يعطيه شيئا، فقال له: أشركتك في أمانتي، ووليتك فيئا من فيء المسلمين فخنته! فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما صحبني من ذلك شيء إلا درهم، منه مثقال صررته في كمي، إذا خرجت من عندك اكتريت به بغلا إلى عيالي، فأدخل بيتي ليس معي شيء من مال الله ولا مالك فقال:
ما أظنك إلا صادقا، هلم درهمنا فأخذه منه فوضعه تحت لبده؟
فقال: ما مثلي ومثلك إلا مثل مجير أم عامر، قَالَ: وما مجير أم عامر، فذكر قصة الضبع ومجيرها، قَالَ: وإنما غالظه أبو جعفر لئلا يعطيه شيئا.
وذكر عن هشام بْن محمد أن قثم بْن العباس دخل على أبي جعفر، فكلمه في حاجة، فقال له أبو جعفر: دعني من حاجتك هذه، أخبرني لم سميت قثم؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين ما أدري، قَالَ: القثم الذي يأكل ويزل، أما سمعت قول الشاعر:
وللكبراء أكل كيف شاءوا ... وللصغراء أكل واقتثام

(8/76)


وذكر عن إبراهيم بْن عيسى أن المنصور وهب لمحمد بْن سليمان عشرين ألف درهم ولجعفر أخيه عشرة آلاف درهم، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، تفضله علي وأنا أسن منه! قَالَ: وأنت مثله! إنا لا نلتفت إلى ناحية إلا وجدنا من أثر محمد فيها شيئا، وفي منزلنا من هداياه بقية، وأنت لم تفعل من هذا شيئا.
وذكر عن سوادة بْن عمرو السلمي، عن عبد الملك بْن عطاء- وكان في صحابة المنصور- قَالَ: سمعت ابن هبيرة وهو يقول في مجلسه: ما رأيت رجلا قط في حرب، ولا سمعت به في سلم، أمكر ولا أبدع، ولا أشد تيقظا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئا نكسره به، فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء، فخرجت إليه وما في رأسي سوداء، وإنه لكما قَالَ الأعشى:
يقوم على الرغم من قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم
أخو الحرب لا ضرع واهن ... ولم ينتعل بنعال خذم
وذكر إبراهيم بْن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلا على رجل يقال له أزهر السمان- وليس بالمحدث- وذلك قبل خلافته، فلما ولي الخلافة صار إليه إلى مدينة السلام، فأدخل عليه، فقال: حاجتك؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، علي دين أربعة آلاف درهم، وداري مستهدمة، وابني محمد يريد البناء بأهله، فأمر له باثني عشر ألف درهم، ثم قَالَ: يا أزهر، لا تأتنا طالب حاجة، قَالَ: أفعل فلما كان بعد قليل عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قَالَ: جئت مسلما يا أمير المؤمنين، قَالَ: إنه ليقع في نفسي أشياء، منها أنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الأولى، فأمر له باثني عشر ألف درهم أخرى، ثم قَالَ: يا أزهر، لا تأتنا طالب حاجة ولا مسلما، قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ثم لم يلبث أن عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قَالَ:

(8/77)


دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده، فإنه غير مستجاب، لأني قد دعوت الله به ان يريحني من خلفتك فلم يفعل، وصرفه ولم يعطه شيئا.
وذكر الهيثم بن عدى ان ابن عياش حدثه أن ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط، والمنصور بإزائه: إني خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغنى تجبينك إياي، فكتب اليه: يا بن هبيرة، انك امرؤ متعد طورك، جار في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده، فرويدا يتم الكتاب أجله، وقد ضربت مثلي ومثلك، بلغني أن أسدا لقي خنزيرا، فقال له الخنزير:
قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفء ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل لي: قتلت خنزيرا، فلم أعتقد بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان سبة علي، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع فأعلمتها أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك.
وذكر عن محمد بْن رياح الجوهري، قَالَ: ذكر لأبي جعفر تدبير هشام بْن عبد الملك في حرب كانت له، فبعث إلى رجل كان معه ينزل الرصافة- رصافة هشام- يسأله عن ذلك الحرب، فقدم عليه فقال: أنت صاحب هشام؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا؟ قَالَ: إنه فعل فيها رحمه الله كذا وكذا، ثم أتبع بأن قَالَ: فعل كذا رضي الله عنه، فأحفظ ذلك المنصور، فقال:
قم عليك غضب الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الشيخ، وهو يقول:
إن لعدوك قلادة في عنقي ومنة في رقبتي لا ينزعها عني إلا غاسلي، فأمر المنصور برده، وقال: اقعد، هيه! كيف قلت؟ فقلت: إنه كفاني الطلب، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب عربي ولا أعجمي منذ رأيته، أفلا

(8/78)


يجب علي أن أذكره بخير وأتبعه بثنائي! فقال: بلى، لله أم نهضت عنك، وليلة أدتك، أشهد أنك نهيض حرة وغراس كريم، ثم استمع منه وأمر له ببر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلا أني أتشرف بحبائك، وأتبجح بصلتك فأخذ الصلة وخرج، فقال المنصور:
عند مثل هذا تحسن الصنيعة، ويوضع المعروف، ويجاد بالمصون، وأين في عسكرنا مثله! وذكر عن حفص بْن غياث، عن ابن عياش، قَالَ: كان أهل الكوفة لا تزال الجماعة منهم قد طعنوا على عاملهم، وتظلموا على أميرهم، وتكلموا كلاما فيه طعن على سلطانهم، فرفع ذلك في الخبر، فقال للربيع: أخرج إلي من بالباب من أهل الكوفة، فقل لهم: إن أمير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقن رءوسهما ولحاهما، ولأضربن ظهورهما، فالزموا منازلكم، وابقوا على أنفسكم فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة فقال له ابن عياش: يا شبه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنا كما أبلغتنا عنه، فقل له: والله يا أمير المؤمنين ما لنا بالضرب طاقة، فأما حلق اللحى فإذا شئت- وكان ابن عياش منتوفا- فأبلغه، فضحك، وقال: قاتله الله ما أدهاه وأخبثه! وقال موسى بْن صالح: حدثني محمد بْن عقبة الصيداوي عن نصر بْن حرب- وكان في حرس أبي جعفر- قَالَ: رفع إلي رجل قد جيء به من بعض الآفاق، قد سعى في فساد الدولة، فأدخلته على أبي جعفر، فلما رآه قَالَ: أصبغ! قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويلك! أما أعتقتك وأحسنت إليك! قَالَ: بلى، قَالَ: فسعيت في نقض دولتي وإفساد ملكي! قَالَ:
أخطأت وأمير المؤمنين أولى بالعفو قَالَ: فدعا أبو جعفر عمارة- وكان حاضرا- فقال: يا عمارة، هذا أصبغ، فجعل يتثبت في وجهي، وكأن في عينيه سوءا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: علي بكيس عطائي، فأتي بكيس فيه خمسمائة درهم، فقال: خذها فإنها وضح، ويلك، وعليك

(8/79)


بعملك- واشار بيده يحركها- قال عمارة: فقلت لأصبغ: ما كان عنى أمير المؤمنين؟ قَالَ: كنت وأنا غلام أعمل الحبال، فكان يأكل من كسبي.
قَالَ نصر: ثم أتي به ثانية، فأدخلته كما أدخلته قبل، فلما وقف بين يديه أحد النظر إليه، ثم قَالَ: أصبغ! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فقص عليه ما فعل به، وذكره إياه، فأقر به، وقال: الحمق يا أمير المؤمنين، فقدمه فضرب عنقه.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ:
كان خضاب المنصور زعفرانيا، وذلك أن شعره كان لينا لا يقبل الخضاب، وكانت لحيته رقيقة، فكنت أراه على المنبر يخطب ويبكي فيسرع الدمع على لحيته حتى تكف لقلة الشعر ولينه.
وذكر إبراهيم بْن عبد السلام، ابن أخي السندي بْن شاهك السندي، قَالَ:
ظفر المنصور برجل من كبراء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قَالَ: نعم، فقال له المنصور: من أين أتي بنو أمية حتى انتشر امرهم؟ قال: من تضييع الاخبار، وقال: فأي الأموال وجدوها أنفع؟ قَالَ:
الجوهر، قَالَ فعند من وجدوا الوفاء؟ قَالَ: عند مواليهم، قَالَ: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قَالَ: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه.
وذكر علي بْن محمد الهاشمي أن أباه محمد بْن سليمان حدثه، قَالَ: بلغني أن المنصور أخذ الدواء في يوم شات شديد البرد، فأتيته أسأله عن موافقة الدواء له، فأدخلت مدخلا من القصر لم أدخله قط، ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، وفيها بيت واحد ورواق بين يديه في عرض البيت وعرض الصحن، على أسطوانة ساج، وقد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فيه شيء غيره إلا فراشه ومرافقه ودثاره، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت أربأ بك عنه، فقال: يا عم، هذا

(8/80)


بيت مبيتي، قلت: ليس هنا غير هذا الذي أرى، قَالَ: ما هو إلا ما ترى.
قَالَ: وسمعته يقول عمن حدثه، عن جعفر بْن محمد، قَالَ: قيل إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة، وأنه يرقع قميصه، فقال جعفر:
الحمد لله الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه- أو قَالَ: بالفقر في ملكه.
قَالَ: وحدثني أبي، قَالَ: كان المنصور لا يولي أحدا ثم يعزله إلا ألقاه في دار خالد البطين- وكان منزل خالد على شاطئ دجلة، ملاصقا لدار صالح المسكين- فيستخرج من المعزول مالا، فما أخذ من شيء أمر به فعزل، وكتب عليه اسم من أخذ منه، وعزل في بيت مال، وسماه بيت مال المظالم، فكثر ما في ذلك البيت من المال والمتاع ثم قَالَ للمهدي: إني قد هيأت لك شيئا ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئا، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم، فاردد عليهم كل ما أخذ منهم، فإنك تستحمد إليهم وإلى العامة، ففعل ذلك المهدي لما ولي.
قَالَ علي بْن محمد: فكان المنصور ولى محمد بْن عبيد الله بْن محمد بْن سليمان بْن محمد بْن عبد المطلب بْن ربيعة بْن الحارث البلقاء، ثم عزله، وأمر أن يحمل إليه مع مال وجد عنده، فحمل إليه على البريد، وألفي معه ألفا دينار، فحملت مع ثقله على البريد- وكان مصلى سوسنجرد ومضربة ومرفقة ووسادتين وطستا وإبريقا وأشناندانه نحاس- فوجد ذلك مجموعا كهيئته، إلا أن المتاع قد تاكل، فاخذ الفى الدينار، واستحيا أن يخرج ذلك المتاع، وقال: لا أعرفه، فتركه، ثم ولاه المهدي بعد ذلك اليمن، وولى الرشيد ابنه الملقب ربرا المدينة.
وذكر أحمد بْن الهيثم بْن جعفر بْن سليمان بن على، قال: حدثنى صباح ابن خاقان، قَالَ: كنت عند المنصور حين أتي برأس ابراهيم بن عبد الله ابن حسن، فوضع بين يديه في ترس، فأكب عليه بعض السيافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظرا شديدا، وقال لي: دق أنفه، قَالَ:
فضربت أنفه بالعمود ضربة لو طلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته

(8/81)


أعمدة الحرس، فما زال يهشم بها حتى خمد، ثم جر برجله قَالَ الأصمعي: حدثني جعفر بْن سليمان، قَالَ: قدم أشعب أيام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغناهم، فإذا ألحانه طربة وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟
لمن طلل بذات الجيش أمسى دارسا خلقا ... علون بظاهر البيداء
فالمحزون قد قلقا
فقال: أخذت الغناء من معبد، ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قَالَ: عليكم بأشعب، فإنه أحسن تأدية له مني.
قَالَ الأصمعي: وقال جعفر بْن سليمان: قَالَ أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وأنتفي منك، قَالَ: ولم يا أبه؟ قَالَ: لأني أكسب خلق الله لرغيف، وأنت ابني قد بلغت هذا المبلغ من السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئا، قَالَ: بلى والله، إني لأكسب، ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان الهاشمي، أن أباه محمدا حدثه أن الأكاسرة كان يطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى بأطنان القصب والخلاف طوالا غلاظا، فترصف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العظام فتجعل ما بين أضعافها، وكانت بنو أمية تفعل ذلك، وكان أول من اتخذ الخيش المنصور.
وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطين له في أول خلافته بيت في الصيف يقيل فيه، فاتخذ له أبو أيوب الخوزي ثيابا كثيفة تبل وتوضع على سبايك، فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسب هذه الثياب أن اتخذت أكثف من هذه إلا حملت من الماء أكثر مما تحمل، وكانت أبرد، فاتخذ

(8/82)


له الخيش، فكان ينصب على قبة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتخذها الناس.
وقال علي بْن محمد عن أبيه: أن رجلا من الراوندية كان يقال له الأبلق، وكان أبرص، فتكلم بالغلو، ودعا بالراوندية إليه، فزعم ان الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في علي بْن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد إلى إبراهيم بْن محمد، وأنهم آلهة، واستحلوا الحرمات، فكان الرجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته، فبلغ ذلك أسد بْن عبد الله، فقتلهم وصلبهم، فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم، كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت! قَالَ: فخرج إليهم بنفسه، فقاتلهم فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت قَالَ: فحكي لنا عن بعض مشيختنا أنه نظر إلى جماعة الراوندية يرمون أنفسهم من الخضراء كأنهم يطيرون، فلا يبلغ أحدهم الأرض إلا وقد تفتت، وخرجت روحه.
قَالَ أحمد بْن ثابت مولى محمد بْن سليمان بْن علي عن ابيه: ان عبد الله ابن علي، لما توارى من المنصور بالبصرة عند سليمان بْن علي أشرف يوما ومعه بعض مواليه ومولى لسليمان بْن علي، فنظر إلى رجل له جمال وكمال، يمشي التخاجي، ويجر أثوابه من الخيلاء، فالتفت إلى مولى لسليمان بْن علي، فقال: من هذا؟ قَالَ له: فلان ابن فلان الأموي، فاستشاط غضبا وصفق بيديه عجبا، وقال: ان طريقنا لنبك بعد، يا فلان- لمولى له- انزل فأتني برأسه، وتمثل قول سديف:
علام، وفيم نترك عبد شمس ... لها في كل راعية ثغاء!
فما بالرمس في حران منها ... ولو قتلت بأجمعها وفاء

(8/83)


وذكر علي بْن محمد المدائني أنه قدم على أبي جعفر المنصور- بعد انهزام عبد الله بْن علي وظفر المنصور به، وحبسه إياه ببغداد- وفد من أهل الشام فيهم الحارث بْن عبد الرحمن، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث ابن عبد الرحمن، فقال أصلح الله أمير المؤمنين! إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة، وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فان تعاقبنا فيما أجرمنا، وإن تعف عنا فبفضلك علينا، فاصفح عنا إذ ملكت، وامنن إذ قدرت، وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت! قَالَ أبو جعفر: قد فعلت.
وذكر عن الهيثم بْن عدي عن زيد مولى عيسى بْن نهيك، قَالَ: دعاني المنصور بعد موت مولاي، فقال: يا زيد، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ: كم خلف أبو زيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها، قَالَ:
فأين هي؟ قلت: أنفقتها الحرة في مأتمه قَالَ: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت الحرة في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قَالَ: كم خلف من البنات؟
قلت: ستا، فأطرق مليا ثم رفع رأسه، وقال: اغد إلى باب المهدي، فغدوت فقيل لي: أمعك بغال؟ فقلت: لم أومر بذلك ولا بغيره، ولا أدري لم دعيت! قَالَ: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع إلى كل واحدة من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار ثم دعاني المنصور، فقال: أقبضت ما أمرنا به لبنات أبي زيد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: اغد علي بأكفائهن حتى أزوجهن منهم، قَالَ: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيك من بني عمهن، فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، وأمرني أن أشتري بما أمر به لهن ضياعا، يكون معاشهن منها، ففعلت ذلك.
وقال الهيثم: فرق أبو جعفر على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشره آلاف درهم، وأمر للرجل من أعمامه بألف ألف، ولا نعرف خليفة قبله ولا بعده وصل بها أحدا من الناس.
وقال العباس بْن الفضل: أمر المنصور لعمومته: سليمان، وعيسى،

(8/84)


وصالح، وإسماعيل، بني علي بْن عبد الله بْن عباس، لكل رجل منهم بألف ألف معونة له من بيت المال وكان أول خليفة أعطى ألف ألف من بيت المال، فكانت تجري في الدواوين.
وذكر عن إسحاق بْن إبراهيم الموصلي، قَالَ: حدثني الفضل بْن الربيع، عن أبيه، قَالَ: جلس أبو جعفر المنصور للمدنيين مجلسا عاما ببغداد- وكان وفد إليه منهم جماعة- فقال: لينتسب كل من دخل علي منكم، فدخل عليه فيمن دخل شاب من ولد عمرو بْن حزم، فانتسب ثم قَالَ:
يا أمير المؤمنين، قَالَ الأحوص فينا شعرا، منعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة، فقال أبو جعفر: فأنشدني، فأنشده:
لا تأوين لحزمي رأيت به ... فقرا وإن ألقي الحزمي في النار
الناخسين بمروان بذي خشب ... والداخلين على عثمان في الدار
قَالَ: والشعر في المدح للوليد بْن عبد الملك، فأنشده القصيدة، فلما بلغ هذا الموضع قَالَ الوليد: أذكرتني ذنب آل حزم، فامر باستصفاء أموالهم.
فقال أبو جعفر: أعد علي الشعر، فأعاده ثلاثا، فقال له أبو جعفر: لا جرم، أنك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به، ثم قَالَ لأبي أيوب: هات عشرة آلاف درهم فادفعها إليه لغنائه إلينا، ثم أمر أن يكتب الى عماله ان ترد ضياع آل حزم عليهم، ويعطوا غلاتها في كل سنة من ضياع بني أمية، وتقسم أموالهم بينهم على كتاب الله على التناسخ، ومن مات منهم وفر على ورثته قَالَ: فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد من الناس.
وحدثني جعفر بْن أحمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني أحمد بْن أسد، قَالَ: أبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل، وكثروا، فدخل عليه الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء، والناس يقولون، قَالَ: ما يقولون؟ قَالَ: يقولون: عليل، فأطرق قليلا ثم قَالَ: يا ربيع، ما لنا وللعامة! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا

(8/85)


فعل ذلك بها فما حاجتهم! إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم فينصف بعضهم من بعض، ويؤمن سبلهم حتى لا يخافوا في ليلهم ولا نهارهم، ويسد ثغورهم وأطرافهم حتى لا يجيئهم عدوهم، وقد فعلنا ذلك بهم ثم مكث أياما، وقال: يا ربيع، اضرب الطبل، فركب حتى رآه العامة.
وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: وجه أبو جعفر مع محمد بْن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون، وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس، فأظهر محمد أنه يعشق زينب بنت سليمان بْن علي، فكان يركب إلى المربد، فيتصدى لها، يطمع أن تكون في بعض المناظر تنظر إليه، فقال محمد لحماد: قل لي فيها شعرا، فقال فيها أبياتا، يقول فيها:
يا ساكن المربد قد هجت لي ... شوقا فما أنفك بالمربد
قَالَ: فحدثني أبي قَالَ: كان المنصور نازلا على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه، وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولا يأمره أن يتوخى قتل محمد بْن أبي العباس، فاتخذ سما قاتلا، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها فكتبت بذلك أم محمد بْن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها فكتب المنصور يأمر بحمله إليه، فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطا ضربا خفيفا، وحبسه أياما، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابا أكدته وأشهدت عليه شهودا، فعزب بها عشر سنين في سلطانه، فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق

(8/86)


فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة، فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته، فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد، فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر، وكانت أم موسى ولدت له جعفرا والمهدي.
وذكر عن علي بْن الجعد أنه قَالَ: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قَالَ: شراب، فقيل له:
إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعاما ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئا يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب وذكر عن يحيى بْن الحسن أن أباه حدثه، قَالَ: كتب المنصور الى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا، فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلا، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك.
وذكر أبو بكر الهذلي ان أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت.
وقال الفضل بْن الربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول:
الغوى الفادح خير من الري الفاضح.
وذكر عن أبان بْن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ، إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو:
اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت به علينا من عطيتك

(8/87)


قَالَ: وقرأ الهيثم عنده: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ*» فقال للناس: لولا أن الأموال حصن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما، لما أجد لبذل المال من اللذاذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.
ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قَالَ: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه قَالَ: فمن هناك! قَالَ: وكان المنصور كثيرا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئا أو لاحيا.
وذكر عن قحطبة، قَالَ: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثا: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك.
وذكر علي بْن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك، فانظر من تملكه.
وذكر الزبير بْن بكار، عن عمر، قَالَ: لما حمل عبد الجبار بْن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قَالَ له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قَالَ: تركتها وراءك يا بن اللخناء! وذكر عن عمر بْن شبة، أن قحطبة بْن غدانة الجشمي- وكان من الصحابة- قَالَ: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب بمدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم، ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه.
وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بْن حديد، قَالَ: حدثنى بعض

(8/88)


الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح.
وذكر أحمد بْن خالد، قَالَ: حدثني يحيى بْن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» ، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا! قَالَ: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريما، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، فلا تلتمس من غيرك شكر ما آتيته الى نفسك، ووقيت به عرضك واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك، فأكرم وجهك عن رده.
وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، قَالَ:
سمعت إسحاق بْن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بْن علي والعباس بْن محمد.
وذكر عن أحمد بْن خالد، قَالَ: حدثني إسماعيل بْن إبراهيم الفهري، قَالَ: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة- وقال قوم: بل خطب في أيام منى- فقال في خطبته: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول تبارك وتعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم

(8/89)


وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب.
وذكر عن داود بْن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن بِهِ وأتوكل عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، اذكرك من ذكرت به فقطع الخطبة ثم قَالَ: سمعا سمعا، لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارا عنيدا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين وأنت ايها القائل، فو الله ما أردت بها وجه الله، ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت وإياك وإياكم معشر الناس أختها، فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت، فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وذكر عن أبي توبة الربيع بْن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قَالَ:
قمت إلى أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرات:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ» ، فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك قَالَ:
فخرجت من عنده سليما.
وقال عيسى بْن عبد الله بْن حميد: حدثني إبراهيم بْن عيسى، قَالَ:
خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد- يعني به مسجد المدينة ببغداد- فلما بلغ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعا سمعا، لمن ذكر بالله، هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئا، فقال أبو جعفر:
الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تحملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به،

(8/90)


لا يقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه ثم قَالَ: خذه إليك يا ربيع، قَالَ: فوثقنا له بالنجاة- وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروها قَالَ: خذه إليك يا مسيب- قَالَ: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر، وجعل عيسى بْن موسى يمشى على هينته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: كأنك خفتني على هذا الرجل! قَالَ: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك، إلا أن أمير المؤمنين أكثر علما، وأعلى نظرا من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه فلما جلس قَالَ: علي بالرجل، فأتي به، فقال: يا هذا، إنك لما رأيتني على المنبر، قلت، هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك، فأشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغبير قدميك في سبيل الله، انطه يا ربيع أربعمائة درهم، واذهب فلا تعد.
وذكر عن عبد الله بْن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قَالَ: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيبا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل، والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة عرضا، والفيء إرثا، وجَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، ثم اخذهم، ف هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً! وذكر الهيثم بْن عدي، عن ابن عياش، قَالَ: إن الأحداث لما تتابعت

(8/91)


على أبي جعفر، تمثل:
تفرقت الظباء على خداش ... فما يدري خداش ما يصيد
قَالَ: ثم أمر بإحضار القواد والموالي والصحابة وأهل بيته، وامر حمادا التركي بإسراج الخيل وسليمان بْن مجالد بالتقدم والمسيب بْن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر قَالَ: فأزم عليه طويلا لا ينطق قَالَ رجل لشبيب بْن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قَالَ: فافترع الخطبة، ثم قَالَ:
ما لي أكفكف عن سعد ويشتمني ... ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا
جهلا علي وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
ثم جلس وقال:
فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن ... لأكشفه إلا لإحدى العظائم
والله لقد عجزوا عن أمر قمنا به، فما شكروا الكافي، ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصص، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحدا بإهانة نفسي، والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي، والسعيد من وعظ بغيره قدم يا غلام، ثم ركب وذكر الفقيمي أن عبد الله بْن محمد بْن عبد الرحمن مولى محمد بْن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الله بْن حسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ صلى على النبي ص، ثم قَالَ:
يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بْن أبي طالب

(8/92)


تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها علي بْن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمين، فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن على، فو الله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية، إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بْن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدره السوداء- واشار الى الكوفه- فو الله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بْن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه، وقد كان أتى محمد بْن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب، وناشده عمي داود بْن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل، وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا، والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها، وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا ص، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فلما استقرت الأمور فينا على قرارها، من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلما وحسدا منهم لنا، وبغيا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه ص

(8/93)


جهلا علي وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن
فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالا يعملون عليه، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال، فو الله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعة، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» .
قَالَ: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال:
أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه، بإعزاز دينه، وإعلاء حقه إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من اقامه الحق عليه.
وذكر اسحق بْن إبراهيم الموصلي أن الفضل بْن الربيع أخبره عن أبيه، قَالَ: قَالَ المنصور: قَالَ ابى: سمعت ابى، علي بْن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء.
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بْن جميل الكاتب- وأصله من الربذة- فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته،

(8/94)


ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشره دره، وقال: تلبس سراويل كتان فإنه من السرف وذكر محمد بْن إسماعيل الهاشمي، أن الحسن بْن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بْن عبد الله بالمدينة وأخاه ابراهيم بباخمرى وخرج إبراهيم بْن حسن بْن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بْن أبي طالب بالمدينة كتابا يذكر لهم فيه إبراهيم بْن الحسن بْن الحسن وخروجه بمصر، وإنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وانهم يدابون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم، حتى وثب بنو أبيه غضبا لهم على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بْن ربيعة بْن معاوية اليربوعي:
فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم ... وبالله أحمي عنكم وأدافع
لضاعت امور منكم لا ارى لها ... كفاه وما لا يحفظ الله ضائع
فسموا لنا من طحطح الناس عنكم ... ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع!
وما زال منا قد علمتم عليكم ... على الدهر إفضال يرى ومنافع
وما زال منكم أهل غدر وجفوة ... وبالله مغتر وللرحم قاطع
وإن نحن غبنا عنكم وشهدتم ... وقائع منكم ثم فيها مقانع
وإنا لنرعاكم وترعون شأنكم ... كذاك الأمور، خافضات روافع
وهل تعلون أقدام قوم صدورهم ... وهل تعلون فوق السنام الأكارع!
ودب رجال للرئاسة منكم ... كما درجت تحت الغدير الضفادع؟
وذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، قَالَ: كان أرزاق الكتاب والعمال ايام ابى جعفر ثلاثمائة درهم، فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بْن سهل، فأما

(8/95)


في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائه إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن ابى مسلم ثلاثمائة درهم في الشهر.
وذكر إبراهيم بْن موسى بْن عيسى بْن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة، فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذاك عن سعره، فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقة حتى يعود سعره ذلك إلى حاله، وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك، وسأل من بحضرته عن عمله، فإن أنكر شيئا عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه.
وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بْن خاقان التميمي، قَالَ: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قَالَ: ذكر الوليد عند المنصور ايام نزوله بغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا: لعن الله الملحد الكافر- قَالَ: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي ابن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة- فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قَالَ: حضرت الوليد بْن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلنا الضعف من ساداتهم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين، فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قَالَ: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلى دين ابن الزبعرى يوم قَالَ هذا الشعر قَالَ: فلعنه المنصور ولعنه جلساؤه، وقال:

(8/96)


الحمد لله على نعمته وتوحيده.
وذكر عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور:
إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذموما، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.
وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب الى العامل هناك: دمه في دمك إلا توجهه إلي، فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه، قَالَ له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له- وقد كان شيخا كبير السن- بصوت ضعيف ضئيل غير مستعل:
أتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضه الهرم
قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال: يا ربيع، ما يقول؟ فقال:
يقول:
العبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عني اليوم منصرف!
قَالَ: يا ربيع، قد عفوت عنه، فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته.
قَالَ: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حدا من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فانصف هذا المتظلم من هذه الظلامة.
قَالَ: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد، فزد في خطاك تزدد من الثواب.
قَالَ: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال، في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقا فجيء به ملببا فقد أذنا لك في ذلك

(8/97)


وذكر عمر بْن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قَالَ:
بلغني أن السيد بْن محمد مات بالكرخ- أو قَالَ: بواسط- ولم يدفنوه، ولئن حق ذلك عندي لأحرقنها وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمان المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم.
وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بْن علي وعبد الجبار بْن عبد الرحمن، وصار ببغداد، واستقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت:
تبيت من البلوى على حد مرهف ... مرارا ويكفي الله ما أنت خائف
قَالَ: وأنشدني عبد الله بْن الربيع، قَالَ: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء:
ورب أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب
وقال الهيثم بْن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بْن حسن في البلاد هربا من عقابه، تمثل:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها ... غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفا تأمن مسارحه ... وإن أخف آمنا تقلق به الدار
سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم ... إني لكل امرئ من جاره جار
وذكر علي بْن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قَالَ: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشتريتهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهما، قَالَ: صالحان، استحطه، فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما

(8/98)


عليه فحطني عشرين درهما، قَالَ: أحسنت، اقطع أحدهما قميصا، واجعل الآخر رداء لي ففعلت، فلبس القميص خمسة عشر يوما لم يلبس غيره.
وذكر مولى لعبد الصمد بْن علي، قَالَ: سمعت عبد الصمد يقول:
إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب، فإن رأى أحدا منهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قَالَ: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك، وإني لأراها تلمع في لحية فلان، فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم، وإن رأى على أحد منهم وشيا طاهرا عضه بلسانه.
وذكر عن أحمد بْن خالد، قَالَ: كان المنصور يسأل مالك بْن أدهم كثيرا عن حديث عجلان بْن سهيل، أخي حوثرة بْن سهيل، قَالَ: كنا جلوسا مع عجلان، إذ مر بنا هشام بْن عبد الملك، فقال رجل من القوم:
قد مر الأحول، قَالَ: من تعني؟ قَالَ: هشاما، قَالَ: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات.
وقال أحمد بْن خالد: قَالَ إبراهيم بْن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال له المنصور يوما: ما جنسك؟
قَالَ: عربي يا أمير المؤمنين، قَالَ: ومن أي العرب أنت؟ قَالَ: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك قَالَ: أما إنك نعم الغلام، ولكن لا يدخل قصري عربي يخدم حرمي، اخرج عافاك الله، فاذهب حيث شئت! وذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن داود بْن معاوية بْن بكر- وكان من الصحابة- أن المنصور ضم رجلا من اهل الكوفة، يقال له الفضيل بْن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله

(8/99)


من المهدي، وقد كان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بْن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر قَالَ: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بْن غزوان مولى عثمان بْن نهيك إلى الفضيل- وهو مع جعفر بحديثة الموصل- وقال: إذا رأيتما فضيلا فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتابا منشورا، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله قَالَ: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن، فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد، فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه- وكان الفضيل رجلا عفيفا دينا- فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه فوجه رسولا، وجعل له عشرة آلاف درهم أن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه.
فذكر معاوية بْن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفرا أرسل إليه، فقال:
ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قَالَ سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، وهو أعلم بما يصنع، فقال: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة قَالَ فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بْن عبد الله بْن علي، وقد قتل عبد الله بْن الحسن وغيره من اولاد رسول الله ص ظلما، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قَالَ: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله.
وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بْن عفان أن حفصا الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بْن أبي جمعة، مولى عباد بْن زياد، وكان المنصور صيره مؤدبا للمهدي في مجالسه، وكان مداحا لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي

(8/100)


أيام ولايته العهد، ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة قَالَ: وكان مما مدح به بني أمية قوله:
أين روقا عبد شمس اين هم ... أين أهل الباع منهم والحسب!
لم تكن أيد لهم عندكم ... ما فعلتم آل عبد المطلب!
أيها السائل عنهم أولو ... جثث تلمع من فوق الخشب
إن تجذوا الأصل منهم سفها ... يا لقوم للزمان المنقلب!
ان فاحلبوا ما شئتم في صحنكم ... فستسقون صرى ذاك الحلب
وقيل: إن حفصا الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت؟ فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قَالَ: مولى لي مثلك لا أعرفه! قَالَ: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين، فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به.
ومما رثي به قول سلم الخاسر:
عجبا للذي نعى الناعيان ... كيف فاهت بموته الشفتان!
ملك إن غدا على الدهر يوما ... أصبح الدهر ساقطا للجران
ليت كفا حثت عليه ترابا ... لم تعد في يمينها ببنان
حين دانت له البلاد على العسف ... وأغضى من خوفه الثقلان
أين رب الزوراء قد قلدته ... الملك، عشرون حجة واثنتان
إنما المرء كالزناد إذا ما ... أخذته قوادح النيران
ليس يثني هواه زجر ولا يقدح ... في حبله ذوو الأذهان
قلدته أعنة الملك حتى ... قاد أعداءه بغير عنان
يكسر الطرف دونه وترى الأيدي ... من خوفه على الأذقان
ضم أطراف ملكه ثم أضحى ... خلف أقصاهم ودون الداني
هاشمي التشمير لا يحمل الثقل ... على غارب الشرود الهدان

(8/101)


ذو أناة ينسى لها الخائف الخوف ... وعزم يلوي بكل جنان
ذهبت دونه النفوس حذارا ... غير أن الأرواح في الأبدان.

ذكر أسماء ولده ونسائه
فمن ولده المهدي- واسمه محمد- وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بْن منصور الحميري، وكانت تكنى أم موسى، وهلك جعفر هذا قبل المنصور.
وسليمان وعيسى ويعقوب، وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحه بن عبيد الله.
وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية.
وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة.
والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم، ولها بباب الشام بستان يعرف إلى اليوم ببستان أم القاسم.
والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بْن سليمان ابن علي بْن عبد الله بْن العباس وذكر عن إسحاق بْن سليمان أنه قَالَ:
قَالَ لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس، العالية بنت أمير المؤمنين.
قَالَ: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قَالَ: أعداؤنا من بني أمية.

ذكر الخبر عن وصاياه
ذكر عن الهيثم بْن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجها إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أياما والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاث

(8/102)


بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكا فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها- وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدا، يصر مفتاحه في كم قميصه قَالَ: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم- فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك، ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث، حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة، فإياك أن تستبدل بها، فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا، وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل بيتك، أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل.
وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل خراسان خيرا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل.
وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل وإياك أن

(8/103)


تستعين برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل.
وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال:
يا أبا عبد الله، إني سائر وانى غير راجع، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختوما، فإذا بلغك انى قدمت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين فأحب أن تقضيه وتضمنه، قَالَ: هو علي يا امير المؤمنين، قال: فانه ثلاثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها قَالَ: أفعل، هو علي قَالَ: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي، وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لإخوتك الأصاغر.
قَالَ: نعم، قَالَ: ورقيقي الخاصة هم لك، فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم الحاجة قَالَ: أفعل، قَالَ: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قَالَ: أفعل، قَالَ: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع قَالَ: والمتاع والثياب، سلمه لهم، قَالَ: أفعل قَالَ: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه.
ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلا بالعمرة والحج، قد ساق هديه من البدن، وأشعر وقلد، وذلك لأيام خلت من ذي القعدة.
وذكر أبو يعقوب بْن سليمان، قَالَ: حدثتني جمرة العطارة- عطارة أبي جعفر- قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي- وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر- فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها واحلفها، ووكد الايمان الا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحدا إلا المهدي، ولا هي، إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما

(8/104)


ثالث، حتى يفتحا الخزانة فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحدا حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان.
وذكر عن إسحاق بْن عيسى بْن علي، عن أبيه، قَالَ: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله، إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك فيما كربك وحزنك مخرجا- أو قَالَ: فرجا ومخرجا- ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب احفظ يا بني محمدا ص في أمته يحفظ الله عليك أمورك وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم والزم الحلال، فان ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله لو علم أن شيئا أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا، مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال:
«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» الآية فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم، ولا تجاوز ما أمر

(8/105)


الله به في محكم القرآن واحكم بالعدل ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة، وهي من شيم الزمان وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع جد في أحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسيء الظن بعمالك وكتابك.
وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل أذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينا غير نائمة، ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.
قَالَ: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه.
وذكر عمر بْن شبة عن سعيد بْن هريم، قَالَ: لما حج المنصور في السنة التي توفي فيها شيعه المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها، ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بْن موسى، وعيسى بْن زيد، فأما عيسى بْن موسى

(8/106)


فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، وو الله لو لم يكن إلا أن يقول قولا لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك وأما عيسى بْن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك.
وذكر عيسى بْن محمد أن موسى بْن هارون حدثه، قَالَ: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم.
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك، وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حر المنية مانع!
قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: ألم آمرك ألا يدخل المنزل أحد من الدعار! قَالَ: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوبا، قَالَ: ما أرى شيئا يا أمير المؤمنين، قَالَ: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوبا، قَالَ: ما أرى على صدر البيت شيئا، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» ، فأمر بفكيه فوجئا وقال: ما وجدت شيئا تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيرا مما كان، وركب فرسا، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر- وكان آخر منزل بطريق مكة- كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون.
وذكر عن محمد بْن عبد الله مولى بني هاشم، قَالَ: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قَالَ: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول:

(8/107)


أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن ... أحسنت بالقصد، كل ذاك لك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل السلطان عن ملك ... إذا انقضى ملكه الى ملك
حتى يصيرا به إلى ملك ... ما عز سلطانه بمشترك
ذاك بديع السماء والأرض والمرسي ... الجبال المسخر الفلك
فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي.
وذكر عبد الله بْن عبيد الله، أن عبد العزيز بْن مسلم حدثه أنه قَالَ:
دخلت على المنصور يوما أسلم عليه، فإذا هو باهت لا يحير جوابا، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم، كأن رجلا ينشدني هذه الأبيات:
أأخي أخفض من مناكا ... فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من ... تصريفه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص العبد ... الذليل فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته ... والأمر فيه إلى سواكا
فهذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك.
وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بْن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بْن العباس بمكة، صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور

(8/108)


وذلك يوم السبت لست ليال خلون من ذي الحجه سنه ثمان وخمسين، كذلك قَالَ هشام بْن محمد ومحمد بْن عمر وغيرهما.
وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة.
وأم المهدي أم موسى بنت منصور بْن عبد الله بْن يزيد بْن شمر الحميري.

(8/109)


خلافة المهدي محمد بْن عبد الله بْن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس

ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة حين مات والده المنصور بمكة
ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قَالَ: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة، وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق، ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب من الزوال، ثم أنصرف- وكذلك كان يفعل الهاشميون- وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم، فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلدا السيف عليهما، وأنا أساير محمد بْن عون بْن عبد الله بْن الحارث- وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم، وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلدا السيف عليهما- قَالَ: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بْن الخطاب وعبد الله بْن جعفر وقول علي بْن أبي طالب فيه فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بْن محمد ومحمد بْن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بْن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت:
احسب الرجل قد مات، فأرادا أن يحصنا مكة، فكان ذلك كذلك، فبينا

(8/110)


نحن نسير، إذا رجل خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، ثم أقبل علينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه في كل يوم، فإذا بموسى بْن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بْن منصور في ناحية السرادق- وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطه، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه- قَالَ: فلما رأيته في ناحية السرادق ورأيت موسى مصدرا، علمت أن المنصور قد مات قَالَ: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بْن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همسا من بكاء، فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت:
لا أحسب ذلك، ولكن لعله ثقيل، أو أصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم وقال ابن عياش المنتوف:
سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله.
وكان صبيا رطبا ما يتحلحل.
ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين- ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء، ولكن هذا عهد عهده أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة- أما بعد:

(8/111)


فانى كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، واسال الله الا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض يا بني هاشم، ويا أهل خراسان ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب.
قَالَ النوفلي: قَالَ أبي: وكان هذا شيئا وضعه الربيع، ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بْن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال: يأيها الناس، إن أمير المؤمنين المنصور كان ضربني واصطفى مالي، فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده.
ثم جاء الربيع إلى محمد بْن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني، فكنت الثالث، وبايع الناس، فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعا، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه، فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريرة نحمله، فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه، وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه، حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بْن عيسى بْن ماهان، أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بْن موسى على بيعة مجددة للمهدي- وكان القائم بذلك الربيع- فأبى عيسى بن موسى،

(8/112)


واقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون، فنهض علي بْن عيسى بْن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده.
وذكر عيسى بْن محمد أن موسى بْن هارون حدثه أن موسى بْن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي، وبعثا بعد بقضيب النبي ص وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة، ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بْن المسيب بْن زهير بالحربة بين يدي صالح بْن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بْن نصر بْن مالك، وهو يومئذ على شرطة موسى بْن المهدي، واندس علي بْن عيسى بْن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بْن موسى.
وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروذي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح.
وتحرك في ذلك محمد بْن سليمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته، الا ان محمدا كان أحسنهم قياما به حتى طفئ ذلك وسكن وكتب به إلى المهدي، فكتب بعزل علي بْن عيسى عن حرس موسى بْن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حرب بْن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بْن محمد ومحمد ابن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بْن محمد وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصل الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام.
وذكر الهيثم بْن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب- أو غيره من منازل طريق مكة- رؤيا- وكان الربيع عديله- وفزع منها، وقال: يا ربيع، ما أحسبني إلا ميتا في وجهي هذا، وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قَالَ الربيع: فقلت له: بل

(8/113)


يبقيك الله يا أمير المؤمنين، ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله.
قَالَ: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هاربا من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له:
هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه.
قَالَ الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجهه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم، ويكبت عدوكم، ويسر وليكم، وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي، لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين، نحن إلى ذاك أسرع قَالَ: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم، فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكيا مشقوق الجيب لاطما رأسه، فقال بعض من حضر: ويلى عليك يا بن شاة! يريد الربيع- وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة- قَالَ: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها، لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه.
قَالَ: وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر.
قَالَ: فبلغ المهدي، فلما قدم عليه الربيع قَالَ: يا عبد، ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين إن فعلت ما فعلت به! وقال قوم: إنه ضربه، ولم يصح ذلك.
قَالَ: وذكر من حضر حجة المنصور، قَالَ: رأيت صالح بْن المنصور وهو مع أبيه والناس معه، وان موسى بن المهدى لقى تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحا معه

(8/114)


وذكر عن الأصمعي أنه قَالَ: أول من نعى أبا جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال:
قد طرقت ببكرها أم طبق.
قَالَ يونس: وماذا؟ قَالَ:
تنتجوها خير أضخم العنق ... موت الإمام فلقة من الفلق
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي، وكان المنصور- فيما ذكر- أوصى بذلك.
وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد ابن علي بْن عبد الله بْن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بْن علي، وعلى الكوفة عمرو بْن زهير الضبي أخو المسيب بْن زهير- وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بْن أبي إسماعيل الثقفي، وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس- وعلى قضائها شريك بْن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بْن موسى، وعلى خراسان حميد بْن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله.
وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله محمد بْن صفوان الجمحي وشريك بْن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة وقيل: إن شريكا كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها.
وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور- فيما ذكر- عمر بْن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بْن عبد الرحمن وقيل كان موسى بْن كعب.
وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بْن حمزة وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بْن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بْن دعلج.
وأصاب الناس- فيما ذكر محمد بْن عمر- في هذه السنة وباء شديد.

(8/115)


ثم دخلت

سنة تسع وخمسين ومائة
(ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذَلِكَ غزوة العباس بْن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة، وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بْن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد.
وهلك في هذه السنة حميد بْن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بْن يزيد.
وفيها ولي حمزة بْن مالك سجستان، وولي جبرئيل بْن يحيى سمرقند.
وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة.
وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها.
وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن على عن المدينة، مدينه الرسول ص عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بْن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بْن محمد بْن عبد الرحمن بْن صفوان الجمحي.
وفيها وجه المهدي عبد الملك بْن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفا وخمسمائة رجل، ووجه معه قائدا من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المذحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم

(8/116)


- فيما ذكر- الربيع بْن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بْن شهاب المنذر بْن محمد الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بْن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصره، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الالف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بْن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بْن إبراهيم، فمضوا لوجههم، حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة.
وفيها توفي معبد بْن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بْن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره.
وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفا بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بْن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوسا الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفيها حول المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوسا إلى نصير الوصيف فحبسه عنده.

ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدي الحسن بْن إبراهيم من المطبق إلى نصير
ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون.
على ما ذكرت، وكان يعقوب بْن داود محبوسا مع الحسن بْن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بْن داود، ولم يطلق الحسن بْن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجا لنفسه وخلاصا، فدس إلى بعض ثقاته،

(8/117)


فحفر له سربا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بْن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة- وهو قاضي المهدي بمدينة السلام- ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن ابن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله، فأخبره خبر يعقوب وما جاء به، فأمره بإدخاله عليه، فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بْن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هاربا، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله عنه فأخبره أنه حاضر- وقد كان لزم أبا عبيد الله- فدعا به المهدي خاليا، فذكر له ما كان من فعله في الحسن ابن إبراهيم أولا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فأخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أمانا يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له فقال له يعقوب: فاله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه،

(8/118)


فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به، فأعطاه المهدي ذلك.
وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعملها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت فأعطاه المهدى ذلك، وجعله اليه، وصير سليما الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلا، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسارى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظي بذلك عنده، وبما رجا أن يناله به من الظفر بالحسن بْن إبراهيم، واتخذه أخا في الله، وأخرج بذلك توقيعا، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدا، إلى أن صير الحسن بْن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك، وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بْن الخليل في ذلك:
عجبا لتصريف الأمور ... مسرة وكراهية
والدهر يلعب بالرجال ... له دوائر جاريه
رثت بيعقوب بْن داود ... حبال معاويه
وعدت على ابن علاثة القاضي ... بوائق عافيه
قل للوزير أبي عبيد الله: ... هل لك باقيه!
يعقوب ينظر في الأمور ... وأنت تنظر ناحيه

(8/119)


أدخلته فعلا عليك ... ، كذاك شؤم الناصيه
وفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل بْن أبي اسماعيل عن الكوفه واحداثها.
واختلف فيمن ولي مكانه، فقال بعضهم: ولي مكانه إسحاق بْن الصباح الكندي ثم الأشعثي بمشورة شريك بْن عبد الله قاضي الكوفة وقال عمر ابن شبة: ولى على الكوفة المهدي عيسى بْن لقمان بن محمد بن حاطب ابن الحارث بْن معمر بْن حبيب بْن وهب بْن حذافة بْن جمح، فولى على شرطه ابن أخيه عثمان بْن سعيد بْن لقمان ويقال: إن شريك بْن عبد الله كان على الصلاة والقضاء، وعيسى على الأحداث، ثم أفرد شريك بالولاية، فجعل على شرطه إسحاق بْن الصباح الكندي، فقال بعض الشعراء:
لست تعدو بأن تكون ولو نلت ... سهيلا صنيعة لشريك
قَالَ: ويزعمون أن إسحاق لم يشكر لشريك، وأن شريكا قَالَ له:
صلى وصام لدنيا كان يأملها ... فقد أصاب ولا صلى ولا صاما
وذكر عمر أن جعفر بْن محمد قاضي الكوفة، قَالَ: ضم المهدي إلى شريك الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بْن الصباح، ثم ولى إسحاق بْن الصباح الصلاة والأحداث بعد، ثم ولى إسحاق بْن الصباح بن عمران ابن إسماعيل بْن محمد بْن الأشعث الكوفة، فولى شرطه النعمان بْن جعفر الكندي، فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بْن جعفر.
وفيها عزل المهدي عن أحداث البصرة سعيد بْن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء من أهلها عبيد الله بْن الحسن، وولى مكانهما عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان النميري، وكتب إلى عبد الملك يأمره بإنصاف من تظلم

(8/120)


من أهل البصرة من سعيد بْن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه السنة عن عبد الملك بْن أيوب إلى عمارة بْن حمزة، فولاها عمارة رجلا من أهل البصرة يقال له المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وأقر عبد الملك على الصلاة.
وفيها عزل قثم بْن العباس عن اليمامة عن سخطة، فوصل كتاب عزله إلى اليمامة، وقد توفي فاستعمل مكانه بشر بْن المنذر البجلي.
وفيها عزل يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه رجاء بْن روح.
وفيها عزل الهيثم بْن سعيد عن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بْن صالح.
وفيها أعتق المهدي أم ولده الخيزران وتزوجها.
وفيها تزوج المهدي أيضا أم عبد الله بنت صالح بْن علي، أخت الفضل وعبد الله ابني صالح لأمهما.
وفيها وقع الحريق في ذي الحجة في السفن ببغداد عند قصر عيسى بْن علي، فاحترق ناس كثير، واحترقت السفن بما فيها.
وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل مكانه أبو ضمرة محمد بْن سليمان.
وفيها كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل خراسان في خلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بْن المهدي، فلما تبين ذلك المهدى كتب- فيما ذكر- إلى عيسى بْن موسى في القدوم عليه وهو بالكوفة، فأحس بالذي يراد به، فامتنع من القدوم عليه.
وقال عمر: لما أفضى الأمر إلى المهدي سأل عيسى أن يخرج من الأمر فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى على الكوفة روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب، فولى على شرطه خالد بْن يزيد بْن حاتم، وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل فيما لا يكون عليه به حجة، وكان لا يجد إلى ذلك سبيلا، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعة له بالرحبة، فكان لا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة في شهر رمضان، فيشهد الجمع

(8/121)


والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته وفي أول ذي الحجة، فإذا شهد العيد رجع إلى ضيعته، وكان إذا شهد الجمعة أقبل من داره على دوابه حتى ينتهي إلى أبواب المسجد فينزل على عتبة الأبواب، ثم يصلي في موضعه، فكتب روح إلى المهدي أن عيسى بْن موسى لا يشهد الجمع، ولا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة، فإذا حضر أقبل على دوابه حتى يدخل رحبة المسجد، وهو مصلى الناس، ثم يتجاوزها إلى أبواب المسجد، فتروث دوابه في مصلى الناس، وليس يفعل ذلك غيره، فكتب إليه المهدي أن اتخذ على أفواه السكك التي تلي المسجد خشبا ينزل عنده الناس، فاتخذ روح ذلك الخشب في أفواه السكك- فذلك الموضع يسمى الخشبة- وبلغ ذلك عيسى بْن موسى قبل يوم الجمعة، فأرسل إلى ورثة المختار بن ابى عبيده- وكانت دار المختار لزيقة المسجد، فابتاعها وأثمن بها، ثم أنه عمرها واتخذ فيها حماما، فكان إذا كان يوم الخميس أتاها فأقام بها، فإذا أراد الجمعة ركب حمارا فدب به إلى باب المسجد فصلى في ناحية، ثم رجع إلى داره ثم أوطن الكوفة وأقام بها، وألح المهدي على عيسى فقال: إنك إن لم تجبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك ما يستحل من العاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعا فأجابه، فبايع لهما وأمر له بعشرة آلاف ألف درهم- ويقال عشرين ألف ألف- وقطائع كثيره.
واما غير عمر فإنه قَالَ: كتب المهدي إلى عيسى بْن موسى لما هم بخلعه يأمره بالقدوم عليه، فأحس بما يراد به، فامتنع من القدوم عليه، حتى خيف انتقاضه، فأنفذ إليه المهدي عمه العباس بْن محمد، وكتب إليه كتابا، وأوصاه بما أحب أن يبلغه، فقدم العباس على عيسى بكتاب المهدي ورسالته إليه، فانصرف إلى المهدي بجوابه في ذلك، فوجه إليه بعد قدوم العباس عليه محمد بْن فروخ أبا هريرة القائد في ألف رجل من اصحابه

(8/122)


من ذوي البصيرة في التشيع، وجعل مع كل رجل منهم طبلا، وأمرهم أن يضربوا جميعا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلا في وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بْن موسى روعا شديدا، ثم دخل عليه أبو هريرة، فأمره بالشخوص، فاعتل بالشكوى فلم يقبل ذلك منه، وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن منصور- خال المهدي- عند قدومه من اليمن، فحدثني بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن ابى معشر كذلك قَالَ محمد بْن عمر الواقدي وغيره وكان انصراف يزيد بْن منصور من اليمن بكتاب المهدي إليه يأمره بالانصراف إليه وتوليته إياه الموسم وإعلامه اشتياقه إليه وإلى قربه.
وكان أمير المدينة في هذه السنة عبيد الله بْن صفوان الجمحي، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت ابن موسى، وعلى قضائها شريك بْن عبد الله، وعلى صلاه البصره عبد الملك ابن أيوب بْن ظبيان النميري، وعلى أحداثها عمارة بْن حمزة، وخليفته على ذلك المسور بْن عبد الله بْن مسلم الباهلي، وعلى قضائها عبيد الله بْن الحسن.
وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بْن حمزة وعلى السند بسطام بْن عمرو، وعلى اليمن رجاء بْن روح وعلى اليمامة بشر بْن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بْن يزيد، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بْن سليمان أبو ضمرة.

(8/123)


ثم دخلت

سنة ستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خروج يوسف البرم
4 فمن ذلك ما كان من خروج يوسف بْن إبراهيم، وهو الذي يقال له يوسف البرم بخراسان منكرا هو ومن تبعه ممن كان على رأيه على المهدي- فيما زعم- الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه- فيما ذكر- بشر من الناس كثير، فتوجه إليه يزيد بْن مزيد فلقيه، واقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعدة، فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف البرم على بعير قد حول وجهه إلى ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوه على المهدي، فأمر هرثمة بْن أعين فقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وعنق أصحابه، وصلبهم على جسر دجلة الأعلى، مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله، لأنه كان قتل أخا لهرثمه بخراسان
. ذكر خبر خلع عيسى بن موسى وبيعه موسى الهادي
وفيها قدم عيسى بْن موسى مع أبي هريرة يوم الخميس لست خلون من المحرم- فيما ذكر- الفضل بْن سليمان فنزل دارا كانت لمحمد بْن سليمان على شاطئ دجلة في عسكر المهدي، فأقام أياما يختلف إلى المهدي، ويدخل مدخله الذي كان يدخله، لا يكلم بشيء، ولا يرى جفوة ولا مكروها ولا تقصيرا به، حتى أنس به بعض الأنس، ثم حضر الدار يوما قبل جلوس المهدي، فدخل مجلسا كان يكون للربيع في مقصورة صغيرة، وعليها باب، وقد اجتمع رؤساء الشيعة في ذلك اليوم على خلعه والوثوب عليه، ففعلوا ذلك

(8/124)


وهو في المقصورة التي فيها مجلس الربيع، فأغلق دونهم المقصورة، فضربوا الباب بجرزهم وعمدهم، فهشموا الباب، وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح الشتم، وحصروه هنالك، وأظهر المهدي إنكارا لما فعلوا، فلم يردعهم ذلك عن فعلهم، بل شدوا في أمره، وكانوا بذلك هو وهم أياما، إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من أهل بيته بحضرة المهدي، فأبوا إلا خلعه، وشتموه في وجهه، وكان أشدهم عليه محمد بْن سليمان.
فلما رأى المهدي ذلك من رأيهم وكراهتهم لعيسى وولايته، دعاهم إلى العهد لموسى، فصار إلى رأيهم وموافقتهم، وألح على عيسى في إجابته وإياهم إلى الخروج مما له من العهد في أعناق الناس وتحليلهم منه، فأبى، وذكر أن عليه أيمانا محرجة في ماله وأهله، فأحضر له من الفقهاء والقضاة عدة، منهم محمد بْن عبد الله بْن علاثة والزنجي بن خالد المكى وغيرهما، فاتوه بما رأوا، وصار الى المهدى ابتياع ماله من البيعة في أعناق الناس بما يكون له فيه رضا وعوض، مما يخرج له من ماله لما يلزمه من الحنث في يمينه، وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر فقبل ذلك عيسى، وبقي منذ فاوضه المهدي على الخلع إلى أن أجاب محتسبا عنده في دار الديوان من الرصافة إلى أن صار إلى الرضا بالخلع والتسليم، والى أن خلع يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد صلاة العصر، فبايع للمهدي ولموسى من بعده من الغد يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم لارتفاع النهار ثم أذن المهدي لأهل بيته، وهو في قبة كان محمد بْن سليمان أهداها له مضروبة في صحن الأبواب، ثم أخذ بيعتهم رجلا رجلا لنفسه ولموسى بْن المهدي من بعده، حتى أتى إلى آخرهم.
ثم خرج إلى مسجد الجماعة بالرصافة فقعد على المنبر، وصعد موسى حتى كأنه دونه وقام عيسى على أول عتبة من المنبر، فحمد الله المهدي وأثنى عليه، وصلى على النبي ص، وأخبر بما أجمع عليه أهل بيته وشيعته وقواده وأنصاره وغيرهم من أهل خراسان من خلع عيسى بْن موسى وتصيير الأمر الذي كان عقد له في أعناق الناس لموسى بْن أمير المؤمنين، لاختيارهم له ورضاهم به، وما رأى من إجابتهم إلى ذلك، لما رجا من مصلحتهم وألفتهم، وخاف مخالفتهم في نياتهم واختلاف كلمتهم، وأن عيسى قد

(8/125)


خلع تقدمه، وحللهم مما كان له من البيعة في أعناقهم، وأن ما كان له من ذلك فقد صار لموسى بْن أمير المؤمنين، بعقد من أمير المؤمنين وأهل بيته وشيعته في ذلك، وأن موسى عامل فيهم بكتاب الله وسنه نبيه ص بأحسن السيرة وأعدلها، فبايعوا معشر من حضر، وسارعوا إلى ما سارع إليه غيركم، فإن الخير كله في الجماعة، والشر كله في الفرقة وأنا أسأل الله لنا ولكم التوفيق برحمته، والعمل بطاعته وما يرضيه، وأستغفر الله لي ولكم وجلس موسى دونه معتزلا للمنبر، لئلا يحول بينه وبين من صعد إليه، يبايعه ويمسح على يده، ولا يستر وجهه، وثبت عيسى قائما في مكانه، وقرئ عليه كتاب ذكر الخلع له، وخروجه مما كان إليه من ولاية العهد وتحليله جماعة من كان له في عنقه بيعة، مما عقدوا له في أعناقهم، وأن ذلك من فعله وهو طائع غير مكره، راض غير ساخط، محب غير مجبر فأقر عيسى بذلك، ثم صعد فبايع المهدي، ومسح على يده، ثم انصرف، وبايع أهل بيت المهدي على أسنانهم، يبايعون المهدي ثم موسى، ويمسحون على أيديهما، حتى فرغ آخرهم، وفعل من حضر من أصحابه ووجوه القواد والشيعة مثل ذلك، ثم نزل المهدى، فصار الى منزله، ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة خاله يزيد بْن منصور، فتولى ذلك حتى فرغ من جميع الناس، ووفى المهدي لعيسى بما أعطاه وأرضاه مما خلعه منه من ولاية العهد، وكتب عليه بخلعه إياه كتابا أشهد عليه فيه جماعة أهل بيته وصحابته وجميع شيعته وكتابه وجنده في الدواوين، ليكون حجة على عيسى، وقطعا لقوله ودعواه فيما خرج منه.
وهذه نسخة الشرط الذي كتبه عيسى على نفسه:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهد المسلمين موسى بْن المهدي، ولأهل بيته وجميع قواده وجنوده من أهل خراسان وعامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحيث كان كائن منهم، كتبته للمهدي محمد أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين موسى بْن محمد ابن عبد الله بْن محمد بْن علي، فيما جعل إليه من العهد إذ كان إلي، حتى اجتمعت كلمة المسلمين، واتسق أمرهم، وائتلفت أهواؤهم، على الرضا بولاية موسى بْن المهدي

(8/126)


محمد أمير المؤمنين، وعرفت الخط في ذلك علي والخط فيه لي، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون من الرضا بموسى بْن أمير المؤمنين، والبيعة له، والخروج مما كان لي في رقابهم من البيعة، وجعلتكم في حل من ذلك وسعة، من غير حرج يدخل عليكم، أو على أحد من جماعتكم وعامة المسلمين، وليس في شيء من ذلك، قديم ولا حديث لي دعوى ولا طلبة ولا حجة ولا مقالة ولا طاعة على أحد منكم، ولا على عامة المسلمين ولا بيعة في حياة المهدي محمد أمير المؤمنين ولا بعده ولا بعد ولي عهد المسلمين موسى، ولا ما كنت حيا حتى أموت وقد بايعت لمحمد المهدي أمير المؤمنين ولموسى بْن أمير المؤمنين من بعده، وجعلت لهما ولعامة المسلمين من أهل خراسان وغيرهم الوفاء بما شرطت على نفسي في هذا الأمر الذي خرجت منه، والتمام عليه علي بذلك عهد الله وما اعتقد أحد من خلقه من عهد أو ميثاق أو تغليظ أو تأكيد على السمع والطاعة والنصيحة للمهدي محمد أمير المؤمنين وولى عهده موسى ابن أمير المؤمنين، في السر والعلانية، والقول والفعل، والنيه والشده والرجاء والسراء والضراء والموالاة لهما ولمن والاهما، والمعاداة لمن عاداهما، كائنا من كان في هذا الأمر الذي خرجت منه فإن أنا نكبت أو غيرت أو بدلت أو دغلت أو نويت غير ما أعطيت عليه هذه الأيمان، أو دعوت إلى خلاف شيء مما حملت على نفسي في هذا الكتاب للمهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهده موسى ابن أمير المؤمنين ولعامة المسلمين، أو لم أف بذلك، فكل زوجة عندي يوم كتبت هذا الكتاب- أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة- طالق ثلاثا ألبتة طلاق الحرج وكل مملوك عندي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وكل مال لي نقد أو عرض أو قرض أو أرض، أو قليل أو كثير، تالد أو طارف أو أستفيده فيما بعد اليوم إلى ثلاثين سنة صدقة على المساكين، يضع ذلك

(8/127)


الوالي حيث يرى، وعلي من مدينة السلام المشي حافيا إلى بيت الله العتيق الذي بمكة نذرا واجبا ثلاثين سنة، لا كفارة لي ولا مخرج منه، إلا الوفاء به.
والله على الوفاء بذلك راع كفيل شهيد، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً* وشهيد على عيسى ابن موسى باقراره بما في هذا الشرط أربعمائة وثلاثون من بني هاشم ومن الموالي والصحابة من قريش والوزراء والكتاب والقضاة.
وكتب في صفر سنة ستين ومائة وختم عيسى بْن موسى.
فقال بعض الشعراء:
كره الموت أبو موسى وقد ... كان في الموت نجاء وكرم
خلع الملك وأضحى ملبسا ... ثوب لوم ما ترى منه القدم
وفي سنة ستين ومائة وافى عبد الملك بْن شهاب المسمعي مدينة باربد بمن توجه معه من المطوعة وغيرهم، فناهضوها بعد قدومهم بيوم، وأقاموا عليها يومين، فنصبوا المنجنيق وناهضوها بجميع الآلة، وتحاشد الناس، وحض بعضهم بعضا بالقرآن والتذكير، ففتحها الله عليهم عنوة، ودخلت خيلهم من كل ناحية، حتى ألجئوهم إلى بدهم، فأشعلوا فيها النيران والنفط، فاحترق منهم من احترق، وجاهد بعضهم المسلمين، فقتلهم الله أجمعين، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلا، وأفاءها الله عليهم وهاج البحر فلم يقدروا على ركوبه والانصراف، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم في أفواههم داء يقال له حمام قر، فمات نحو من ألف رجل، منهم الربيع بْن صبيح ثم انصرفوا لما أمكنهم الانصراف حتى بلغوا ساحلا من فارس، يقال له بحر حمران، فعصفت عليهم فيه الريح ليلا، فكسرت عامة مراكبهم، فغرق منهم بعض ونجا بعض، وقدموا معهم بسبي من سبيهم- فيهم بنت ملك باربد- على محمد بْن سليمان، وهو يومئذ والي البصرة.
وفيها صير أبان بْن صدقة كاتبا لهارون بْن المهدي ووزيرا له.
وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، وولي مكانه معاذ بْن مسلم

(8/128)


وفيها غزا ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة.
وفيها غزا الغمر بْن العباس الخثعمى بحر الشام.

ذكر خبر رد نسب آل بكره وآل زياد
وفيها رد المهدى آل بكرة من نسبهم في ثقيف إلى ولاء رسول الله ص، وكان سبب ذلك أن رجلا من آل أبي بكرة رفع ظلامة إلى المهدي، وتقرب اليه فيها بولاء رسول الله ص، فقال المهدي: أن هذا نسب واعتزاء، ما تقرون به إلا عند حاجة تعرض لكم، وعند اضطراركم إلى التقرب به إلينا فقال الحكم: يا أمير المؤمنين، من جحد ذلك فإنا سنقر، أنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله ص، وتأمر بآل زياد بْن عبيد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقهم به معاوية رغبة [عن قضاء رسول الله ص: إن الولد للفراش وللعاهر الحجر] فيردوا إلى نسبهم من عبيد في موالي ثقيف فأمر المهدي في آل أبي بكرة وآل زياد أن يرد كل فريق منهم إلى نسبه، وكتب إلى محمد بْن سليمان كتابا وأمره أن يقرأ في مسجد الجماعة على الناس، وأن يرد آل أبي بكرة إلى ولائهم من رسول الله ص ونسبهم الى نفيع ابن مسروح، وأن يرد على من أقر منهم ما أمر برده عليهم من أموالهم بالبصرة مع نظرائهم، ممن أمر برد ماله عليه، والا يرد على من أنكر منهم، وأن يجعل الممتحن منهم والمستبرئ لما عندهم الحكم بْن سمرقند فأنفذ محمد ما أتاه في آل أبي بكرة إلا في أناس منهم غيب عنهم.
وأما آل زياد فإنه مما قوى رأي المهدي فيهم- فيما ذكر علي بْن سليمان- أن أباه حدثه، قَالَ: حضرت المهدي وهو ينظر في المظالم إذ قدم عليه رجل من آل زياد يقال له الصغدي بْن سلم بْن حرب، فقال له: من أنت؟
قَالَ: ابن عمك، قَالَ: أي ابن عمي أنت؟ فانتسب إلى زياد، فقال له المهدى: يا بن سمية الزانية، متى كنت ابن عمي! وغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وأخرج، ونهض الناس

(8/129)


قَالَ: فلما خرجت لحقني عيسى بْن موسى- أو موسى بْن عيسى- فقال: أردت والله أن أبعث إليك، أن أمير المؤمنين التفت إلينا بعد خروجك، فقال: من عنده علم من آل زياد؟ فو الله ما كان عند أحد منا من ذاك شيء، فما عندك يا أبا عبد الله؟ فما زلت أحدثه في زياد وآل زياد حتى صرنا إلى منزله بباب المحول، فقال: أسألك بالله والرحم لما كتبت لي هذا كله حتى أروح به إلى أمير المؤمنين، وأخبره عنك فانصرفت فكتبت، وبعثت به إليه فراح إلى المهدي، فأخبره، فأمر المهدي بالكتاب إلى هارون الرشيد، وكان والي البصرة من قبله يأمره أن يكتب إلى واليها يأمره أن يخرج آل زياد من قريش وديوانهم والعرب، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله ص، فمن أقر منهم ترك ماله في يده، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله.
فعرضهم، فأقروا جميعا بالولاء، إلا ثلاثة نفر، فاصطفيت أموالهم.
ثم إن آل زياد بعد ذاك رشوا صاحب الديوان حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار في ذلك:
إن زيادا ونافعا وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
ذا قرشي كما يقول، وذا ... مولى، وهذا- بزعمه- عربي

نسخة كتاب المهدي إلى والي البصرة في رد آل زياد إلى نسبهم
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن أحق ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصهم وعوامهم في أمورهم وأحكامهم، العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنه رسول الله ص، والصبر على ذلك، والمواظبة عليه، والرضا به فيما وافقهم وخالفهم، للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه، واتباع مرضاته، وإحراز جزائه وحسن ثوابه، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة.
وقد كان من رأي معاوية بْن أبي سفيان في استلحاقه زياد بْن عبيد عبد آل علاج من ثقيف، وادعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير

(8/130)


منهم في زمانه، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأمه من اهل الرضا والفضل والورع والعلم، ولم يدع معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى، ولا اتباع سنة هادية، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية، إلا الرغبة في هلاك دينه وآخرته، والتصميم على مخالفة الكتاب والسنة والعجب بزياد في جلده ونفاذه، وما رجا من معونته وموازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وآثاره وأعماله الخبيثة.
[وقد قَالَ رسول الله ص: الولد للفراش وللعاهر الحجر،] [وقال:
من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه لا صرفا ولا عدلا] .
ولعمري ما ولد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه، ولا كان عبيد عبدا لأبي سفيان، ولا سمية أمة له، ولا كانا في ملكه، ولا صارا إليه لسبب من الأسباب ولقد قَالَ معاوية فيما يعلمه أهل الحفظ للأحاديث عند كلام نصر بْن الحجاج بْن علاط السلمي ومن كان معه من موالي بني المغيرة المخزوميين وإرادتهم استلحاقه وإثبات دعوته، وقد أعد لهم معاوية حجرا تحت بعض فرشه فألقاه إليهم، فقالوا له: نسوغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا، فقال: قضاء رسول الله ص خير لكم من قضاء معاوية فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه، أمر الله جل وعز وقضاء رسول الله ص واتبع في ذلك هواه رغبة عن الحق ومجانبة له، وقد قَالَ الله عز وجل:
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ، وقال لداود ص وقد أتاه الحكم والنبوة والمال والخلافة: «يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ» الآية إلى آخرها.
فأمير المؤمنين يسأل الله أن يعصم له نفسه ودينه، وأن يعيذه من غلبة الهوى، ويوفقه في جميع الأمور لما يحب ويرضى، إنه سميع قريب

(8/131)


وقد رأى أمير المؤمنين أن يرد زيادا ومن كان من ولده إلى أمهم ونسبهم المعروف ويلحقهم بأبيهم عبيد، وأمهم سمية، ويتبع في ذلك قول رسول الله ص، وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنه رسوله ص، وكان أمير المؤمنين أحق من أخذ بذلك وعمل به، لقرابته من رسول الله ص واتباعه آثاره وإحيائه سنته، وإبطاله سنن غيره الزائغة الجائرة عن الحق والهدى.
وقد قَالَ الله جل وعز: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» .
فاعلم أن ذلك من رأي أمير المؤمنين في زياد، وما كان من ولد زياد فألحقهم بأبيهم زياد بْن عبيد، وأمهم سمية، واحملهم عليه، وأظهره لمن قبلك من المسلمين حتى يعرفوه ويستقيم فيهم، فإن أمير المؤمنين قد كتب إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم بذلك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب معاوية بْن عبيد الله في سنة تسع وخمسين ومائة فلما وصل الكتاب إلى محمد بن سليمان وقع بانقاذه، ثم كلم فيهم، فكف عنهم، وقد كان كتب إلى عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان النميري بمثل ما كتب به إلى محمد، فلم ينفذه لموضعه من قيس، وكراهته أن يخرج أحد من قومه إلى غيرهم.
وفيها كانت وفاة عبيد الله بْن صفوان الجمحي، وهو وال على المدينة، فولى مكانه محمد بْن عبد الله الكثيري، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزل وولى مكانه زفر بْن عاصم الهلالي وولى المهدي قضاء المدينة فيها عبد الله بْن محمد بْن عمران الطلحي.
وفيها خرج عبد السلام الخارجي، فقتل.
وفيها عزل بسطام بْن عمرو عن السند، واستعمل عليها روح بْن حاتم.
وحج بالناس في هذه السنة المهدي، واستخلف على مدينته حين شخص

(8/132)


عنها ابنه موسى، وخلف معه يزيد بْن منصور خال المهدي وزيرا له ومدبرا لأمره.
وشخص مع المهدي في هذه السنة ابنه هارون وجماعة من أهل بيته، وكان ممن شخص معه يعقوب بْن داود، على منزلته التي كانت له عنده، فأتاه حين وافى مكة الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بْن الحسن الذي استأمن له يعقوب من المهدي على أمانة، فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالا من الصوافي بالحجاز.
وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة، وذلك أن حجبة الكعبة- فيما ذكر- رفعوا إليه أنهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها ما عليها من الكسوة حتى بقيت مجرده، ثم طلى البيت كله بالخلوق، وذكر أنهم لما بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجا ثخينا جيدا، ووجدوا كسوة من كان قبله عامتها من متاع اليمن.
وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها- فيما ذكر- مالا عظيما، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول الله ص، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول ص فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول الله ص فيعيده إلى ما كان عليه، ويلقي منه ما كان معاوية زاد فيه، فذكر عن مالك بْن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن المسامير قد سلكت في الخشب الذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق، فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسر، فتركه المهدي.
وامر ايام مقامه بالمدينة باثبات خمسمائة رجل من الأنصار ليكونوا معه حرسا له بالعراق وأنصارا، وأجرى عليهم أرزاقا سوى أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه ببغداد قطيعة تعرف بهم

(8/133)


وتزوج في مقامه بها برقية بنت عمرو العثمانية.
وفي هذه السنة حمل محمد بْن سليمان الثلج للمهدي، حتى وافى به مكة، فكان المهدي أول من حمل له الثلج إلى مكة من الخلفاء.
وفيها رد المهدي على أهل بيته وغيرهم قطائعهم التي كانت مقبوضة عنهم وكان على صلاة الكوفة وأحداثها في هذه السنة إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك وعلى البصرة وأحداثها وأعمالها المفردة وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس محمد بْن سليمان وكان على قضاء البصرة فيها عبيد الله بْن الحسن وعلى خراسان معاذ بْن مسلم، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى السند روح بْن حاتم وعلى إفريقية يزيد بن حاتم وعلى مصر محمد بْن سليمان أبو ضمرة.

(8/134)


ثم دخلت

سنة إحدى وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان من ذلك خروج حكيم المقنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وكان- فيما ذكر- يقول بتناسخ الأرواح، يعود ذلك إلى نفسه، فاستغوى بشرا كثيرا، وقوي وصار إلى ما وراء النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده، فيهم معاذ بْن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ومعه عقبة بْن مسلم وجبرئيل بْن يحيى وليث مولى المهدي، ثم أفرد المهدي لمحاربته سعيدا الحرشي، وضم إليه القواد، وابتدأ المقنع بجمع الطعام عدة للحصار في قلعة بكش.
وفيها ظفر نصر بْن محمد بْن الأشعث الخزاعي بعبد الله بْن مروان بالشام، فقدم به على المهدي قبل أن يوليه السند، فحبسه المهدي في المطبق، فذكر أبو الخطاب أن المهدي أتي بعبد الله بْن مروان بْن محمد- وكان يكنى أبا الحكم- فجلس المهدي مجلسا عاما في الرصافة، فقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز بْن مسلم العقيلي، فصار معه قائما، ثم قَالَ له: أبو الحكم؟ قَالَ: نعم ابن أمير المؤمنين قَالَ: كيف كنت بعدي؟ ثم التفت إلى المهدي، فقال:
نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بْن مروان فعجب الناس من جرأته، ولم يعرض له المهدي بشيء.
قَالَ: ولما حبس المهدي عبد الله بْن مروان احتيل عليه، فجاء عمرو بْن سهلة الأشعري فادعى أن عبد الله بْن مروان قتل أباه، فقدمه إلى عافية القاضي، فتوجه عليه الحكم أن يقاد به، واقام عليه البينه، فلما كاد الحكم يبرم جاء عبد العزيز بْن مسلم العقيلي إلى عافية القاضي يتخطى رقاب الناس، حتى صار إليه، فقال: يزعم عمرو بْن سهلة أن عبد الله بْن مروان قتل أباه، كذب والله ما قتل أباه غيري، أنا قتلته بأمر

(8/135)


مروان، وعبد الله بْن مروان من دمه بريء فزالت عن عبد الله بْن مروان، ولم يعرض المهدي لعبد العزيز بْن مسلم لأنه قتله بأمر مروان.
وفيها غزا الصائفة ثمامة بْن الوليد، فنزل دابق، وجاشت الروم وهو مغتر، فأتت طلائعه وعيونه بذلك، فلم يحفل بما جاءوا به، وخرج إلى الروم، وعليها ميخائيل بسرعان الناس، فأصيب من المسلمين عدة، وكان عيسى بْن علي مرابطا بحصن مرعش يومئذ، فلم يكن للمسلمين في ذلك العام صائفة من أجل ذلك.
وفيها أمر المهدي ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي كان أبو العباس بناها من القادسية إلى زبالة، وأمر بالزيادة في قصور أبي العباس، وترك منازل أبي جعفر التي كان بناها على حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل، وبتجديد الأميال والبرك، وحفر الركايا مع المصانع، وولى ذلك يقطين بْن موسى، فلم يزل ذلك إليه إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، وكان خليفة يقطين في ذلك أخوه أبو موسى.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في مسجد الجامع بالبصرة، فزيد فيه من مقدمه مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بني سليم، وولي بناء ذلك محمد بْن سليمان وهو يومئذ والي البصرة.
وفيها أمر المهدي بنزع المقاصير من مساجد الجماعات وتقصير المنابر وتصييرها إلى المقدار الذي عليه منبر رسول الله ص، وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به.
وفيها أمر المهدي يعقوب بْن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، فعمل به، فكان لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب بْن داود إلى أمينه وثقته بإنفاذ ذلك.
وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي، وضم يعقوب إليه من متفقهة البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام عددا كثيرا، وجعل رئيس البصريين والقائم بأمرهم إسماعيل بن علية الأسدي ومحمد بْن ميمون العنبري، وجعل رئيس أهل الكوفة وأهل الشام عبد الأعلى بْن موسى الحلبي.

(8/136)


ذكر السبب الذي من أجله تغيرت منزلة أبي عبيد الله عند المهدي
قد ذكرنا سبب اتصاله به الذي كان قبل في أيام المنصور وضم المنصور إياه إلى المهدي حين وجهه إلى الري عند خلع عبد الجبار بْن عبد الرحمن المنصور، فذكر أبو زيد عمر بْن شبة، أن سعيد بْن إبراهيم حدثه أن جعفر بْن يحيى حدثه أن الفضل بْن الربيع أخبره، أن الموالي كانوا يشنعون على أبي عبيد الله عند المهدي، ويسعون عليه عنده، فكانت كتب أبي عبيد الله تنفذ عند المنصور بما يريد من الأمور، وتتخلى الموالي بالمهدي، فيبلغونه عن أبي عبيد الله، ويحرضونه عليه.
قَالَ الفضل: وكانت كتب ابى عبيد الله نصل إلى أبي تترى، يشكو الموالي وما يلقى منهم، ولا يزال يذكره عند المنصور ويخبره بقيامه، ويستخرج الكتب عنه الى المهدى بالوصاية به، وترك القبول فيه قَالَ: فلما رأى أبو عبيد الله غلبة الموالي على المهدي، وخلوتهم به نظر إلى أربعة رجال من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم، فضمهم إلى المهدي، فكانوا في صحابته، فلم يكونوا يدعون الموالي يتخلون به.
ثم إن أبا عبيد الله كلم المهدي في بعض أمره إذ اعترض رجل من هؤلاء الأربعة في الأمر الذي تكلم فيه، فسكت عنه أبو عبيد الله، فلم يراده، وخرج فأمر أن يحجب عن المهدي فحجبه عنه، وبلغ ذلك من خبره أبي.
قَالَ: وحج أبي مع المنصور في السنة التي مات فيها، وقام أبي من أمر المهدي بما قام به من أمر البيعة وتجديدها على بيت المنصور والقواد والموالي، فلما قدم تلقيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتى تجاوز منزله، وترك دار المهدي، ومضى إلى أبي عبيد الله، فقال: يا بني، هو صاحب الرجل، وليس ينبغي أن نعامله على ما كنا نعامله عليه، ولا أن نحاسبه بما كان منا في أمره من نصرتنا له قَالَ: فمضينا حتى أتينا باب أبي عبيد الله، فما زال واقفا حتى صليت

(8/137)


العتمة، فخرج الحاجب، فقال: ادخل، فثنى رجله وثنيت رجلي قَالَ:
إنما استأذنت لك يا أبا الفضل وحدك قَالَ: اذهب فأخبره أن الفضل معي.
قَالَ: ثم أقبل علي، فقال: وهذا أيضا من ذلك! قَالَ: فخرج الحاجب، فأذن لنا جميعا، فدخلنا أنا وأبي، وأبو عبيد الله في صدر المجلس، على مصلى متكئ على وسادة، فقلت: يقوم إلى أبي إذا دخل إليه، فلم يقم إليه، فقلت: يستوي جالسا إذا دنا، فلم يفعل، فقلت: يدعو له بمصلى، فلم يفعل، فقعد أبي بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره وحاله، وجعل أبي يتوقع أن يسأله عما كان منه في أمر المهدي وتجديد بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبي يبتدئه بذكره، فقال: قد بلغنا نبؤكم، قَالَ: فذهب أبي لينهض، فقال: لا أرى الدروب إلا وقد غلقت، فلو أقمت! قَالَ: فقال أبي: إن الدروب لا تغلق دوني، قَالَ: بلى قد أغلقت قَالَ: فظن أبي أنه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره، ويريد أن يسأله، قَالَ: فأقيم قَالَ: يا فلان، اذهب فهيئ لأبي الفضل في منزل محمد بْن أبي عبيد الله مبيتا فلما رأى أنه يريد أن يخرج من الدار، قَالَ.
فليس تغلق الدروب دوني فاعتزم ثم قام، فلما خرجنا من الدار أقبل علي فقال: يا بني، أنت أحمق، قلت: وما حمقي أنا! قَالَ: تقول لي:
كان ينبغي لك ألا تجيء، وكان ينبغي إذا جئت فحجبنا ألا تقيم حتى صليت العتمة، وأن تنصرف ولا تدخل، وكان ينبغي إذا دخلت فلم يقم إليك أن ترجع ولا تقيم عليه، ولم يكن الصواب إلا ما عملت كله، ولكن والله الذي لا إله إلا هو- واستغلق في اليمين- لأخلعن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ من أبي عبيد الله.
قَالَ: ثم جعل يضطرب بجهده، فلا يجد مساغا إلى مكروهه، ويحتال الجد إذ ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجبه، فأرسل اليه فجاءه،

(8/138)


فقال: إنك قد علمت ما ركبك به أبو عبيد الله، وقد بلغ مني كل غاية من المكروه، وقد أرغت أمره بجهدي، فما وجدت عليه طريقا، فعندك حيلة في أمره؟ فقال: إنما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك.
يقال: هو رجل جاهل بصناعته وأبو عبيد الله أحذق الناس، أو يقال: هو ظنين في الدين بتقليده، وأبو عبيد الله أعف الناس، لو كان بنات المهدي في حجره لكان لهن موضع، أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فليس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك، إلا أنه يميل إلى القدر بعض الميل، وليس يتسلق عليه بذاك أن يقال: هو متهم، ولكن هذا كله مجتمع لك في ابنه، قَالَ: فتناوله الربيع، فقبل بين عينيه، ثم دب لابن ابى عبيد الله، فو الله ما زال يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرم المهدي، حتى استحكم عند المهدي الظنة بمحمد بْن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر، وأخرج أبو عبيد الله.
فقال: يا محمد اقرأ، فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه القرآن، فقال: يا معاوية ألم تعلمني أن ابنك جامع للقرآن؟ قَالَ: أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني منذ سنين، وفي هذه المدة التي نأى فيها عني نسي القرآن، قَالَ: قم فتقرب إلى الله في دمه، فذهب ليقوم فوقع، فقال العباس بْن محمد: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ! قَالَ: ففعل، وأمر به فأخرج، فضربت عنقه.
قَالَ: فاتهمه المهدي في نفسه، فقال له الربيع: قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك، ولا أن تثق به فأوحش المهدي، وكان الذي كان من أمره وبلغ الربيع ما أراد، واشتفى وزاد.
وذكر محمد بْن عبد الله يعقوب بْن داود، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ:
ضرب المهدي رجلا من الأشعريين، فاوجعه، فتعصب ابو عبيد الله- وكان مولى لهم، فقال: القتل أحسن من هذا يا أمير المؤمنين، فقال له المهدي:
يا يهودي، اخرج من عسكري لعنك الله قَالَ: ما أدري إلى أين أخرج

(8/139)


إلا إلى النار! قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، أحر بهذا أن لمثلها يتوقع، قَالَ: فقال لي: سبحان الله يا أبا عبيد الله! وفيها غزا الغمر بْن العباس في البحر.
وفيها ولي نصر بْن محمد بْن الأشعث السند مكان روح بْن حاتم، وشخص إليها حتى قدمها ثم عزل وولي مكانه محمد بْن سليمان، فوجه إليها عبد الملك ابن شهاب المسمعي، فقدمها على نصر، فبغته، ثم أذن له في الشخوص، فشخص حتى نزل الساحل على ستة فراسخ من المنصورة، فأتى نصر بْن محمد عهده على السند، فرجع إلى عمله، وقد كان عبد الملك أقام بها ثمانية عشر يوما، فلم يعرض له، فرجع إلى البصرة.
وفيها استقضى المهدي عافية بن يزيد الأزدي، فكان هو وابن علاثة يقضيان في عسكر المهدي في الرصافة، وكان القاضي بمدينة الشرقية عمر بْن حبيب العدوي.
وفيها عزل الفضل بْن صالح عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي.
وفيها استعمل عيسى بْن لقمان على مصر.
وفيها ولي يزيد بْن منصور سواد الكوفه وحسان الشروى الموصل وبسطام ابن عمرو التغلبي أذربيجان.
وفيها عزل أبا أيوب المسمى سليمان المكي عن ديوان الخراج، وولي مكانه أبو الوزير عمر بْن مطرف.
وفيها توفي نصر بْن مالك من فالج أصابه، ودفن في مقابر بني هاشم وصلى عليه المهدي.
وفيها صرف أبان بْن صدقة عن هارون بْن المهدي إلى موسى بْن المهدي، وجعله له كاتبا ووزيرا، وجعل مكانه مع هارون ابن المهدى يحيى بن خالد ابن برمك

(8/140)


وفيها عزل محمد بْن سليمان أبا ضمرة عن مصر في ذي الحجة المهدي وولاها سلمة بْن رجاء.
وحج بالناس في هذه السنة موسى بْن محمد بْن عبد الله الهادي، وهو ولي عهد أبيه.
وكان عامل الطائف ومكة واليمامة فيها جعفر بْن سليمان، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى سوادها يزيد بْن منصور.

(8/141)


ثم دخلت

سنة اثنتين وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر مقتل عبد السلام الخارجي
فمن ذلك ما كان من مقتل عبد السلام الخارجي بقنسرين.
ذكر الخبر عن مقتله:
ذكر أن عبد السلام بْن هاشم اليشكري هذا خرج بالجزيرة، وكثر بها أتباعه، واشتدت شوكته، فلقيه من قواد المهدي عدة، منهم عيسى بْن موسى القائد، فقتله في عدة ممن معه، وهزم جماعة من القواد، فوجه إليه المهدي الجنود، فنكب غير واحد من القواد، منهم شبيب بْن واج المروروذي، ثم ندب إلى شبيب ألف فارس، أعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، وألحقهم بشبيب فوافوه، فخرج شبيب في أثر عبد السلام، فهرب منهم حتى أتى قنسرين، فلحقه بها فقتله.
وفيها وضع المهدي دواوين الأزمة، وولى عليها عمر بْن بزيع مولاه، فولى عمر بْن بزيع النعمان بْن عثمان أبا حازم زمام خراج العراق.
وفيها أمر المهدي أن يجرى على المجذمين وأهل السجون في جميع الآفاق.
وفيها ولي ثمامة بْن الوليد العبسي الصائفة، فلم يتم ذلك.
وفيها خرجت الروم إلى الحدث، فهدموا سورها.
وغزا الصائفة الحسن بْن قحطبة في ثلاثين ألف مرتزق سوى المطوعة، فبلغ حمة أذرولية، فأكثر التخريب والتحريق في بلاد الروم من غير أن يفتح حصنا، ويلقى جمعا، وسمته الروم التنين وقيل: إنه إنما أتى

(8/142)


هذه الحمة الحسن ليستنقع فيها للوضح الذي كان به، ثم قفل بالناس سالمين.
وكان على قضاء عسكره وما يجتمع من الفيء حفص بْن عامر السلمي.
قَالَ: وفيها غزا يزيد بْن أسيد السلمي من باب قاليقلا، فغنم وفتح ثلاثة حصون، وأصاب سبيا كثيرا وأسرى.
وفيها عزل علي بْن سليمان عن اليمن، وولي مكانه عبد الله بْن سليمان.
وفيها عزل سلمة بْن رجاء عن مصر، ووليها عيسى بْن لقمان، في المحرم، ثم عزل في جمادى الآخرة، ووليها واضح مولى المهدي، ثم عزل في ذي القعدة ووليها يحيى الحرشي.
وفيها ظهرت المحمرة بجرجان، عليهم رجل يقال له عبد القهار، فغلب على جرجان، وقتل بشرا كثيرا، فغزاه عمر بْن العلاء من طبرستان، فقتل عبد القهار وأصحابه.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن جعفر بن المنصور، وكان العباس ابن محمد استأذن المهدي في الحج بعد ذلك، فعاتبه على ألا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحدا فيوليه إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، عمدا أخرت ذلك لأني لم أرد الولاية.
وكانت عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها ثم إن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بْن علي وطبرستان والرويان إلى سعيد بْن دعلج، وجرجان إلى مهلهل بْن صفوان.

(8/143)


ثم دخلت

سنة ثلاث وستين ومائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك ما كان فيها من هلاك المقنع، وذلك أن سعيدا الحرشي حصره بكش، فاشتد عليه الحصار، فلما أحس بالهلكة شرب سما، وسقاه نساءه وأهله، فمات وماتوا- فيما ذكر- جميعا، ودخل المسلمون قلعته، واحتزوا رأسه، ووجهوا به الى المهدى وهو بحلب.

ذكر خبر غزو الروم
وفيها قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان، فأقام به نحوا من شهرين يتعبأ فيه ويتهيأ، ويعطي الجنود، وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين شخصوا معه، فتوفي عيسى بْن علي في آخر جمادى الآخرة ببغداد وخرج المهدي من الغد إلى البردان متوجها إلى الصائفة، واستخلف ببغداد موسى بْن المهدي، وكاتبه يومئذ أبان بْن صدقة، وعلى خاتمه عبد الله بْن علاثة، وعلى حرسه علي بْن عيسى، وعلى شرطه عبد الله بْن خازم، فذكر العباس بْن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين ومائة خرج يشيعه وأنا معه، فلما حاذى قصر مسلمة، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بْن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بن عم هذان ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا نفدت فلا تحتشمنا فقال لما حدثته الحديث: احضروا من هاهنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق، ثم قال: يا أبا الفضل، كافانا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: نعم، وزدت يا امير المؤمنين

(8/144)


وذكر إبراهيم بْن زياد، عن الهيثم بْن عدي، أن المهدي أغزى هارون الرشيد بلاد الروم، وضم إليه الربيع الحاجب والحسن بْن قحطبة.
قَالَ محمد بْن العباس: إني لقاعد في مجلس أبي في دار أمير المؤمنين وهو على الحرس، إذ جاء الحسن بْن قحطبة، فسلم علي، وقعد على الفراش الذي يقعد أبي عليه، فسأل عنه فأعلمته أنه راكب، فقال لي: يا حبيبي أعلمه أني جئت، وأبلغه السلام عني، وقل له: إن أحب أن يقول لأمير المؤمنين:
يقول الحسن بْن قحطبة: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أغزيت هارون، وضممتني والربيع إليه، وأنا قريع قوادك، والربيع قريع مواليك، وليس تطيب نفسي بان نخلى جميعا بابك، فاما أغزيتني مع هارون وأقام الربيع، وإما أغزيت الربيع وأقمت ببابك قَالَ: فجاء أبي فأبلغته الرسالة، فدخل على المهدي فأعلمه، فقال: أحسن والله الاستعفاء، لا كما فعل الحجام ابْن الحجام- يعني عامر بْن إسماعيل- وكان استعفى من الخروج مع إبراهيم فغضب عليه، واستصفى ماله.
وذكر عبد الله بْن أحمد بْن الوضاح، قَالَ: سمعت جدي أبا بديل، قَالَ: أغزى المهدي الرشيد، وأغزى معه موسى بْن عيسى وعبد الملك بْن صالح بْن علي وموليي أبيه: الربيع الحاجب والحسن الحاجب، فلما فصل دخلت عليه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ما خلفك عن ولي العهد، وعن أخويك خاصة؟ يعني الربيع والحسن الحاجب قلت: أمر أمير المؤمنين ومقامي بمدينة السلام حتى يأذن لي قَالَ: فسر حتى تلحق به وبهما، واذكر ما تحتاج إليه قَالَ: قلت: ما أحتاج إلى شيء من العدة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في وداعه! فقال لي: متى تراك خارجا؟ قَالَ: قلت من غد، قَالَ: فودعته وخرجت، فلحقت القوم قَالَ: فأقبلت أنظر إلى الرشيد يخرج، فيضرب بالصوالجة، وانظر إلى موسى بْن عيسى وعبد الملك ابن صالح، وهما يتضاحكان منه

(8/145)


قَالَ: فصرت إلى الربيع والحسن- وكنا لا نفترق- قال: فقلت: لا جزاكما الله عمن وجهكما ولا عمن وجهتما معه خيرا، فقالا: إيه، وما الخبر؟ قَالَ:
قلت: موسى بْن عيسى وعبد الملك بْن صالح يتضاحكان من ابن أمير المؤمنين، أوما كنتما تقدران أن تجعلا لهما مجلسا يدخلان عليه فيه ولمن كان معه من القواد في الجمعه يدخلون عليه ويخلوه في سائر ايامه لما يريد! قَالَ: فبينا نحن في ذلك المسير إذ بعثا إلي في الليل قَالَ: فجئت وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بْن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة قَالَ:
ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سني المهدي فإذا هي عشر سنين.
قَالَ: فقلت: ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أن خبر هذا الغلام يخفى، وأن هذا الكتاب يستتر! قالا: كلا، قلت: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنيه ما نقص، افلستم أول من نعى اليه نفسه! قال: فتبلدوا والله، وسقط في أيديهما، فقالا: فما الحيلة؟ قلت: يا غلام علي بعنبسة- يعني الوراق الأعرابي مولى آل أبي بديل- فأتي به، فقلت له: خط مثل هذا الخط، وورقة مثل هذه الورقة، وصير مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقه، قال: فو الله لولا أني رأيت العشر في تلك والأربعين في هذه ما شككت أن الخط ذلك الخط، وأن الورقة تلك الورقة.
قَالَ: ووجه المهدي خالد بْن برمك مع الرشيد وهو ولي العهد حين وجهه لغزو الروم، وتوجه معه الحسن وسليمان ابنا برمك، ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته وكتابته والقيام بأمره يحيى بْن خالد- وكان أمر هارون كله إليه- وصير الربيع الحاجب مع هارون يغزو عن المهدي، وكان الذي بين الربيع ويحيى على حسب ذلك، وكان يشاورهما ويعمل برأيهما، ففتح الله عليهم فتوحا كثيرة، وأبلاهم في ذلك الوجه بلاء جميلا، وكان لخالد في ذلك بسمالو أثر جميل لم يكن لأحد، وكان منجمهم يسمى البرمكي تبركا

(8/146)


به ونظرا إليه قَالَ: ولما ندب المهدي هارون الرشيد لما ندبه له من الغزو، أمر أن يدخل عليه كتاب أبناء الدعوة لينظر إليهم ويختار له منهم رجلا.
قَالَ يحيى: فأدخلوني عليه معهم، فوقفوا بين يديه، ووقفت آخرهم، فقال لي: يا يحيى، ادن، فدنوت، ثم قَالَ لي: اجلس، فجلست فجثوت بين يديه، فقال لي: إني قد تصفحت أبناء شيعتي وأهل دولتي، واخترت منهم رجلا لهارون ابني أضمه إليه ليقوم بأمر عسكره، ويتولى كتابته، فوقعت عليك خيرتي له، ورأيتك أولى به، إذ كنت مربيه وخاصته، وقد وليتك كتابته وأمر عسكره قَالَ: فشكرت ذلك له، وقبلت يده، وأمر لي بمائة ألف درهم معونة على سفري، فوجهت في ذلك العسكر لما وجهت له.
قَالَ: وأوفد الربيع سليمان بْن برمك إلى المهدي، وأوفد معه وفدا، فأكرم المهدي وفادته وفضله، وأحسن إلى الوفد الذين كانوا معه، ثم انصرفوا من وجههم ذلك.

عزل عبد الصمد بن على عن الجزيرة وتوليه زفر بن الحارث
وفي هذه السنة، سنة مسير المهدي مع ابنه هارون، عزل المهدى عبد الصمد ابن علي عن الجزيرة، وولى مكانه زفر بْن عاصم الهلالي.
ذكر السبب في عزله إياه:
ذكر أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل، وعلى الجزيرة عبد الصمد بْن علي، فلما شخص المهدي من الموصل، وصار بأرض الجزيرة، لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلا، ولا أصلح له قناطر فاضطغن ذلك عليه المهدي، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها عليه، وازداد عليه سخطا، وامر بأخذه باقامه النزل له، فتعبث في ذلك، وتقنع، ولم يزل يربي ما يكرهه إلى أن نزل حصن

(8/147)


مسلمة، فدعا به، وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله، فأمر بحبسه وعزله عن الجزيرة، ولم يزل في حبسه في سفره ذلك وبعد أن رجع إلى أن رضي عنه وأقام له العباس بْن محمد النزل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بقتل المقنع، وبعث وهو بها عبد الجبار المحتسب لجلب من بتلك الناحية من الزنادقة ففعل، وأتاه بهم، وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتي بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده، وأمر بالرحلة، واشخص جماعه من وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم، وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدرب، وبلغ جيحان، وارتاد بها المدينة التي تسمى المهدية، وودع هارون على نهر جيحان فسار هارون حتى نزل رستاقا من رساتيق أرض الروم فيه قلعة، يقال لها سمالو، فأقام عليها ثمانيا وثلاثين ليلة، وقد نصب عليها المجانيق، حتى فتحها الله بعد تخريب لها، وعطش وجوع أصاب أهلها، وبعد قتل وجراحات كانت في المسلمين، وكان فتحها على شروط شرطوها لأنفسهم:
لا يقتلوا ولا يرحلوا، ولا يفرق بينهم، فأعطوا ذلك، فنزلوا، ووفى لهم، وقفل هارون بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بها.
وفي هذه السنة وفي سفرته هذه، صار المهدي إلى بيت المقدس، فصلى فيه، ومعه العباس بْن محمد والفضل بْن صالح وعلي بْن سليمان وخاله يزيد ابن منصور.
وفيها عزل المهدي إبراهيم بْن صالح عن فلسطين، فسأله يزيد بْن منصور حتى رده عليها.
وفيها ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج، ثابت بْن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك

(8/148)


وفيها عزل زفر بْن عاصم عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح ابن علي، وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس، فأعجب بما رأى من منزله بسلمية.
وفيها عزل معاذ بْن مسلم عن خراسان وولاها المسيب بْن زهير.
وعزل فيها يحيى الحرشي عن أصبهان، وولى مكانه الحكم بْن سعيد.
وعزل فيها سعيد بْن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر ابن العلاء.
وفيها عزل مهلهل بْن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بْن سعيد.
وحج بالناس في هذه السنة علي بْن المهدي.
وكان على اليمامة والمدينة ومكة والطائف فيها جعفر بْن سليمان، وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بْن الصباح، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وكور فارس محمد بْن سليمان، وعلى خراسان المسيب بْن زهير، وعلى السند نصر بن محمد ابن الاشعث.

(8/149)


ثم دخلت

سنة أربع وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة عبد الكبير بْن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْن الخطاب من درب الحدث، فأقبل إليه ميخائيل البطريق- فيما ذكر- في نحو من تسعين ألفا، فيهم طازاذ الأرمني البطريق، ففشل عنه عبد الكبير ومنع المسلمين من القتال وانصرف، فأراد المهدي ضرب عنقه، فكلم فيه فحبسه في المطبق.
وفيها عزل المهدي محمد بْن سليمان عن أعماله، ووجه صالح بْن داود على ما كان إلى محمد بْن سليمان، ووجه معه عاصم بْن موسى الخراساني الكاتب على الخراج، وأمره بأخذ حماد بْن موسى كاتب محمد بْن سليمان وعبيد الله بْن عمر خليفته وعماله وتكشيفهم.
وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرا من لبن، إلى أن أسس قصره الذي بالآجر: الذي سماه قصر السلامة، وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة.
وفيها شخص المهدي حين أسس هذا القصر إلى الكوفة حاجا، فأقام برصافة الكوفة أياما، ثم خرج متوجها إلى الحج، حتى انتهى إلى العقبة، فغلا عليه وعلى من معه الماء، وخاف ألا يحمله ومن معه ما بين أيديهم، وعرضت له مع ذلك حمى، فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بسبب الماء، لأنه كان صاحب المصانع، واشتد على الناس العطش في منصرفهم وعلى ظهرهم حتى اشفوا على الهلكة.
وفيها توفي نصر بْن محمد بْن الأشعث بالسند وفيها عزل عبد الله بْن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله

(8/150)


ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، ثم أمر بحبسه عند الربيع حين قدم، حتى أقر من المال والجوهر والعنبر بما أقر به، فرده اليه، واستعمل مكانه منصور بْن يزيد بْن منصور.
وفيها وجه المهدي صالح بْن أبي جعفر المنصور من العقبة عند انصرافه عنها إلى مكة ليحج بالناس، فأقام صالح للناس الحج في هذه السنة.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف واليمامة فيها جعفر بْن سليمان، وعلى اليمن منصور بْن يزيد بْن منصور، وعلى صلاه الكوفه واحداثها هاشم ابن سعيد بْن منصور، وعلى قضائها شريك بْن عبد الله، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وفارس صالح ابن داود بْن علي، وعلى السند سطيح بْن عمر، وعلى خراسان المسيب بْن زهير، وعلى الموصل محمد بْن الفضل وعلى قضاء البصرة عبيد الله بْن الحسن، وعلى مصر إبراهيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي، وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى أمير المؤمنين، وعلى الري خلف بْن عبد الله، وعلى سجستان سعيد بْن دعلج.

(8/151)


ثم دخلت

سنة خمس وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

غزوه هارون بن المهدى الصائفه ببلاد الروم
فمن ذلك غزوة هارون بْن محمد المهدي الصائفة، ووجهه أبوه- فيما ذكر- يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازيا إلى بلاد الروم، وضم إليه الربيع مولاه، فوغل هارون في بلاد الروم، فافتتح ماجدة، ولقيته خيول نقيطا قومس القوامسة، فبارزه يزيد بْن مزيد، فأرجل يزيد، ثم سقط نقيطا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم.
وسار إلى الدمستق بنقمودية وهو صاحب المسالح، وسار هارون في خمسه وتسعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وتسعين رجلا، وحمل لهم من العين مائه الف دينار واربعه وتسعين ألفا وأربعمائة وخمسين دينارا، ومن الورق أحدا وعشرين ألف الف وأربعمائة الف واربعه عشر ألفا وثمانمائه درهم وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذى على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ اغسطه امرأة أليون، وذلك أن ابنها كان صغيرا قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينهما وبين هارون بْن المهدي الرسل والسفراء في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت له، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، وذلك أنه دخل مدخلا صعبا مخوفا على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو سبعون ألف دينار، تؤديها في نيسان الأول في كل سنة، وفي حزيران، فقبل ذلك منها، فأقامت له الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسولا إلى المهدي بما بذلت على أن تؤدي ما تيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا

(8/152)


كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى وكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائه وثلاثة وأربعين رأسا، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفا، وقتل من الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدواتها عشرون ألف دابة، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم وعشرين سيفا بدرهم، فقال مروان بْن أبي حفصة في ذلك:
أطفت بقسطنطينة الروم مسندا ... إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها
وما رمتها حتى أتتك ملوكها ... بجزيتها، والحرب تغلي قدورها
وفيها عزل خلف بْن عبد الله عن الري، وولاها عيسى مولى جعفر.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن أبي جعفر المنصور.
وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم عمالها في السنة الماضية، غير أن العامل على أحداث البصرة والصلاة بأهلها كان روح بْن حاتم، وعلى كور دجلة والبحرين وعمان وكسكر وكور الأهواز وفارس وكرمان كان المعلى مولى أمير المؤمنين المهدي، وعلى السند الليث مولى المهدي.

(8/153)


ثم دخلت

سنة ست وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك قفول هارون بْن المهدي، ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، وذلك- فيما قيل- أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية والفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزى.
وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بْن المهدي، وسماه الرشيد.
وفيها عزل عبيد الله بْن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بْن طليق بْن عمران بن حصين الخزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه.
وفيها عزل جعفر بْن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل.
وفيها سخط المهدي على يعقوب بْن داود.

ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب
ذكر علي بْن محمد النوفلي، قَالَ: سمعت أبي يذكر، قَالَ: كان داود بْن طهمان- وهو أبو يعقوب بْن داود- وإخوته كتابا لنصر بْن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان، فلما كانت أيام يحيى بْن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم، فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بْن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من اصحاب نصر، أتاه داود ابن طهمان مطمئنا لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم

(8/154)


يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثا بمرو، فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها.
فكان يعقوب يجول البلاد منفردا بنفسه، ومع إبراهيم بْن عبد الله أحيانا، في طلب البيعة لمحمد بْن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بْن عبد الله كتب على ابن داود- وكان أسن من يعقوب- لإبراهيم بْن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم، فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعليا فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما وكان معهما في المطبق إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن- وكانا لا يفارقانه- وإخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك الصداقة وكان إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالحي بني هاشم جميعا، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله ص لا تصلح إلا في بني هاشم، وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم، وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب، وكان هو ويعقوب بْن داود يتجاريان ذلك، فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن ابن إبراهيم بْن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يوما:
لو وجدت رجلا من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بْن زيد، وله فقه فاجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بْن زيد! فدل على يعقوب بْن داود، فأتي به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة كرابيس وكساء أبيض غليظ فكلمه وفاتحه، فوجده رجلا كاملا، فسأله عن عيسى بْن زيد، فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك، إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما

(8/155)


كانت للسعاية بآل علي ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة، فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بْن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بْن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ... خليفة الله بين الدف والعود
قَالَ: فحسده موالي المهدي، فسعوا عليه.
ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة قَالَ: ولما علم آل الحسن بْن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية به إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بْن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه، وقد كاتبهم، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بْن الفضل، فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه.
قَالَ علي بْن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائما على رأسه يوما يذب عنه، إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال:
يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلا يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت لها رجلا يصلح لذلك قَالَ: ومن هو؟
قَالَ: ابن عمك إسحاق بْن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير، فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قَالَ: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قَالَ: ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه

(8/156)


وقال موسى بْن إبراهيم المسعودي: قَالَ المهدي: وصف لي يعقوب بْن داود في منامي، فقيل لي أن اتخذه وزيرا فلما رآه، قَالَ: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيرا، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حينا حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه- وكان حظيا عنده- فقال له: إن أحمد بْن إسماعيل بْن علي، قَالَ لي: قد بنى متنزها أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسى احمد ابن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بْن داود، فبينا يعقوب بين يديه إذ لببه، فضرب به الأرض، فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين! قَالَ: ألست القائل:
إني أنفقت على متنزه لي خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون، فكان هذا أول سبب أمره.
قَالَ: وحدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود قد عرف عن المهدي خلعا واستهتارا بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بْن داود يصف من نفسه في ذلك شيئا كثيرا، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلا فيقولون:
هو على أن يصبح فيثور بيعقوب، فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيرا! فيقول: نعم، فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثا، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه.
قَالَ: وقال لي الموصلي: قَالَ يعقوب بْن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بْن يعقوب بْن داود عن أبيه، قَالَ: بعث إلي المهدي يوما، فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى

(8/157)


ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئا أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قواما، ولا أحسن اعتدالا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال:
هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به قَالَ: فدعوت له بما يجب قَالَ: ثم قَالَ: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قَالَ: فوثبت قائما ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قَالَ: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قَالَ: - والله- قلت والله ثلاثا- قَالَ: وحياة رأسي! قلت:
وحياة رأسك، قَالَ: فضع يدك عليه واحلف به، قَالَ: فوضعت يدي عليه، وحلفت له به لأعملن بما قَالَ، ولأقضين حاجته قَالَ: فلما استوثق مني في نفسه، قَالَ: هذا فلان بْن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك قَالَ: قلت: أفعل، قَالَ: فخذه إليك، فحولته إلي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم.
قَالَ: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها، وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة.
قَالَ: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قَالَ: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟

(8/158)


قَالَ: إن فعلت خيرا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار قَالَ: فقلت له أي الطرق أحب إليك؟ قَالَ: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قَالَ: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحبا في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا- الذي اتفقوا عليه- في وقت كذا وكذا من الليل، وإذا الجارية قد حفظت علي قولي، فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، صنع وفعل كذا وكذا، حتى ساقت الحديث كله قَالَ: وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث ان جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، على السجية التي حكتها الجارية قَالَ: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني- قَالَ: وكنت خالي الذرع غير ملق الى امر العلوي بالا حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة- فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قَالَ: مات؟ قلت: نعم، قَالَ: والله، ثم قَالَ: قم فضع يدك على رأسي، قَالَ: فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به قَالَ:
فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قَالَ: ففتح بابه عن العلوي صاحبيه والمال بعينه قَالَ: فبقيت متحيرا، وسقط في يدي، وامتنع منى الكلام، فما أدري ما أقول! قَالَ: فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق، ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري، حتى استرسل كهيئة شعور البهائم.
قَالَ: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث لا أعلم أين هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قَالَ: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قَالَ:
رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قَالَ: نعم، قلت: ما أشك في وقوف

(8/159)


أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قَالَ: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قَالَ: قلت: المقام بمكة، قَالَ: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قَالَ: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولإبلاغ، قَالَ: فراشدا قَالَ: فخرجت فكان وجهي إلى مكة.
قَالَ ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات قَالَ محمد بْن عبد الله: قَالَ لي أبي: قَالَ يعقوب بْن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ الا تحرجا، ولكنه كان لا يشتهيه، وكان أصحابه: عمر بْن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قَالَ: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قَالَ: فكان يقول: قد سمع عبد الله بْن جعفر، قَالَ: قلت: ليس هذا من حسناته، لو أن رجلا سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعدا!.
وقال محمد بْن عبد الله: حدثني أبي، قَالَ: كان أبي يعقوب بْن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه، وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه، واستقبل وقدم النية في تركه موضعه قَالَ: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين، والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلى مما أنا فيه، وإني لأركب إليك فأتمنى يدا خاطئة تصيبني في الطريق، فأعفني وول غيري من شئت، فإني أحب ان اسلم عليك انا وولدى، وو الله إني لأتفزع في النوم، وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضا من آخرتي قَالَ:
فكان يقول لي: اللهم غفرا! اللهم أصلح قلبه، قَالَ: فقال شاعر له:
فدع عنك يعقوب بْن داود جانبا ... وأقبل على صهباء طيبة النشر

(8/160)


قَالَ عبد الله بْن عمر: وحدثني جعفر بْن أحمد بْن زيد العلوي، قَالَ:
قَالَ ابن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بْن داود جارية، وكان بضعف قَالَ: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الارض مطيه أوطأ منها حاشا سامع فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه.
وقال علي بْن محمد النوفلي: حدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلا يحادثه ويسامره، فبينما هو ليلة عنده، وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي، وهو الأزرق الخفيف، وكان الطيلسان قد دق دقا شديدا فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب، فاستدبره فضربه ضربة على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافيا، فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غدا عليه المهدي مع الفجر، وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أياما ثلاثة متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله، فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأت عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في اصحابه: لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن نصر.
قَالَ النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر أن يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم.
وقال علي بْن محمد: لما حبس يعقوب بْن داود وأهل بيته، وتفرق عماله

(8/161)


واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بْن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلا وإلى يعقوب، فأتي به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت، وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قَالَ: وتكذبني وترد علي قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطا ضربا مبرحا، وأمر به فرد إلى الحبس.
قَالَ: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وابوك الباقى بعد رسول الله ص ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر، وأنت في البستان وأنا عندك، إذ دخل أبو الوزير- قَالَ علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بْن داود على ابنة صالح بْن داود- فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟
قَالَ: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكث محبوسا أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه.
وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بْن إبراهيم.
وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة، ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم.
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينه الرسول ص وبين مكة واليمن، بغالا وإبلا، ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بْن زهير، فولاها الفضل بْن سليمان

(8/162)


الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بْن سعيد بْن دعلج بأمر المهدي.
وفيها أخذ داود بْن روح بْن حاتم وإسماعيل بْن سليمان بْن مجالد ومحمد ابن أبي أيوب المكي ومحمد بْن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلى سبيلهم، وبعث بداود بْن روح إلى أبيه روح، وهو يومئذ بالبصرة عاملا عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه.
وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بْن أبي عبيد الله الوزير- وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام- وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بالزندقة وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل.
وفيها ولي إبراهيم بْن يحيى بْن محمد على المدينة، مدينه رسول الله ص، وعلى الطائف ومكة عبيد الله بْن قثم.
وفيها عزل منصور بْن يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بْن سليمان الربعي.
وفيها خلى المهدي عبد الصمد بْن علي من حبسه الذي كان فيه
. [أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد.
وكان عامل الكوفة في هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بْن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بْن حاتم، وعلى قضائها خالد بْن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي، وعلى مصر إبراهيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.
ولم يكن في هذه السنة صائفة، للهدنة التي كانت فيها

(8/163)


ثم دخلت

سنة سبع وستين ومائة
(ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذَلِكَ مَا كان من توجيه المهدي ابنه موسى في جمع كثيف من الجند، وجهاز لم يجهز- فيما ذكر- أحد بمثله، إلى جرجان لحرب ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي حين جهز موسى إليها أبان بْن صدقة على رسائله، ومحمد بْن جميل على جنده، ونفيعا مولى المنصور على حجابته، وعلي بْن عيسى بْن ماهان على حرسه، وعبد الله بْن خازم على شرطه، فوجه موسى الجنود إلى وانداهرمز وشروين، وأمر عليهم يزيد بْن مزيد، فحاصرهما.
وفيها توفى عيسى بن موسى بالكوفه، وولى الكوفة يومئذ روح بْن حاتم، فأشهد روح بْن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن وقيل إن عيسى بْن موسى توفي وروح على الكوفة، لثلاث بقين من ذي الحجة، فحضر روح جنازته، فقيل له: تقدم فأنت الأمير، فقال: ما كان الله ليرى روحا يصلي على عيسى بْن موسى، فليتقدم أكبر ولده، فأبوا عليه وأبى عليهم، فتقدم العباس بْن عيسى، فصلى على أبيه وبلغ ذلك المهدي، فغضب على روح، وكتب إليه:
قد بلغني ما كان من نكوصك عن الصلاة على عيسى، أبنفسك، أم بأبيك، أم بجدك كنت تصلي عليه! أو ليس إنما ذلك مقامي لو حضرت.
فإذ غبت كنت أنت أولى به لموضعك من السلطان! وامر بمحاسبته، وكان يلي الخراج مع الصلاة والأحداث.
وتوفي عيسى والمهدي واجد عليه وعلى ولده، وكان يكره التقدم عليه لجلالته

(8/164)


وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بْن الفيض كاتب المنصور، فأقر- فيما ذكر- فحبس، فهرب من الحبس، فلم يقدر عليه.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بْن عبيد الله عن ديوان الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، فاستخلف عليه سعيد بْن واقد، وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.
وفيها فشا الموت، وسعال شديد ووباء شديد ببغداد والبصرة.
وفيها توفي أبان بْن صدقة بجرجان، وهو كاتب موسى على رسائله، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول يزيد خليفة أبي عبيد الله.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام، فدخلت فيه دور كثيرة.
وولى بناء ما زيد فيه يقطين بْن موسى، فكان في بنائه إلى أن توفي المهدي.
وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان، وما كان إليه من تلك الناحية، ووليها عمر بْن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي، وعزل عنها يحيى الحرشي.
وفيها أظلمت الدنيا لليال بقين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار ولم يكن فيها صائفة، للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إسحاق بْن عيسى ابن على.
وفيها طعن عقبه بن سلم الهنائى بعيساباذ، وهو في دار عمر بن بزيع، اغتاله رجل، فطعنه بخنجر، فمات فيها

(8/165)


وكان العامل على مكة والطائف فيها عبيد الله بْن قثم، وعلى اليمن سليمان بْن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بْن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها روح بْن حاتم، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بْن سليمان، وعلى قضائها عمر بْن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي.
وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي.
وعلى مصر موسى بْن مصعب وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم.
وعلى طبرستان والرويان عمر بْن العلاء، وعلى جرجان ودنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.

(8/166)


ثم دخلت

سنة ثمان وستين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من نقض الروم الصلح الذي كان جرى بينهم وبين هارون بْن المهدي الذي ذكرناه قبل وغدرهم، وذلك في شهر رمضان من هذه السنة، فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم به اثنان وثلاثون شهرا، فوجه علي بْن سليمان وهو يومئذ على الجزيرة وقنسرين يزيد بْن بدر بْن البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا.
وفيها وجه المهدى سعيدا الحرشي إلى طبرستان في أربعين ألف رجل.
وفيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة، وولي مكانه حمدويه، وهو محمد بْن عيسى من أهل ميسان.
وفيها قتل المهدي الزنادقة ببغداد.
وفيها رد المهدي ديوانه وديوان أهل بيته إلى المدينة ونقله من دمشق إليها.
وفيها خرج المهدي إلى نهر الصلة أسفل واسط- وإنما سمي نهر الصلة فيما ذكر لأنه أراد أن يقطع أهل بيته وغيرهم غلته، يصلهم بذلك.
وفيها ولى المهدي علي بْن يقطين ديوان زمام الأزمة على عمر بْن بزيع.
وذكر أحمد بْن موسى بْن حمزة، عن أبيه، قَالَ: أول من عمل ديوان الزمام عمر بْن بزيع في خلافة المهدي، وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر، فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة، وولى كل ديوان رجلا، فكان واليه على زمام ديوان الخراج اسماعيل ابن صبيح، ولم يكن لبني أمية دواوين أزمة.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن ريطة.

(8/167)


ثم دخلت

سنة تسع وستين ومائة
ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا

ذكر الخبر عن خروج المهدى الى ماسبذان
فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان.
ذكر الخبر عن خروجه إليها:
ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه.
وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره- وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه- قَالَ: سأل علي بْن يقطين المهدي أن يتغدى عنده، فوعده أن يفعل، ثم اعتزم على إتيان ماسبذان، فو الله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقا، فقال له علي: يا أمير المؤمنين، إنك قد وعدتني أن تتغدى عندي غدا، قَالَ: فاحمل غداءك إلى النهروان قَالَ: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق.
وفيها توفي المهدي
. ذكر الخبر عن موت المهدي
ذكر الخبر عن سبب وفاته:
اختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قَالَ: خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر،

(8/168)


وانصرفت إلى مضربي- وكان بعيدا من مضربه- فلما كان في السحر الاكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي، إذ لقيني اسود عريان على قتد رحل، فدنا مني، ثم قَالَ لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي، فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنا به مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد صلاة العصر، وهو أسر ما كان حالا وأصحه بدنا، فما كان الخبر؟ قَالَ: طردت الكلاب ظبيا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته.
وذكر أن علي بْن أبي نعيم المروزي، قَالَ: بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم، وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له: إنه مسموم.
وحدثني أحمد بْن محمد الرازي، أن المهدي كان جالسا في علية في قصر بماسبذان، يشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية- وكان المهدي يعجبه الكمثرى- وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جاريه للمهدي- وكان يتحظاها- تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رآها ورأى معها الكمثرى، دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت

(8/169)


تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه.
وذكر عبد الله بْن إسماعيل صاحب المراكب، قَالَ: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فامسكت به وما به عله، فو الله ما أصبح إلا ميتا، فرأيت حسنة وقد رجعت، وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:
رحن في الوشي وأصبحن ... عليهن المسوح
كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عمرت ... ما عمر نوح
فعلى نفسك نح إن ... كنت لا بد تنوح
وذكر صالح القارئ أن علي بْن يقطين، قَالَ: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يوما فقال: إني أصبحت جائعا، فأتي بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قَالَ: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق، فانتبهنا ببكائه، فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئا، قَالَ:
وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول:
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولات حلائله

(8/170)


قَالَ: فما أتت عليه عاشرة حتى مات.
وكانت وفاته- فيما قَالَ أبو معشر والواقدي- في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا ونصف شهر.
قال بعضهم: كانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوما، وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
وقال هشام بْن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بْن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليال خلون منه، فملك عشر سنين وشهرا واثنين وعشرين يوما، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة
. ذكر الخبر عن الموضع الَّذِي دفن فِيهِ ومن صلى عليه
ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ، وفي ذلك يقول بكار بْن رباح:
ألا رحمة الرحمن في كل ساعة ... على رمة رمت بماسبذان
لقد غيب القبر الذي تم سوددا ... وكفين بالمعروف تبتدران
وصلى عليه ابنه هارون، ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها.
وكان طويلا مضمر الخلق، جعدا واختلف في لونه، فقال بعضهم:
كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض.
وكان في عينه اليمنى- في قول بعضهم- نكتة بياض وقال بعضهم:
كان ذلك بعينه اليسرى.
وكان ولد بايذج.

(8/171)


ذكر بعض سير المهدي وأخباره
ذكر عن هارون بْن أبي عبيد الله، قَالَ: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قَالَ: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.
وذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: حدثني علي بْن صالح، قَالَ:
جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته من أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة، العشرة الآلاف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قَالَ: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت قَالَ: كان يسرك أن أقتل؟ قَالَ: لا، قَالَ: فو الذى أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف.
قَالَ الحسن: وحدثني علي بْن صالح، قَالَ: غضب المهدي على بعض القواد- وكان عتب عليه غير مرة- فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟
قَالَ: إلى أبد نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا، فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه.
وذكر محمد بْن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قَالَ: كان هشام الكلبي صديقا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد، فكنت أراه في حال رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته، فما راعني إلا وقد لقيني يوما على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرة، قَالَ لي: نعم، اخبرك عنها، فاكتم، فبينما

(8/172)


أنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر، إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خال ليس عنده أحد، وبين يديه كتاب، فقال:
ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه قَالَ: فنظرت في الكتاب، فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك: إن استفظعته فلا تلقه، اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قَالَ: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبا عجيبا، لم يبق له فيه شيئا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قَالَ: هذا صاحب الأندلس، قَالَ: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته.
قَالَ: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قَالَ: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب قَالَ: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكاتب من المهدي جوابا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت، فلم أبق شيئا حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم، وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت.
قَالَ الحسن: وحدثني مسور بْن مساور، قَالَ: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاما صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنده عمه العباس بْن محمد وابن علاثة وعافية القاضي قَالَ: فقال لي المهدي: ادنه، فدنوت، فقال:
ما تقول؟ قلت: ظلمتني، قَالَ: فترضى بأحد هذين؟ قَالَ: قلت: نعم،

(8/173)


قَالَ: فادن مني، فدنوت منه حتى التزقت بالفراش، قَالَ: تكلم، قلت:
أصلح الله القاضي! أنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: ضيعتي وفي يدي، قَالَ: قلت: أصلح الله القاضي! سله، صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قَالَ: فسأله: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: صارت إلي بعد الخلافة قَالَ: فأطلقها له، قَالَ: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا امير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.
قَالَ: وحدثني عبد الله بْن الربيع، قَالَ: سمعت مجاهدا الشاعر يقول:
خرج المهدي متنزها، ومعه عمر بْن بزيع مولاه، قَالَ: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟
قَالَ: ما من شيء، قَالَ: أرى كوخًا وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قَالَ: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قَالَ: نعم، قال: وكراث؟ قَالَ: نعم، ما شئت وتمر قَالَ: فعدا نحو المبقلة، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلا كثيرا، وشبعا، فقال المهدي لعمر بْن بزيع: قل في هذا شعرا، فقال:
إن من يطعم الربيثاء بالزيت ... وخبز الشعير بالكراث
لحقيق بصفعة أو بثنتين ... لسوء الصنيع أو بثلاث
فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا.
لحقيق ببدرة أو بثنتين ... لحسن الصنيع أو بثلاث
قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف.
وذكر محمد بْن عبد الله، قَالَ: أخبرني أبو غانم، قَالَ: كان زيد

(8/174)


الهلالي رجلًا شريفًا سخيا مشهورا من بني هلال، وكان نقش خاتمه:
أفلح يا زيد من زكا عمله، فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي:
زيد الهلالي نقش خاتمه ... أفلح يا زيد من زكا عمله
قَالَ: وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعا خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمدا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك، قَالَ: فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه.
وقَالَ الموصلي: قَالَ عبد الصمد بْن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، أنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم، وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه، قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قَالَ:
يا أبا محمد، ان الموالي يستحقون ذلك، وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك الا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك، ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك.
قَالَ علي بْن محمد: قَالَ الفضل بْن الربيع: قَالَ المهدي لعبد الله بْن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه، فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك قَالَ: أما سمعت قول الشاعر:

(8/175)


ومولاك لا يهضم لديك فإنما ... هضيمة مولى القوم جدع المناخر
قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بْن مجاشع التميمي- من أهل مرو بقرية يقال لها باران- الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ، إلى آخر الآية ثم كتب: والقاسم بْن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله ص، وان علي بْن أبي طالب وصي رسول الله ص ووارث الأمامة بعده قَالَ: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها قَالَ أبو الخطاب: فلم يزل ذلك في قلب أبي عبيد الله الوزير، فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية قَالَ: وقال الهيثم بْن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال:
يا أمير المؤمنين، إن المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني ان احله، والا عوضتني واستغفرت الله له قَالَ: ولم شتمك؟ قَالَ: شتمت عدوه بحضرته، فغضب، قَالَ: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قَالَ: إبراهيم بْن عبد الله ابن حسن، قَالَ: إن إبراهيم أمس به رحما وأوجب عليه حقا، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع، وما أساء من انتصر لابن عمه قَالَ: انه كان عدوا له، قال: فلم ينتصر للعداوة، وإنما انتصر للرحم، فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قَالَ: لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قَالَ: نعم، قَالَ: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم.
قَالَ: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قَالَ: أنت نبي؟ قَالَ:
نعم، قَالَ: وإلى من بعثت؟ قَالَ: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه!

(8/176)


وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قَالَ: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.
وذكر أبو الأشعث الكندي، قَالَ: حدثني سليمان بْن عبد الله، قَالَ:
قَالَ الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة، فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم القمر، أم ثيابه! قَالَ: فقرأ هذه الآية:
«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ، قَالَ: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قَالَ: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بْن جعفر، وكان محبوسا عندي! قَالَ: فجعلت أفكر، قَالَ: فقلت: ما هو إلا موسى بْن جعفر، قَالَ: فأحضرته، قَالَ: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» ، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي قَالَ: فقال: نعم، فوثق له وخلاه.
وذكر إبراهيم بْن أبي علي، قَالَ: سمعت سليمان بْن داود، يقول: سمعت المهدى يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ» ، في سوره النساء.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم، فتقدم إليه رجل من آل الزبير، فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أمية، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي، وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها، منهم عمر ابن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بْن عبد العزيز، وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم ير ردها، قَالَ: وكل أفعال عمر ترضى؟

(8/177)


قَالَ: وأي أفعاله لا ترضى؟ قَالَ: منها أنه كان يفرض للسقط من بني أمية في خرقة في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين.
قَالَ: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قَالَ: نعم، قَالَ: اردد على الزبيري ضيعته.
وذكر عمر بْن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قَالَ: كتب المهدي إلى جعفر بْن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة اتهموا بالقدر، فحمل إليه رجالا، منهم عبد الله بْن أبي عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وعبد الله بْن يزيد بْن قيس الهذلي، وعيسى بْن يزيد بن داب الليثى، وابراهيم ابن محمد بْن أبي بكر الأسامي، فأدخلوا على المهدى، فانبرى له عبد الله ابن أبي عبيدة من بينهم، فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قَالَ: لا، ذاك عمي داود قَالَ: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وبه كان يدين فأطلقهم.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، قال: حدثنى ابى، عن محمد ابن عبد الله بن محمد بن علي بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ:
رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله ص، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بْن عبد الملك، وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسمه رجل من بني هاشم يقال له محمد قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم، فابن من؟ قَالَ:
ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ: ابن محمد، قلت:
فأنا ابن محمد، فابن من؟ قَالَ: ابن علي، قلت: فأنا ابن علي، فابن من؟ قَالَ: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قَالَ:
عباس، فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر قَالَ:
فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدى، فتحدث الناس بها حتى ولى المهدى، فدخل مسجد رسول الله ص، فرفع راسه

(8/178)


فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: وإني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله ص إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه.
وذكر أحمد بْن الهيثم القرشي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عطاء، قَالَ: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون، بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية الرسول، فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله! قَالَ: فأمر نصيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: سمعت أبي يقول: كان أول من افترش الطبري المهدي، وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدي إليه الطبري من طبرستان، فافترشه، وجعل الثلج والخلاف حوله، حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه.
وذكر محمد بْن زياد، قَالَ: قَالَ المفضل: قَالَ لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك قَالَ: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها، فوصلني وأحسن إلي.
قَالَ علي بْن محمد: كان رجل من ولد عبد الرحمن بْن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه فقال له يوما: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي:
لمن الديار بقنة الحجر

(8/179)


فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر، فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس.
وذكر أن أبا عون عبد الملك بْن يزيد مرض، فعاده المهدي، فإذا منزل رث وبناء سوء، وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن قَالَ: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين، وألا يميتني على فراشي حتى أقتل في طاعتك، وانى لواثق بالا أموت حتى أبلي الله في طاعتك ما هو اهله، فانا قد روينا قَالَ: فأظهر له المهدي رأيا جميلا، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك، فو الله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائنا ما كان، فقل وأوص قَالَ: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن ترضى عن عبد الله بْن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه قَالَ: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك، إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما.
قَالَ: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم قال:
وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قَالَ لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنيا بالذهب والفضة، وأنتم إذا وجدتم درهما بنيتم بالساج والذهب.
وذكر أبو عبد الله، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: خطب المهدي يوما، فقال: عباد الله، اتقوا الله، فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله، فإنك تعمل بغير الحق قَالَ: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم، فلما ادخل عليه قال: يا بن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قَالَ:
سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قَالَ: ما أراك

(8/180)


إلا نبطيا، قَالَ: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله قَالَ: فرئي الرجل بعد ذلك، فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي.
قَالَ: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام وقال هارون بْن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قَالَ:
قَالَ المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يدا سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها، لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
قَالَ: وذكر خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير، أن أباه حدثه، قَالَ:
كان بشار بْن برد بْن يرجوخ هجا صالح بْن داود بْن طهمان- أخا يعقوب ابن داود- حين ولي البصرة، فقال:
هم حملوا فوق المنابر صالحا ... أخاك فضجت من أخيك المنابر
فبلغ يعقوب بْن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قَالَ: ويلك! وما قَالَ؟
قَالَ: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده ذلك، قَالَ: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده:
خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في حر الخيزران
قَالَ: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بْن داود أن يقدم على المهدي، فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة.
وذكر عبد الله بْن عمر: حدثني جدي أبو الحي العبسي، قَالَ:
لما دخل مروان بْن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه:

(8/181)


أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان:
بسبعين ألفا راشني من حبائه ... وما نالها في الناس من شاعر قبلي
وذكر أحمد بْن سليمان، قَالَ: أخبرني أبو عدنان السلمي، قَالَ: قَالَ المهدي لعمارة بْن حمزة: من أرق الناس شعرا؟ قَالَ: والبة بْن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول:
ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح
في القلب يقدح والحشا ... فالقلب مجروح النواحي
قَالَ: صدقت والله، قَالَ: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قَالَ: يمنعني والله من منادمته، قوله:
قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من رأسي
ونم على وجهك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي
افتريد ان يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بْن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي قَالَ: فأدخل عليه فأنشده شعرا يقول فيه: وجوار زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قَالَ وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: لا والله، قَالَ: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله ص لا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله.
قَالَ ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بْن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بْن يزيد:

(8/182)


أنت ابن مسلنطح البطاح ولم ... تطرق عليك الحني والولج
والله لا تقول لي في مثل هذا أبدا، ولا أسمع منك شعرا، وإن شئت وصلتك.
وذكر أن المهدي أمر بالصوم سنة ست وستين ليستسقي للناس في اليوم الرابع، فلما كان في الليلة الثالثة أصابهم الثلج، فقال لقيط بْن بكير المحاربي في ذلك:
يا إمام الهدى سقينا بك الغيث ... وزالت عنا بك اللأواء
بت تعني بالحفظ والناس نوام ... عليهم من الظلام غطاء
رقدوا حيث طال ليلك فيهم ... لك خوف تضرع وبكاء
قد عنتك الأمور منهم على الغفلة ... من معشر عصوا وأساءوا
وسقينا وقد قحطنا وقلنا ... سنة قد تنكرت حمراء
بدعاء أخلصته في سواد الليل ... لله فاستجيب الدعاء
بثلوج تحيا بها الأرض حتى ... أصبحت وهي زهرة خضراء
وذكر أن الناس في أيام المهدي صاموا شهر رمضان في صميم الصيف، وكان أبو دلامة إذ ذاك يطالب بجائزة وعدها إياه المهدي، فكتب إلى المهدي رقعة يشكو إليه فيها ما لقي من الحر والصوم، فقال في ذلك:
أدعوك بالرحم التي جمعت لنا ... في القرب بين قريبنا والأبعد
ألا سمعت وأنت أكرم من مشى ... من منشد يرجو جزاء المنشد
حل الصيام فصمته متعبدا ... أرجو ثواب الصائم المتعبد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ... مما أكلف من نطاح المسجد

(8/183)


قَالَ: فلما قرأ المهدي الرقعة دعا به، فقال: اى قرابه بيني وبينك يا بن اللخناء! قَالَ: رحم آدم وحواء فضحك منه وأمر له بجائزة.
وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، عن إبراهيم بْن خالد المعيطي قَالَ: دخلت على المهدي- وقد وصف له غنائي- فسألني عن الغناء وعن علمي به، وقال لي: تغني النواقيس؟ قلت: نعم والصليب يا أمير المؤمنين! فصرفني، وبلغني أنه قَالَ: معيطي، ولا حاجة لي إليه فيمن ادنيه من خلوتي ولا آنس به.
ولمعبد المغنى النواقيس في هذا الشعر:
سلا دار ليلى هل تجيب فتنطق ... وأنى ترد القول بيداء سملق
وأنى ترد القول دار كأنها ... لطول بلاها والتقادم مهرق
وذكر قعنب بْن محرز أبو عمرو الباهلي أن الأصمعي حدثه، قَالَ:
رأيت حكما الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له في الطريق، وكان له شعيرات، وأخرج دفا له يضربه، وقال: أنا القائل:
فمتى تخرج العروس ... فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم تقض لبسها
فتسرع إليه الحرس فصيح بهم: كفوا، وسأل عنه فقيل: حكم الوادي، فأدخله إليه ووصله.
وذكر علي بْن محمد أنه سمع أباه يقول: دخل المهدي بعض دوره يوما فإذا جارية له نصرانية، وإذا جيبها واسع وقد انكشف عما بين ثدييها، وإذا صليب من ذهب معلق في ذلك الموضع، فاستحسنه، فمد يده إليه فجذبه،

(8/184)


فأخذه، فولولت على الصليب، فقال المهدي في ذلك:
يوم نازعتها الصليب فقالت ... ويح نفسي أما تحل الصليبا!
قَالَ: وأرسل إلى بعض الشعراء فأجازه، وأمر به فغنى فيه، وكان معجبا بهذا الصوت.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: إن المهدي نظر إلى جارية له عليها تاج فيه نرجس من ذهب وفضة، فاستحسنه فقال:
يا حبذا النرجس في التاج.
فارتج عليه، فقال: من بالحضرة؟ قالوا: عبد الله بْن مالك، فدعاه، فقال: إني رأيت جارية لي فاستحسنت تاجا عليها فقلت:
يا حبذا النرجس في التاج.
فتستطيع أن تزيد فيه؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن دعني أخرج فأفكر، قَالَ: شأنك، فخرج وأرسل إلى مؤدب لولده فسأله إجازته، فقال:
على جبين لاح كالعاج.
وأتمها أبياتا أربعة، فأرسل بها عبد الله إلى المهدي، فأرسل إليه المهدي بأربعين ألفا، فأعطى المؤدب منها أربعة آلاف، وأخذ الباقي لنفسه، وفيها غناء معروف.
وذكر أحمد بْن موسى بْن مضر أبو علي، قَالَ: أنشدني التوزي في حسنة جاريته:
أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنك تملكيني ... وإن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضا أحسنت زيدي

(8/185)


وذكر علي بْن محمد، عن أبيه، قَالَ: رأيت المهدي وقد دخل البصرة من قبل سكة قريش، فرأيته يسير والبانوقة بين يديه، بينه وبين صاحب الشرطة، عليها قباء أسود، متقلدة سيفا في هيئة الغلمان قَالَ: وإني لأرى في صدرها شيئا من ثدييها.
قَالَ علي: وحدثني أبي، قَالَ: قدم المهدي إلى البصرة، فمر في سكة قريش، وفيها منزلنا، وكانت الولاة لا تمر فيها إذا قدم الوالي، كانوا يتشاءمون بها- قل وال مر فيها فأقام في ولايته إلا يسيرا حتى يعزل- ولم يمر فيها خليفة قط إلا المهدي، كانوا يمرون في سكة عبد الرحمن بْن سمرة، وهي تساوي سكة قريش، فرأيت المهدي يسير، وعبد الله بْن مالك على شرطه يسير أمامه، في يده الحربة، وابنته البانوقه تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما.
قَالَ: وكانت البانوقة سمراء حسنة القد حلوة فلما ماتت- وذلك ببغداد- أظهر عليها المهدي جزعا لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر ألا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بْن شيبة، فإنه قَالَ:
يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها، وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك.
وذكر صباح بْن عبد الرحمن، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: توفيت البانوقة بنت المهدي، فدخل عليه شبيب بْن شيبة، فقال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجرا، وأعقبك صبرا، لا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل الى رده.

(8/186)


خلافة الهادي
وفي هذه السنة بويع لموسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة، يوم توفي المهدي، وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان، وكانت وفاة المهدي بماسبذان ومعه ابنه هارون، ومولاه الربيع ببغداد خلفه بها، فذكر أن الموالي والقواد لما توفي المهدي اجتمعوا إلى ابنه هارون، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن يحمل، وتنادي في الجند بالقفل حتى تواريه ببغداد فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بْن خالد البرمكي- وكان المهدي ولى هارون المغرب كله، من الأنبار إلى إفريقية، وأمر يحيى بْن خالد أن يتولى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولى منها الى ان توفى- قال: فصار يحيى بْن خالد إلى هارون، فقال له: يا أبت، ما تقول فيما يقول عمر بْن بزيع ونصير والمفضل؟ قال: وما قالوا؟ فأخبره، قَالَ: ما أرى ذلك، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأن هذا ما لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخليه حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا، ولكن أرى أن يوارى رحمه الله هاهنا، وتوجه نصيرا إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية، فإن البريد إلى نصير، فلا ينكر خروجه أحد إذ كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز، مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالقفول، فإنهم إذا قبضوا الدراهم لم تكن لهم همة سوى أهاليهم وأوطانهم، ولا عرجة على شيء دون بغداد قال: نفعل ذلك وقال الجند لما قبضوا الدراهم: بغداد بغداد! يتبادرون إليها، ويبعثون على الخروج من ماسبذان، فلما وافوا بغداد، وعلموا خبر الخليفة، ساروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق، وضجوا وقدم هارون بغداد،

(8/187)


فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بْن خالد تشاورهما في ذلك، فأما الربيع فدخل عليها، وأما يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدة غيرة موسى.
قَالَ: وجمعت الأموال حتى أعطي الجند لسنتين، فسكتوا، وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابا يتوعده فيه بالقتل، وكتب إلى يحيى بْن خالد يجزيه الخير، ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به، وأن يتولى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولاه قَالَ: فبعث الربيع إلى يحيى بْن خالد- وكان يوده، ويثق به، ويعتمد على رأيه: يا أبا علي، ما ترى؟ فإنه لا صبر لي على جر الحديد قَالَ: أرى ألا تبرح موضعك، وأن توجه ابنك الفضل يستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك، فإني لأرجو الا يرجع إلا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله قَالَ: وكانت أم الفضل ابنه بحيث تسمع منهما مناجاتهما، فقالت له: نصحك والله قَالَ: فإني أحب أن أوصي إليك، فانى لا ادرى ما يحدث فقال: لست أنفرد لك بشيء، ولا أدع ما يجب، وعندي في هذا وغيره ما تحب، ولكن أشرك معي في ذلك الفضل ابنك وهذه المرأة، فإنها جزلة مستحقة لذلك منك ففعل الربيع ذلك، وأوصى إليهم.
قَالَ الفضل بْن سليمان: ولما شغب الجند على الربيع ببغداد وأخرجوا من كان في حبسه، وأحرقوا أبواب دوره في الميدان، حضر العباس بْن محمد وعبد الملك بْن صالح ومحرز بْن إبراهيم ذلك، فرأى العباس أن يرضوا، وتطيب أنفسهم، وتفرق جماعتهم بإعطائهم أرزاقهم، فبذل ذلك لهم فلم يرضوا، ولم يثقوا مما ضمن لهم من ذلك، حتى ضمنه محرز بْن إبراهيم، فقنعوا بضمانه وتفرقوا، فوفى لهم بذلك، وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرا، وذلك قبل قدوم هارون فلما قدم- وكان هو خليفة موسى الهادي- ومعه الربيع وزيرا له، وجه الوفود إلى الأمصار، ونعى إليهم المهدي، وأخذ بيعتهم لموسى الهادي، وله بولاية العهد من بعده، وضبط أمر بغداد وقد كان نصير

(8/188)


الوصيف شخص من ماسبذان من يومه إلى جرجان بوفاة المهدي والبيعة له، فلما صار إليه نادى بالرحيل، وخرج من فوره على البريد جوادا ومعه من أهل بيته إبراهيم وجعفر، ومن الوزراء عبيد الله بْن زياد الكاتب صاحب رسائله، ومحمد بْن جميل كاتب جنده فلما شارف مدينة السلام استقبله الناس من أهل بيته وغيرهم، وقد كان احتمل على الربيع ما كان منه وما صنع من توجيه الوفود وإعطائه الجنود قبل قدومه، وقد كان الربيع وجه ابنه الفضل، فتلقاه بما أعد له من الهدايا، فاستقبله بهمذان، فأدناه وقربه، وقال: كيف خلفت مولاي؟ فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي، فاعتذر إليه، وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، فقبله، وولاه الوزارة مكان عبيد الله بْن زياد بْن أبي ليلى، وضم إليه ما كان عمر بْن بزيع يتولاه من الزمام، وولى محمد بْن جميل ديوان خراج العراقين، وولى عبيد الله بْن زياد خراج الشام وما يليه، وأقر على حرسه علي بْن عيسى بْن ماهان، وضم إليه ديوان الجند، وولى شرطه عبد الله بْن مالك مكان عبد الله بْن خازم، وأقر الخاتم في يد علي بْن يقطين.
وكانت موافاة موسى الهادي بغداد عند منصرفه من جرجان لعشر بقين من صفر من هذه السنة، سار- فيما ذكر عنه- من جرجان إلى بغداد في عشرين يوما، فلما قدمها نزل القصر الذي يسمى الخلد، فأقام به شهرا، ثم تحول إلى بستان أبي جعفر، ثم تحول الى عيساباذ.
وفي هذه السنة هلك الربيع مولى أبي جعفر المنصور.
وقد ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه أنه كانت لموسى الهادي جارية، وكانت حظية عنده، وكانت تحبه وهو بجرجان حين وجهه إليها المهدي، فقالت أبياتا، وكتبت إليه وهو مقيم بجرجان، منها:
يا بعيد المحل أمسى ... بجرجان نازلا

(8/189)


قَالَ: فلما جاءته البيعة وانصرف إلى بغداد، لم تكن له همة غيرها، فدخل عليها وهي تغني بأبياتها، فأقام عندها يومه وليلته قبل أن يظهر لأحد من الناس.
وفي هذه السنة اشتد طلب موسى الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة، فكان ممن قتل منهم يزدان بْن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بْن يقطين من أهل النهروان، ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال:
ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر وله يقول العلاء بْن الحداد الأعمى:
أيا أمين الله في خلقه ... ووراث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر ... يشبه الكعبة بالبيدر
ويجعل الناس إذا ما سعوا ... حمرا تدوس البر والدوسر!
فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره وقتل من بني هاشم يعقوب بْن الفضل.
وذكر عن علي بْن محمد الهاشمي، قَالَ: كان المهدي أتي بابن لداود ابن علي زنديقا، وأتي بيعقوب بْن الفضل بْن عبد الرحمن بْن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب زنديقا، في مجلسين متفرقين، فقال لكل واحد منهما كلاما واحدا، وذلك بعد أن أقرا له بالزندقة، أما يعقوب بْن الفضل فقال له: أقر بها بيني وبينك، فأما إن أظهر ذلك عند الناس فلا أفعل ولو قرضتني بالمقاريض، فقال له: ويلك! لو كشفت لك السموات، وكان الأمر كما تقول، كنت حقيقا أن تغضب لمحمد، ولولا محمد ص من كنت! هل كنت إلا إنسانا من الناس! أما والله لولا أني كنت جعلت لله على عهدا إذا ولاني هذا الأمر ألا أقتل هاشميا لما ناظرتك ولقتلتك.
ثم التفت إلى موسى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا الأمر بعدي ألا تناظرهما ساعة واحدة فمات ابن داود بْن علي في الحبس قبل وفاة المهدي، وأما يعقوب فبقي حتى مات المهدي وقدم موسى من جرجان

(8/190)


فساعة دخل، ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب من ألقى عليه فراشا، وأقعدت الرجال عليه حتى مات ثم لها عنه ببيعته وتشديد خلافته، وكان ذلك في يوم شديد الحر، فبقي يعقوب حتى مضى من الليل هدء، فقيل لموسى:
يا أمير المؤمنين، إن يعقوب قد انتفخ وأروح قَالَ: ابعثوا به الى أخيه إسحاق ابن الفضل، فخبروه أنه مات في السجن فجعل في زورق وأتي به إسحاق، فنظر فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفنه في بستان له من ساعته، وأصبح فأرسل إلى الهاشميين يخبرهم بموت يعقوب ويدعوهم إلى الجنازة، وأمر بخشبة فعملت في قد الإنسان فغشيت قطنا، وألبسها أكفانا، ثم حملها على السرير، فلم يشك من حضرها أنه شيء مصنوع.
وكان ليعقوب ولد من صلبه: عبد الرحمن والفضل وأروى وفاطمة، فأما فاطمة فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك قَالَ علي بْن محمد: قَالَ أبي: فأدخلت فاطمة وامرأة يعقوب بْن الفضل- وليست بهاشمية، يقال لها خديجة- على الهادي- أو على المهدي من قبل- فأقرتا بالزندقة، وأقرت فاطمة أنها حامل من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس، فرأتهما مكتحلتين مختضبتين، فعذلتهما، وأكثرت على الابنة خاصة، فقالت: أكرهني، قالت: فما بال الخضاب والكحل والسرور، ان كنت مكرهة! ولعنتهما قَالَ: فخبرت أنهما فزعتا فماتتا فزعا، ضرب على راسيهما بشيء يقال له الرعبوب ففزعتا منه، فماتتا وأما أروى فبقيت فتزوجها ابن عمها الفضل بْن إسماعيل بْن الفضل، وكان رجلا لا باس به في دينه.
وفيها قدم وندا هرمز صاحب طبرستان إلى موسى بأمان، فأحسن صلته، ورده إلى طبرستان.

(8/191)


ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت سنه تسع وستين ومائه

خروج الحسين بن على بن الحسن بفخ
ومما كان فيها خروج الحسين بْن علي بْن الحسن بْن الحسن بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب المقتول بفخ.
ذكر الخبر عن خروجه ومقتله:
ذكر عن محمد بْن موسى الخوارزمي أنه قَالَ: كان بين موت المهدي وخلافة الهادي ثمانية أيام قَالَ: ووصل إليه الخبر وهو بجرجان، وإلى أن قدم مدينة السلام إلى خروج الحسين بْن علي بْن الحسن، وإلى أن قتل الحسين، تسعة أشهر وثمانية عشر يوما.
وذكر محمد بْن صالح، أن أبا حفص السلمي حدثه، قَالَ: كان إسحاق بْن عيسى بْن علي على المدينة، فلما مات المهدي، واستخلف موسى، شخص إسحاق وافدا إلى العراق إلى موسى، واستخلف على المدينة عمر بْن عبد العزيز بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عمر بْن الخطاب.
وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن إسحاق بْن عيسى بْن علي استعفى الهادي وهو على المدينة، واستأذنه في الشخوص إلى بغداد، فأعفاه، وولى مكانه عمر بْن عبد العزيز وأن سبب خروج الحسين بْن علي بْن الحسن كان أن عمر بْن عبد العزيز لما تولى المدينة- كما ذكر الحسين بْن محمد عن أبي حفص السلمي- أخذ أبا الزفت الحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن الحسن ومسلم بْن جندب الشاعر الهذلي وعمر بْن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعا، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فكلم فيهم، وصار إليه الحسين بْن علي فكلمه، وقال: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم، ولم يكن لك أن تضربهم، لأن أهل العراق لا يرون به بأسا، فلم تطوف بهم! فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم، وأمر بهم إلى الحبس، فحبسوا يوما وليلة، ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعا، وكانوا

(8/192)


يعرضون، ففقد الحسن بْن محمد، وكان الحسين بْن علي كفيله قَالَ محمد بْن صالح: وحدثني عبد الله بْن محمد الأنصاري أن العمري كان كفل بعضهم من بعض، فكان الحسين بْن علي بْن الحسن ويحيى بْن عبد الله بْن الحسن كفيلين بالحسن بْن محمد بْن عبد الله بْن الحسن، وكان قد تزوج مولاة لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بْن الحسن، فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وعرضهم خليفة العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بْن علي ويحيى بْن عبد الله، فسألهما عن الحسن بْن محمد، فغلظ عليهم بعض التغليظ، ثم انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم، وقال له: أصلحك الله! الحسن بْن محمد غائب مذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى، فذهب فدعاهما، فلما دخلا عليه، قَالَ لهما: أين الحسن بْن محمد؟ قالا: والله ما ندري، إنما غاب عنا يوم الأربعاء، ثم كان يوم الخميس، فبلغنا أنه اعتل، فكنا نظن أن هذا اليوم لا يكون فيه عرض، فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى بْن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره، حتى يعلم أنه قد جاءه به.
فلما خرجا قَالَ له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسنا! حلفت له بشيء لا تقدر عليه قَالَ: إنما حلفت على حسن، قَالَ:
سبحان الله! فعلى أي شيء حلفت! قَالَ: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف قال: فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة، قَالَ: قد كان الذي كان فلا بد منه.
وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم- فيما ذكروا- وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم- وممن كان بايع الحسين- متكمنين في دار، فانطلقوا فعملوا في ذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في آخر الليل خرجوا وجاء يحيى بْن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بْن عمر فلم يجده أيضا فيها، وتوارى منهم، فجاءوا حتى اقتحموا المسجد حين أذنوا بالصبح،

(8/193)


فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء، وجعل الناس يأتون المسجد، فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون، فلما صلى الغداة جعل الناس يأتونه، ويبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه ص للمرتضى من آل محمد وأقبل خالد البربري، وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه، وجاء العمري ووزير ابن إسحاق الأزرق ومحمد بْن واقد الشروي، ومعهم ناس كثير، فيهم الحسين بْن جعفر بْن الحسين بْن الحسين على حمار، واقتحم خالد البربري الرحبة، وقد ظاهر بين درعين، وبيده السيف، وعمود في منطقته، مصلتا سيفه، وهو يصيح بحسين:
أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليهم حتى دنا منهم، فقام إليه ابنا عبد الله بْن حسن: يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك يذبب عن نفسه بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه، وعلواه بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه، وانتزعوا سيفه وعموده، فجاءوا به ثم أمروا به فجر إلى البلاط، وحملوا على أصحابه فانهزموا قَالَ عبد الله بْن محمد: هذا كله بعيني.
وذكر عبد الله بْن محمد أن خالدا ضرب يحيى بن عبد الله، فقطع البرنس، ووصلت ضربته الى يد يحيى فأثرت فيها، وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه، فضربه على رجليه، واعتوروه بأسيافهم فقتلوه.
قَالَ عبد الله بْن محمد: ودخل عليهم المسودة المسجد حين دخل الحسين ابن جعفر على حماره، وشدت المبيضة فأخرجوهم، وصاح بهم الحسين:
ارفقوا بالشيخ- يعني الحسين بْن جعفر- وانتهب بيت المال، فأصيب فيه بضعة عشر ألف دينار، فضلت من العطاء- وقيل: أن ذلك كان سبعين ألف دينار كان بعث بها عبد الله بْن مالك، يفرض بها من خزاعة- قَالَ:
وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم، فلما كان من الغد اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء،

(8/194)


وجعل المسودة يحملون على المبيضة حتى يبلغوا بهم رحبة دار الفضل، وتحمل المبيضة عليهم حتى يبلغ بهم الزوراء وفشت الجراحات بين الفريقين جميعا، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا، فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد، جاء الخبر بأن مباركا التركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس، فخرجوا إليه فكلموه أن يجيء، فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع إليه شيعة بني العباس ومن أراد القتال، فاقتتلوا بالبلاط أشد قتال إلى انتصاف النهار، ثم تفرقوا وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التركي، إلى دار عمر بْن عبد العزيز بالثنية يقيل فيها، وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا عنه، جلس على رواحله فانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فناوشوهم شيئا من القتال إلى المغرب، ثم تفرقوا، وأقام حسين وأصحابه أياما يتجهزون.
وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما، ثم خرج يوم أربعة وعشرين لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا، وعاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا يدعون الله عليهم، ففعل الله بهم وفعل.
قَالَ محمد بْن صالح: فحدثني نصير بْن عبد الله بْن إبراهيم الجمحي، أن حسينا لما انتهى إلى السوق متوجها إلى مكة التفت إلى أهل المدينة، وقال:
لا خلف الله عليكم بخير! فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت، لا خلف الله عليك بخير، ولا ردك! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فملئوه قذرا وبولا، فلما خرجوا غسل الناس المسجد.
قَالَ: وحدثني ابن عبد الله بْن إبراهيم، قَالَ: أخذ أصحاب الحسين ستور المسجد، فجعلوها خفاتين لهم، قَالَ: ونادى أصحاب الحسين بمكة:
أيما عبد أتانا فهو حر، فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي، فكان معه، فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه، وقال له: عمدت إلى مماليك لم تملكهم فأعتقتهم، بم تستحل ذلك! فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد عرفه فادفعوه إليه، فذهبوا معه، فأخذ غلامه وغلامين لجيران لنا وانتهى خبر الحسين إلى الهادي، وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل

(8/195)


بيته، منهم محمد بْن سليمان بْن علي والعباس بْن محمد وموسى بْن عيسى، سوى من حج من الأحداث وكان على الموسم سليمان بْن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بْن سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بْن محمد! قَالَ: دعوني، لا والله لا أخدع عن ملكي، فنفذ الكتاب بولاية محمد بْن سليمان بْن علي على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج.
وكان محمد بْن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال، وذلك لأن الطريق كان مخوفا معورا من الإعراب، ولم يحتشد لهم حسين، فأتاه خبرهم، فهم بصوبه، فخرج بخدمه وإخوانه وكان موسى بْن علي بْن موسى قد صار ببطن نخل، على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه، وانتهى الخبر إلى العباس بْن محمد بْن سليمان وكاتبهم، وساروا إلى مكة فدخلوا، فأقبل محمد بْن سليمان، وكانوا أحرموا بعمرة ثم صاروا إلى ذي طوى، فعسكروا بها، ومعهم سليمان بْن أبي جعفر، فانضم إليهم من وافى في تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم وكان الناس قد اختلفوا في تلك السنة في الحج وكثروا جدا ثم قدم محمد بْن سليمان قدامه تسعين حافرا ما بين فرس إلى بغل، وهو على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكبا على النجائب عليها الرحال وخلفهم مائتا راكب على الحمير، سوى من كان معهم من الرجالة وغيرهم، وكثروا في أعين الناس جدا وملئوا صدورهم فظنوا أنهم أضعافهم، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وأحلوا من عمرتهم، ثم مضوا فأتوا ذا طوى ونزلوا، وذلك يوم الخميس فوجه محمد بْن سليمان أبا كامل- مولى لإسماعيل بْن علي- في نيف وعشرين فارسا، وذلك يوم الجمعة فلقيهم وكان في أصحابه رجل يقال له زيد، كان انقطع إلى العباس، فأخرجه معه حاجا لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه، وانقلب إليهم، وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخا بالأعمدة، فلما كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارسا، كان أول من ندبوا صباح أبو الذيال، ثم آخر ثم آخر، فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامسا،

(8/196)


فأتوا المفضل مولى المهدي، فأرادوا أن يصيروه عليهم، فأبى وقال: لا، ولكن صيروا عليهم غيري وأكون أنا معهم، فصيروا عليهم عبد الله بْن حميد بْن رزين السمرقندي- وهو يومئذ شاب ابن ثلاثين سنة- فذهبوا وهم خمسون فارسا، وذلك ليلة السبت فدنا القوم، وزحفت الخيل، وتعبأ الناس، فكان العباس بْن محمد وموسى بْن عيسى في الميسرة، ومحمد بْن سليمان في الميمنة، وكان معاذ بْن مسلم فيما بين محمد بْن سليمان والعباس بْن محمد، فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين وأصحابه فشد ثلاثة من موالي سليمان بْن علي- أحدهم زنجويه غلام حسان- فجاءوا برأس فطرحوه قدام محمد بْن سليمان- وقد كانوا قالوا: من جاء برأس فله خمسمائة درهم- وجاء أصحاب محمد فعرقبوا الإبل، فسقطت محاملها فقتلوهم وهزموهم، وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما يلي محمد بْن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بْن عيسى وأصحابه، فكانت الصدمة بهم، فلما فرغ محمد بْن سليمان ممن يليه واسفروا، نظروا إلى الذين يلون موسى بْن عيسى، فإذا هم مجتمعون كأنهم كبه غزل، والتفت الميمنه والقلب عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما حال الحسين، فما شعروا وهم بذي طوى أو قريبا منها إلا برجل من أهل خراسان، يقول: البشرى البشرى! هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولا، وعلى قفاه ضربة أخرى، وكان الناس نادوا بالأمان حين فرغوا، فجاء الحسن بْن محمد أبو الزفت مغمضا إحدى عينيه، قد أصابها شيء في الحرب، فوقف خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله ابن العباس فأمر به فقتل، فغضب محمد بْن سليمان من ذلك غضبا شديدا.
ودخل محمد بْن سليمان مكة من طريق والعباس بْن محمد من طريق، واحتزت الرءوس، فكانت مائة رأس ونيفا، فيها رأس سليمان بْن عبد الله بْن حسن وذلك يوم التروية، وأخذت أخت الحسين، وكانت معه فصيرت عند زينب بنت سليمان، واختلطت المنهزمة بالحجاج، فذهبوا، وكان سليمان بْن أبي جعفر شاكيا فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بْن جعفر الحج تلك السنة، وكان مع أصحاب حسين رجل أعمى يقص عليهم فقتل، ولم يقتل أحد منهم صبرا

(8/197)


قَالَ الحسين بْن محمد بْن عبد الله: وأسر موسى بْن عيسى أربعة نفر من أهل الكوفة، ومولى لبني عجل وآخر.
قَالَ محمد بْن صالح: حدثني محمد بْن داود بْن علي، قَالَ: حدثنا موسى بْن عيسى، قال: قدمت معى بسته أسارى فقال لي الهادي: هيه! تقتل أسيري! فقلت: يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت: تجيء عائشة وزينب إلى أم أمير المؤمنين، فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين فيطلقه ثم قَالَ: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق بالطلاق والعتاق، فقال: ائتني بهم، وأمر باثنين فقتلا، وكان الثالث منكرا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا أعلم الناس بآل أبي طالب، فإن استبقيته دلك على كل بغية لك، فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين، إني أرجو أن يكون بقائي صنعا لك فاطرق ثم قال: نعم والله لإفلاتك من يدي بعد أن وقعت في يدي لشديد، فلم يزل يكلمه حتى امر به ان يؤخر، وامره أن يكتب له طلبته، وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل عذافر الصيرفي وعلي بْن السابق القلاس الكوفى، وان يصلبا، فصلبوهما بباب الجسر، وكانا اسرا بفخ وغضب على مبارك التركي، وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد، وأمر بقبض أمواله.
وقال عبد الله بْن عمرو الثلجي: حدثني محمد بْن يوسف بْن يعقوب الهاشمي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن عبد الرَّحْمَن بْن عيسى، قَالَ: أفلت إدريس بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب من وقعة فخ في خلافة الهادي، فوقع إلى مصر، وعلى بريد مصر واضح مولى لصالح بْن أمير المؤمنين المنصور، وكان رافضيا خبيثا، فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر، فضرب الهادي عنق واضح وصلبه.
ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وانه دس الى ادريس الشيماخ اليمامي مولى المهدي، وكتب له كتابا إلى ابراهيم بن الاغلب عامله على إفريقية،

(8/198)


خرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب، وأنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه، وأقبل الشماخ يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة ثم أنه شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنونا مسموما قاتلا، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر لليلته، فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون، وجعل يرده في فيه، ويكثر منه، فقتله وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بْن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس، فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر واجاره، فقال في ذلك بعض الشعراء- أظنه الهنازي:
أتظن يا إدريس أنك مفلت ... كيد الخليفة أو يفيد فرار
فليدركنك أو تحل ببلدة ... لا يهتدي فيها إليك نهار
إن السيوف إذا انتضاها سخطه ... طالت وقصر دونها الأعمار
ملك كأن الموت يتبع أمره ... حتى يقال: تطيعه الأقدار
وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن الحسين بْن علي لما خرج بالمدينة وعليها العمرى لم يزل العمرى متخفيا مقام الحسين بالمدينة، حتى خرج إلى مكة وكان الهادي وجه سليمان بْن أبي جعفر لولاية الموسم، وشخص معه من أهل بيته ممن أراد الحج العباس بْن محمد وموسى بن عيسى واسماعيل بن عيسى ابن موسى في طريق الكوفة، ومحمد بْن سليمان وعدة من ولد جعفر بْن سليمان على طريق البصرة، ومن الموالي مبارك التركي والمفضل الوصيف وصاعد مولى الهادي- وكان صاحب الأمر سليمان- ومن الوجوه المعروفين يقطين بْن موسى وعبيد ابن يقطين وابو الوزير عمر بْن مطرف، فاجتمعوا عند الذي بلغهم من توجه الحسين ومن معه إلى مكة، ورأسوا عليهم سليمان بْن أبي جعفر لولايته، وكان قد جعل أبو كامل مولى إسماعيل على الطلائع، فلقوه بفخ، وخلفوا عبيد الله بْن قثم بمكة للقيام بأمرها وأمر أهلها، وقد كان العباس بْن محمد أعطاهم الأمان على ما أحدثوا، وضمن لهم الإحسان إليهم والصلة لارحامهم،

(8/199)


وكان رسولهم في ذلك المفضل الخادم، فأبوا قبول ذلك، فكانت الوقعة، فقتل من قتل، وانهزم الناس، ونودي فيهم بالأمان، ولم يتبع هارب، وكان فيمن هرب يحيى وإدريس ابنا عبد الله بْن حسن، فأما إدريس فلحق بتاهرت من بلاد المغرب، فلجأ إليهم فأعظموه، فلم يزل عندهم إلى أن تلطف له، واحتيل عليه، فهلك، وخلفه ابنه إدريس بْن إدريس، فهم إلى اليوم بتلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث قَالَ المفضل بْن سليمان: لما بلغ العمري وهو بالمدينة مقتل الحسين بفخ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين، فهدمها وحرق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة قَالَ:
وغضب الهادي على مبارك التركي لما بلغه من صدوده عن لقاء الحسين بعد أن شارف المدينة، وأمر بقبض أمواله وتصييره في سياسة دوابه، فلم يزل كذلك إلى وفاة الهادي، وسخط على موسى بْن عيسى لقتله الحسن بْن محمد بْن عبد الله أبي الزفت، وتركه أن يقدم به أسيرا، فيكون المحكم في أمره، وأمر بقبض أمواله، فلم تزل مقبوضة إلى أن توفي موسى وقدم على موسى ممن أسر بفخ الجماعة، وكان فيهم عذافر الصيرفى وعلى بن سابق القلاس الكوفي، فأمر بضرب أعناقهما وصلبهما بباب الجسر ببغداد، ففعل ذلك قَالَ: ووجه مهرويه مولاه إلى الكوفة، وأمره بالتغليظ عليهم لخروج من خرج منهم مع الحسين.
وذكر علي بْن محمد بن سليمان بن عبد الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: حدثني يوسف البرم مولى آل الحسن- وكانت أمه مولاة فاطمة بنت حسن- قَالَ: كنت مع حسين أيام قدم على المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفه، وو الله ما خرج من الكوفة وهو يملك شيئا يلبسه إلا فروا ما تحته قميص وإزار الفراش، ولقد كان في طريقه إلى المدينة، إذا نزل استقرض من مواليه ما يقوم بمؤونتهم في يومهم قَالَ علي: وحدثني السري أبو بشر، وهو حليف بني زهرة، قَالَ: صليت الغداة في اليوم الذي خرج فيه الحسين بْن علي بْن الحسن صاحب فخ، فصلى

(8/200)


بنا حسين، وصعد المنبر منبر رسول الله ص، فجلس وعليه قميص وعمامة بيضاء قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، وسيفه مسلول قد وضعه بين رجليه، إذ أقبل خالد البربري في أصحابه، فلما أراد أن يدخل المسجد بدره يحيى بْن عبد الله، فشد عليه البربري، وإني لأنظر إليه، فبدره يحيى بْن عبد الله، فضربه على وجهه، فأصاب عينيه وانفه، فقطع البيضه والقلنسوة نظرت إلى قحفه طائرا عن موضعه، وحمل على أصحابه فانهزموا ثم رجع إلى حسين، فقام بين يديه وسيفه مسلول يقطر دما، فتكلم حسين، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس، فقال في آخر كلامه:
يايها الناس، أنا ابن رسول الله في حرم رسول الله، وفي مسجد رسول الله، وعلى منبر نبي الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، فإن لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في أعناقكم قَالَ: وكان أهل الزيارة في عامهم ذلك كثيرا، فكانوا قد ملئوا المسجد، فإذا رجل قد نهض، حسن الوجه، طويل القامة، عليه رداء ممشق، أخذ بيد ابن له شاب جميل جلد، فتخطى رقاب الناس، حتى انتهى إلى المنبر، فدنا من حسين، وقال: يا بن رسول الله، خرجت من بلد بعيد وابني هذا معي، وأنا أريد حج بيت الله وزياره قبر نبيه ص، وما يخطر ببالي هذا الأمر الذي حدث منك، وقد سمعت ما قلت، فعندك وفاء بما جعلت على نفسك؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
ابسط يدك فأبايعك، قَالَ: فبايعه، ثم قَالَ لابنه: ادن فبايع قَالَ:
فرأيت والله رءوسهما في الرءوس بمنى، وذلك أني حججت في ذلك العام.
قَالَ: وحدثني جماعة من أهل المدينة أن مباركا التركي أرسل إلى حسين ابن علي: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أيسر علي من أن أشوكك بشوكة، أو أقطع من رأسك شعرة، ولكن لا بد من الأعذار، فبيتني فإني منهزم عنك فأعطاه بذلك عهد الله وميثاقه قَالَ: فوجه إليه الحسين- أو خرج إليه- في نفر يسير، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروا، فانهزم أصحابه حتى لحق بموسى بْن عيسى.
وذكر أبو المضرحي الكلابي، قَالَ: أخبرني المفضل بْن محمد بن المفضل

(8/201)


ابن حسين بْن عبيد الله بْن العباس بْن علي بْن أبي طالب، أن الحسين بْن علي بْن حسن بْن حسن، قَالَ يومئذ في قوم لم يخرجوا معه- وكان قد وعدوه أن يوافوه، فتخلفوا عنه- متمثلا:
من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجبا ... موتا على عجل أو عاش منتصفا
لا تقربوا السهل إن السهل يفسدكم ... لن تدركوا المجد حتى تضربوا عنفا
وذكر الفضل بْن العباس الهاشمي أن عبد الله بْن محمد المنقري حدثه عن أبيه، قَالَ: دخل عيسى بْن دأب على موسى بْن عيسى عند منصرفه من فخ، فوجده خائفا يلتمس عذرا من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير! أنشدك شعرا كتب به يزيد بْن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الْحُسَيْن بْن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: أنشدني، فأنشده، فقال:
يأيها الراكب الغادي لطيته ... على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشا على شحط المزار بها ... بيني وبين الحسين الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده ... عهد الإله وما ترعى له الذمم
عنفتم قومكم فخرا بأمكم ... أم حصان لعمري برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد ... بنت النبي وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغيركم ... من قومكم لهم من فضلها قسم
إني لأعلم أو ظنا كعالمه ... والظن يصدق أحيانا فينتظم
أن سوف يترككم ما تطلبون بها ... قتلى تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت ... ومسكوا بحبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة ... وإن شارب كأس البغي يتخم
قد جرب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا ... فرب ذي بذخ زلت به القدم

(8/202)


قَالَ: فسري عن موسى بْن عيسى بعض ما كان فيه.
وذكر عبد الله بْن عبد الرحمن بْن عيسى بْن موسى أن العلاء حدثه أن الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليله يكتب كتابا بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته، فدسوا غلاما له، فقالوا: اذهب حتى تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر، قَالَ: فدنا من موسى، فلما رآه قَالَ: ما لك؟
فاعتل عليه قَالَ: فأطرق ثم رفع رأسه إليه، فقال:
رقد الألى ليس السرى من شأنهم ... وكفاهم الإدلاج من لم يرقد
وذكر أحمد بْن معاوية بْن بكر الباهلي، قَالَ: حدثنا الأصمعي، قَالَ: قَالَ محمد بْن سليمان ليلة فخ لعمرو بْن أبي عمرو المدني- وكان يرمي بين يديه بين الهدفين: ارم، قال: لا والله لا ارمى ولد رسول الله ص، إني إنما صحبتك لأرمي بين يديك بين الهدفين، ولم أصحبك لأرمي المسلمين.
قَالَ: فقال المخزومي: ارم، فرمى فما مات إلا بالبرص.
قَالَ: ولما قتل الحسين بْن علي وجاء برأسه يقطين بْن موسى، فوضع بين يدي الهادي، قَالَ: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم قَالَ: فحرمهم ولم يعطهم شيئا.
وقال موسى الهادي: لما قتل الحسين متمثلا:
قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها.
وغزا الصائفة في هذه السنة معيوف بْن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم أقبلت مع البطريق إلى الحدث، فهرب الوالي والجند وأهل الأسواق،

(8/203)


فدخلها العدو، ودخل أرض العدو معيوف بْن يحيى، فبلغ مدينه أشنة، فأصابوا سبايا وأسارى وغنموا.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن أبي جعفر المنصور.
وكان على المدينة عمر بْن عبد العزيز العمري، وعلى مكة والطائف عبيد الله بْن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بْن سلم بْن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد بْن أبي سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بْن تسنيم الحواري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وصدقاتها وبهقباذ الأسفل موسى بْن عيسى، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بْن سليمان، وعلى قضائها عمر بْن عثمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بْن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بْن شيخ بْن عميرة الأسدي، وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي.

(8/204)


ثم دخلت

سنة سبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك وفاة يزيد بْن حاتم بإفريقية فيها، ووليها بعده روح بْن حاتم.
وفيها مات عبد الله بْن مروان بْن محمد في المطبق.

ذكر الخبر عن وفاه موسى الهادي
وفيها توفي موسى الهادي بعيساباذ واختلف في السبب الذي كان به وفاته، فقال بعضهم: كانت وفاته من قرحة كانت في جوفه وقال آخرون:
كانت وفاته من قبل جوار لأمه الخيزران، كانت أمرتهن بقتله لأسباب نذكر بعضها ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كانت أمرتهن بقتله:
ذكر يحيى بْن الحسن أن الهادي نابذ أمه ونافرها، لما صارت إليه الخلافة، فصارت خالصة إليه يوما، فقالت: إن أمك تستكسيك، فأمر لها بخزانة مملوءة كسوة قَالَ: ووجد للخيزران في منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقر قَالَ: وكانت الخيزران في أول خلافة موسى تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل، فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك، ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك قَالَ: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيرا ما تكلمه في الحوائج، فكان يجيبها إلى كل ما تسأله حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها، وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها، قَالَ: فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلا،

(8/205)


فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قَالَ: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بْن مالك قَالَ: فغضب موسى، وقال:
ويل على ابن الفاعلة! قد علمت انه صاحبها، والله لاقضيتها لك، قالت:
إذا والله لا أسألك حاجة أبدا، قَالَ: إذا والله لا أبالي وحمي وغضب.
فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله ص لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك، ما فتحت بابك لملي أو لذمي فانصرفت ما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها.
قَالَ يحيى بْن الحسن: وحدثني أبي، قال: سمعت خالصه تقول للعباس ابن الفضل بْن الربيع: بعث موسى إلى أمه الخيزران بأرزة، وقال: استطبتها فأكلت منها، فكلي منها قالت خالصة: فقلت لها: أمسكي حتى تنظري، فإني أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه، فجاءوا بكلب فأكل منها، فتساقط لحمه، فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ فقالت:
وجدتها طيبة، فقال: لم تأكلي، ولو أكلت لكنت قد استرحت منك، متى أفلح خليفة له أم! قَالَ وحدثني بعض الهاشميين، أن سبب موت الهادي كان أنه لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه، ووجهت إلى يحيى بْن خالد: أن الرجل قد توفي، فاجدد في أمرك ولا تقصر.
وذكر محمد بْن عبد الرحمن بْن بشار أن الفضل بْن سعيد حدثه، عن أبيه، قَالَ: كان يتصل بموسى وصول القواد إلى أمه الخيزران، يؤملون بكلامها

(8/206)


في قضاء حوائجهم عنده، قَالَ: وكانت تريد أن تغلب على أمره كما غلبت على أمر المهدي، فكان يمنعها من ذلك ويقول: ما للنساء والكلام في أمر الرجال! فلما كثر عليه مصير من يصير إليها من قواده، قَالَ يوما وقد جمعهم:
أيما خير؟ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيما خير، أمي أو أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قَالَ: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق ذلك عليها فاعتزلته، وحلفت ألا تكلمه، فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة.

ذكر الخبر عما كان من خلع الهادي للرشيد
وكان السبب في إرادة موسى الهادي خلع أخيه هارون حتى اشتد عليه في ذلك وجد- فيما ذكر صالح بْن سليمان- أن الهادي لما أفضت إليه الخلافة أقر يحيى بْن خالد على ما كان يلي هارون من عمل المغرب، فأراد الهادي خلع هارون الرشيد والبيعة لابنه جعفر بْن موسى الهادي، وتابعه على ذلك القواد، منهم يزيد بْن مزيد وعبد الله بْن مالك وعلي بْن عيسى ومن أشبههم، فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر بْن موسى، ودسوا إلى الشيعة، فتكلموا في أمره، وتنقصوه في مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به، وصعب أمرهم حتى ظهر، وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس وتركوه، فلم يكن أحد يجترئ أن يسلم عليه ولا يقربه.
وكان يحيى بْن خالد يقوم بإنزال الرشيد ولا يفارقه هو وولده- فيما ذكر.
قَالَ صالح: وكان إسماعيل بْن صبيح كاتب يحيى بْن خالد، فأحب أن يضعه موضعا يستعلم له فيه الأخبار، وكان إبراهيم الحراني في موضع الوزارة لموسى، فاستكتب إسماعيل، ورفع الخبر إلى الهادي، وبلغ ذلك يحيى بْن خالد، فأمر إسماعيل أن يشخص إلى حران، فسار إليها، فلما كان بعد أشهر سأل

(8/207)


الهادي إبراهيم الحراني: من كاتبك؟ قَالَ: فلان كاتب، وسماه، فقال:
أليس بلغني أن إسماعيل بْن صبيح كاتبك؟ قَالَ: باطل يا أمير المؤمنين، إسماعيل بحران.
قَالَ: وسعي إلى الهادي بيحيى بْن خالد، وقيل له: إنه ليس عليك من هارون خلاف، وإنما يفسده يحيى بْن خالد، فابعث إلى يحيى، وتهدده بالقتل، وارمه بالكفر، فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى بْن خالد.
وذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بْن يحيى بْن خالد حدثه، قَالَ:
بعث الهادي إلى يحيى ليلا، فأيس من نفسه، وودع أهله، وتحنط وجدد ثيابه، ولم يشك أنه يقتله، فلما أدخل عليه، قَالَ: يا يحيى، ما لي ولك! قَالَ: أنا عبدك يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته.
قَالَ: فلم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي! قَالَ: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما! إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره، فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك قَالَ: فما الذي صنع هارون؟
قَالَ: ما صنع شيئا، ولا ذلك فيه ولا عنده قَالَ: فسكن غضبه وقد كان هارون طاب نفسا بالخلع، فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي! وكان هارون يجد بأم جعفر وجدا شديدا، فقال له يحيى: وأين هذا من الخلافة! ولعلك ألا يترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع، ومنعه من الإجابة.
قَالَ الكرماني: فحدثني صالح بْن سليمان، قَالَ: بعث الهادي إلى يحيى بْن خالد وهو بعيساباذ ليلا، فراعه ذلك، فدخل عليه وهو في خلوة، فأمر بطلب رجل كان أخافه، فتغيب عنه، وكان الهادي يريد أن ينادمه ويمنعه مكانه من هارون، فنادمه وكلمه يحيى فيه، فآمنه وأعطاه خاتم ياقوت أحمر في يده، وقال: هذا امانه، وخرج يحيى فطلب الرجل، وأتى الهادي به فسر بذلك

(8/208)


قَالَ: وحدثني غير واحد أن الرجل الذي طلبه كان إبراهيم الموصلي.
قَالَ صالح بْن سليمان: قَالَ الهادي يوما للربيع: لا يدخل علي يحيى بْن خالد إلا آخر الناس قَالَ: فبعث إليه الربيع، وتفرغ له قَالَ: فلما جلس من غد أذن حتى لم يبق أحد، ودخل عليه يحيى، وعنده عبد الصمد ابن علي والعباس بْن محمد وجلة أهله وقواده، فما زال يدنيه حتى أجلسه بين يديه، وقال له: إني كنت أظلمك وأكفرك، فاجعلني في حل، فتعجب الناس من إكرامه إياه وقوله، فقبل يحيى يده وشكر له، فقال له الهادي: من الذي يقول فيك يا يحيى:
لو يمس البخيل راحة يحيى ... لسخت نفسه ببذل النوال
قَالَ: تلك راحتك يا أمير المؤمنين لا راحة عبدك! قَالَ: وقال يحيى للهادي في خلع الرشيد لما كلمه فيه: يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وان تركتهم على بيعه أخيك ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال:
صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير.
قَالَ الكرماني: وحدثني خزيمة بْن عبد الله، قَالَ: أمر الهادي بحبس يحيى بْن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: أن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، اخلني، فأخلاه، فقال:
يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر- أسأل الله ألا نبلغه، وأن يقدمنا قبله- أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم! قَالَ: والله ما أظن ذلك، قَالَ:
يا أمير المؤمنين، أفتأمن ان يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى- قَالَ: وكان يقول: ما كلمت أحدا من الخلفاء كان أعقل من موسى- قَالَ: وقال له:
لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغى ان تعقده له، فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له! ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين

(8/209)


على حاله، فإذا بلغ جعفر، وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقه يده قال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه.
وذكر الموصلي عن محمد بْن يحيى، قَالَ: عزم الهادي بعد كلام أبي له على خلع الرشيد، وحمله عليه جماعة من مواليه وقواده، أجابه إلى الخلع أو لم يجبه، واشتد غضبه منه، وضيق عليه وقال يحيى لهارون: استأذنه في الخروج إلى الصيد، فإذا خرجت فاستبعد ودافع الأيام، فرفع هارون رقعة يستأذن فيها، فأذن له، فمضى إلى قصر مقاتل، فأقام به أربعين يوما حتى أنكر الهادي أمره وغمه احتباسه، وجعل يكتب إليه ويصرفه، فتعلل عليه حتى تفاقم الأمر، وأظهر شتمه، وبسط مواليه وقواده السنتهم فيه، والفضل ابن يحيى إذ ذاك خليفة أبيه، والرشيد بالباب، فكان يكتب اليه بذلك، وانصرف وطال الأمر.
قَالَ الكرماني: فحدثني يزيد مولى يحيى بْن خالد، قَالَ: بعثت الخيزران عاتكة- ظئرا كانت لهارون- الى يحيى، فشقت جيبها بين يديه، وتبكي إليه وتقول له: قالت لك السيدة: الله الله في ابني لا تقتله، ودعه يجيب أخاه إلى ما يسأله ويريده منه، فبقاؤه أحب إلي من الدنيا بجمع ما فيها قَالَ:
فصاح بها، وقال لها: وما أنت وهذا! إن يكن ما تقولين فإني وولدي وأهلي سنقتل قبله، فإن اتهمت عليه فلست بمتهم على نفسي ولا عليهم قَالَ:
ولما لم ير الهادي يحيى بْن خالد يرجع عما كان عليه لهارون بما بذل له من اكرام واقطاع وصله، بعث إليه يتهدده بالقتل إن لم يكف عنه قَالَ:
فلم تزل تلك الحال من الخوف والخطر، وماتت أم يحيى وهو في الخلد ببغداد، لأن هارون كان ينزل الخلد، ويحيى معه، وهو ولي العهد، نازل في داره يلقاه في ليله ونهاره.
وذكر محمد بْن القاسم بْن الربيع، قَالَ: أخبرني محمد بْن عمرو الرومي،

(8/210)


قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: جلس موسى الهادي بعد ما ملك في أول خلافته جلوسا خاصا، ودعا بإبراهيم بْن جعفر بْن أبي جعفر وإبراهيم بْن سلم بْن قتيبة والحراني، فجلسوا عن يساره، ومعهم خادم له أسود يقال له أسلم، ويكنى أبا سليمان، وكان يثق به ويقدمه، فبينا هو كذلك، إذ دخل صالح صاحب المصلى، فقال: هارون بْن المهدي، فقال: ائذن له، فدخل فسلم عليه، وقبل يديه، وجلس عن يمينه بعيدا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك، ثم التفت إليه، فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت منه بعيد، ودون ذلك خرط القتاد، تؤمل الخلافة! قَالَ: فبرك هارون على ركبتيه، وقال: يا موسى، إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت، وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي، فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي قَالَ: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، ادن مني، فدنا منه، فقبل يديه، ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل- أعني أباك المنصور- لا جلست إلا معي، وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قَالَ: يا حراني، احمل الى أخي الف ألف دينار، وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة، فيأخذ جميع ما أراد قَالَ:
ففعل ذلك ولما قام قَالَ لصالح: أدن دابته إلى البساط قَالَ عمرو الرومي:
وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي قَالَ لك أمير المؤمنين؟ قَالَ: قَالَ المهدي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا وإلى هارون قضيبا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلا، فأما هارون فأروق قضيبه من أوله إلى آخره فدعا المهدي الحكم بْن موسى الضمري- وكان يكنى أبا سفيان- فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعا، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة، وتكون أيامه

(8/211)


أحسن أيام، ودهره أحسن دهر قَالَ: ولم يلبث إلا أياما يسيرة، ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.
قَالَ عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون، فزوج حمدونة من جعفر ابن موسى، وفاطمة من إسماعيل بْن موسى، ووفى بكل ما قَالَ، وكان دهره أحسن الدهور.
وذكر أن الهادي كان قد خرج إلى الحديثة، حديثة الموصل، فمرض بها، واشتد مرضه، فانصرف فذكر عمرو اليشكري- وكان في الخدم- قَالَ:
انصرف الهادي من الحديثة بعد ما كتب إلى جميع عماله شرقا وغربا بالقدوم عليه، فلما ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه، فقالوا: إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا، فتآمروا على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي، فيضرب عنقه ثم قالوا: لعل أمير المؤمنين يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده! فأمسكوا ثم بعثت الخيزران إلى يحيى تعلمه أن الرجل لمآبه، وتأمره بالاستعداد لما ينبغي، وكانت المستولية على أمر الرشيد وتدبير الخلافة إلى ان هلك، فأحضر الكتاب وجمعوا في منزل الفضل بْن يحيى، فكتبوا لليلتهم كتبا من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنهم قد ولاهم الرشيد ما كانوا يلون، فلما مات الهادي أنفذوها على البرد.
وذكر الفضل بْن سعيد، أن أباه حدثه أن الخيزران كانت قد حلفت ألا تكلم موسى الهادي، وانتقلت عنه، فلما حضرته الوفاة، وأتاها الرسول فأخبرها بذلك، فقالت: وما أصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك أيتها الحرة، فليس هذا وقت تعتب ولا تغضب فقالت: أعطوني ماء أتوضأ للصلاة، ثم قالت: أما إنا كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة، قَالَ: فمات موسى، وملك هارون، وولد المأمون.
قَالَ الفضل: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بْن عبيد الله، فساقه لي مثل ما حدثنيه أبي، فقلت: فمن أين كان للخيزران هذا العلم؟ قَالَ: إنها كانت قد سمعت من الأوزاعي

(8/212)


ذكر يحيى بْن الحسن أن محمد بْن سليمان بْن علي حدثه، قَالَ: حدثتني عمتي زينب ابنة سليمان، قالت: لما مات موسى بعيساباذ، أخبرتنا الخيزران الخبر، ونحن أربع نسوة، أنا وأختي وأم الحسن وعائشة، بنيات سليمان، ومعنا ريطة أم علي، فجاءت خالصة، فقالت لها: ما فعل الناس؟ قالت: يا سيدتي، مات موسى ودفنوه، قالت: إن كان مات موسى، فقد بقي هارون، هات لي سويقا، فجاءت بسويق، فشربت وسقتنا، ثم قالت: هات لساداتى أربعمائة ألف دينار، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ قالت: حلف ألا يصلي الظهر إلا ببغداد قالت: هاتوا الرحائل، فما جلوسي هاهنا، وقد مضى! فلحقته ببغداد.

ذكر الخبر عن وقت وفاته ومبلغ سنه وقدر ولايته ومن صلى عليه
قَالَ أبو معشر: توفي موسى الهادي ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول، حدثنا بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق.
وقال الواقدي: مات موسى بعيساباذ للنصف من شهر ربيع الأول.
وقال هشام بْن محمد: هلك موسى الهادي لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ ليلة الجمعة في سنة سبعين ومائة.
وقال بعضهم: توفي ليلة الجمعة لستة عشر يوما منه، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر.
وقَالَ هشام: ملك أربعة عشر شهرا، وتوفي وهو ابن ست وعشرين سنة.
وقال الواقدي: كانت ولايته سنة وشهرا واثنين وعشرين يوما وقال غيرهم: توفي يوم السبت، لعشر خلت من ربيع الأول- أو ليلة الجمعة- وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكانت خلافته سنة وشهرا وثلاثة وعشرين يوما، وصلى عليه أخوه هارون بْن محمد الرشيد وكان كنيته أبا محمد، وأمه الخيزران أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه

(8/213)


وذكر الفضل بْن إسحاق أنه كان طويلا جسيما جميلا أبيض، مشربا حمرة، وكان بشفته العليا تقلص، وكان يلقب موسى أطبق، وكان ولد بالسيروان من الري
. ذكر أولاده
وكان له من الأولاد تسعة، سبعة ذكور وابنتان فاما الذكور فاحدهم جعفر- وهو الذي كان يرشحه للخلافة- والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بْن موسى الأعمى، كلهم من أمهات أولاد وكان الأعمى- وهو موسى- ولد بعد موت أبيه والابنتان، إحداهما أم عيسى كانت عند المأمون، والاخرى أم العباس بنت موسى، تلقب نوته
. ذكر بعض أخباره وسيره
ذكر إبراهيم بْن عبد السلام، ابن أخي السندي أبو طوطة، قَالَ: حدثني السندي بْن شاهك، قَالَ: كنت مع موسى بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد، ومعه سعيد بْن سلم، ووجهني إلى خراسان، فحدثني سعيد بْن سلم، قَالَ: سرنا بين أبيات جرجان وبساتينها، قَالَ: فسمع صوتا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة، قَالَ: فقلت يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بْن عبد الملك! قَالَ: وكيف؟ قَالَ: قلت له:
كان سليمان بْن عبد الملك في متنزه له ومعه حرمه، فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: علي بصاحب الصوت، فأتي به، فلما مثل بين يديه، قَالَ له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي! أما علمت أن الرماك إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه! يا غلام جبه، فجب الرجل فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المتنزه، فجلس مجلسه الذي فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب

(8/214)


شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضره، فلما مثل بين يديه، قَالَ له: إما بعت فوفيناك، واما وهبت فكافأناك، قال: فو الله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قَالَ له: يا سليمان، الله الله! إنك قطعت نسلي، فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله قَالَ: فقال موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تعرض للرجل وذكر أبو موسى هارون بْن محمد بْن إسماعيل بْن موسى الهادي، ان على ابن صالح حدثه، أنه كان يوما على رأس الهادي وهو غلام- وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام- فدخل عليه الحراني، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام، فالتفت إلي، وقال: يا علي، ائذن للناس، علي بالجفلى لا بالنقرى، فخرجت من عنده أطير على وجهي ثم وقفت فلم أدر ما قَالَ لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين، فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي! ثم أدركني ذهني، فبعثت الى اعرابى كان قد وفد، وسألته عن الجفلى والنقرى، فقال: الجفلى جفالة، والنقرى ينقر خواصهم فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم، فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوض المجلس مثلت بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك، فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا، ففسر لي الكلام، فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قَالَ: نعم مائة ألف درهم تحمل اليه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف، وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي! أجود وتبخل! قَالَ: وحدثني علي بْن صالح، قَالَ: ركب الهاديّ يوما يريد عيادة أمه الخيزران من علة كانت وجدتها، فاعترضه عمر بْن بزيع، فقال له:

(8/215)


يا أمير المؤمنين، ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: وما هو يا عمر؟ قَالَ: المظالم لم تنظر فيها منذ ثلاث، قَالَ: فأومأ إلى المطرقة أن يميلوا إلى دار المظالم، ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها إن عمر بْن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقك، فملنا إليه ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله.
وذكر عن عبد الله بْن مالك، أنه قَالَ: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضربهم، وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم، ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي قَالَ: فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف، فبعث إلي يوما، فدخلت عليه متكفنا متحنطا، وإذا هو على كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني، وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني، وفي فلان وفلان- وجعل يعدد ندماءه- فلم تلتفت إلى قولي، ولا أمري! قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قَالَ: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك وليتني ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر، فبعث إلى بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قَالَ:
لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك فاستدناني، فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدا فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرا في أمري وأمره، وقلت:
حدث يشرب، والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه، فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في، وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوفه قَالَ: فإني لجالس وبين يدي بنية لي في وقتي ذلك، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأضعه للصبية، وإذا ضجة عظيمة، حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت:
هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت، فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم، فلما

(8/216)


رأيته وثبت عن مجلسي مبادرا، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي:
يا عبد الله، إني فكرت في أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك أني إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تاكل، وافعل فيه ما كنت تفعل، لتعلم أني قد تحرمت بطعامك وأنست بمنزلك، فيزول خوفك ووحشتك فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسكرجة التي فيها الكامخ، فأكل منها ثم قَالَ: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي فأدخلت الى أربعمائة بغل موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال عندك، لعلي أحتاج إليها يوما لبعض أسفاري، ثم قَالَ: أظلك الله بخير، وانصرف راجعا.
فذكر موسى بْن عبد الله أن أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره، ثم بنى حوله معالف لتلك البغال، وكان هو يتولى النظر إليها والقيام عليها أيام حياة الهادي كلها.
وذكر محمد بْن عبد الله بْن يعقوب بْن داود بْن طهمان السلمي، قَالَ:
أخبرني أبي، قَالَ: كان علي بْن عيسى بْن ماهان يغضب غضب الخليفة، ويرضى رضا الخليفة، وكان أبي يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي ابن عيسى، فإنه دخل إلي الحبس وفي يده سوط، فقال: أمرني أمير المؤمنين موسى الهادي أن أضربك مائة سوط، قَالَ: فأقبل يضعه على يدي ومنكبي، يمسني به مسا إلى أن عد مائة، وخرج فقال له: ما صنعت بالرجل؟
قَالَ: صنعت به ما أمرت قَالَ: فما حاله؟ قَالَ: مات، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ويلك! فضحتني والله عند الناس، هذا رجل صالح، يقول الناس: قتل يعقوب بْن داود! قَالَ: فلما رأى شدة جزعه، قَالَ: هو حي يا أمير المؤمنين لم يمت، قَالَ: الحمد لله على ذلك.
قَالَ: وكان الهادي قد استخلف على حجابته بعد الربيع ابنه الفضل، فقال له: لا تحجب عني الناس، فإن ذلك يزيل عني البركة، ولا تلق إلي أمرا إذا كشفته أصبته باطلا، فإن ذلك يوقع الملك، ويضر بالرعية

(8/217)


وقال موسى بْن عبد الله: أتي موسى برجل، فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري يوجب علي ذنبا، ولكني أقول:
فإن كنت ترجو في العقوبة رحمة ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
قَالَ: فأمر بإطلاقه.
وذكر عمر بْن شبة أن سعيد بْن سلم كان عند موسى الهادي، فدخل عليه وفد الروم وعلى سعيد بْن سلم قلنسوة- وكان قد صلع وهو حدث- فقال له موسى: ضع قلنسوتك حتى تتشايخ بصلعتك.
وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق أن أباه حدثه، قَالَ: خرجت إلى عيساباذ أريد الفضل بْن الربيع، فلقيت موسى أمير المؤمنين وهو خليفة، وأنا لا أعرفه، فإذا هو في غلالة على فرس، وبيده قناة لا يدرك أحدا إلا طعنه فقال لي: يا بن الفاعلة! قَالَ: فرأيت إنسانا كأنه صنم، وكنت رأيته بالشام، وكان فخذاه كفخذي بعير، فضربت يدي إلى قائم السيف، فقال لي رجل: ويلك! أمير المؤمنين، فحركت دابتي- وكان شهريا حملني عليه الفضل بْن الربيع، وكان اشتراه بأربعة آلاف درهم- فدخلت دار محمد بْن القاسم صاحب الحرس، فوقف على الباب، وبيده القناه، وقال: اخرج يا بن الفاعلة! فلم أخرج، ومر فمضى قلت للفضل: فإني رأيت أمير المؤمنين، وكان من القصة كذا وكذا، فقال: لا أرى لك وجها إلا ببغداد، إذا جئت أصلي الجمعة فالقني، قَالَ: فما دخلت عيساباذ حتى هلك الهادي.
وذكر الهيثم بْن عروة الأنصاري أن الحسين بْن معاذ بْن مسلم- وكان رضيع موسى الهادي- قَالَ: لقد رأيتني أخلو مع موسى، فلا أجد له هيبة في قلبي عند الخلوه، لما كان يبسطنى وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فإذا تلبس لبسة الخلافة ثم جلس مجلس الأمر والنهى

(8/218)


قمت على راسه، فو الله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة له.
وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق أن محمد بْن سعيد بْن عمر بْن مهران، حدثه عن أبيه، عن جده، قَالَ: كانت المرتبه لإبراهيم بن سلم ابن قتيبة عند الهادي، فمات ابن لإبراهيم يقال له سلم، فأتاه موسى الهادي يعزيه عنه على حمار أشهب، لا يمنع مقبل ولا يرد عنه مسلم، حتى نزل في رواقه، فقال له: يا إبراهيم، سرك وهو عدو وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة فقال: يا أمير المؤمنين، ما بقي مني جزء كان فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء قَالَ: فلما مات إبراهيم صارت المرتبة لسعيد بْن سلم بعده.
وذكر عمر بْن شبة أن علي بْن الحسين بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب كان يلقب بالجزري، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية- وكانت تحت المهدي- فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي ص، فأما غيرهن فلا ولا كرامة فشجه بمخصرة كانت في يده، وامر بضربه خمسمائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقي ناحية، وكان في يده خاتم سري فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي، مع استخفافه بأبي، وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قَالَ: قل له وسله، ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك ففعل ذلك موسى، فصدقه الخادم، فقال:
أحسن والله، أنا أشهد أنه ابن عمي، لو لم يفعل لانتفيت منه وأمر بإطلاقه.
وذكر أبو إبراهيم المؤذن، أن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، وكان المهدي يسميه ريحانتي

(8/219)


وذكر محمد بْن عطاء بْن مقدم الواسطي، أن أباه حدثه أن المهدي قَالَ لموسى يوما- وقد قدم إليه زنديق، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني، إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة- يعني أصحاب ماني- فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين:
أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له، فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين قَالَ: فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عينا تطرف.
ويقال: إنه أمر أن يهيأ له ألف جذع، فقال: هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين.
وذكر أيوب بْن عنابة أن موسى بْن صالح بْن شيخ، حدثه أن عيسى ابن دأب كان أكثر أهل الحجاز أدبا وأعذبهم ألفاظا، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن عنده لأحد، وكان يدعو له بمتكأ، وما كان يفعل ذلك بأحد غيره في مجلسه وكان يقول: ما استطلت بك يوما ولا ليلة، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت ألا أرى غيرك وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر حسن الانتزاع له قَالَ: فأمر له ذات ليلة بثلاثين ألف دينار، فلما أصبح ابن دأب وجه قهرمانه إلى باب موسى، وقال له: الق الحاجب، وقل له: يوجه إلينا بهذا المال، فلقي الحاجب، فأبلغه رسالته، فتبسم وقال: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب

(8/220)


التوقيع ليخرج له كتابا إلى الديوان، فتدبره هناك ثم تفعل فيه كذا وكذا.
فرجع إلى ابن دأب فأخبره، فقال: دعها ولا تعرض لها، ولا تسأل عنها.
قَالَ: فبينا موسى في مستشرف له ببغداد، إذ نظر إلى ابن دأب قد أقبل، وليس معه إلا غلام واحد! فقال لإبراهيم الحراني: أما ترى ابن دأب، ما غير من حاله، ولا تزين لنا، وقد بررناه بالأمس ليرى أثرنا عليه! فقال له إبراهيم: فإن أمرني أمير المؤمنين عرضت له بشيء من هذا، قَالَ: لا، هو أعلم بأمره، ودخل ابن دأب، فأخذ في حديثه إلى أن عرض له موسى بشيء من أمره، فقال: أرى ثوبك غسيلا، وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد اللين، فقال: يا أمير المؤمنين، باعي قصير عما أحتاج إليه، قَالَ: وكيف وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا أن فيه صلاح شأنك! قَالَ: ما وصل إلي ولا قبضته، فدعا صاحب بيت مال الخاصة، فقال: عجل له الساعة ثلاثين ألف دينار، فأحضرت وحملت بين يديه.
وذكر علي بْن محمد، أن أباه حدثه عن علي بْن يقطين، قَالَ: إني لعند موسى ليلة مع جماعة من أصحابه، إذ أتاه خادم فساره بشيء، فنهض سريعا، وقال: لا تبرحوا، ومضى فأبطأ، ثم جاء وهو يتنفس، فألقى بنفسه على فراشه يتنفس ساعة حتى استراح، ومعه خادم يحمل طبقا مغطى بمنديل، فقام بين يديه، فأقبل يرعد، فعجبنا من ذلك ثم جلس وقال للخادم: ضع ما معك، فوضع الطبق، وقال: ارفع المنديل، فرفعه فإذا في الطبق رأسا جاريتين، لم أر والله أحسن من وجوههما قط ولا من شعورهما، وإذا على رءوسهما الجوهر منظوم على الشعر، وإذا رائحة طيبة تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: أتدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قَالَ: بلغنا أنهما تتحابان قد اجتمعتا على الفاحشة، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إلي أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعتا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد على الفاحشة

(8/221)


فقتلتهما، ثم قَالَ: يا غلام، ارفع الرأسين قَالَ: ثم رجع في حديثه كأن لم يصنع شيئا.
وذكر أبو العباس بْن أبي مالك اليمامي أن عبد الله بْن محمد البواب، قال:
كنت احجب الهادي خليفه للفضل بْن الربيع، قَالَ: فإنه ذات يوم جالس وأنا في داره، وقد تغدى ودعا بالنبيذ، وقد كان قبل ذلك دخل على أمه الخيزران، فسألته أن يولي خاله الغطريف اليمن، فقال: اذكريني به قبل أن أشرب، قَالَ: فلما عزم على الشرب وجهت إليه منيرة- أو زهرة- تذكره، فقال: ارجعي فقولي: اختاري له طلاق ابنته عبيدة أو ولاية اليمن، فلم تفهم إلا قوله: اختاري له فمرت، فقالت: قد اخترت له ولاية اليمن، فطلق ابنته عبيدة، فسمع الصياح، فقال: ما لكم؟ فاعلمته الخبر، فقال:
أنت اخترت له، فقالت: ما هكذا أديت إلي الرسالة عنك قَالَ: فأمر صالحا صاحب المصلى أن يقف بالسيف على رءوس الندماء ليطلقوا نساءهم، فخرج إلي بذلك الخدم ليعلموني ألا آذن لأحد قَالَ: وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه، يراوح بين قدميه، فعن لي بيتان، فأنشدتهما وهما:
خليلي من سعد ألما فسلما ... على مريم، لا يبعد الله مريما
وقولا لها: هذا الفراق عزمته ... فهل من نوال بعد ذاك فيعلما!
قَالَ: فقال لي الرجل المتلفع بطيلسانه: فنعلما، فقلت: ما الفرق بين يعلما ونعلما؟ فقال: إن الشعر يصلحه معناه ويفسده معناه، ما حاجتنا إلى أن يعلم الناس أسرارنا! فقلت له: أنا أعلم بالشعر منك، قَالَ:
فلمن الشعر؟ قلت: للأسود بْن عمارة النوفلي، فقال لي: فأنا هو، فدنوت منه فأخبرته خبر موسى، واعتذرت إليه من مراجعتي إياه قَالَ: فصرف دابته، وقال: هذا أحق منزل بأن يترك

(8/222)


قَالَ مصعب الزبيري: قَالَ أبو المعافى: أنشدت العباس بْن محمد مديحا في موسى وهارون:
يا خيزران هناك ثم هناك ... إن العباد يسوسهم ابناك
قَالَ: فقال لي: إني أنصحك، قَالَ اليماني: لا تذكر أمي بخير ولا بشر وذكر أحمد بْن صالح بْن أبي فنن، فقال: حدثني يوسف الصيقل الشاعر الواسطي، قَالَ: كنا عند الهادي بجرجان قبل الخلافة ودخوله بغداد، فصعد مستشرفا له حسنا، فغني بهذا الشعر:
واستقلت رجالهم ... بالرديني شرعا
فقال: كيف هذا الشعر؟ فأنشدوه، فقال: كنت أشتهي أن يكون هذا الغناء في شعر أرق من هذا، اذهبوا إلى يوسف الصيقل حتى يقول فيه، قَالَ: فأتوني فأخبروني الخبر، فقلت:
لا تلمني أن أجزعا ... سيدي قد تمنعا
وابلائي إن كان ما ... بيننا قد تقطعا
إن موسى بفضله ... جمع الفضل أجمعا
قَالَ: فنظر فإذا بعير أمامه، فقال: أوقروا هذا دراهم ودنانير، واذهبوا بها إليه قَالَ: فأتوني بالبعير موقرا.
وذكر محمد بْن سعد، قَالَ: حدثني أبو زهير، قَالَ: كان ابن دأب أحظى الناس عند الهادي، فخرج الفضل بْن الربيع يوما، فقال: إن أمير المؤمنين يأمر من ببابه بالانصراف، فاما أنت يا بن دأب فادخل، قَالَ ابن دأب: فدخلت عليه وهو منبطح على فراشه، وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل، فقال لي: حدثني بحديث في الشراب، فقلت: نعم

(8/223)


يا أمير المؤمنين، خرجت رجلة من كنانة ينتجعون الخمر من الشام، فمات أخ لأحدهم، فجلسوا عند قبره يشربون، فقال أحدهم:
لا تصرد هامة من شربها ... اسقه الخمر وإن كان قبر
أسق أوصالا وهاما وصدى ... قاشعا يقشع قشع المبتكر
كان حرا فهوى فيمن هوى ... كل عود وفنون منكسر
قَالَ: فدعا بدواة فكتبها، ثم كتب إلى الحراني بأربعين الف درهم، قال: عشرة آلاف لك، وثلاثون ألفا للثلاثة الأبيات قَالَ: فأتيت الحراني، فقال: صالحنا على عشرة آلاف، على أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها لأمير المؤمنين حتى يبدأني، فمات ولم يذكرها حتى أفضت الخلافة إلى الرشيد.
وذكر أبو دعامة أن سلم بْن عمرو الخاسر مدح موسى الهادي، فقال:
بعيساباذ حر من قريش ... على جنباته الشرب الرواء
يعوذ المسلمون بحقوتيه ... إذا ما كان خوف أو رجاء
وبالميدان دور مشرفات ... يشيدهن قوم أدعياء
وكم من قائل إني صحيح ... وتأباه الخلائق والرواء
له حسب يضن به ليبقى ... وليس لما يضن به بقاء
على الضبي لؤم ليس يخفى ... يغطيه فينكشف الغطاء
لعمري لو أقام أبو خديج ... بناء الدار ما انهدم البناء
قَالَ: وقال سلم الخاسر لما تولى الهادي الخلافة بعد المهدي:
لقد فاز موسى بالخلافة والهدى ... ومات أمير المؤمنين محمد
فمات الذي عم البرية فقده ... وقام الذي يكفيك من يتفقد

(8/224)


وقال أيضا:
تخفى الملوك لموسى عند طلعته ... مثل النجوم لقرن الشمس إذ طلعا
وليس خلق يرى بدرا وطلعته ... من البرية إلا ذل أو خضعا
وقال أيضا:
لولا الخليفة موسى بعد والده ... ما كان للناس من مهديهم خلف
ألا ترى أمة الأمي واردة ... كأنها من نواحي البحر تغترف
من راحتي ملك قد عم نائله ... كأن نائله من جوده سرف
وذكر إدريس بْن أبي حفصة أن مروان بْن أبي حفصة حدثه، قَالَ:
لما ملك موسى الهادي دخلت عليه فأنشدته:
إن خلدت بعد الإمام محمد ... نفسي لما فرحت بطول بقائها
قَالَ: ومدحت فقلت فيه:
بسبعين ألفا شد ظهري وراشني ... أبوك وقد عاينت من ذاك مشهدا
وانى امير المؤمنين لواثق ... بالا يرى شربي لديك مصردا
فلما أنشدته قَالَ: ومن يبلغ مدى المهدي! ولكنا سنبلغ رضاك.
قَالَ: وعاجلته المنية فلم يعطني شيئا، ولا أخذت من أحد درهما حتى قام الرشيد.
وذكر هارون بن موسى الفروى، قَالَ: حدثني أبو غزية، عن الضحاك بْن معن السلمي، قَالَ: دخلت على موسى فأنشدته:
يا منزلي شجو الفؤاد تكلما ... فلقد أرى بكما الرباب وكلثما
ما منزلان على التقادم والبلى ... أبكى لما تحت الجوانح منكما
ردا السلام على كبير شاقه ... طللان قد درسا فهاج فسلما

(8/225)


قَالَ: ومدحته فيها، فلما بلغت:
سبط الأنامل بالفعال أخاله ... أن ليس يترك في الخزائن درهما
التفت إلى أحمد الخازن، فقال: ويحك يا أحمد! كأنه نظر إلينا البارحة، قَالَ: وكان قد أخرج تلك الليلة مالا كثيرا ففرقه وذكر عن إسحاق الموصلي- أو غيره- عن إبراهيم، قَالَ: كنا يوما عند موسى، وعنده ابن جامع ومعاذ بْن الطبيب- وكان أول يوم دخل علينا معاذ، وكان معاذ حاذقا بالاغانى، عارفا بقديمها- فقال: من أطربني منكم فله حكمه، فغناه ابن جامع غناء فلم يحركه، وفهمت غرضه في الأغاني، فقال هات يا إبراهيم، فغنيته:
سليمى أجمعت بينا ... فأين نقولها أينا!
فطرب حتى قام من مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد، فأعدت، فقال: هذا غرضي فاحتكم، فقلت: يا امير المؤمنين، حائط عبد الملك وعينه الخرارة، فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قَالَ:
يا بن اللخناء، أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فأقطعتك! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك لضربت الذي فيه عيناك ثم أطرق هنيهة، فرأيت ملك الموت بيني وبينه ينتظر أمره.
ثم دعا إبراهيم الحراني فقال: خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء، فأدخلني الحراني بيت المال، فقال: كم تأخذ؟ قلت: مائة بدرة، قَالَ: دعني أؤامره، قال: قلت: فثمانين، قال: حتى اؤامره، فعملت ما أراد، فقلت: سبعين بدرة لي، وثلاثين لك، قَالَ: الآن جئت بالحق، فشأنك فانصرفت بسبعمائة ألف وانصرف ملك الموت عن وجهي.
وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني صالح بْن علي بْن عطية الأضخم عن حكم الوادي، قَالَ كان الهادي يشتهي من الغناء الوسط الذى يقل

(8/226)


ترجيعه، ولا يبلغ أن يستخف به جدا قَالَ: فبينا نحن ليلة عنده، وعنده ابن جامع والموصلي والزبير بْن دحمان والغنوي إذ دعا بثلاث بدور وأمر بهن فوضعن في وسط المجلس، ثم ضم بعضهن إلى بعض، وقال: من غناني صوتا في طريقي الذي أشتهيه، فهن له كلهن قَالَ: وكان فيه خلق حسن، كان إذا كره شيئا لم يوقف عليه، وأعرض عنه فغناه ابن جامع، فأعرض عنه، وغنى القوم كلهم، فأقبل يعرض حتى تغنيت، فوافقت ما يشتهي، فصاح: أحسنت أحسنت! اسقوني، فشرب وطرب، فقمت فجلست على البدور، وعلمت أني قد حويتها، فحضر ابن جامع، فأحسن المحضر، وقال: يا أمير المؤمنين، هو والله كما قلت، وما منا أحد إلا وقد ذهب عن طريقك غيره، قال: هي لك، وشرب حتى بلغ حاجته على الصوت، ونهض، فقال: مروا ثلاثة من الفراشين يحملونها معه، فدخل وخرجنا نمشي في الصحن منصرفين، فلحقني ابن جامع، فقلت: جعلت فداك يا أبا القاسم! فعلت ما يفعل مثلك في نسبك، فانظر فيها بما شئت فقال: هنأك الله، وددنا أنا زدناك ولحقنا الموصلي، فقال: أجزنا، فقلت: ولم لم تحسن محضرك! لا والله ولا درهما واحدا.
وذكر محمد بْن عبد الله، قَالَ: قَالَ لي سعيد القارئ العلاف- وكان صاحب أبان القارئ: أنه كان عند موسى جلساؤه، فيهم الحراني وسعيد ابن سلم وغيرهما، وكانت جارية لموسى تسقيهم، وكانت ماجنة، فكانت تقول لهذا: يا جلفي، وتعبث بهذا وهذا، ودخل يزيد بْن مزيد فسمع ما تقول لهم، فقال لها: والله الكبير، لئن قلت لي مثل ما تقولين لهم لأضربنك ضربة بالسيف، فقال لها موسى: ويلك! إنه والله يفعل ما يقول، فإياك قَالَ:
فأمسكت عنه ولم تعابثه قط قَالَ: وكان سعيد العلاف وأبان القارئ إباضيين

(8/227)


وذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن داود الكاتب، قَالَ: حدثني ابن القداح، قَالَ: كانت للربيع جارية يقال لها أمة العزيز، فائقة الجمال، ناهدة الثديين، حسنة القوام، فأهداها إلى المهدي، فلما رأى جمالها وهيئتها، قَالَ: هذه لموسى أصلح، فوهبها له، فكانت أحب الخلق إليه، وولدت له بنيه الأكابر ثم إن بعض أعداء الربيع قَالَ لموسى: إنه سمع الربيع يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز، فغار موسى من ذلك غيرة شديدة، وحلف ليقتلن الربيع، فلما استخلف دعا الربيع في بعض الأيام، فتغدى معه وأكرمه، وناوله كاسا فيها شراب عسل، قَالَ:
فقال الربيع: فعلمت أن نفسي فيها، وأني إن رددت الكأس ضرب عنقي، مع ما قد علمت أن في قلبه علي من دخولي على أمه، وما بلغه عني، ولم يسمع مني عذرا فشربتها وانصرف الربيع إلى منزله، فجمع ولده، وقال لهم: إني ميت في يومي هذا أو من غد، فقال له ابنه الفضل: ولم تقول هذا جعلت فداك! فقال: إن موسى سقاني شربة سم بيده، فأنا أجد عملها في بدني، ثم أوصى بما أراد، ومات في يومه أو من غده ثم تزوج الرشيد أمة العزيز بعد موت موسى الهادي، فأولدها على بن الرشيد.
وزعم الفضل بْن سليمان بْن إسحاق الهاشمي أن الهادي لما تحول إلى عيساباذ في أول السنة التي ولي الخلافة فيها، عزل الربيع عما كان يتولاه من الوزارة وديوان الرسائل، وولى مكانه عمر بْن بزيع، وأقر الربيع على الزمام، فلم يزل عليه الى ان توفى الربيع، وكانت وفاته بعد ولاية الهادي بأشهر، وأوذن بموته فلم يحضر جنازته، وصلى عليه هارون الرشيد، وهو يومئذ ولي عهد، وولى موسى مكان الربيع إبراهيم بْن ذكوان الحراني، واستخلف على ما تولاه إسماعيل بْن صبيح، ثم عزله واستخلف يحيى بْن سليم، وولي إسماعيل زمام ديوان الشام وما يليها.
وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، خال الفضل بْن الربيع، أن أباه حدثه، أن موسى الهادي قَالَ: أريد قتل الربيع، فما أدري كيف أفعل به! فقال له سعيد بْن سلم: تأمر رجلا باتخاذ سكين مسموم، وتأمره بقتله، ثم

(8/228)


تأمر بقتل ذلك الرجل قَالَ: هذا الرأي، فأمر رجلا فجلس له في الطريق، وأمره بذلك، فخرج بعض خلفاء الربيع، فقال له: إنه قد أمر فيك بكذا وكذا، فأخذ في غير ذلك الطريق، فدخل منزله، فتمارض، فمرض بعد ذلك ثمانية أيام، فمات ميتة نفسه وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائة، وهو الربيع ابن يونس.

(8/229)


خلافة هارون الرشيد
بويع للرشيد هارون بْن محمد بْن عبد الله بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس بالخلافة ليلة الجمعة الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي وكانت سنة يوم ولي اثنتين وعشرين سنة وقيل كان يوم بويع بالخلافة ابن إحدى وعشرين سنة وأمه أم ولد يمانية جرشية يقال لها خيزران، وولد بالري لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة في خلافة المنصور.
وأما البرامكة فإنها- فيما ذكر- تزعم أن الرشيد ولد أول يوم من المحرم سنة تسع وأربعين ومائة، وكان الفضل بْن يحيى ولد قبله بسبعة أيام، وكان مولد الفضل لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، فجعلت أم الفضل ظئرا للرشيد، وهي زينب بنت منير، فأرضعت الرشيد بلبان الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد.
وذكر سليمان بْن أبي شيخ أنه لما كان الليلة التي توفي فيها موسى الهادي أخرج هرثمة بْن أعين هارون الرشيد ليلا فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بْن خالد بْن برمك- وكان محبوسا، وقد كان عزم موسى على قتله وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة- قَالَ: فحضر يحيى، وتقلد الوزارة، ووجه إلى يوسف بْن القاسم بْن صبيح الكاتب فأحضره، وأمره بإنشاء الكتب، فلما كان غداة تلك الليلة، وحضر القواد قام يوسف بْن القاسم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى مُحَمَّد ص، ثم تكلم بكلام أبلغ فيه، وذكر موت موسى وقيام هارون بالأمر من بعده، وما أمر به للناس من الأعطيات.
وذكر أحمد بْن القاسم، أنه حدثه عمه علي بْن يوسف بْن القاسم هذا الحديث، فقال: حدثني يزيد الطبري مولانا أنه كان حاضرا يحمل دواه ابى يوسف ابن القاسم، فحفظ الكلام قَالَ: قَالَ بعد الحمد لله عز وجل والصلاة على النبي ص:

(8/230)


إن الله بمنه ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه بيت الخلافة ومعدن الرسالة، وأتاكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع ألفتكم وأعلى أمركم، وشد عضدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق، وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويا عزيزا، فكنتم أنصار دين الله المرتضى والذابين بسيفه المنتضى، عن اهل بيت نبيه ص وبكم استنقذهم من أيدي الظلمة، أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به، فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيدا مرضيا امير المؤمنين رءوفا بكم رحيما، من محسنكم قبولا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفا، وهو- أمتعه الله بالنعمة وحفظ له ما استرعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته- يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء مما في بيوت الأموال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرا، غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من اعطياتكم، وحامل باقي ذلك، للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال، حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها، والحال التي كانت عليها، فاحمدوا الله وجددوا شكرا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم، بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته وارغبوا إلى الله له في البقاء، ولكم به في إدامة النعماء، لعلكم ترحمون وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين وذكر يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، قَالَ: حدثني محمد بْن هشام

(8/231)


المخزومي، قَالَ: جاء يحيى بْن خالد إلى الرشيد وهو نائم في لحاف بلا إزار، لما توفي موسى، فقال: قم يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: كم تروعني إعجابا منك بخلافتي! وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل، فإن بلغه هذا، فما تكون حالي! فقال له: هذا الحراني وزير موسى وهذا خاتمه قَالَ: فقعد في فراشه، فقال: أشر علي، قَالَ: فبينما هو يكلمه إذ طلع رسول آخر، فقال: قد ولد لك غلام، فقال: قد سميته عبد الله، ثم قَالَ ليحيى: أشر علي، فقال: أشير عليك أن تقعد لحالك على أرمينية، قَالَ: قد فعلت، ولا والله لا صليت بعيساباذ إلا عليها، ولا صليت الظهر إلا ببغداد، وإلا ورأس أبي عصمة بين يدي قَالَ: ثم لبس ثيابه، وخرج فصلى عليه، وقدم أبا عصمة، فضرب عنقه، وشد جمته في رأس قناة، ودخل بها بغداد، وذلك أنه كان مضى هو وجعفر بْن موسى الهادي راكبين فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ، فالتفت أبو عصمة إلى هارون، فقال له: مكانك حتى يجوز ولي العهد، فقال هارون: السمع والطاعة للأمير، فوقف حتى جاز جعفر، فكان هذا سبب قتل أبي عصمة.
قَالَ: ولما صار الرشيد إلى كرسي الجسر دعا بالغواصين، فقال: كان المهدي وهب لي خاتما شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل، فدخلت على أخي وهو في يدي، فلما انصرفت لحقني سليم الأسود على الكرسي، فقال:
يأمرك أمير المؤمنين أن تعطيني الخاتم، فرميت به في هذا الموضع فغاصوا، فأخرجوه، فسر به غاية السرور.
قَالَ محمد بْن إسحاق الهاشمي: حدثني غير واحد من أصحابنا، منهم صباح بْن خاقان التميمي، أن موسى الهادي كان خلع الرشيد وبايع لابنه جعفر، وكان عبد الله بْن مالك على الشرط، فلما توفي الهادي هجم خزيمة ابن خازم في تلك الليلة، فأخذ جعفرا من فراشه، وكان خزيمة في خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح، فقال: والله لأضربن عنقك أو تخلعها، فلما كان من الغد، ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة، فأقامه

(8/232)


على باب الدار في العلو، والأبواب مغلقة، فأقبل جعفر ينادي: يا معشر المسلمين، من كانت لي في عنقه بيعة فقد أحللته منها، والخلافة لعمي هارون، ولا حق لي فيها.
وكان سبب مشي عبد الله بْن مالك الخزاعي إلى مكة على اللبود، لأنه كان شاور الفقهاء في أيمانه التي حلف بها لبيعة جعفر، فقالوا له: كل يمين لك تخرج منها إلا المشي إلى بيت الله، ليس فيه حيلة فحج ماشيا وحظي خزيمة بذلك عند الرشيد وذكر أن الرشيد كان ساخطا على إبراهيم الحراني وسلام الأبرش يوم مات موسى، فأمر بحبسهما وقبض أموالهما، فحبس إبراهيم عند يحيى بْن خالد في داره، فكلم فيه محمد بْن سليمان هارون، وسأله الرضا عنه وتخلية سبيله، والإذن له في الانحدار معه إلى البصرة، فأجابه إلى ذلك.
وفي هذه السنة عزل الرشيد عمر بْن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول ص، وما كان إليه من عملها، وولى ذلك إسحاق بن سليمان ابن علي.
وفيها ولد محمد بْن هارون الرشيد، وكان مولده- فيما ذكر أبو حفص الكرماني عن محمد بْن يحيى بْن خالد- يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة، وكان مولد المأمون قبله في ليله الجمعه النصف من شهر ربيع الأول.
وفيها قلد الرشيد يحيى بْن خالد الوزارة، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى ودفع إليه خاتمه، ففي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ... فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى ... فهارون واليها ويحيى وزيرها

(8/233)


وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها.
وفيها أمر هارون بسهم ذوي القربى، فقسم بين بني هاشم بالسوية.
وفيها آمن من كان هاربا أو مستخفيا، غير نفر من الزنادقة، منهم يونس بْن فروة ويزيد بْن الفيض.
وكان ممن ظهر من الطالبيين طباطبا، وهو إبراهيم بْن إسماعيل، وعلي بْن الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بْن الحسن.
وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزا واحدا وسميت العواصم.
وفيها عمرت طرسوس على يدي أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس.
وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أهل الحرمين عطاء كثيرا، وقسم فيهم مالا جليلا.
وقد قيل: إنه حج في هذه السنة وغزا فيها، وفي ذلك يقول داود بْن رزين:
بهارون لاح النور في كل بلدة ... وقام به في عدل سيرته النهج
إمام بذات الله أصبح شغله ... وأكثر ما يعنى به الغزو والحج
تضيق عيون الناس عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج
وإن أمين الله هارون ذا الندى ... ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو
وغزا الصائفة في هذه السنة سليمان بْن عبد الله البكائي.
وكان العامل فيها على المدينة إسحاق بْن سليمان الهاشمي، وعلى مكة والطائف عبيد الله بْن قثم، وعلى الكوفة موسى بْن عيسى، وخليفته عليها ابنه العباس بْن موسى، وعلى البصرة والبحرين والفرض وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد بْن سليمان بن على.

(8/234)


ثم دخلت

سنة إحدى وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك قدوم أبي العباس الفضل بْن سليمان الطوسي مدينة السلام منصرفا عن خراسان، وكان خاتم الخلافة حين قدم مع جعفر بْن محمد بْن الأشعث، فلما قدم أبو العباس الطوسي أخذه الرشيد منه، فدفعه إلى أبي العباس، ثم لم يلبث أبو العباس إلا يسيرا حتى توفي، فدفع الخاتم إلى يحيى بْن خالد، فاجتمعت ليحيى الوزارتان.
وفيها قتل هارون أبا هريرة محمد بْن فروخ- وكان على الجزيرة- فوجه إليه هارون أبا حنيفة حرب بْن قيس، فقدم به عليه مدينة السلام، فضرب عنقه في قصر الخلد.
وفيها أمر هارون بإخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين إلى مدينه الرسول ص، خلا العباس بْن الحسن بْن عبد الله بن على ابن أبي طالب، وكان أبوه الحسن بْن عبد الله فيمن أشخص.
4 وخرج الفضل بْن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي.
وفي هذه السنة كان قدوم روح بْن حاتم إفريقية، وخرجت في هذه السنة الخيزران إلى مكة في شهر رمضان، فأقامت بها إلى وقت الحج فحجت.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بْن علي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس.

(8/235)


ثم دخلت

سنة اثنتين وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك شخوص الرشيد فيها إلى مرج القلعة مرتادا بها منزلا ينزله.
ذكر السبب في ذلك:
ذكر أن الذي دعاه إلى الشخوص إليها أنه استثقل مدينة السلام، فكان يسميها البخار، فخرج إلى مرج القلعة، فاعتل بها، فانصرف، وسميت تلك السفرة سفرة المرتاد.
وفيها عزل الرشيد يزيد بْن مزيد عن أرمينية، وولاها عبيد الله بْن المهدي.
وغزا الصائفة فيها إسحاق بْن سليمان بْن علي.
وحج بالناس في هذه السنة يعقوب بْن أبي جعفر المنصور.
وفيها وضع هارون عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف

(8/236)


ثم دخلت

سنة ثلاث وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر وفاه محمد بن سليمان
فمن ذلك وفاة محمد بْن سليمان بالبصرة، لليال بقين من جمادى الآخرة منها.
وذكر أنه لما مات محمد بْن سليمان وجه الرشيد إلى كل ما خلفه رجلا أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلا، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدواب من الخيل والإبل، وإلى الطيب والجوهر وكل آلة برجل من قبل الذي يتولى كل صنف من الأصناف، فقدموا البصرة، فأخذوا جميع ما كان لمحمد مما يصلح للخلافة، ولم يتركوا شيئا إلا الخرثي الذي لا يصلح للخلفاء، وأصابوا له ستين ألف ألف، فحملوها مع ما حمل، فلما صارت في السفن أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك، فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلا المال، فإنه أمر بصكاك فكتبت للندماء، وكتبت للمغنين صكاك صغار لم تدر في الديوان، ثم دفع إلى كل رجل صكا بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم إلى السفن، فأخذوا المال على ما أمر لهم به في الصكاك أجمع، لم يدخل منه بيت ماله دينار ولا درهم، واصطفى ضياعه، وفيها ضيعة يقال لها برشيد بالأهواز لها غلة كثيرة.
وذكر علي بْن محمد، عن أبيه، قَالَ: لما مات محمد بْن سليمان اصيب في خزانه لباسه مذ كان صبيا في الكتاب إلى أن مات مقادير السنين، فكان من ذلك ما عليه آثار النقس، قَالَ: وأخرج من خزانته ما كان يهدى له من بلاد السند ومكران وكرمان وفارس والأهواز واليمامة والري وعمان، من الالطاف والادهان والسمك والحبوب والجبن، وما أشبه ذلك، ووجد اكثره فاسدا وكان من ذلك خمسمائة كنعدة ألقيت من دار جعفر

(8/237)


ومحمد في الطريق، فكانت بلاء قَالَ: فمكثنا حينا لا نستطيع أن نمر بالمربد من نتنها
. ذكر وفاه الخيزران أم الهادي والرشيد
وفيها توفيت الخيزران أم هارون الرشيد وموسى الهادي.
ذكر الخبر عن وقت وفاتها:
ذكر يحيى بْن الحسن أن أباه حدثه، قَالَ: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة، وعليه جبة سعيديه وطيلسان خرق أزرق، قد شد به وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير حافيا يعدو في الطين، حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه، ثم دعا بخف وصلى عليها، ودخل قبرها، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه، ودعا الفضل بْن الربيع، فقال له: وحق المهدي- وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد- إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من جعفر فقال الفضل بْن الربيع لإسماعيل بْن صبيح: أنا أجل أبا الفضل عن ذلك، بأن أكتب إليه وآخذه، ولكن إن رأى أن يبعث به! قَالَ وولى الفضل نفقات العامة والخاصة وبادوريا والكوفة، وهي خمسة طساسيج، فأقبلت حالة تنمى إلى سنة سبع وثمانين ومائة.
وقيل إن وفاة محمد بْن سليمان والخيزران كانت في يوم واحد.
وفيها أقدم الرشيد جعفر بْن محمد بْن الأشعث من خراسان، وولاها ابنه العباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث.
وحج بالناس فيها هارون، وذكر أنه خرج محرما من مدينة السلام.

(8/238)


ثم دخلت

سنة أربع وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان بالشام من العصبية فيها.
وفيها ولى الرشيد إسحاق بْن سليمان الهاشمي السند ومكران.
وفيها استقضى الرشيد يوسف بْن أبي يوسف، وأبوه حي.
وفيها هلك روح بْن حاتم.
وفيها خرج الرشيد إلى باقردى وبازبدى، وبنى بباقردى قصرا، فقال الشاعر في ذلك:
بقردى وبازبدى مصيف ومربع ... وعذب يحاكي السلسبيل برود
وبغداد، ما بغداد، أما ترابها ... فخرء، وأما حرها فشديد
وغزا الصائفة عبد الملك بْن صالح.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد، فبدأ بالمدينة، فقسم في أهلها مالا عظيما، ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها هارون، ثم دخلها يوم التروية، فقضى طوافه وسعيه ولم ينزل بمكة.

(8/239)


ثم دخلت

سنة خمس وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن البيعه للامين
فمن ذلك عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام من بعده ولاية عهد المسلمين وأخذه له بذلك بيعة القواد والجند، وتسميته إياه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، فقال سلم الخاسر:
قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخليفة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهدا عليه بمنظر وبمخبر
قد بايع الثقلان في مهد الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر

ذكر الخبر عن سبب بيعة الرشيد له:
وكان السبب في ذلك- فيما ذكر روح مولى الفضل بْن يحيى بْن خالد- أنه رأى عيسى بْن جعفر قد صار إلى الفضل بْن يحيى، فقال له: أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي- يعنى محمد بن زبيدة بنت جعفر بْن المنصور- فإنه ولد لك وخلافته لك، فوعده أن يفعل، وتوجه الفضل على ذلك، وكانت جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد، لأنه لم يكن له ولي عهد، فلما بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنه.
قَالَ: وقد كان الفضل لما تولى خراسان أجمع على البيعة لمحمد، فذكر محمد بْن الحسين بْن مصعب أن الفضل بْن يحيى لما صار إلى خراسان، فرق فيهم أموالا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد، فبايع الناس له وسماه الأمين، فقال في ذلك النمري:
أمست بمرو على التوفيق قد صفقت ... على يد الفضل أيدي العجم والعرب

(8/240)


ببيعة لولي العهد أحكمها ... بالنصح منه وبالإشفاق والحدب
قد وكد الفضل عقدا لا انتقاض له ... لمصطفى من بنى العباس منتخب
قال: فلما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق، بايع لمحمد، وكتب إلى الآفاق، فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك:
عزمت أمير المؤمنين على الرشد ... برأي هدى، فالحمد لله ذي الحمد
وعزل فيها الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خاله الغطريف ابن عطاء.
4 وفيها صار يحيى بْن عبد الله بْن حسن إلى الديلم، فتحرك هناك.
وغزا الصائفة فيها عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح فبلغ إقريطية.
وقال الواقدي: الذي غزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بْن صالح، قَالَ: وأصابهم في هذه الغزاة برد قطع أيديهم وأرجلهم.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.

(8/241)


ثم دخلت

سنة ست وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من تولية الرشيد الفضل بْن يحيى كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وأرمينية وأذربيجان.
وفيها ظهر يحيى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بن علي بْن أبي طالب بالديلم.

ذكر الخبر عن مخرج يحيى بن عبد الله وما كان من أمره
ذكر أبو حفص الكرماني، قَالَ: كان أول خبر يحيى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن بن علي بْن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتم لذلك الرشيد، ولم يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إليه الفضل بْن يحيى في خمسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الجبال والري وجرجان وطبرستان وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده، فولى المثنى بْن الحجاج بْن قتيبة بْن مسلم طبرستان، وولى علي بْن الحجاج الخزاعي جرجان، وامر له بخمسمائة الف درهم، وعسكر بالنهرين، وامتدحه الشعراء، فأعطاهم فأكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم أموالا كثيرة وشخص الفضل بْن يحيى، واستخلف منصور بْن زياد بباب أمير المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكانوا يثقون بمنصور وابنه في جميع أمورهم، لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم ثم مضى من معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع، فكاتب يحيى ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله ونزل الفضل بطالقان الري ودستبى بموضع يقال له أشب، وكان شديد البرد كثير الثلوج، ففي ذلك يقول أبان بْن عبد الحميد اللاحقي:

(8/242)


لدور أمس بالدولاب ... حيث السيب ينعرج
أحب الى من دور ... أشب إذا هم ثلجوا
قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحيى، وكاتب صاحب الديلم، وجعل له ألف ألف درهم، على أن يسهل له خروج يحيى إلى ما قبله، وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه على نسخة يبعث بها إليه فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أمانا ليحيى بْن عبد الله، وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بني هاشم ومشايخهم، منهم عبد الصمد بْن علي والعباس ابن محمد ومحمد بْن إبراهيم وموسى بْن عيسى ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بْن عبد الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقا سنية، وأنزله منزلا سريا بعد أن أقام في منزل يحيى بْن خالد أياما، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحيى والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل، ففي ذلك يقول مروان بْن أبي حفصة:
ظفرت فلا شلت يد برمكية ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه ... فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصبحت قد فازت يداك بخطة ... من المجد باق ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزا ... لكم كلما ضمت قداح المساهم
قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه:
للفضل يوم الطالقان وقبله ... يوم أناخ به على خاقان
ما مثل يوميه اللذين تواليا ... في غزوتين توالتا يومان
سد الثغور ورد ألفة هاشم ... بعد الشتات، فشعبها متدان

(8/243)


عصمت حكومته جماعة هاشم ... من أن يجرد بينها سيفان
تلك الحكومة لا التي عن لبسها ... عظم النبا وتفرق الحكمان
فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به.
وذكر أحمد بْن محمد بْن جعفر، عن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، قَالَ: لما قدم يحيى بْن عبد الله من الديلم أتيته، وهو في دار علي بْن أبي طالب، فقلت: يا عم، ما بعدك مخبر ولا بعدي مخبر، فأخبرني خبرك، فقال: يا بن أخي، والله إن كنت إلا كما قَالَ حيي ابن أخطب:
لَعَمْرُكَ مَا لامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهُ يُخْذَلِ
لَجَاهَدَ حَتَّى أَبْلَغَ النفس حمدها ... وقلقل يبغي العز كل مقلقل
وذكر الضبي أن شيخا من النوفليين، قَالَ: دخلنا على عيسى بْن جعفر، وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض، وهو قائم متكئ عليها، وإذا هو يضحك من شيء في نفسه، متعجبا منه، فقلنا: ما الذى يضحك الأمير ادام لله سروره! قَالَ: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا:
تمم الله للأمير سروره، وزاده سرورا فقال: والله لا أحدثكم به إلا قائما- واتكأ على الفرش وهو قائم- فقال: كنت اليوم عند أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بْن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلا في الحديد، وعنده بكار بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْن عبد الله بْن الزبير- وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون عنهم، ويسيء بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق عليهم- قَالَ: فلما دعي بيحيى قَالَ له الرشيد: هيه هيه! متضاحكا، وهذا يزعم أيضا أنا سممناه! فقال يحيى: ما معنى يزعم؟ ها هو ذا لساني- قَالَ: وأخرج لسانه أخضر

(8/244)


مثل السلق- قَالَ: فتربد هارون! واشتد غضبه، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، إن لنا قرابة ورحما، ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، أنا وأنتم أهل بيت واحد، فاذكرك الله وقرابتنا من رسول الله ص! علام تحبسني وتعذبني؟ قَالَ: فرق له هارون، وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا، فإنه شاق عاص، وإنما هذا منه مكر وخبث، إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان.
قال: فاقبل يحيى عليه، فو الله ما أستأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قَالَ: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري: هذا كلامه قدامك، فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافا بنا قَالَ: فأقبل عليه يحيى، فقال: نعم، ومن أنتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله ص؟ ومن أنت حتى تقول:
أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي وآباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة ثم قَالَ:
يا أمير المؤمنين، إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا، فوجدنا بذلك مقالا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك، يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك، وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا، إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إلي هذا حيث قتل أخي محمد بْن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله! وأنشدني فيه مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا، وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة، فأيدينا مع يدك! قَالَ: فتغير وجه الزبيري واسود، فأقبل عليه هارون، فقال: أي شيء يقول هذا؟ قَالَ: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قَالَ حرف قَالَ:
فأقبل على يحيى بْن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قَالَ:

(8/245)


نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قَالَ: فأنشدها إياه، فقال الزبيري:
والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو- حتى أتى على أخر اليمين الغموس- ما كان مما قال شيء، ولقد تقول علي ما لم أقل قَالَ: فأقبل الرشيد على يحيى ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قَالَ:
لا يا أمير المؤمنين، ولكن استحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، إن كنت قلته فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا أدري ما هو! قَالَ يحيى بْن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قَالَ: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، قَالَ: فاضطرب منها وأرعد، فقال يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم أعظم الأشياء! قَالَ: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قَالَ: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته، موكل إلى حولي وقوتي إن كنت قلته قَالَ: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته.
قَالَ: فقال عيسى بْن جعفر: والله ما يسرني ان يحيى نقصه حرفا مما كان جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه قَالَ: وأما الزبيريون فيزعمون أن امرأته قتلته، وهي من ولد عبد الرحمن ابن عوف.
وذكر إسحاق بْن محمد النخعي أن الزبير بْن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار بْن عبد الله تزوج امرأة من ولد عبد الرحمن بْن عوف، وكان له من قلبها موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها، فقالت لغلامين له زنجيين:
إنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق- ولاطفتهما- فتعاوناني على قتله؟ قالا:

(8/246)


نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعا معها، فقعدا على وجهه حتى مات قَالَ: ثم أنها سقتهما نبيذا حتى تهوعا حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة، فلما أصبح اجتمع أهله، فقالت: سكر فقاء فشرق فمات فاخذ الغلامان، فضربا ضربا مبرحا، فأقرا بقتله، وأنها أمرتهما بذلك، فأخرجت من الدار ولم تورث.
وذكر أبو الخطاب أن جعفر بْن يحيى بْن خالد حدثه ليلة وهو في سمرة، قَالَ: دعا الرشيد اليوم بيحيى بْن عبد الله بْن حسن، وقد حضره أبو البختري القاضي ومحمد بْن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بْن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟ أصحيح هو؟ قَالَ: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بْن الحسن:
ما تصنع بالأمان؟ لو كان محاربا ثم ولى كان آمنا فاحتملها الرشيد على محمد بْن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الامان، فقال ابو البختري:
هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم بذلك، فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري- وكان بكار بْن عبد الله بن مصعب حاضرا المجلس- فأقبل على يحيى بْن عبد الله بوجهه، فقال: شققت العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا، وفعلت بنا وفعلت فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قَالَ جعفر: فو الله ما تمالك الرشيد أن ضحك ضحكا شديدا قَالَ: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد: انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قَالَ الناس: سموه قَالَ يحيى: كلا ما زلت عليلا منذ كنت في الحبس، وقبل ذلك أيضا كنت عليلا قَالَ أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهرا حتى مات.
وذكر ابو يونس إسحاق بن اسمعيل، قَالَ: سمعت عبد الله بْن العباس بْن الحسن بْن عبيد الله بْن العباس بْن علي، الذي يعرف بالخطيب، قَالَ:
كنت يوما على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد الم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قَالَ: فخرج الفضل بْن الربيع

(8/247)


إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلي أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب، فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلا عند الناس فما مكثنا إلا قليلا حتى جاء الفضل ابن الربيع، فقال: إن عبد الله بْن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحدا، فقال: قَالَ: إن عندي شيئا أذكره فقال: قل له يقله لك، قَالَ: قد قلت له ذلك، فزعم أنه لا يقوله إلا لك، قَالَ: أدخله وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره، وإنما أراد الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا بها، وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.
وطلع الزبيري، فقال: يا امير المؤمنين، هاهنا شيء أذكره، فقال له:
قل، فقال له: انه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال:
ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله ثيابه واخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه قَالَ: فرأيته قد تغير لونه، وقال: مما ذا؟ قَالَ: جاءتني دعوة يحيى بْن عبد الله بْن حسن، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك أحدا إلا وقد أدخله في الخلاف عليك قَالَ: فتقول له هذا في وجهه! قَالَ: نعم، قَالَ الرشيد: أدخله، فدخل، فأعاد القول الذي قَالَ له، فقال يحيى بْن عبد الله:
والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو اكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبدا، ولي رحم وقرابة، فلم لا تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفى مئونتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهله بين يديك وتصبر قليلا فقال:

(8/248)


يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قَالَ: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبد الله بْن مصعب إلى الخلاف على هذا- ووضع يده عليه، وأشار إليه- فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين فقال عبد الله: آمين رب العالمين، فقال يحيى بْن عبد الله لعبد الله بْن مصعب: قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بْن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من عندك آمين رب العالمين! وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار، فلما خرج وخرج عبد الله ابن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور، خوفا على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه من السواد- وكان ذلك من عادتي- فبينما أنا أحل عنه منطقته، إذ دخل عليه الغلام، فقال: رسول عبد الله بن مصعب، فقال:
أدخله، فلما دخل قَالَ له: ما وراءك؟ قَالَ: يقول لك مولاي، أنشدك الله ألا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في أثرك، وقال لي: إنما دعاني ليستعين بي على ما جاء به من الإفك، فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله ص، وإن خالفته سعى بي، وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم المكاره، فاذهب إليه، فكل ما قَالَ لك فليكن جوابك له: أخبر أبي، فقد وجهتك

(8/249)


وما آمن عليك، وقد كان قَالَ لي أبي حين انصرفنا- وذاك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه- يعني يحيى- إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وعند الله نحتسب أنفسنا فخرجت مع الرسول، فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قَالَ عبد الله بْن عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب- وكان في درب لا منفذ له- فتح البابين، فإذا النساء قد خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمرا أعجب من هذا! وعطفت دابتي راجعا أركض ركضا لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي، فلما رأوني دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوبا في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه قد مات، قَالَ: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه، فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل فمضينا حتى دخلنا على الرشيد، فلما نظر إلينا قَالَ: يا عباس بْن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار! قَالَ: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين، لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به،

(8/250)


ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقويت به عليك أبدا! وهذا والله من إحدى آفاتك- وأشار إلى الفضل بْن الربيع- والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع منى في زيادة تمرة لباعك بها فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم قَالَ أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسه، واوصل اليه أربعمائة الف دينار
سنه 176

ذكر الفتنة بين اليمانيه والنزارية
وفي هذه السنة، هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام.
ذكر الخبر عن هذه الفتنة:
ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بْن عيسى، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى الرشيد موسى بْن يحيى بْن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بْن علي الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول إسحاق بن حسان الخزيمي:
من مبلغ يحيى ودون لقائه ... زأرات كل خنابس همهام
يا راعي الإسلام غير مفرط ... في لين مغتبط وطيب مشام
تعذى مشاربه وتسقى شربة ... ويبيت بالربوات والأعلام
حتى تنخنخ ضاربا بجرانه ... ورست مراسيه بدار سلام
فلكل ثغر خارس من قلبه ... وشعاع طرف ما يفتر سام

(8/251)


وقال في موسى غير أبي يعقوب:
قد هاجت الشام هيجا ... يشيب رأس وليده
فصب موسى عليها ... بخيله وجنوده
فدانت الشام لما ... اتى نسيج وحيده
هو الجواد الذي ... بذ كل جود بجوده
أعداه جود أبيه ... يحيى وجود جدوده
فجاد موسى بْن يحيى ... بطارف وتليده
ونال موسى ذرى المجد ... وهو حشو مهوده
خصصته بمديحي ... منثوره وقصيده
من البرامك عود ... له فأكرم بعوده
حووا على الشعر طرا ... خفيفه ومديده
وفيها عزل الرشيد الغطريف بْن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بْن مالك بْن الهيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس.
وفيها ولى الرشيد جعفر بْن يحيى بْن خالد بْن برمك مصر، فولاها عمر بْن مهران.

ذكر الخبر عن سبب توليه الرشيد جعفر مصر وتوليه جعفر عمر بن مهران إياها
ذكر محمد بْن عمر أن أحمد بْن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى ابن عيسى عازم على الخلع- وكان على مصر- فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي انظروا لي رجلا، فذكر عمر بْن مهران- وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلا أحول مشوه الوجه، وكان

(8/252)


لباسه لباسا خسيسا، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهما، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلا وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه- فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها.
فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بْن مهران بموسى بْن عيسى، فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بْن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بْن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قَالَ موسى بْن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟
قَالَ: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قَالَ: فأنا أبو حفص، قَالَ: أنت عمر بْن مهران؟
قَالَ: نعم، قَالَ: لعن الله فرعون حين يقول: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ «، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بْن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلاما، فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر، فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية، وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله لا تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قَالَ: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال:
قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند- وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة- فكتب معهم إلى الرشيد: إني دعوت بفلان بْن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج، فلو انى واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بْن فلان وفلان بْن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بْن فلان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب

(8/253)


إلي بوصوله فعل إن شاء الله تعالى.
قال: فلم يلوه احد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فاحضر اهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ، فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها ثم قَالَ: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فادوا إلينا ما لنا، فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل- وكان إذنه إليه.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بْن عبد الملك، فافتتح حصنا.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بْن أبي جعفر المنصور، وحجت معه- فيما ذكر الواقدي- زبيدة زوجة هارون وأخوها معها.

(8/254)


ثم دخلت

سنة سبع وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك عزل الرشيد- فيما ذكر- جعفر بْن يحيى عن مصر وتوليته إياها إسحاق بْن سليمان، وعزله حمزة بْن مالك عن خراسان وتوليته إياها الفضل بْن يحيى، إلى ما كان يليه من الاعمال من الري وسجستان.
وغزا الصائفة فيها عبد الرزاق بْن عبد الحميد التغلبي.
وكان فيها- فيما ذكر الواقدي- ريح وظلمة وحمرة ليلة الأحد لأربع ليال بقين من المحرم، ثم كانت ظلمة ليلة الأربعاء، لليلتين بقيتا من المحرم من هذه السنة، ثم كانت ريح وظلمة شديدة يوم الجمعة لليلة خلت من صفر.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.

(8/255)


ثم دخلت

سنة ثمان وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر، من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بْن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد اليه هرثمة ابن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مددا لإسحاق بْن سليمان، حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان- وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين- فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بْن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحوا من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بْن صالح.
وفيها كان وثوب أهل أفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بْن روح بْن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بْن أعين، فرجعوا إلى الطاعة.
وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على أفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بْن خالد ابن برمك، فوجه إليه يحيى بْن خالد بْن برمك يقطين بْن موسى ومنصور بْن زياد كاتبه، فلم يزل يحيى بْن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والاعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان، وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أمانا من الرشيد، ووصله ورأسه.
وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بْن خالد بْن برمك.
وفيها خرج الوليد بْن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بابراهيم ابن خازم بْن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها الى أرمينية.

(8/256)


ولايه الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها
وفيها شخص الفضل بْن يحيى إلى خراسان واليا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات، وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة، وكان ممتنعا.
وذكر أن الفضل بْن يحيى اتخذ بخراسان جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم، وفي ذلك يقول مروان بْن أبي حفصة:
ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ... عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
حام على ملك قوم عز سهمهم ... من الوراثة في أيديهم سبب
أمست يد لبني ساقي الحجيج بها ... كتائب ما لها في غيرهم أرب
كتائب لبني العباس قد عرفت ... ما ألف الفضل منها العجم والعرب
أثبت خمس مئين في عدادهم ... من الألوف التي أحصت لك الكتب
يقارعون عن القوم الذين هم ... أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا
إن الجواد ابن يحيى الفضل لا ورق ... يبقى على جود كفيه ولا ذهب
ما مر يوم له مذ شد مئزره ... إلا تمول أقوام بما يهب
كم غاية في الندى والبأس أحرزها ... للطالبين مداها دونها تعب
يعطي اللهى حين لا يعطي الجواد ولا ... ينبو إذا سلت الهندية القضب
ولا الرضا والرضا لله غايته ... إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب
قد فاض عرفك حتى ما يعادله ... غيث مغيث ولا بحر له حدب
قال: وكان مروان بْن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:

(8/257)


ألم تر أن الجود من لدن آدم ... تحدر حتى صار في راحة الفضل
إذا ما أبو العباس راحت سماؤه ... فيا لك من هطل ويا لك من وبل
إذا أم طفل راعها جوع طفلها ... دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل
ليحيا بك الإسلام إنك عزه ... وإنك من قوم صغيرهم كهل
وذكر محمد بْن العباس أن الفضل بْن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة قَالَ: وسمعته يقول: اصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم وفيه يقول:
تخيرت للمدح ابن يحيى بْن خالد ... فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا
له عادة أن يبسط العدل والندى ... لمن ساس من قحطان أو من تنزرا
إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل ... له والد يعلو سريرا ومنبرا
يعد ويحيى البرمكي ولا يرى ... لدى الدهر الا قائدا او مومرا
ومدحه سلم الخاسر، فقال:
وكيف تخاف من بؤس بدار ... تكنفها البرامكة البحور
وقوم منهم الفضل بْن يحيى ... نفير ما يوازنه نفير
له يومان: يوم ندى وبأس ... كأن الدهر بينهما أسير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشر ... فهمته وزير أو أمير
وذكر الفضل بْن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بْن جبريل خرج مع الفضل ابن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه قال إبراهيم: فدعاني يوما بعد ما أغفلني حينا، فدخلت عليه، فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله- وكان مضطجعا، فاستوى جالسا- ثم قَالَ: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك، قَالَ: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي

(8/258)


وزادني خمسمائة ألف درهم قَالَ: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتتحها وغنم غنائم كثيرة قَالَ: وحدثني الفضل بْن العباس بْن جبريل- وكان مع عمه إبراهيم- قَالَ: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف ألف، وكان عنده من مال الخراج أربعة آلاف ألف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف ألف في ناحية من الدار.
قَالَ: فلما قعد الفضل بْن يحيى قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئا، وقال له: لم آتك لاسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير.
قَالَ: ولك عندنا مزيد، قَالَ: فلم يأخذ من جميع ذلك إلا سوطا سجزيا، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال:
هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف.
قَالَ: ولما قدم الفضل بْن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف الف وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بْن أبي حفصة، فقال:
حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت ... بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا
وما هجعت حتى رأته عيوننا ... وما زلن حتى آب بالدمع حشدا
لقد صبحتنا خيله ورجاله ... باروع بذ الناس بأسا وسوددا
نفى عن خراسان العدو كما نفى ... ضحى الصبح جلباب الدجي فتعردا
لقد راع من أمسى بمرو مسيره ... إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا
على حين ألقى قفل كل ظلامة ... وأطلق بالعفو الأسير المقيدا

(8/259)


وأفشى بلا من مع العدل فيهم ... أيادي عرف باقيات وعودا
فأذهب روعات المخاوف عنهم ... واصدر باغي الأمن فيهم وأوردا
وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه ... فكان من الآباء أحنى وأعودا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى ... وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا
سما صاعدا بالفضل يحيى وخالد ... إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا
يلين لمن أعطى الخليفة طاعة ... ويسقي دم العاصي الحسام المهندا
أذلت مع الشرك النفاق سيوفه ... وكانت لأهل الدين عزا مؤبدا
وشد القوى من بيعة المصطفى الذي ... على فضله عهد الخليفة قلدا
سمي النبي الفاتح الخاتم الذي ... به الله أعطى كل خير وسددا
أبحت جبال الكابلي ولم تدع ... بهن لنيران الضلالة موقدا
فأطلعتها خيلا وطئن جموعه ... قتيلا ومأسورا وفلا مشردا
وعادت على ابن البرم نعماك بعد ما ... تحوب مخذولا يرى الموت مفردا
وذكر العباس بْن جرير، أن حفص بْن مسلم- وهو أخو رزام بْن مسلم، مولى خالد بْن عبد الله القسري- حدثه أنه قَالَ: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت:
كفى الله بالفضل بْن يحيى بْن خالد ... وجود يديه بخل كل بخيل
قال: فقال لي مروان بْن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن على غرم عشرة آلاف درهم.
وغزا فيها الصائفة معاوية بْن زفر بْن عاصم، وغزا الشاتيه فيها سليمان ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية.
وحج بالناس فيها محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي، وكان على مكة.

(8/260)


ثم دخلت

سنة تسع وسبعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك انصراف الفضل بْن يحيى عن خراسان واستخلافه عليها عمرو بْن شرحبيل.
وفيها ولى الرشيد خراسان منصور بْن يزيد بْن منصور الحميري.
وفيها شرى بخراسان حمزة بْن أترك السجستاني.
وفيها عزل الرشيد محمد بْن خالد بْن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بْن الربيع.
وفيها رجع الوليد بْن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته، وكثر تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بْن مزيد الشيبانى، فراوغه يزيد، ثم لقيه وهو مغتر فوق هيت، فقتله وجماعة كانوا معه، وتفرق الباقون، فقال الشاعر:
وائل بعضها يقتل بعضا ... لا يفل الحديد إلا الحديد
وقالت الفارعة أخت الوليد:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
واعتمر الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، شكرا لله على ما أبلاه في الوليد بْن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة، فأقام بها الى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمشى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيا، ثم انصرف على طريق البصرة.
وأما الواقدي فإنه قَالَ: لما فرغ من عمرته اقام بمكة حتى أقام للناس حجهم.

(8/261)


ثم دخلت

سنة ثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام
فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها.
ذكر الخبر عما صار إليه أمرها:
ذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها، وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بْن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقيك بنفسي، فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بْن محمد بْن المسيب بْن زهير، وعلى حرسه شبيب بْن حميد بْن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم، وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحا ولا فرسا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر:
لقد أوقدت بالشام نيران فتنة ... فهذا أوان الشام تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل برمك ... عليها، خبت شهبانها وشرارها
رماها أمير المؤمنين بجعفر ... وفيه تلاقى صدعها وانجبارها
رماها بميمون النقيبة ماجد ... تراضى به قحطانها ونزارها
تدلت عليهم صخرة برمكية ... دموغ لهام الناكثين انحدارها
غدوت تزجي غابة في رءوسها ... نجوم الثريا والمنايا ثمارها
إذا خفقت راياتها وتجرست ... بها الريح هال السامعين انبهارها
فقولوا لأهل الشام: لا يسلبنكم ... حجاكم طويلات المنى وقصارها

(8/262)


فإن أمير المؤمنين بنفسه ... أتاكم وإلا نفسه فخيارها
هو الملك المأمول للبر والتقى ... وصولاته لا يستطاع خطارها
وزير أمير المؤمنين وسيفه ... وصعدته والحرب تدمى شفارها
ومن تطو أسرار الخليفة دونه ... فعندك مأواها وأنت قرارها
وفيت فلم تغدر لقوم بذمة ... ولم تدن من حال ينالك عارها
طبيب بإحياء الأمور إذا التوت ... من الدهر أعناق، فأنت جبارها
إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له ... ملمات خطب لم ترعه كبارها
لقد نشأت بالشام منك غمامة ... يؤمل جدواها ويخشى دمارها
فطوبى لأهل الشام يا ويل أمها ... أتاها حياها، أو أتاها بوارها
فإن سالموا كانت غمامة نائل ... وغيث، وإلا فالدماء قطارها
أبوك أبو الأملاك يحيى بْن خالد ... أخو الجود والنعمى الكبار صغارها
كأين ترى في البرمكيين من ندى ... ومن سابقات ما يشق غبارها
غدا بنجوم السعد من حل رحله ... إليك، وعزت عصبة أنت جارها
عذيري من الأقدار هل عزماتها ... مخلفتي عن جعفر واقتسارها
فعين الأسى مطروفه لفراقه ... ونفسي اليه ما ينام ادكارها
وولى جعفر بْن يحيى صالح بْن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشام عيسى بْن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكراما فلما قدم على الرشيد دخل عليه- فيما ذكر- فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي أنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني

(8/263)


بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته، فو الله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاص لحقتني وخطايا أحاطت بي، ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين- جعلني الله فداك- لخفت أن يذهب عقلي إشفاقا على قربك، وأسفا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكنى بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترمنى اجل دونك والله يا امير المؤمنين- ولا أعظم من اليمين بالله- لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضا من المقام معك ثم قَالَ له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين- لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع ألفتهم، ويلم شعثهم، حفظا لك فيهم، ورحمة لهم، وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك، والله المحمود على ذلك وهو مستحقه وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشام وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم.
وايم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك والله يا أمير

(8/264)


المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتنى عليه، وو الله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك وما كان الذي كان منى- وان كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي- قاضيا ببعض حقك علي، بل ما ازدادت نعمتك علي عظما، إلا ازددت عن شكرك عجزا وضعفا، وما خلق الله أحدا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلا مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكرى بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له، إذا كان الشكر مقصرا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، واقدر عليه، وان يقضى عنى حقك، وجليل منتك، فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بْن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بْن خالد

(8/265)


وفيها ولى جعفر بْن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بْن قحطبة.
وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدا الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بْن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بْن يحيى، فكانت ولاية جعفر بْن يحيى إياها عشرين ليلة.
وفيها ولى جعفر بْن يحيى الحرس.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطنا.
وفيها عزل هرثمة بْن أعين عن أفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام، فأستخلفه جعفر بْن يحيى على الحرس.
وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية.
4 وفيها حكم خراشة الشيباني وشرى بالجزيرة، فقتله مسلم بْن بكار بْن مسلم العقيلي 4.
وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بْن عيسى بْن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بْن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو.
وفيها عزل الفضل بْن يحيى عن طبرستان والرويان، وولي ذلك عبد الله ابن خازم وعزل الفضل أيضا عن الري، ووليها محمد بْن يحيى بْن الحارث بْن شخير، وولى سعيد بْن سلم الجزيرة.
وغزا الصائفة فيها معاوية بْن زفر بْن عاصم وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفه من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أياما، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بْن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بْن خالد، حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة

(8/266)


لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى بها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحوا من أربعين يوما، فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمدا الأمين، وولاه العراقين.
وحج بالناس في هذه السنة موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن علي.

(8/267)


ثم دخلت

سنة إحدى وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فكان فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوه حصن الصفصاف، فقال مروان بْن أبي حفصة:
أن أمير المؤمنين المصطفى ... قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا
وفيها غزا عبد الملك بْن صالح الروم، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.
وفيها توفي الحسن بْن قحطبة وحمزة بْن مالك.
وفيها غلبت المحمرة على جرجان.
وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد ص وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد، فأقام للناس الحج، ثم صدر معجلا وتخلف عنه يحيى بْن خالد، ثم لحقه بالغمرة فاستعفاه من الولاية فأعفاه، فرد إليه الخاتم، وساله الاذن في المقام فأذن له، فانصرف إلى مكة.

(8/268)


ثم دخلت

سنة اثنتين وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فكان فيها انصراف الرشيد من مكة ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بْن يحيى، ثم توجيهه إياه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته جعفر بْن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بْن صالح، ومن القواد علي بْن عيسى، فبويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون.
وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بْن يحيى، فماتت ببرذعة، وعلى أرمينية يومئذ سعيد بْن سلم بْن قتيبة الباهلى، فرجع من كان فيها من الطراخنة إلى أبيها، فأخبروه أن ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك، وأخذ في الأهبة لحرب المسلمين.
وانصرف فيها يحيى بْن خالد الى مدينه السلام.
وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح، فبلغ دفسوس مدينة أصحاب الكهف.
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بْن اليون، وأقروا أمه ريني، وتلقب أغسطه.
وحج بالناس فيها موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي.

(8/269)


ثم دخلت

سنة ثلاث وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك خروج الخزر بسبب ابنة خاقان من باب الأبواب وإيقاعهم بالمسلمين هنالك وأهل الذمة، وسبيهم- فيما ذكر- أكثر من مائة ألف.
فانتهكوا أمرا عظيما لم يسمع في الإسلام بمثله، فولى الرشيد أرمينية يزيد بْن مزيد مع اذربيجان، وقواه بالجند، ووجهه، وانزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءا لا اهل أرمينية.
وقد قيل في سبب دخول الخزر أرمينية غير هذا القول، وذلك ما ذكره محمد بْن عبد الله، أن أباه حدثه أن سبب دخول الخزر أرمينية في زمان هارون كان أن سعيد بْن سلم ضرب عنق المنجم السلمي بفأس، فدخل ابنه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فدخلوا أرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، ونكحوا المسلمات، وأقاموا فيها- أظن- سبعين يوما، فوجه هارون خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد إلى أرمينية حتى أصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر، وسدت الثلمه.
وفيها كتب الرشيد الى علي بْن عيسى بْن ماهان وهو بخراسان بالمصير إليه، وكان سبب كتابه إليه بذلك، أنه كان حمل عليه، وقيل له: أنه قد أجمع على الخلاف، فاستخلف علي بْن عيسى ابنه يحيى على خراسان، فأقره الرشيد، فوافاه علي، وحمل إليه مالا عظيما، فرده الرشيد إلى خراسان من قبل ابنه المأمون لحرب أبي الخصيب، فرجع.
وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بْن عبد الله النسائي مولى الحريش 4

(8/270)


وفيها مات موسى بْن جعفر بْن محمد ببغداد ومحمد بن السماك القاضي.
وفيها حج بالناس العباس بْن موسى الهادي بْن محمد بْن عبد الله بن محمد ابن على.

(8/271)


ثم دخلت

سنة أربع وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها قدم هارون مدينة السلام في جمادى الآخرة منصرفا إليها من الرقة في الفرات في السفن، فلما صار إليها أخذ الناس بالبقايا.
وولي استخراج ذلك- فيما ذكر- عبد الله بْن الهيثم بْن سام بالحبس والضرب، وولى حماد البربري مكة واليمن، وولى داود بْن يزيد بْن حاتم المهلبي السند، ويحيى الحرشي الجبل، ومهرويه الرازي طبرستان، وقام بأمر إفريقية ابراهيم الأغلب، فولاها إياه الرشيد.
وفيها خرج أبو عمرو الشاري فوجه إليه زهير القصاب فقتله بشهرزور.
وفيها طلب أبو الخصيب الأمان، فأعطاه ذلك علي بْن عيسى، فوافاه بمرو فأكرمه.
وحج بالناس فيها إبراهيم بْن محمد بْن عبد الله بْن محمد بْن علي.

(8/272)


ثم دخلت

سنة خمس وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من قتل أهل طبرستان مهرويه الرازي وهو واليها، فولى الرشيد مكانه عبد الله بْن سعيد الحرشي.
وفيها قتل عبد الرحمن الأبناوي أبان بْن قحطبة الخارجي بمرج القلعة.
وفيها عاث حمزة الشاري بباذغيس من خراسان، فوثب عيسى بن على ابن عيسى على عشرة آلاف من أصحاب حمزة فقتلهم، وبلغ كابل وزابلستان والقندهار، فقال أبو العذافر في ذلك:
كاد عيسى يكون ذا القرنين ... بلغ المشرقين والمغربين
لم يدع كابلا ولا زابلستان ... فما حولها إلى الرخجين
وفيها خرج أبو الخصيب ثانية بنسا، وغلب عليها وعلى أبيورد وطوس ونيسابور، وزحف إلى مرو، فأحاط بها، فهزم، ومضى نحو سرخس، وقوي أمره.
وفيها مات يزيد بْن مزيد ببرذعة، فولى مكانه أسد بْن يزيد.
وفيها مات يقطين بْن موسى ببغداد.
وفيها مات عبد الصمد بْن علي ببغداد في جمادى الآخرة، ولم يكن ثغر قط، فأدخل القبر بأسنان الصبي، وما نقص له سن وشخص فيها الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل.
واستأذنه فيها يحيى بْن خالد في العمرة والجوار، فأذن له، فخرج في

(8/273)


شعبان، واعتمر عمره شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج، ثم حج.
ووقعت في المسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين.
وحج بالناس فيها منصور بْن محمد بْن عبد الله بْن محمد بن علي.

(8/274)


ثم دخلت

سنة ست وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كان خروج علي بْن عيسى بْن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا، فقتله بها، وسبى نساءه وذراريه، واستقامت خراسان.
وفيها حبس الرشيد ثمامة بْن أشرس لوقوفه على كذبه في أمر أحمد بْن عيسى بْن زيد.
وفيها مات جعفر بْن أبي جعفر المنصور عند هرثمة وتوفي العباس بْن محمد ببغداد.

ذكر حج الرشيد ثم كتابته العهد لابنائه
وحج بالناس فيها هارون الرشيد، وكان شخوصه من الرقة للحج في شهر رمضان من هذه السنة، فمر بالأنبار، ولم يدخل مدينة السلام، ولكنه نزل منزلا على شاطئ الفرات يدعى الدارات، بينه وبين مدينة السلام سبعة فراسخ، وخلف بالرقة إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك، وأخرج معه ابنيه: محمدا الأمين وعبد الله المأمون، وليي عهده، فبدأ بالمدينة، فأعطى أهلها ثلاثة أعطية، كانوا يقدمون إليه فيعطيهم عطاء، ثم إلى محمد فيعطيهم عطاء ثانيا، ثم إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثا، ثم صار الى مكة فاعطى أهلها، فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار.
وكان الرشيد عقد لابنه محمد ولاية العهد- فيما ذكر محمد بْن يزيد عن إبراهيم بْن محمد الحجبي- يوم الخميس في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسماه الأمين، وضم إليه الشام والعراق في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم بايع لعبد الله المأمون بالرقة في سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولاه من حد همذان إلى آخر المشرق، فقال في ذلك سلم بْن عمرو الخاسر:

(8/275)


بايع هارون إمام الهدى ... لذي الحجى والخلق الفاضل
المخلف المتلف أمواله ... والضامن الأثقال للحامل
والعالم النافذ في علمه ... والحاكم الفاضل والعادل
والراتق الفاتق حلف الهدى ... والقائل الصادق والفاعل
لخير عباس إذا حصلوا ... والمفضل المجدي على العائل
أبرهم برا وأولاهم ... بالعرف عند الحدث النازل
لمشبه المنصور في ملكه ... إذا تدجت ظلمة الباطل
فتم بالمأمون نور الهدى ... وانكشف الجهل عن الجاهل
وذكر الحسن بْن قريش أن القاسم بن الرشيد، كان في حجر عبد الملك ابن صالح، فلما بايع الرشيد لمحمد والمأمون، كتب إليه عبد الملك بْن صالح:
يأيها الملك الذي ... لو كان نجما كان سعدا
اعقد القاسم بيعة ... واقدح له في الملك زندا
الله فرد واحد ... فاجعل ولاة العهد فردا
فكان ذلك أول ما حض الرشيد على البيعة للقاسم ثم بايع للقاسم ابنه، وسماه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، فقال في ذلك:
حب الخليفة حب لا يدين به ... من كان لله عاص يعمل الفتنا
الله قلد هارونا سياستنا ... لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا
وقلد الارض هارون لرأفته ... بنا أمينا ومأموما ومؤتمنا
قال: ولما قسم الأرض بين أولاده الثلاثة، قَالَ بعض العامة: قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك، فقال بعضهم:

(8/276)


أقول لغمة في النفس مني ... ودمع العين يطرد اطرادا
خذي للهول عدته بحزم ... سنلقى ما سيمنعك الرقادا
فإنك إن بقيت رأيت أمرا ... يطيل لك الكآبة والسهادا
رأى الملك المهذب شر رأى ... بقسمته الخلافة والبلادا
رأى ما لو تعقبه بعلم ... لبيض من مفارقه السوادا
أراد به ليقطع عن بنيه ... خلافهم ويبتذلوا الودادا
فقد غرس العداوة غير آل ... وأورث شمل ألفتهم بدادا
وألقح بينهم حربا عوانا ... وسلس لاجتنابهم القيادا
فويل للرعية عن قليل ... لقد أهدى لها الكرب الشدادا
وألبسها بلاء غير فان ... وألزمها التضعضع والفسادا
ستجري من دمائهم بحور ... زواخر لا يرون لها نفادا
فوزر بلائهم أبدا عليه ... أغيا كان ذلك أم رشادا
قال: وحج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة ست وثمانين ومائة، وخلف بالرقة إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فانزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة أراءهم فيهما، أحدهما على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبد الله من الأعمال، وصير إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد الله على محمد وعليهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام بعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته

(8/277)


ومن كان في الكعبه معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة في حفظهما، ومنع من اراد إخراجهما والذهاب بهما، فذكر عبد الله بْن محمد ومحمد بْن يزيد التميمي وإبراهيم الحجبي، أن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء، وادخلوا البيت الحرام، وامر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يعلق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل إن هذا الأمر سريع انتقاضه قبل تمامه وكانت نسخة الْكِتَابِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بْن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره أن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده، وصير البيعة لي في رقاب المسلمين جميعا، وولى عبد الله بن هارن العهد والخلافه وجميع امور المسلمين بعدي، برضا منى وتسليم، طائعا غير مكره، وولاه خراسان وثغورها وكورها وحربها وجندها وخراجها وطرزها وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعده وشرطت لعبد الله هارون امير المؤمنين برضا مني وطيب نفسي، أن لأخي عبد الله بْن هارون علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين من العهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين جميعا بعدي، وتسليم ذلك له، وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلها، وما اقطعه امير المؤمنين من قطعيه، أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر، أو متاع أو كسوة، أو منزل أو دواب، أو قليل أو كثير، فهو لعبد الله بْن هارون أمير المؤمنين، موفرا مسلما إليه وقد عرفت ذلك كله شيئا شيئا

(8/278)


فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافه الى محمد ابن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هارون أمير المؤمنين في تولية عبد الله ابن هارون أمير المؤمنين خراسان وثغورها ومن ضم إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين، وان يمضى عبد الله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان والري والكور التي سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله بن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره من سلطان أمير المؤمنين وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحب، من لدن الري الى اقصى عمل خراسان فليس لمحمد ابْن أمير المؤمنين أن يحول عنه قائدا ولا مقودا ولا رجلا واحدا ممن ضم اليه من اصحابه الذين ضمهم الى أمير المؤمنين، ولا يحول عبد الله ابْن امير المؤمنين عن ولايته التي ولاه إياها هارون أمير المؤمنين من ثغور خراسان وأعمالها كلها، ما بين عمل الري مما يلى همذان الى أقصى خراسان وثغورها وبلادها، وما هو منسوب إليها، ولا يشخصه إليه، ولا يفرق أحدا من أصحابه وقواده عنه، ولا يولي عليه أحدا، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عماله وولاة أموره بندارا، ولا محاسبا ولا عاملا، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا كبير ضررا، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته وقضاته وعماله وكتابه وقواده وخدمه ومواليه وجنده، بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم في أنفسهم ولا قراباتهم ولا مواليهم، ولا احد بسبيل منهم، ولا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في ضياعهم ودورهم ورباعهم وأمتعتهم ورقيقهم ودوابهم شيئا من ذلك صغيرا ولا كبيرا، ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص له في ذلك وادهان منه فيه لأحد من ولد آدم، ولا يحكم في أمرهم ولا أحد من قضاته ومن عماله وممن كان بسبب منه بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأي قضاته.
وإن نزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته وقواده وعماله وكتابه وخدمه ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله بن أمير المؤمنين عاصيا له أو مخالفا

(8/279)


عليه، فعلى محمد بْن أمير المؤمنين رده إلى عبد الله ابْن أمير المؤمنين بصغر له وقماء حتى ينفذ فيه رأيه وأمره.
فإن أراد محمد بن امير المؤمنين خلع عبد الله ابْن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله بن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، والذي من حد عملها مما يلي همذان والكور التي سماها أمير المؤمنين في كتابه هذا أو صرف أحد من قواده الذين ضمهم أمير المؤمنين إليه ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلا أو كثيرا مما جعله أمير المؤمنين له بوجه من الوجوه، أو بحيلة من الحيل، صغرت أو كبرت، فلعبد الله بْن هارون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدم على محمد ابن امير المؤمنين، وهو ولى الأمر بعد أمير المؤمنين والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هارون من أهل خراسان وأهل العطاء وجميع المسلمين في جميع الأجناد والأمصار لعبد الله ابن أمير المؤمنين، والقيام معه، والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذب عنه، ما كانت الحياة في أبدانهم وليس لأحد منهم جميعا من كانوا، أو حيث كانوا، أن يخالفه ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلع عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين وصرف العهد عنه من بعده إلى غيره، أو ينتقصه شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون في حياته وصحته، واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام في هذا الكتاب وعبد الله ابْن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حل من البيعة التي في أعناقكم لمحمد ابْن أمير المؤمنين هارون إن نقص شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون، وعلى محمد بْن هارون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابْن أمير المؤمنين هارون ويسلم له الخلافة.
وليس لمحمد ابن امير المؤمنين هارون ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن يخلعا القاسم ابْن أمير المؤمنين هارون، ولا يقدما عليه أحدا من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البرية، فإذا افضت الخلافه الى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه في إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، او صرف

(8/280)


ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، وتصيير القاسم ابن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب ورأى.
فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين في كتابه هذا، وشرط عليهم وأمر به، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله ابْن أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمه رسوله ص وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التي أخذ الله على الملائكة المقربين والنبيين والمرسلين، ووكدها في أعناق المؤمنين والمسلمين، لتفن لعبد الله أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى وكتب في كتابه هذا، واشترط عليكم وأقررتم به على أنفسكم، فإن أنتم بدلتم من ذلك شيئا، أو غيرتم، أو نكثتم، أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين، واشترط عليكم في كتابه هذا، فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله محمد ص وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة خمسين حجة، نذرا واجبا لا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك، وكل مملوك لآحد منكم- أو يملكه فيما يستقبل إلى خمسين سنة- حر، وكل امرأة له فهي طالق ثلاثا البتة طلاق الحرج، لا مثنوية فيها والله عليكم بذلك كفيل وراع، وكفى بالله حسيبا
. نسخة الشرط الذي كتب عبد الله ابن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نية فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بْن هارون، وولاني في حياته ثغور خراسان وكورها وجميع أعمالها، وشرط على محمد بْن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة

(8/281)


وولاية أمور العباد والبلاد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني امير المؤمنين، او ابتاع لي من الضياع والعقد والرباع او ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة، ولا يتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أبدا، ولا يدخل علي ولا عليهم ولا على من كان معي ومن استعنت به من جميع الناس مكروها، في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال، ولا صغير من الأمور ولا كبير.
فأجابه إلى ذلك، وأقر به وكتب له كتابا، أكد فيه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله، وعرف صدق نيته فيه فشرطت لأمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد وأطيع ولا أعصيه، وأنصحه ولا اغشه، واوفى بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن موازرته وجهاد عدوه في ناحيتي، ما وفى لي بما شرط لأمير المؤمنين في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين، ولم يتبعني بشيء من ذلك، ولم ينقض أمرا من الأمور التي شرطها امير المؤمنين لي عليه.
فان احتاج محمد بن امير المؤمنين الى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو إلى عدو من أعدائه، خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين إلينا وولانا إياه، فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي وإن أراد محمد أن يولي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي، فذلك له ما وفى لي بما جعله أمير المؤمنين إلي واشترطه لي عليه، وشرط على نفسه في أمري، وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له به، ولا أنقص من ذلك ولا أغيره ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحدا من ولدي، ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين، إلا أن يولي أمير المؤمنين هارون أحدا من ولده العهد من بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء له وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد علي الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفي لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في هذا

(8/282)


الكتاب الذي كتبه لي، وعلي عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، ونهى عن نقضها وتبديلها، فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت وسميت في كتابي هذا أو غيرت أو بدلت، أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله عز وجل ومن ولايته ودينه، ومحمد رسول الله ص، ولقيت الله يوم القيامة كافرا مشركا، وكل امرأه هي لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا ألبتة طلاق الحرج، وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة، نذرا واجبا علي في عنقي حافيا راجلا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لأمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لا أضمر غيره، ولا أنوي غيره.
وشهد سليمان بْن أمير المؤمنين وفلان وفلان وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة.

نسخة كتاب هارون بْن محمد الرشيد إلى العمال
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الله ولي أمير المؤمنين وولي ما ولاه، والحافظ لما استرعاه وأكرمه به من خلافته وسلطانه، والصانع له فيما قدم وأخر من أموره، والمنعم عليه بالنصر والتأييد في مشارق الأرض ومغاربها، والكالئ والحافظ والكافي من جميع خلقه، وهو المحمود على جميع آلائه، المسؤول تمام حسن ما أمضى من قضائه لأمير المؤمنين، وعادته الجميلة عنده، وإلهام ما يرضى به، ويوجب له عليه أحسن المزيد من فضله وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوام المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابني أمير المؤمنين، من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة، ومدت إليه أعناقها، وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة والمودة والسكون إليهما

(8/283)


والثقة بهما، لعماد دينهم، وقوام أمورهم، وجمع ألفتهم، وصلاح دهمائهم، ودفع المحذور والمكروه من الشتات والفرقة عنهم، حتى ألقوا إليهما أزمتهم، وأعطوهما بيعتهم وصفقات أيمانهم، بالعهود والمواثيق ووكيد الأيمان المغلظة عليهم أراد الله فلم يكن له مرد، وأمضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته، ولا صرف له عن محبته ومشيئته، وما سبق في علمه منه وأمير المؤمنين يرجو تمام النعمة عليه وعليهما في ذلك وعلى الأمة كافة، لا عاقب لأمر الله ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عقد العهد لمحمد ابْن أمير المؤمنين من بعد أمير المؤمنين ولعبد الله ابْن أمير المؤمنين من بعد محمد ابْن أمير المؤمنين، يعمل فكره ورأيه ونظره ورويته فيما فيه الصلاح لهما ولجميع الرعية والجمع للكلمة، واللم للشعث، والدفع للشتات والفرقة، والحسم لكيد أعداء النعم، من أهل الكفر والنفاق والغل والشقاق، والقطع لآمالهم من كل فرصة يرجون إدراكها وانتهازها منهما بانتقاص حقهما ويستخير الله أمير المؤمنين في ذلك، ويسأله العزيمة له على ما فيه الخيرة لهما ولجميع الأمة، والقوة في أمر الله وحقه وائتلاف أهوائهما، وصلاح ذات بينهما، وتحصينهما من كيد أعداء النعم، ورد حسدهم ومكرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد بينهما فعزم الله لأمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله، وأخذ البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والإنفاذ لأمره، واكتتاب الشرط على كل واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود، وأغلظ الأيمان والتوكيد، والأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع ألفتهما ومودتهما وتواصلهما وموازرتهما ومكانفتهما على حسن النظر لأنفسهما ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما، والجماعة لدين الله عز وجل وكتابه وسنن نبيه ص، والجهاد لعدو المسلمين، من كانوا وحيث كانوا، وقطع طمع كل عدو مظهر للعداوة، ومسر لها، وكل منافق

(8/284)


ومارق، واهل الأهواء الضالة المضلة من تكيد بكيد توقعه بينهما، وبدحس يدحس به لهما، وما يلتمس أعداء الله وأعداء النعم وأعداء دينه من الضرب بين الأمة، والسعي بالفساد في الأرض، والدعاء إلى البدع والضلالة، نظرا من أمير المؤمنين لدينه ورعيته وأمة نبيه محمد ص ومناصحة لله ولجميع المسلمين، وذبا عن سلطان الله الذي قدره، وتوحد فيه للذي حمله إياه، والاجتهاد في كل ما فيه قربة إلى الله، وما ينال به رضوانه، والوسيلة عنده.
فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك، وما نظر فيه لهما، فقبلا كل ما دعاهما إليه من التوكيد على أنفسهما بقبوله، وكتبا لأمير المؤمنين في بطن بيت الله الحرام بخطوط أيديهما، بمحضر ممن شهد الموسم من أهل بيت أمير المؤمنين وقواده وصحابته وقضاته وحجبة الكعبة وشهاداتهم عليهما كتابين استودعهما أمير المؤمنين الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة.
فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله في داخل بيت الله الحرام وبطن الكعبة، أمر قضاته الذين شهدوا عليهما، وحضروا كتابهما، أن يعلموا جميع من حضر الموسم من الحاج والعمار ووفود الأمصار ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابهما، وقراءة ذلك عليهم ليفهموه ويعوه، ويعرفوه ويحفظوه، ويؤدوه إلى إخوانهم وأهل بلدانهم وأمصارهم، ففعلوا ذلك، وقرئ عليهم الشرطان جميعا في المسجد الحرام، فانصرفوا وقد اشتهر ذلك عندهم، وأثبتوا الشهادة عليه، وعرفوا نظر أمير المؤمنين وعنايته بصلاحهم وحقن دمائهم، ولم شعثهم وإطفاء جمرة أعداء الله، أعداء دينه وكتابه وجماعة المسلمين عنهم، وأظهروا الدعاء لأمير المؤمنين والشكر لما كان منه في ذلك.
وقد نسخ لك أمير المؤمنين ذينك الشرطين اللذين كتبهما لأمير المؤمنين ابناه محمد وعبد الله في بطن الكعبة في أسفل كتابه، هذا فاحمد الله عز

(8/285)


وجل على ما صنع لمحمد وعبد الله وليي عهد المسلمين حمدا كثيرا، واشكره ببلائه عند أمير المؤمنين وعند وليي عهد المسلمين وعندك وعند جماعه أمه محمد ص كثيرا.
واقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلك من المسلمين، وأفهمهم إياه وقم به بينهم، وأثبته في الديوان قبلك وقبل قواد أمير المؤمنين ورعيته قبلك واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله وحسبنا الله ونعم الوكيل وبه الحول والقوة والطول.
وكتب إسماعيل بْن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة.
قَالَ: وأمر هارون الرشيد لعبد الله المأمون بمائة ألف دينار، وحملت له إلى بغداد من الرقة.
قَالَ وكان الرشيد بعد مقتل جعفر بْن يحيى بالعمر، صار إلى الرقة، ثم قدم بغداد، وقد كانت توالت عليه الشكاية من علي بْن عيسى بْن ماهان من خراسان وكثر عليه القول عنده، فأجمع على عزله من خراسان، وأحب أن يكون قريبا منه فلما صار إلى بغداد شخص بعد مدة منها إلى قرماسين، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة، وأشخص إليها عدة رجال من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سواه اجمع لعبد الله المأمون، وانه ليس فيه قليل ولا كثير بوجه ولا سبب، وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بْن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بْن هارون أمير المؤمنين وعلى من كان بحضرته لعبد الله والقاسم على النسخة التي كان أخذها عليه الرشيد بمكة، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله إذا أفضت إليه الخلافة، فقال:
إبراهيم الموصلي في بيعة هارون لابنيه في الكعبة:
خير الأمور مغبة ... وأحق أمر بالتمام
أمر قضى إحكامه الرحمان ... في البيت الحرام.

(8/286)


ثم دخلت

سنة سبع وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن إيقاع الرشيد بالبرامكة
فمما كان فيها من ذلك قتل الرشيد جعفر بْن يحيى بْن خالد وإيقاعه بالبرامكة.
ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف كان قتله وما فعل به وبأهل بيته:
أما سبب غضبه عليه الذي قتله عنده، فإنه مختلف فيه، فمن ذلك ما ذكر عن بختيشوع بْن جبريل، عن أبيه أنه قَالَ: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحيى بْن خالد- وكان فيما مضى يدخل بلا إذن- فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم رد عليه ردا ضعيفا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير.
قَالَ: ثم أقبل علي الرشيد، فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك! فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك قَالَ: فما بالنا يدخل علينا بلا إذن! فقام يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري، حتى أن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردا حينا، وحينا في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن، أو الثالثة إن أمرني سيدي بذلك قال: فاستحيا- قَالَ: وكان من أرق الخلفاء وجها- وعيناه في الأرض، ما يرفع إليه طرفه، ثم قَالَ: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يقولون قَالَ: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه فأجاب بهذا القول

(8/287)


ثم أمسك عنه، وخرج يحيى.
وذكر عن أحمد بْن يوسف أن ثمامة بْن أشرس، قَالَ: أول ما أنكر يحيى بْن خالد من أمره، أن محمد بْن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بْن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إني استكفيت يحيى أمور عبادك! أتراك تحتج بحجة يرضى بها! مع كلام فيه توبيخ وتقريع فدعا الرشيد يحيى- وقد تقدم إليه خبر الرسالة- فقال: تعرف محمد بْن الليث؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأي الرجال هو؟ قَالَ: متهم على الإسلام، فأمر به فوضع في المطبق دهرا، فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين، قَالَ:
تقول هذا! قَالَ: نعم، وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك! قَالَ: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قَالَ: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي، فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: أما الآن فنعم، قد أنعمت علي، وأحسنت إلي قَالَ:
انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك قَالَ: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم.
قَالَ: وحدثني محمد بْن الفضل بْن سفيان، مولى سليمان بْن أبي جعفر، قَالَ: دخل يحيى بْن خالد بعد ذلك على الرشيد، فقام الغلمان إليه، فقال الرشيد لمسرور الخادم: مر الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار قَالَ:
فدخل فلم يقم إليه أحد، فاربد لونه قَالَ: وكان الغلمان والحجاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه قَالَ: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلا يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعو بها مرارا

(8/288)


وذكر أبو محمد اليزيدي- وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم- قَالَ: من قَالَ إن الرشيد قتل جعفر بْن يحيى بغير سبب يحيى ابن عبد الله ابن حسن فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قَالَ: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد ص، فو الله ما أحدثت حدثا، ولا أويت محدثا فرق عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله قَالَ: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك! فوجه معه من أداه إلى مأمنه وبلغ الخبر الفضل بْن الربيع، من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر، فوجده حقا، وانكشف عنده، فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال:
وما أنت وهذا لا أم لك! فلعل ذلك عن أمري، فانكسر الفضل، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما إن قَالَ: ما فعل يحيى بْن عبد الله؟ قَالَ: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال قال: بحياتى! فاحجم جعفر- وكان من أدق الخلق ذهنا، وأصحهم فكرا- وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده قَالَ: نعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد أن يتوارى عن وجهه، ثم قَالَ: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة ان لم أقتلك! فكان من أمره ما كان.
وحدث إدريس بْن بدر، قَالَ: عرض رجل للرشيد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فادع بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسله عن نصيحته هذه، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمة الرشيد بقوله، قَالَ: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قَالَ: فلما كان في الهاجرة انصرف من كان عنده، ودعا به، فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان،

(8/289)


فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه، فنظر إليهما الرجل، فقال الرشيد:
تنحيا عني، ففعلا، ثم أقبل على الرجل، فقال: هات ما عندك، فقال:
على أن تؤمنني! قَالَ: على ان اؤمنك وأحسن إليك قَالَ: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بْن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه بصدد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم من أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن به إن عرض له قَالَ: أو تعرف يحيى ابن عبد الله؟ قَالَ: أعرفه قديما، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس، قَالَ: فصفه لي، قَالَ: مربوع أسمر رقيق السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن قَالَ: صدقت، هو ذاك قَالَ: فما سمعته يقول؟ قَالَ:
ما سمعته يقول شيئا، غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلاما من غلمانه أعرفه قديما جالسا على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل، فألقاه في عنقه ونزع جبة الصوف، فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، وانا ارمقه، اطال في الاوليين، وخفف في الأخريين، فقال: لله أبوك! لجاد ما حفظت عليه، نعم تلك صلاه العصر، وذاك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك! فمن أنت؟ قَالَ: أنا رجل من أعقاب أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام، قَالَ: فمنزلك بها؟ قَالَ: نعم، فأطرق مليا، ثم قَالَ: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي! قَالَ: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى ارجع فطفر في حجره كانت خلف ظهره، فأخرج كيسا فيه ألفا دينار، فقال: خذ هذه، ودعني وما أدبر فيك، فأخذها، وضم عليها ثيابه، ثم قَالَ: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحوا من مائة صفعة، ثم قَالَ: أخرجاه إلى من بقي في الدار، وعمامته في عنقه، وقولا: هذا جزاء من يسعى بباطنة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا ذلك، وتحدثوا بخبره، ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما

(8/290)


كان ألقى إلى الرشيد، حتى كان من أمر البرامكة ما كان.
وذكر يعقوب بْن إسحاق أن إبراهيم بْن المهدي حدثه قَالَ: أتيت جعفر بْن يحيى في داره التي ابتناها، فقال لي: أما تعجب من منصور بن زياد؟ قال: قلت فبماذا؟ قَالَ: سألته: هل ترى في داري عيبا؟ قَالَ:
نعم، ليس فيها لبنة ولا صنوبرة، قَالَ إبراهيم: فقلت: الذي يعيبها عندي أنك أنفقت عليها نحوا من عشرين ألف ألف درهم، وهو شيء لا آمنه عليك غدا بين يدي أمير المؤمنين، قَالَ: هو يعلم أنه قد وصلني بأكثر من ذلك وضعف ذلك، سوى ما عرضني له قَالَ: قلت: إن العدو إنما يأتيه في هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف درهم، فأين نفقاته! وأين صلاته! وأين النوائب التي تنوبه! وما ظنك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك! وهذه جملة سريعة إلى القلب، والموقف على الحاصل منها صعب قَالَ: إن سمع مني قلت: إن لأمير المؤمنين نعما على قوم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها، وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي، فوضعتها في رأس جبل، ثم قلت للناس: تعالوا فانظروا وذكر زيد بْن علي بْن حسين بْن زيد أن إبراهيم بْن المهدي حدثه أن جعفر بْن يحيى، قَالَ له يوما- وكان جعفر بْن يحيى صاحبه عند الرشيد، وهو الذي قربه منه: إني قد استربت بأمر هذا الرجل- يعني الرشيد- وقد ظننت أن ذلك لسابق سبق في نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت، فارمق ذلك في يومك هذا، وأعلمني ما ترى منه قَالَ:
ففعلت ذلك في يومي، فلما نهض الرشيد من مجلسه كنت أول أصحابه نهض عنه، حتى صرت إلى شجر في طريقي، فدخلتها ومن معي، وأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرون بي واحدا واحدا، فأراهم ولا يروني، حتى إذا لم

(8/291)


يبق منهم أحد، إذا أنا بجعفر قد طلع، فلما جاوز الشجر قَالَ: اخرج يا حبيبي، قَالَ: فخرجت، فقال: ما عندك؟ فقلت: حتى تعلمني كيف علمت أني هاهنا، قَالَ: عرفت عنايتك بما أعني به، وأنك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه، وعلمت أنك تكره أن ترى واقفا في مثل هذا الوقت، وليس في طريقك موضع أستر من هذا الموضع، فقضيت بأنك فيه، قلت: نعم، قَالَ: فهات ما عندك، قلت: رأيت الرجل يهزل إذا جددت، ويجد إذا هزلت قَالَ: كذا هو عندي، فانصرف يا حبيبي.
قَالَ: فانصرفت.
قَالَ: وحدثني علي بْن سليمان أنه سمع جعفر بْن يحيى يوما يقول: ليس لدارنا هذه عيب، إلا أن صاحبها فيها قليل البقاء- يعني نفسه.
وذكر عن موسى بْن يحيى، قَالَ: خرج أبي إلى الطواف في السنة التي أصيب فيها، وأنا معه من بين ولده، فجعل يتعلق بأستار الكعبة، ويردد الدعاء، ويقول: اللهم ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، ولا يعرفها سواك اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا، وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري، ومالي وولدي، حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة.
قَالَ: وحدثني أحمد بْن الحسن بْن حرب، قَالَ: رأيت يحيى وقد قابل البيت، وتعلق بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي فاسلبني، اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، اللهم إلا الفضل قَالَ: ثم ولى ليمضي، فلما قرب من باب المسجد كر مسرعا، ففعل مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يرغب إليك ثم يستثنى عليك اللهم والفضل قَالَ: فلما انصرفوا من الحج نزلوا الأنبار، ونزل الرشيد بالعمر ومعه وليا العهد، الأمين والمأمون، ونزل الفضل مع الأمين، وجعفر مع المأمون، ويحيى في منزل خالد بْن عيسى كاتبه، ومحمد بْن

(8/292)


يحيى في منزل ابن نوح صاحب الطراز، ونزل محمد بْن خالد مع المأمون بالعمر مع الرشيد، قَالَ: وخلا الرشيد بالفضل ليلا، ثم خلع عليه وقلده، وأمره أن ينصرف مع محمد الأمين، ودعا بموسى بْن يحيى فرضي عنه وكان غضب عليه بالحيرة في بدأته، لأن علي بْن عيسى بْن ماهان اتهمه عند الرشيد في أمر خراسان وأعلمه طاعة أهلها له، ومحبتهم إياه، وأنه يكاتبهم ويعمل على الانسلال إليهم والوثوب به معهم، فوقر ذلك في نفس الرشيد عليه وأوحشه منه، وكان موسى أحد الفرسان الشجعان، فلما قدح علي بْن عيسى فيه أسرع ذلك في الرشيد، وعمل فيه القليل منه، ثم ركب موسى دين، واختفى من غرمائه، فتوهم الرشيد أنه صار إلى خراسان، كما قيل له، فلما صار الى الحيرة في هذه الحجة وافاه موسى من بغداد، فحبسه الرشيد عند العباس بْن موسى بالكوفة، فكان ذلك أول ثلمة ثلموا بها، فركبت أم الفضل بْن يحيى في أمره، ولم يكن يردها في شيء، فقال: يضمنه أبوه فقد رفع إلي فيه، فضمنه يحيى ودفعه إليه، ثم رضي عنه، وخلع عليه، وكان الرشيد قد عتب على الفضل ابن يحيى، وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه، فكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتى ما شربته، وكان مشغوفا بالسماع قَالَ:
وكان جعفر يدخل في منادمة الرشيد، حتى كان أبوه ينهاه عن منادمته، ويأمره بترك الإنس به، فيترك أمر أبيه، ويدخل معه فيما يدعوه إليه وذكر عن سعيد بْن هريم أن يحيى كتب إلى جعفر حين أعيته حيلته فيه: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة تعرف بها أمرك، وإن كنت لأخشى أن تكون التي لا شوى لها قَالَ: وقد كان يحيى قَالَ للرشيد:
يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك، ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك على منك، فلو اعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك، كان ذلك واقعا بموافقتي، وآمن لك علي قَالَ الرشيد: يا أبت ليس بك هذا، ولكنك إنما تريد أن تقدم عليه الفضل

(8/293)


وقد حدثني أحمد بْن زهير- أحسبه عن عمه زاهر بْن حرب- أن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها إذا احضرتها مجلسى، وتقدم اليه ألا يمسها، ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلاما، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستورا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه، ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه، فلما حج هارون هذه الحجة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد- فيما زعم- قتل الصبي، ثم تحوب من ذلك.
وكان جعفر يتخذ للرشيد طعاما كلما حج بعسفان فيقريه إذا انصرف شاخصا من مكة إلى العراق، فلما كان في هذا العام، اتخذ الطعام جعفر كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد، ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار، فكان من أمره وأمر أبيه ما أنا ذاكره إن شاء الله تعالى.

ذكر الخبر عن مقتل جعفر
ذكر الفضل بْن سليمان بْن علي أن الرشيد حج في سنة ست وثمانين ومائة

(8/294)


وأنه انصرف من مكة، فوافى الحيرة في المحرم من سنة سبع وثمانين ومائة عند انصرافه من الحج، فأقام في قصر عون العبادي أياما، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت لانسلاخ المحرم، أرسل مسرورا الخادم ومعه حماد بْن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بْن يحيى ليلا، ودخل عليه مسرور وعنده ابن بختيشوع المتطبب وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في لهوه، فأخرجه إخراجا عنيفا يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بأخذه إياه ومجيئه به، فأمر بضرب عنقه، ففعل ذلك.
وذكر عن علي بْن أبي سعيد أن مسرورا الخادم، حدثه قَالَ: أرسلني الرشيد لآتيه بجعفر بْن يحيى لما أراد قتله، فأتيته وعنده أبو زكار الأعمى المغني وهو يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
قَالَ: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين قَالَ: فرفع يديه، ووقع على رجلي يقبلهما، وقال:
حتى أدخل فأوصي، قلت:: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت، فتقدم في وصيته بما أراد، وأعتق مماليكه، ثم أتتني رسل أمير المؤمنين تستحثني به، قَالَ: فمضيت به إليه فأعلمته، فقال لي وهو في فراشه:
ائتني برأسه، فأتيت جعفرا فأخبرته، فقال: يا أبا هاشم، الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران، فدافع بأمري حتى أصبح أؤامره في ثانيه، فعدت لأؤامره، فلما سمع حسي، قَالَ: يا ماص بظر أمه، ائتنى برأس جعفر! فعدت الى جعفر، فأخبرته، فقال: عاوده في ثالثة، فأتيته، فحذفني بعمود ثم قَالَ: نفيت من المهدي إن أنت جئتني ولم تأتني برأسه، لأرسلن إليك من يأتيني برأسك أولا، ثم برأسه آخرا قَالَ: فخرجت فأتيته برأسه

(8/295)


قَالَ: وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بْن خالد وجميع ولده ومواليه، ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضرا، وحول الفضل بْن يحيى ليلا فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى ابن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلته رجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم، وأخذ كل ما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وولاه أمورهم، وفرق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، وأخذ وكلائهم.
فلما أصبح بعث بجثة جعفر بْن يحيى مع شعبة الخفتاني وهرثمة بْن أعين وإبراهيم بْن حميد المروروذي، وأتبعهم عدة من خدمه وثقاته، منهم مسرور الخادم إلى منزل جعفر بْن يحيى، وإبراهيم بْن حميد وحسين الخادم إلى منزل الفضل بْن يحيى، ويحيى بْن عبد الرحمن ورشيد الخادم إلى منزل يحيى ومحمد ابن يحيى، وجعل معه هرثمة بْن أعين، وأمر بقبض جميع ما لهم، وكتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جيفة جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته، وصلب كل قطعة منها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل ففعل السندي ذلك، وأمضى الخدم ما كانوا وجهوا فيه، وحمل عدة من أولاد الفضل وجعفر ومحمد الأصاغر إلى الرشيد، فأمر بإطلاقهم، وأمر بالنداء في جميع البرامكة: ألا أمان لمن آواهم إلا محمد بْن خالد وولده وأهله وحشمه، فإنه استثناهم، لما ظهر من نصيحة محمد له، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه من العمر، ووكل بالفضل ومحمد وموسى بني يحيى، وبأبي المهدي صهرهم حفظة من قبل هرثمة بْن أعين، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بْن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك، ثم صلب وحبس يحيى بْن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بْن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة

(8/296)


من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بْن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم.
وذكر الزبير بن بكار أن جعفر بْن الحسين اللهبي حدثه أن الرشيد اتى بانس ابن أبي شيخ صبح الليلة التي قتل فيها جعفر بْن يحيى، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج الرشيد سيفا من تحت فراشه، وأمر أن تضرب عنقه، وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك:
تلمظ السيف من شوق إلى أنس ... فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر
قال: فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله ابن مصعب وقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بْن العوام.
وذكر بعضهم أن عبد الله بْن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة وذكر محمد بْن إسحاق أن جعفر بْن محمد بْن حكيم الكوفي، حدثه قَالَ: حدثني السندي بن شاهك، قَالَ: إني لجالس يوما، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتابا صغيرا، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعدا فقم، وإن كنت قائما فلا تقعد حتى تصير إلي قَالَ السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت وكان الرشيد بالعمر، فحدثني العباس بْن الفضل بْن الربيع، قَالَ: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي:
يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين،

(8/297)


ما اشبهه ان يكون هو قَالَ: فطلعت قَالَ: السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بْن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قَالَ للعباس: اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيم أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قَالَ: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟
قلت: هرثمة، قَالَ: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قَالَ: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج- خلا باب محمد بْن خالد- حتى يأتيك أمري قَالَ: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت قَالَ السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به قَالَ: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة ابن أعين، ومعه جعفر بْن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين، وأن أصلبه على ثلاثة جسور.
قَالَ: ففعلت ما أمرني به.
قَالَ محمد بْن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوبا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بْن خازم، دعا بالوليد بْن جشم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بْن الجنيد الختلي- وكان سيافه- فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال:
ينبغي أن يحرق هذا- يعني جعفرا- فلما مضى، جمع السندي له شوكا وحطبا وأحرقه

(8/298)


وقال محمد بْن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بْن يحيى، قيل ليحيى بْن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفرا، قَالَ: كذلك يقتل ابنه، قَالَ:
فقيل له: خربت ديارك، قَالَ: كذلك تخرب دورهم وذكر الكرماني أن بشارا التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفرا في آخره، فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر ابن يحيى معه قد خلا به دون ولاة العهد، وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه، وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه، ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني على الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضا واطرب، لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له:
بحياتي لما شربت، فانصرف عنه إلى منزله، فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعه تأتيه بالانفال والأبخرة والرياحين، حتى ذهب الليل ثم بعث إليه مسرورا فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلاما الأبرش بباب يحيى بْن خالد، ولم يعرض لمحمد بْن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه.
قَالَ: فحدثني العباس بْن بزيع عن سلام، قَالَ: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت- وقد هتكت الستور وجمع المتاع- قَالَ لي: يا أبا سلمة، هكذا تقوم الساعة! قَالَ سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه، فأطرق مفكرا.
قَالَ وحدثني أيوب بْن هارون بْن سليمان بْن علي، قَالَ: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى

(8/299)


أبي صالح يحيى بْن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بْن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم قَالَ: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي:
أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما ربك بظلام للعبيد وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد.
قَالَ: وقتل جعفر بْن يحيى في ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة- وفي ذلك يقول الرقاشي:
أيا سبت يا شر السبوت صبيحة ... ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما
أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا ... وفي صفر جاء البلاء مصمما
قَالَ: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفرا سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم اقتله.

ما قيل في البرامكه من الشعر بعد زوال امرهم
قَالَ: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس:
ألآن استرحنا واستراحت ركابنا ... وامسك من يجدي ومن كان يجتدى
فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضل تعطلى ... وقل للرزايا كل يوم تجددى
ودونك سيفا برمكيا مهندا ... أصيب بسيف هاشمي مهند
وفيهم يقول في شعر له طويل:
إن يغدر الزمن الخئون بنا فقد ... غدر الزمان بجعفر ومحمد
حتى إذا وضح النهار تكشفت ... عن قتل اكرم هالك لم يلحد

(8/300)


والبيض لولا أنها مأمورة ... ما فل حد مهند بمهند
يا آل برمك كم لكم من نائل ... وندى، كعد الرمل غير مصرد
إن الخليفة- لا يشك- أخوكم ... لكنه في برمك لم يولد
نازعتموه رضاع أكرم حرة ... مخلوقة من جوهر وزبرجد
ملك له كانت يد فياضة ... أبدا تجود بطارف وبمتلد
كانت يدا للجود حتى غلها ... قدر فأضحى الجود مغلول اليد
وفيهم يقول سيف بْن إبراهيم:
هوت أنجم الجدوى وشلت يد الندى ... وغاضت بحور الجود بعد البرامك
هوت أنجم كانت لأبناء برمك ... بها يعرف الحادي طريق المسالك
وقال ابن أبي كريمة:
كل معير أعير مرتبة ... بعد فتى برمك على غرر
صالت عليه من الزمان يد ... كان بها صائلا على البشر
وقال العطوي أبو عبد الرحمن:
أما والله لولا قول واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
على الدنيا وساكنها جميعا ... ودولة آل برمك السلام
وفي قتل جعفر قَالَ أبو العتاهية:
قولا لمن يرتجي الحياة أما ... في جعفر عبره ويحياه!
كانا وزيرى خليفة الله ... هارون هما ما هما خليلاه
فذاكم جعفر برمته ... في حالق رأسه ونصفاه

(8/301)


والشيخ يحيى الوزير أصبح ... قد نحاه عن نفسه وأقصاه
شتت بعد التجميع شملهم ... فأصبحوا في البلاد قد تاهوا
كذاك من يسخط الإله بما ... يرضي به العبد يجزه الله
سبحان من دانت الملوك له ... أشهد أن لا إله إلا هو
طوبى لمن تاب بعد غرته ... فتاب قبل الممات، طوباه!
قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجه الرشيد محمد بْن منصور بْن زياد فأصلح بينهم.
وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعه الليل.
4 وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بْن سعيد العقيلي.
وفيها مات يعقوب بْن داود بالرقة.
وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قربانا له ووسيله، وولاه العواصم.

ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بْن صالح
وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بْن صالح وحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه:
ذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل أن عبد الملك بْن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن، كان من رجال الناس، وكان عبد الملك يكنى به، وكان لابنه عبد الرحمن لسان، على فأفأة فيه، فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة، فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بْن الربيع، فذكر أن عبد الملك بْن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه، فقال له الرشيد: أكفرا بالنعمة، وجحودا لجليل المنة

(8/302)


والتكرمة! فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذا بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله ص في امته، وامينه على عترته، لك فيها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها والتثبت في حادثها، والغفران لذنوبها فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك! هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك، وفساد نيتك، فاسمع كلامه.
فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده، ولعله لا يقدر أن يعضهني ولا يبهتني بما لم يعرفه مني وأحضر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قَالَ: أقول: إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك، فقال عبد الملك: أهو كذاك يا قمامة! قَالَ قمامة: نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي! فقال له الرشيد: وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك، ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك، فبم تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك بْن صالح: هو مأمور، أو عاق مجبور، فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقا ففاجر كفور، أخبر الله عز وجل بعداوته، وحذر منه بقوله: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» .
قَالَ: فنهض الرشيد، وهو يقول: أما أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله فيك، فإنه الحكم بيني وبينك فقال عبد الملك: رضيت بالله حكما، وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه.
قَالَ: فلما كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر، فسلم لما دخل، فلم يرد عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يوما أحتج فيه، ولا أجاذب منازعا

(8/303)


وخصما قال: ولم؟ قال: لان أوله جرى على غير السنة، فأنا أخاف آخره.
قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: لم ترد علي السلام، أنصف نصفة العوام قَالَ:
السلام عليكم، اقتداء بالسنة، وإيثارا للعدل، واستعمالا للتحية ثم التفت نحو سليمان بْن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:
أريد حياته ويريد قتلي البيت.
ثم قَالَ: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أورى نارا تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم، فمهلا، فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل فقال عبد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وفي رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلا.
فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه، بعد ان بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق قمته، كنت كما قَالَ أخو بني جعفر بْن كلاب:
ومقام ضيق فرجته ... ببناني ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامى وزحل

(8/304)


قال: فقال له الرشيد: أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك.
وذكر زيد بْن علي بْن الحسين العلوي، قَالَ: لما حبس الرشيد عبد الملك ابن صالح، دخل عليه عبد الله بْن مالك- وهو يومئذ على شرطه- فقال: أفي إذن أنا فأتكلم؟ قَالَ: تكلم، قَالَ: لا، والله العظيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحا، فعلام حبسته! قَالَ: ويحك! بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين- يعني الأمين والمأمون- فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه قال: اما إذ حبسته يا أمير المؤمنين، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه، ولكن أرى أن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك مثله قَالَ: فإني أفعل قَالَ: فدعا الرشيد الفضل بْن الربيع، فقال: امض إلى عبد الملك بْن صالح إلى محبسه، فقل له: انظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك، فذكر قصته وما سأل.
قَالَ: وقال الرشيد يوما لعبد الملك بْن صالح في بعض ما كلمه: ما أنت لصالح! قَالَ: فلمن أنا؟ قَالَ: لمروان الجعدي، قَالَ: ما أبالي أي الفحلين غلب علي، فحبسه الرشيد عند الفضل بْن الربيع، فلم يزل محبوسا حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشام، فكان مقيما بالرقة، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدا فمات قبل محمد، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت.
كان قَالَ لمحمد: ان خفت فالجا الى، فو الله لأصوننك.
وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بْن خالد: أن عبد الملك ابن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك، وقد علمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه

(8/305)


دونك، لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك مني! وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك! أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن، ولكنه كان رجلا محتملا، يسرني أن يكون في أهلك مثله، فوليته، لما أحمدت من مذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله قَالَ: فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه، فقال: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك، فقال له:
أنت مسلط علينا فافعل ما أردت، على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فبم يدخل الفضل في ذلك! فقال الرسول للفضل:
قم، فإنه لا بد لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك، فلم يشك أنه قاتله، فودع أباه، وقال له: ألست راضيا عني؟ قَالَ: بلى، فرضي الله عنك ففرق بينهما ثلاثة أيام، فلما لم يجد عنده من ذلك شيئا جمعهما كما كانا.
وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل، لما كان اعداؤهم يقرفونهم به عنده، فلما أخذ مسرور بيد الفضل كما اعلمه، بلغ من يحيى، فأخرج ما في نفسه، فقال له: قل له: يقتل ابنك مثله قَالَ مسرور: فلما سكن عن الرشيد الغضب، قَالَ: كيف قَالَ؟ فأعدت عليه القول، قَالَ: قد خفت والله قوله، لأنه قلما قَالَ لي شيئا إلا رأيت تأويله.
وقيل: بينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بْن صالح، إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من أشرافه وقصر من عنانه، واشدد من شكائمه، وإلا أفسد عليك ناحيته فالتفت إلى عبد الملك، فقال: ما يقول هذا يا عبد الملك؟ فقَالَ عبد الملك: مقال باغ ودسيس حاسد، فقال له هارون: صدقت، نقص القوم ففضلتهم، وتخلفوا وتقدمتهم، حتى برز شأوك، فقصر عنه غيرك، ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات النقص فقال عبد الملك: لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمدا دائما ابدا

(8/306)


وقال الرشيد لعبد الملك بْن صالح وقد مر بمنبج، وبها مستقر عبد الملك:
هذا منزلك؟ قَالَ: هو لك يا أمير المؤمنين، ولي بك قَالَ: كيف هو؟
قَالَ: دون بناء أهلي وفوق منازل منبج، قَالَ: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله.

ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد ارض الروم
وفي هذه السنه دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة وحاصرها، ووجه العباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث، فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا، فبعثت إليه الروم تبذل له ثلاثمائة وعشرين رجلا من أسارى المسلمين، على أن يرحل عنهم، فأجابهم إلى ذلك، ورحل عن قرة وحصن سنان صلحا.
ومات علي بْن عيسى بْن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وهو مع القاسم
. ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح
وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله.
ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك:
وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم يومئذ رينى- وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها- فعادت الروم على رينى فخلعتها، وملكت عليها نقفور والروم تذكر أن نقفور هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم ماتت رينى بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها، فذكر أن نقفور لما ملك واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد:
من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت

(8/307)


إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثالها إليها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
قَالَ: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحدا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه خوفا من زيادة قول أو فعل يكون منهم، واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرات كتابك يا بن الكافره، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام.
ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق، واصطلم فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه، فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من اهل خره يكنى أبا محمد عبد الله بْن يوسف- ويقال: هو الحجاج بْن يوسف التيمي، فقال:
نقض الذي أعطيته نقفور ... وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير
فلقد تباشرت الرعية أن أتى ... بالنقض عنه وافد وبشير
ورجت يمينك أن تعجل غزوة ... تشفي النفوس مكانها مذكور
أعطاك جزيته وطأطأ خده ... حذر الصوارم والردى محذور

(8/308)


فأجرته من وقعها وكأنها ... بأكفنا شعل الضرام تطير
وصرفت بالطول العساكر قافلا ... عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنك حين تغدر إن نأى ... عنك الإمام لجاهل مغرور
أظننت حين غدرت أنك مفلت ... هبلتك أمك ما ظننت غرور!
ألقاك حينك في زواجر بحره ... فطمت عليك من الإمام بحور
إن الإمام على اقتسارك قادر ... قربت ديارك أم نأت بك دور
ليس الإمام وإن غفلنا غافلا ... عما يسوس بحزمه ويدير
ملك تجرد للجهاد بنفسه ... فعدوه أبدا به مقهور
يا من يريد رضا الإله بسعيه ... والله لا يخفى عليه ضمير
لا نصح ينفع من يغش إمامه ... والنصح من نصحائه مشكور
نصح الامام على الأنام فريضة ... ولأهلها كفارة وطهور
وفي ذلك يقول إسماعيل بْن القاسم أبو العتاهية:
إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا ... وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا
لك إسمان شقا من رشاد ومن هدى ... فأنت الذي تدعى رشيدا ومهديا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا ... وإن ترض شيئا كان في الناس مرضيا
بسطت لنا شرقا وغربا يد العلا ... فأوسعت شرقيا وأوسعت غربيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى ... فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا
قضى الله ان يصفو لهارون ملكه ... وكان قضاء الله في الخلق مقضيا
تحلبت الدنيا لهارون بالرضا ... فأصبح نقفور لهارون ذميا

(8/309)


وقال التيمي:
لجت بنقفور أسباب الردى عبثا ... لما رأته بغيل الليث قد عبثا
ومن يزر غيله لا يخل من فزع ... إن فات أنيابه والمخلب الشبثا
خان العهود ومن ينكث بها فعلى ... حوبائه، لا على أعدائه نكثا
كان الإمام الذي ترجى فواضله ... أذاقه ثمر الحلم الذي ورثا
فرد ألفته من بعد أن عطفت ... أزواجه مرها يبكينه شعثا
فلما فرغ من إنشاده، قَالَ: أو قد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكر راجعا في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق بالصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ... وابشر بالغنيمة والإياب

خبر مقتل ابراهيم بن عثمان بن نهيك
وفيها قتل- في قول الواقدي- إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك وأما غير الواقدي، فإنه قَالَ: في سنة ثمان وثمانين ومائة.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:
ذكر عن صالح الأعمى- وكان في ناحية إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك- قَالَ: كان إبراهيم بْن عثمان كثيرا ما يذكر جعفر بْن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعا عليهم، وحبا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قَالَ: يا غلام،

(8/310)


سيفي ذا المنية- وكان قد سمى سيفه ذا المنية- فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لاقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بْن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل، فقال:
ما الذي قَالَ الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قَالَ: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سرا فسأله، فقال:
لقد قَالَ ذاك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليا من أوليائي بقول غلام وخصى، لعلهما تواصيا على هذه المنافسه، الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أياما، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بْن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بْن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بْن عثمان فيما رفع ابنه عليه، فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك، إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلنى وإياه، ففعل ذلك الفضل بْن الربيع، وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بْن الربيع للقيام، فقال له الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فتنحوا عنه، ثم قَالَ: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قَالَ: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك، قَالَ: إن في نفسي أمرا أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قَالَ: يا سيدي إذا لا يرجع عني إليك أبدا، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه قَالَ: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بْن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي، فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قَالَ: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت

(8/311)


العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين دينا فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يا بن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، قَالَت:
كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قَالَ: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنه والله، ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه- فضربه بسيفه حتى مات- إلا ليال قلائل.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن العباس بْن محمد بن على.

(8/312)


ثم دخلت

سنة ثمان وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر غزو ابراهيم بن جبريل الصائفه
فمما كان فيها من ذلك غزو إبراهيم بْن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج للقائه نقفور، فورد عليه من ورائه أمر صرفه عن لقائه، فانصرف، ومر بقوم من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وانهزم وقتل من الروم- فيما ذكر- أربعون ألفا وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق.
وحج بالناس فيها الرشيد، فجعل طريقه على المدينة، فأعطى أهلها نصف العطاء، وهذه الحجة هي آخر حجة حجها الرشيد، فيما زعم الواقدي وغيره

(8/313)


ثم دخلت

سنة تسع وثمانين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر شخوص الرشيد الى الري
فمن ذلك ما كان من شخوص هارون الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري.
ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها وما أحدث في خرجته تلك في سفره:
ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بْن خالد في تولية خراسان علي بْن عيسى بْن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها، فلما شخص علي بْن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالا جليلا، ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث به علي إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده قدرها، وإلى جانبه يحيى بْن خالد، فقال له: يا أبا علي، هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة- وهو كالمازح معه إذ ذاك- فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه ويعفيه من سوء عاقبته ونتائج مكروهه، قَالَ: وما ذاك؟ فأعلمه، قَالَ: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الاشراف، أخذ أكثرها ظلما وتعديا، ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: قد ساومنا عونا

(8/314)


على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، واعطيناه به سبعه آلاف الف، فأبى ان يبيعه، فابعث اليه الساعة بحاجتي فأمره أن يرده إلينا، لنعيد فيه نظرنا، فإذا جاء به جحدناه، وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك وعلى أن هذا أسلم عاقبة، وأستر أمرا من فعل علي بْن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية، مما جمع علي في ثلاث سنين.
فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك عن ذكر علي بْن عيسى عنده، فلما عاث علي بْن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقواده فدعا يحيى بْن خالد، فشاوره في أمر علي بْن عيسى وفي صرفه، وقال له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق فأشار عليه بيزيد بْن مزيد، فلم يقبل مشورته.
وكان قيل للرشيد: إن علي بْن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري، فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك لعبد الله المأمون، وأنه ليس له فيه قليل ولا كثير وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بْن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بْن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله، إذا أفضت الخلافة

(8/315)


إليه ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه إلى الري، فأقام بها نحوا من أربعة أشهر، حتى قدم عليه علي بْن عيسى من خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه فرضي عنه، ورده إلى خراسان، وخرج وهو مشيع له، فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة، فقال الحسن بْن هانئ في ذلك:
تبارك من ساس الأمور بعلمه ... وفضل هارونا على الخلفاء
نزال بخير ما انطوينا على التقى ... وما ساس دنيانا أبو الأمناء
وفي هذه السنة- حين صار الرشيد إلى الري- بعث حسينا الخادم إلى طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب، من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن، والآخر فيه أمان لوندا هرمز، جد مازيار والثالث فيه أمان لمرزبان ابن جستان، صاحب الديلم فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده وقدم عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد، وقدم وندا هرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن على شروين مثل ذلك، فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ ابنه وابن شروين رهينة وقدم عليه الري أيضا خزيمة بْن خازم، وكان والي أرمينية، فأهدى هدايا كثيرة.
وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بْن مالك طبرستان والري والرويان

(8/316)


ودنباوند وقومس وهمذان وقال أبو العتاهية في خرجة هارون هذه- وكان هارون ولد بالري:
إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده
وولى هارون في طريقه محمد بْن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى عيسى بْن جعفر بْن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان، فافتتح حصنا بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بْن عيسى إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص، فضحى بها، ودخل مدينة السلام يوم الاثنين، لليلتين بقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بْن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره متوجها إلى الرقة، فنزل السيلحين وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قَالَ لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينة ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها، وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها، وما رأى أحد من آبائي سوءا ولا نكبة منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة- بني أمية- مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدا.
وقال العباس بْن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نفرق ... بين المناخ والارتحال
ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ... فقرنا وداعهم بالسؤال

(8/317)


وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به- فيما ذكر- فقال مروان بْن أبي حفصة في ذلك:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لها ... محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها ... وقالوا: سجون المشركين قبورها
ورابط فيها القاسم بدابق وحج بالناس فيها العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى.

(8/318)


ثم دخلت

سنة تسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر خبر ظهور خلاف رافع بن ليث
فمن ذلك ما كان من ظهور رافع بْن ليث بْن نصر بْن سيار بسمرقند، مخالفا لهارون وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
وكان سبب ذلك- فيما ذكر لنا- أن يحيى بْن الأشعث بْن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه ابى النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام، وتركها بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست سببا للتخلص منه، فعي عليها، وبلغ رافعا خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدس إليها من قَالَ لها: إنه لا سبيل لها إلى التخلص من صاحبها، إلا أن تشرك بالله، وتحضر لذلك قوما عدولا، وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب فتحل للأزواج، ففعلت ذلك وتزوجها رافع وبلغ الخبر يحيى بْن الأشعث، فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بْن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن يعاقب رافعا ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مقيدا على حمار، حتى يكون عظة لغيره فدرأ سليمان بْن حميد الأزدي عنه الحد، وحمله على حمار مقيدا حتى طلقها، ثم حبسه في سجن سمرقند، فهرب من الحبس ليلا من عند حميد بْن المسيح- وهو يومئذ على شرط سمرقند- فلحق بعلي بْن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنا عيسى بْن علي، وجدد طلاق المرأة، وأذن له في الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها، فوثب بسليمان ابن حميد، عامل علي بْن عيسى فقتله فوجه علي بْن عيسى إليه ابنه،

(8/319)


فمال الناس إلى سباع بْن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده، فوثبوا على سباع، فقيدوه ورأسوا رافعا وبايعوه، وطابقه من وراء النهر، ووافاه عيسى بْن علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بْن عيسى في فرض الرجال والتأهب للحرب.
وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة، واستخلف ابنه عبد الله المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور يتيمن به، وهو خاتم الخاصة، نقشه: الله ثقتي آمنت به.
وفيها أسلم الفضل بْن سهل على يد المأمون.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربة وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ أهل المصيصة ما كان في ايديهم

فتح الرشيد هرقله
وفيها فتح الرشيد هرقلة، وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم، وكان دخلها- فيما قيل- في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق، سوى الأتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له، وأناخ عبد الله بْن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بْن عيسى بْن موسى سائحا في أرض الروم في سبعين ألفا، وافتتح شراحيل بْن معن بْن زائدة حصن الصقالبة ودبسة، وافتتح يزيد بْن مخلد الصفصاف وملقوبية- وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال- وأخربها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوما عليها، وولى حميد بْن معيوف سواحل بحر الشام إلى مصر، فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفا، فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفي دينار.
وكان شخوص هارون إلى بلاد الروم لعشر بقين من رجب، واتخذ

(8/320)


قلنسوة مكتوبا عليها غاز حاج، فكان يلبسها، فقال أبو المعالي الكلابي:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الترفه فوق كور
وما حاز الثغور سواك خلق ... من المتخلفين على الأمور
ثم صار الرشيد إلى الطوانة، فعسكر بها، ثم رحل عنها، وخلف عليها عقبة بْن جعفر، وأمره ببناء منزل هنالك، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية، عن رأسه وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ابنه استبراق دينارين وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة كتابا نسخته:
لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم سلام عليكم، اما بعد ايها الملك، فان لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينه يسيرة، أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفني بحاجتي فعلت والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
واستهداه أيضا طيبا وسرادقا من سرادقاته، فأمر الرشيد بطلب الجارية، فأحضرت وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلا فيه، وسلمت الجارية والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل من العطر، وبعث إليه من التمور والأخبصة والزبيب والترياق، فسلم ذلك كله إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقفور وقر دراهم إسلامية على برذون كميت كان مبلغه خمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج ومائتي ثوب بزيون، واثني عشر بازيا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين وكان نقفور اشترط ألا يخرب ذا الكلاع ولا صمله ولا حصن سنان،

(8/321)


واشترط الرشيد عليه ألا يعمر هرقلة، وعلى ان يحمل نقفور ثلاثمائة ألف دينار.
وخرج في هذه السنة خارجي من عبد القيس يقال له سيف بْن بكر، فوجه إليه الرشيد محمد بْن يزيد بْن مزيد، فقتله بعين النورة.
ونقض أهل قبرس العهد، فغزاهم معيوف بْن يحيى فسبى أهلها.
وحج بالناس فيها عيسى بْن موسى الهادي.

(8/322)


ثم دخلت

سنة إحدى وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من خروج خارجي يقال له ثروان بْن سيف بناحية حولايا، فكان يتنقل بالسواد، فوجه إليه طوق بْن مالك فهزمه طوق وجرحه، وقتل عامة أصحابه، وظن طوق أنه قد قتل ثروان، فكتب بالفتح، وهرب ثروان مجروحا.
وفيها خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحيى بْن معاذ، وعقد له على الشام.
وفيها وقع الثلج بمدينة السلام.
وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني.
وفيها غلظ أمر رافع بْن ليث بسمرقند.
وفيها كتب أهل نسف إلى رافع يعطونه الطاعة، ويسألون أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بْن علي، فوجه صاحب الشاش في اتراكه قائدا من قواده، فأتوا عيسى بْن علي، فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة، ولم يعرضوا لأصحابه.
وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان.
وفيها غزا يزيد بْن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه على مرحلتين من طرسوس في خمسين رجلا، وسلم الباقون.
وفيها ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بْن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفا من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم، إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرياسة

(8/323)


ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هنالك عبد الله بْن مالك، ورتب سعيد بْن سلم بْن قتيبة بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بْن سلم مقيم بها، وبعث محمد بْن يزيد بْن مزيد إلى طرسوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة.
وفيها أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بْن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.
وفيها عزل الرشيد علي بْن عيسى بْن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة.

ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد علي بْن عيسى وسخطه عليه
قال ابو جعفر: قد ذكر قبل سبب هلاك ابْن علي بْن عيسى وكيف قتل ولما قتل ابنه عيسى خرج على عن بلخ حتى أتى مرو مخافة أن يسير إليها رافع بْن الليث، فيستولي عليها وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ أموالا عظيمة- قيل إنها كانت ثلاثين ألف ألف- ولم يعلم بها علي بْن عيسى ولا أطلع على ذلك إلا جارية كانت له، فلما شخص علي عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها، فدخلوا البستان فانتهبوه وأباحوه للعامة، فبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج علي من بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال، وهو يزعم أنه قد أفضى إلى حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله عند ذلك، وولى هرثمة بْن أعين، واستصفى أموال علي بْن عيسى، فبلغت أمواله ثمانين ألف ألف.
وذكر عن بعض الموالي أنه قَالَ: كنا بجرجان مع الرشيد وهو يريد

(8/324)


خراسان، فوردت خزائن علي بْن عيسى التي أخذت له على الف وخمسمائة بعير، وكان علي مع ذلك قد أذل الأعالي من أهل خراسان وأشرافهم.
وذكر أنه دخل عليه يوما هشام بْن فرخسرو والحسين بْن مصعب، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد يا بن الملحد! والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوتك للإسلام وطعنك في الدين، وما أنتظر بقتلك إلا إذن الخليفة فيه، فقد أباح الله دمك، وأرجو أن يسفكه الله على يدي عن قريب، ويعجلك إلى عذابه ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد ما ثملت من الخمر، وزعمت أنه جاءتك كتب من مدينة السلام بعزلي! اخرج إلى سخط الله، لعنك الله، فعن قريب ما تكون من أهلها! فقال له الحسين: أعيذ بالله الأمير أن يقبل قول واش، أو سعاية باغ، فإني بريء مما قرفت به قَالَ: كذبت لا أم لك! قد صح عندي أنك ثملت من الخمر، وقلت ما وجب عليك به أغلظ الأدب، ولعل الله أن يعاجلك ببأسه ونقمته، اخرج عني غير مستور ولا مصاحب فجاء الحاجب فأخذ بيده فأخرجه، وقال لهشام بْن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة، يجتمع فيها إليك السفهاء، وتطعن على الولاة! سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فقال هشام: جعلت فداء الأمير! أنا والله مظلوم مرحوم، والله ما أدع في تقريظ الأمير جهدا، وفي وصفه قولا إلا خصصته به وقلته فيه، فإن كنت إذا قلت خيرا نقل إليك شرا فما حيلتي! قَالَ: كذبت لا أم لك، لأنا اعلم بما تنطوى عليه جوانحك من ولدك وأهلك، فاخرج فعن قريب أريح منك نفسي فخرج فلما كان في آخر الليل دعا ابنته عالية- وكانت من أكبر ولده- فقال لها: أي بنية، إني أريد أن أفضي إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت، وإن حفظته سلمت، فاختاري بقاء أبيك على موته، قالت:

(8/325)


وما ذاك جعلت فداك! قَالَ: إني أخاف هذا الفاجر علي بْن عيسى على دمي، وقد عزمت على أن أظهر أن الفالج أصابني، فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك، وتعالى الى فراشي وحركينى، فإذا رايت حركتي قد ثقلت، فصيحي أنت وجواريك، وابعثي إلى إخوتك فأعلميهم علتي وإياك ثم إياك أن تطلعي على صحة بدني أحدا من خلق الله من قريب أو بعيد ففعلت- وكانت عاقلة حازمة- فأقام مطروحا على فراشه حينا لا يتحرك إلا إن حرك، فيقال إنه لم يعلم من أهل خراسان أحد من عزل علي بْن عيسى بخبر ولا أثر غير هشام، فإنه توهم عزله، فصح توهمه.
ويقال: إنه خرج في اليوم الذي قدم فيه هرثمة لتلقيه، فرآه في الطريق رجل من قواد علي بْن عيسى، فقال: صح الجسم؟ فقال: ما زال صحيحا بحمد الله! وقال بعضهم: بل رآه علي بْن عيسى، فقال: أين بك؟ فقال:
أتلقى أميرنا أبا حاتم، قَالَ: ألم تكن عليلا؟ قَالَ: بلى، فوهب الله العافية، وعزل الله الطاغية في ليلة واحدة وأما الحسين بْن مصعب فإنه خرج إلى مكة مستجيرا بالرشيد من علي بْن عيسى، فأجاره.
ولما عزم الرشيد على عزل علي بْن عيسى دعا- فيما بلغني- هرثمة بْن أعين مستخليا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطرب علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بْن عيسى، إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه، فأخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطي فلا تفضنه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه، وامتثله ولا تجاوزه، إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بْن عيسى بخطي، ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهون عليه امر

(8/326)


علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددا لعلي بْن عيسى وعونا له قَالَ: ثم كتب إلي علي بْن عيسى بْن ماهان كتابا بخطه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم يا بن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بْن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشد وطأته عليك وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهما، ولا حقا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم انتقاما لله عز وجل بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا، فلا تعرض نفسك للتي لا شوى لها، واخرج مما يلزمك طائعا أو مكرها.
وكتب عهد هرثمة بخطه:
هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بْن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله مراقبته، وأن يجعل كتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بْن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال

(8/327)


يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم، فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين، فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم، وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطاء وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس، مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين، إن شاء الله فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك، وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظن يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضى الله منك وخليفته، ومن ولاك الله أمره إن شاء الله هذا عهدي وكتابي بخطي، وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سمواته وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً*.
وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.
ثم أمر أن يكتب كتاب هرثمة إلى علي بْن عيسى في معاونته وتقويه أمره والشد على يديه فكتب وظهر الأمر بها، وكانت كتب حمويه وردت على هارون أن رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وإنما غايتهم عزل علي بن عيسى الذى قد سامهم المكروه.

خبر شخوص هرثمة بْن أعين إلى خراسان واليا عليها
ومن ذلك ما كان من شخوص هرثمة بْن أعين إلى خراسان واليا عليها ذكر الخبر عما كَانَ من أمره فِي شخوصه إليها وأمر علي بْن عيسى وولده:

(8/328)


ذكر أن هرثمة مضى في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له عهده الرشيد وشيعه الرشيد، وأوصاه بما يحتاج إليه، فلم يعرج هرثمة على شيء، ووجه إلى علي بْن عيسى في الظاهر أموالا وسلاحا، وخلعا وطيبا، حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من ثقات أصحابه وأولي السن والتجربة منهم، فدعا كل رجل منهم سرا، وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره، ويطووا سره، وولى كل رجل منهم كورة، على نحو ما كانت حاله عنده، فولى جرجان ونيسابور والطبسين ونسا وسرخس، وأمر كل واحد منهم، بعد أن دفع إليه عهده بالمسير إلى عمله الذي ولاه على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم فيها إلى الوقت الذي سماه لهم، وولى إسماعيل بْن حفص بْن مصعب جرجان بأمر الرشيد، ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه، وكتب لهم أسماء ولد علي بْن عيسى وأهل بيته وكتابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكله بحفظه إذا هو دخل مرو، خوفا من أن يهربوا إذا ظهر أمره ثم وجه إلى علي بْن عيسى: إن أحب الأمير أكرمه الله أن يوجه ثقاته لقبض ما معي من أموال فعل، فإنه إذا تقدم المال أمامي كان أقوى للأمير، وأفت في عضد أعدائه وأيضا فإني لا آمن عليه إن خلفته وراء ظهري، أن يطمع فيه بعض من تسمو اليه نفسه الى ان يقتطع بغضه، ويفترض غفلتنا عند دخول المدينة فوجه علي بْن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال، وقال هرثمة لخزانه: اشغلوهم هذه الليلة، واعتلوا عليهم في حمل المال بعلة تقرب من أطماعهم، وتزيل الشك عن قلوبهم، ففعلوا وقال لهم الخزان: حتى تؤامروا أبا حاتم في دواب المال والبغال.
ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلما صار منها على ميلين تلقاه علي بْن عيسى في ولده واهل بيته وقواده باحسن لقاء وآنسه، فلما وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابته فصاح به علي: والله لئن نزلت لأنزلن، فثبت على سرجه، ودنا كل منهما من صاحبه فاعتنقا، وسارا، وعلي يسأل هرثمة عن

(8/329)


أمر الرشيد وحاله وهيئته وحال خاصته وقواده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه، حتى صار إلى قنطرة لا يجوزها إلا فارس، فحبس هرثمة لجام دابته، وقال لعلي: سر على بركة الله، فقال علي: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذا والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير، فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصارا إلى منزل علي، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس، فدعا على بالغداء فطمعا، وأكل معهما رجاء الخادم، وكان عازما على الا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كل فإنك جائع، ولا رأي لجائع ولا حاقن، فلما رفع الطعام قَالَ له علي: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على الماشان، فإن رأيت أن تصير إليه فعلت فقال له هرثمة:
إن معي من الأمور ما لا يتحمل تأخير المناظرة فيها، ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى علي، وأبلغه رسالته فلما فض الكتاب فنظر إلى أول حرف منه سقط في يده، وعلم أنه قد حل به ما يخافه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتابه وعماله- وكان رحل ومعه وقر من قيود واغلال- فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر أن أمير المؤمنين ولاه ثغورهم لما انتهى إليه من سوء سيره الفاسق على ابن عيسى، وما أمره به فيه وفي عماله وأعوانه، وأنه بالغ من ذلك ومن أنصاف العامة والخاصة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحق وأمر بقراءة عهده عليهم فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انصرف، فدعا بعلي بْن عيسى وولده وعماله وكتابه، فقال: اكفوني مؤنتكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمة من رجل كانت لعلي عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو عماله وأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلا رجلا من أهل مرو- وكان من أبناء المجوس- فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى علي بْن عيسى حتى صار إليه، فقال له سرا: لك عندي مال، فإن احتجت

(8/330)


إليه حملته إليك أولا فأولا، وصبرت للقتل فيك، إيثارا للوفاء وطلبا لجميل الثناء، وإن استغنيت عنه حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك فعجب علي منه، وقال: لو اصطنعت مثلك ألف رجل ما طمع في السلطان ولا الشيطان أبدا.
ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنه لا يدرى ما قدر ذلك، غير انه أودعه بخطه، وأنه محفوظ لم يشذ منه شيء، فقال له:
دعه، فإن ظهر عليه سلمته ونجوت بنفسك، وإن سلمت به رأيت فيه رأيي.
وجزاه الخير، وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافاه عليه وبره وكان يضرب به المثل بوفائه، فذكر أنه لم يتستر عن هرثمة من مال علي إلا ما كان أودعه هذا الرجل- وكان يقال له: العلاء بْن ماهان- فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حلي نسائهم، فكان الرجل يدخل إلى المنزل فيأخذ جميع ما فيه، حتى إذا لم يبق فيه إلا صوف أو خشب أو ما لا قيمة له قَالَ للمرأة:
هاتي ما عليك من الحلي، فتقول للرجل إذا دنا منها لينزع ما عليها: يا هذا، إن كنت محسنا فاصرف بصرك عنى، فو الله لا تركت شيئا من بغيتك علي إلا دفعته إليك، فإن كان الرجل يتحوب من الدنو إليها أجابها إلى ذلك حتى ربما نبذت إليه بالخاتم والخلخال وما قيمته عشرة دراهم، ومن كان بخلاف هذه الصفة، قَالَ: لا أرضى حتى أفتشك، لا تكونين قد خبأت ذهبا أو درا أو ياقوتا، فيضرب يده إلى مغابنها وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظن أنها قد سترته عنه، حتى إذا ظن أنه قد أحكم هذا كله وجهه على بعير بلا وطاء تحته، وفي عنقه سلسلة، وفي رجله قيود ثقال ما يقدر معها على نهوض واعتماد.
فذكر عمن شهد أمر هرثمة وأمره، أن هرثمة لما فرغ من مطالبة علي بْن عيسى وولده وكتابه وعماله بأموال أمير المؤمنين، أقامهم لمظالم الناس، فكان إذا برد للرجل عليه أو على أحد من أصحابه حق، قَالَ: اخرج للرجل من حقه، وإلا بسطت عليك، فيقول علي: أصلح الله الأمير!

(8/331)


أجلني يوما أو يومين، فيقول: ذلك إلى صاحب الحق، فإن شاء فعل ثم يقبل على الرجل، فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قَالَ: نعم، قَالَ: فانصرف وعد إليه، فيبعث علي إلى العلاء بْن ماهان، فيقول له: صالح فلانا عني من كذا وكذا على كذا وكذا، أو على ما رأيت، فيصالحه ويصلح أمره.
وذكر أنه قام إلى هرثمة رجل، فقال له: أصلح الله الأمير! إن هذا الفاجر أخذ مني درقة ثمينة لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانة أطلب ثمنها، فلم يعطني شيئا، فأقمت حولا أنتظر ركوب هذا الفاجر، فلما ركب عرضت له وصحت به: أيها الأمير، أنا صاحب الدرقة، ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية، فقذف أمي ولم يعطني حقي، فخذ لي بحقي من مالي وقذفه أمي، فقال: لك بينة؟ قَالَ: نعم، جماعة حضروا كلامه، فأحضرهم فأشهدهم على دعواه، فقال هرثمة: وجب عليك الحد، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لقذفك أم هذا، قَالَ: من فقهك وعلمك هذا؟ قَالَ: هذا دين المسلمين، قَالَ: فأشهد أن أمير المؤمنين قد قذفك غير مرة ولا مرتين، وأشهد أنك قد قذفت بنيك ما لا أحصي، مرة حاتما ومرة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك؟ ومن يأخذ لك من مولاك! فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة، فقال:
أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذفه أمك
. كتاب هرثمة الى الرشيد في امر على بن عيسى
ولما حمل هرثمة عليا إلى الرشيد، كتب إليه كتابا يخبره ما صنع، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته، واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل

(8/332)


البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه فيه أقصى غاية الهمة، امتنانا منه عليه، وحفظا لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه واهل حقه وطاعته، فيستتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفاية في كل ما يؤدينا اليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه.
ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلا ما أمرني به فيما أنهضني له، لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله، إلى أن حللت أوائل خراسان، صائنا للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره، لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها، كجرجان ونيسابور نسا وسرخس، ولم آل الاحتياط في ذلك، واختيار الكفاه واهل الأمانة الصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، أمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم، وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بْن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بْن حفص بْن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وأحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه

(8/333)


ولما صرت من مدينة مرو على منزل، اخترت عدة من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بْن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعا، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بْن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنسا وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك، مما كان يأتيه من كتبي، فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لالقاء سوء الظن عنه، لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي، فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أن قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه، من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيره على، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه، وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ لهم بحقوقهم أقصى غايتهم وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي، وأني به أقتدي، وعليه أحتذي، فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف

(8/334)


رأي أمير المؤمنين وأمره، فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بْن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعا، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدام عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدرا صالحا من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي يعني بها إن شاء الله تعالى:
ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة، ومهما تنصرف به رسلي إلي يا أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، أعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته، ما لم تزل عادته جارية به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام
. الجواب من الرشيد
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بْن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في

(8/335)


يدك من عماله واصحاب اعماله واحتذائك في ذلك كله ما كان أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيرا وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يديك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه.
وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جدا واجتهادا فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بْن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت اليه، ومن أيدي اصحاب الودائع التي استودعوها إياهم، واستعمال اللين والشدة في ذلك كله، حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم، ولا تبقى من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم، حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الأحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم، وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ*.
ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافا وامتناعا من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم، فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة

(8/336)


لهم، إذ كانوا رعيته، وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم- وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها، فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم، وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك في خلاف إن آثروه، وعنود إن أظهروه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً* ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب والسلام.
وكتب إسماعيل بْن صبيح بين يدي أمير المؤمنين.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن العباس بْن محمد بْن علي، وكان والي مكة.
ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.

(8/337)


ثم دخلت

سنة اثنتين وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي ثابت بن نصر بن مالك.

ذكر الخبر عن مسير الرشيد الى خراسان
وفيها وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع، وكان مصيره ببغداد يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بْن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين، لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر، من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، ثم سار من غد إلى النهروان، فعسكر هنالك، ورد حماد البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمدا بمدينة السلام.
وذكر عن ذي الرياستين أنه قَالَ: قلت للمأمون لما أراد الرشيد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع: لست تدري ما يحدث بالرشيد وهو خارج إلى خراسان، وهي ولايتك، ومحمد المقدم عليك! وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب إليه أن يشخصك معه فسأله الإذن فأبى عليه، فقلت له: قل له: أنت عليل، وإنما أردت أن أخدمك، ولست أكلفك شيئا فأذن له وسار.
فذكر محمد بْن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد حين خرج إلى خراسان، فمضى معه إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قَالَ له: يا صباح، لا أحسبك تراني أبدا قَالَ: فقلت: بل يردك الله سالما، قد فتح الله

(8/338)


عليك، وأراك في عدوك أملك قَالَ: يا صباح، ولا أحسبك تدري ما أجد! قلت: لا والله، قَالَ: فتعال حتى أريك، قَالَ: فانحرف عن الطريق قدر مائة ذراع، فاستظل بشجرة، وأومأ إلى خدمه الخاصة فتنحوا، ثم قَالَ: أمانة الله يا صباح أن تكتم علي، فقلت: يا سيدي، عبدك الذليل تخاطبه مخاطبة الولد! قَالَ: فكشف عن بطنه، فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم، ولكل واحد من ولدي علي رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بْن بختيشوع رقيب الأمين- وسمى الثالث فذهب عني اسمه- وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي، ويعد أيامي، ويستطيل عمري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو بدابة، فيجيئونني ببرذون أعجف قطوف، ليزيد في علتي، فقلت: يا سيدي ما عندي في الكلام جواب، ولا في ولاة العهود، غير أني أقول: جعل الله من يشنؤك من الجن والإنس والقريب والبعيد فداك، وقدمهم إلى تلك قبلك، ولا أرانا فيك مكروها أبدا، وعمر بك الله الإسلام، ودعم ببقائك أركانه، وشد بك أرجاءه، وردك الله مظفرا مفلحا، على أفضل أملك في عدوك، وما رجوت من ربك قَالَ: أما أنت فقد تخلصت من الفريقين.
قَالَ: ثم دعا ببرذون، فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي فركبه، وقال انصرف غير مودع، فإن لك أشغالا، فودعته وكان آخر العهد به.
وفيها تحرك الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بْن مالك في عشرة آلاف فارس، فأسر وسبى، ووافاه بقرماسين، فأمر بقتل الأسارى وبيع السبي.
وفيها مات علي بْن ظبيان القاضي بقصر اللصوص.
وفيها قدم يحيى بْن معاذ بأبي النداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله

(8/339)


وفيها فارق عجيف بْن عنبسة والأحوص بْن مهاجر في عدة من أبناء الشيعة رافع بْن ليث، وصاروا إلى هرثمة.
وفيها قدم بابن عائشة وبعدة من أهل أحواف مصر.
وفيها ولى ثابت بْن نصر بْن مالك الثغور وغزا، فافتتح مطمورة.
وفيها كان الفداء بالبدندون.
وفيها تحرك ثروان الحروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة وفيها قدم بعلي بْن عيسى بغداد، فحبس في داره.
وفيها مات عيسى بْن جعفر بطرارستان- وقيل بالدسكرة- وهو يريد اللحاق بالرشيد.
وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن عبيد الله بْن جعفر بْن أبي جعفر المنصور.

(8/340)


ثم دخلت

سنه ثلاث وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن وفاه الفضل بن يحيى
فمن ذلك وفاة الفضل بْن يحيى بْن خالد بْن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته- فيما ذكر- من ثقل أصابه في لسانه وشقه، وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره ومكث يعالج أشهرا، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر، وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم أخرج فصلى الناس على جنازته.
وفيها مات سعيد الطبرى المعروف بالجوهرى
. ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس
وفيها وافى هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بْن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان- فيما ذكر- في صفر، وهو عليل، إلى طوس، فلم يزل بها إلى أن توفي- واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بْن مالك ويحيى بْن معاذ وأسد بْن يزيد بْن مزيد والعباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث والسندي ابن الحرشي ونعيم بْن حازم، وعلى كتابته ووزارته أيوب بْن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير.
وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، واسر

(8/341)


أخا رافع بشير بْن الليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس، فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قَالَ: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع.
قَالَ: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك- أو قَالَ أكثر- وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه قَالَ:
فسمعته يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ونظر إلى أخي رافع، فقال: اما والله يا بن اللخناء، انى لأرجو الا يفوتني خامل- يريد رافعا- كما لم تفتني فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حربا، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلما، ولعل الله ان يلين لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت:
اقتلوه ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل، لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه.
ففصله حتى جعله أشلاء فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضوا، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره.
----
ذكر الخبر عن موت الرشيد
وفيها مات هارون الرشيد.
ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيه:
ذكر عن جبريل بْن بختيشوع أنه قَالَ: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته، فإن كان أنكر شيئا وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها، فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسا مفكرا ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جامع الاصول لابن الاثير

  روابط التحميل